صلى الله عليه وسلم
فقبل به: أبو دجانة، واسمه الأصلي الذي أطلقه عليه والده هو جربيقا.
بكى جربيقا كثيرا، وحمل بندقيته ومضى، اختفى في الصحراء، سنلتقي بأبى دجانة أو جربيقا جلباق هذا في أزقة أخرى من الحكاية، وسنحاوره كثيرا في مدينة نيالا عند وادي برلي تحت شجيرات الجوافة الحنينة، في مكان لا يبعد كثيرا عن منزل العمة خريفية، هذا إذا نجى من كمين ماكر ينصبه له المقاتل شارون ورفيقاه عبد الرحمن وشيكيري توتو كوه، بينما كان جربيقا يقود جحافل الجنجويد نحو جبل أم كردوس للقضاء على مسيح دارفور، أو كما يسميه جربيقا بلهجته الخاصة: رسول كضب كضب.
تركوها مربوطة، بصقوا على وجهها وهم يغادرون بيتها، بعد أن أخذوا كل ما يمكن حمله، حتى قطع الملابس الداخلية والأحذية، وآنية الطعام والعناقريب القديمة المصنوعة من جلد البقر، ونزعوا سن أمها الذهبية وخاتمها الفضي الصغير، وعقد الخرز الذي لا يساوي سوى بعض الجنيهات، مصلاية السعف وإبريق الطين، كانت جثة طفلها الذبيح مسجاة ليس ببعيد عنها، رأسه المتورمة ترقد أبعد قليلا، تريد أن تلمس رأسه، كأنما سوف تواسيه بذلك أو تقلل ألمه، لم تحس بأنه ميت، بل يرقد برأس مفصولة متورمة عن الجسد، تجمد الدم عليه في مكان العنق، تحس أنه يحتاج إليها، يحتاجها بشدة. أمها مسجية في موتها السعيد يمينها، تتسع ابتسامتها كلما تورمت جثتها، حر الشمس يعجل بتعفن الجثث، يشوي جسدها العاري، لا تستطيع أن تهش الذباب عن وجهها وعينيها إلا بصعوبة بالغة، كانت صورة طفلها محمد وهو يهرب لا تفارق عينيها، لا أدري هل قضوا عليه أم أنه استطاع أن ينجو، ولكن كيف ينجو؟
وضعت عشرات التصورات لنجاته، ولكنها كلها انتهت إلى نهاية مأساوية؛ فالصحراء تحيط بالمكان، أشجار الوادي الكثيفة لا تخلو من وحش كاسر، ليس طفلها بأسرع من أفراس الجنجويد أو لاندكروزرات جيش الحكومة. رأته يطير عاليا في السماء يحلق بجناحيه مثل غراب أسطوري كبير، فتبعثره طائرة هليكوبتر عملاقة وتنثر لحمه ودمه مختلطا برياشه الجميلة السوداء وضجيج مروحياتها، فتسقط عليها الرياش السوداء الناعمة الرقيقة، مغطية عريها وتحجبها من أعين الذئاب الجوعانة.
قضت يوما طويلا تحت نير العذاب، إلى أن أتى الليل بأشباحه وموتاه الذين يمشون في كل الأمكنة وكوابيسه المرعبة، لأول مرة بعد عشرين عاما تسمع عواء الذئاب. لقد قتل زوجها عددا كبيرا من الجنجويد، تخيل إليها أنه فوق المائة، أو أنه قتلهم جميعا كما قال لها في الحلم عند غفوتها الكابوسية القصيرة، لا تدري متى نامت، أو أنها لم تنم، أم أنها ماتت قليلا أو لم تمت.
في الصباح الباكر جاء الخواجات والأفارقة، كأنهم هبطوا من السماء، أو نبتوا من حيث لا مكان، مريبون مثل اللصوص، يعملون بصمت ونظام، يصورون بسرعة، يشخبطون في كراساتهم، يتصلون بأجهزتهم، يرطنون بصورة مستمرة. عندما رأوها، تجمعوا بسرعة حولها مثل قطيع من الذئاب أو الملائكة، كان الحزن والأسف باديا على وجوههم جميعا وأيضا الخوف، الخوف من شيء ما، شيء غامض، أكثر غموضا من الموت، التقطوا لها صورا عديدة، تم تصويرها بدقة هي وما يحيط بها من جثث بكاميرات فيديو، رطنوا مرارا وتكرارا، لكنهم لم يقتربوا منها إطلاقا كأنما كانوا يخافون من لغم شيطاني جبان سينفجر إذا لمسها أحدهم، كانوا يعملون بسرعة وريبة مثل لصوص غرباء وجدوا كنزا يحرسه شيطان نائم أو غول سيأتي حالا، سألوها أسئلة ترجمها لها رجل بلغتها. كانت في شبه إغماء، لم ترد لأي سؤال، كانت تراهم مثل الأشباح حمرا وصفرا وسودا وخضرا، تريدهم أن يطلقوا سراحها بأسرع ما يمكن، أن يقدموا لها حبة أسبرين؛ لأنها تحس بصداع مؤلم، يكاد رأسها أن ينفجر، كانت تحس بإعياء شديد، ماذا ينتظرون؟ أريد ماء، هل تعرفون أين ولدي محمد؟
وفجأة اختفوا، تركوها كما هي أو كما لو كانوا أطيافا أو خيالات من صنع أوهامها، سمعت صوت طائرة مروحية يختفي تدريجيا عن المكان. أيقنت أن مصيرها الموت، وما كانت تخافه بل تتمناه كل لحظة، تحوم حولها أطياف أمها وزوجها وطفليها، لكنهم لا يستطيعون أن يهشوا لها الذباب عن عينيها وفمها، وليسوا بقادرين أن يسقوها كوبا من الماء، ولكنهم كانوا يتحدثون بصوت عال بل يصرخون ويضربون الهواء، ثم مضوا، اختفوا تدريجيا، ما عدا طفلها محمد، بقي في مكان ما قربها، إنها لا تراه الآن، ولكنها تحس به، تشم أنفاسه، بل تسمع دقات قلبه كأنها طرقات صفيح.
بعد ما يقارب الساعة من الهذيان والآلام، جاء جند الحكومة، ملئوا المكان ضجيجا وجلبة، أطلقوا سراحها بسرعة وكأنهم يخشون شيئا ما، سقوها ماء مملحا، لم يجدوا شيئا يسترون به عريها، كانوا منزعجين كعراة في ميدان عام، انتبهوا لأنفسهم فجأة، سألوها ما إذا رأت أغرابا، خواجات مثلا أو أفارقة، أو أجانب بشكل عام قالت: جنجويد.
نعم، نحن نعرف الجنجويد، ولكن بعد أن ذهب الجنجويد، هنا آثار تدل على أن أشخاصا آخرين غير الجنجويد كانوا بالمكان ، ربما كانوا يحملون آلات تصوير أو ما شابه، يرتدون أزياء عسكرية وفي صحبتهم بعض المدنيين من المواطنين العملاء، يرطنون رطانات غريبة ويترجم لهم العملاء السودانيون، لم تسمع شيئا مما يقولون، ألم تسمعي ضجيج مروحية؟ تريد أن تعرف أين هرب ولدها محمد، هل استطاع أن ينجو أم أنهم لحقوا به؟ بحثوا في كل البيوت السليمة، لم يجدوا ثوبا أو لباسا أو حتى ملاءة يسترون به عريها، اقترح أحدهم أن يتم قتلها ودفنها مع الجثتين؛ بالتالي يكونون قد تخلصوا من المأزق نهائيا، إلا أن جنودا دارفوريين رفضوا الفكرة وتخلص أحدهم من ملابسه العسكرية وألبسها إياها، على أنهم سوف يستبدلونها بملابس نسائية فور دخولهم مدينة نيالا.
অজানা পৃষ্ঠা