اذهبوا، اذهبوا، اذهبوا.
قالت: كان يعرف مصيره تماما، غنت لي الأغنية مرارا، رقصت بألم وجمال وحزن غريب. سقط عنها ثوبها الممزق، بقيت بفستانها القديم، بأكمامه القصيرة، عليه بقع العرق والأوساخ، كان أسود اللون، شديد السواد، والله العظيم قد اشتريته أبيض. كان الأطفال قد تجمعوا حولها، يصفقون، قد حفظ أكثرهم الأغنية، أخذ البعض يرددها وراءها، كان جسده كله يرقص من الغضب، عرفوا أنه سيبقى، ولكن وليمة شهية للجنجويد وحرس الحدود وهم جنجويد رسميون. سبقتهم إلى المكان الغبرة الكثيفة التي أثارتها أرجلهم المتعجلة المحشورة في بوت أسود قاس، ثم ضجيج طائرة هليكوبتر ماركة أباتشي بغيضة عبرت فوق رءوس بنايات القش الفارغة، فطارت الأعشاب إثر عاصفة هوائها العنيف، أسقطت قذيفتين عشوائيتين واختفت، كلما اقتربوا، كلما سمعنا هدير سياراتهم تحت أقدامنا، كلما استعد جبريل لهم، مسح حرابه بسم الثعبان، ثقف نصلها، تأكد من نشاباته، عدها مرارا وتكرارا، كان يغني بصوت خفيض أغنية حرب حفظها عن جده، يتحسس تمائمه التي ورثها من أبيه، وهي ضد الطلق الناري والحديد، الطفلان مرعوبان، اختفيا أخيرا في المخبأ وهما يرتجفان. الساعات الأولى دخل الجنجويد بالمئات، كانوا منشغلين بالغنائم، فيما تركه الناس من أبقار وأغنام وبعض الأغراض الثقيلة التي لم يستطيعوا حملها في عجلتهم تلك، حرقوا البيوت الفقيرة المصنوعة من الأعشاب، هدموا المسجد الوحيد بالقرية، أشعلوا النار في مدرسة القرية المبنية من العشب والمواد المحلية الأخرى، تسابقوا في احتكار الأرض، بل إن بعضهم هدد بعضهم باستخدام السلاح لحماية ما وضع عليه يده.
كان بيتنا في أطراف القرية، تحت رابية ترابية صغيرة، كان مخبأ الولدين تحت كومة قصب الخريف المكوم تحت شجرة سدر صغيرة، قمنا بمسح آثارهما تماما. أمي قالت إنها لن تختبئ، ستبقى تحت الراكوبة مدعية أن لا أحد يستهدف امرأة عجوزا في سنها، وأفضل الموت من حياة المذلة. زوجي جبرين حمل نشابه واختفى خلف الرابية، أنا اختبأت في الجهة الأخرى من ملجأ الأطفال، تحت بعض القصب الجاف بجانب شجرة السدر، حيث أستطيع أن أراقب كل ما يدور من هنالك، لم تكن قرية حجيرات الوادي كبيرة. كل البيوت التي بها لا تتعدى المائتي بيت، ليس بها وحدة صحية أو مدرسة أو أي مبنى حكومي أو بناية بالمواد الثابتة، غير جامع القرية المبني من الطوب الأحمر بنته محسنة يقال إنها من دولة عربية غنية لم يحفظ الناس اسمها أو اسم دولتها، ليس بالقرية كهرباء، لكن موقع القرية يعتبر مهما نسبة للبئرين الكبيرين اللذين بها ووقوعها في طريق يربط ما بين نيالا وكاس، وهي مدينة صغيرة يؤمها الثوار الدارفوريون وبعيدة من قبضة الجنجويد، والأهم خصوبة أوديتها التي تمثل منابع رئيسية لوادي برلي العظيم؛ أي مراعي خصبة لنوق العرب عندما تبرد الواطا ويكون الدارفوريون أصحاب الأرض قد استوطنوا قرى صغيرة نموذجية من الطوب الأحمر، معروشة بالزنك، بها آبار ارتوازية، جوامع جميلة مزخرفة، وحدة صحية صغيرة، وربما مدرسة ابتدائية. قرى ساعدت في بنائها دول عربية شقيقة كريمة وجامعة الدول العربية على تخوم المدن الكبيرة، وسينشغل الدارفوريون في المهن الهامشية بالمدن ويتلاشون كقوميات وكتل بشرية، ويتركون الفلوات الخصبة للجنجويد الرعاة يسرحون ويمرحون، كانوا فرحين ويطلقون الرصاص في الهواء، إلى أن انتهى بهم المطاف إلى بيتنا. اندهش أول من ولج إلى الراكوبة عندما رأى المرأة العجوز - أمي - لدرجة أنه قفز من الرعب، حيث إنهم لم يروا شخصا حيا في القرية كلها طوال يومهم، تحدث إليها بعربي وطنه النيجر، سبت أباه وأهله واليوم الذي رأى فيه الشمس بلغتها، قام بسحبها إلى خارج الراكوبة جرا على الأرض.
كانت تشتمه وتصفه بالقرد الأبلانج نسبة لبشرته الحمراء مرة ومرة بالكلب، انضم إليه آخران، حالما انشغلا بالبحث عن الغنائم في الداخل وتركاه يحاول أن يستخلص معلومة عن مخابئ الذهب والنقود أو صوامع الغلال الخاصة بالأسرة أو القرية. يدور بينهما حوار طرشان، حيث يصبح حاجز اللغة لعنة الحوار، كان يركلها بقسوة في بطنها، وعندما فشل صفعها في وجهها؛ فعضته في يده ولم تطلقه إلا وجزء من يده في فمها. صرخ في رعب، قرر بسرعة، وفي لحظة أطلق الرصاص عليها في الرأس. في تلك اللحظة - دون شعور مني - صرخت من خلف أكمة القصب، خرج الجنجويدان من الداخل، التف حولي بسرعة عدد كبير منهم، أبدوا ملحوظات حول جسدي، وطلبوا مني أن أخلع ملابسي إذا أردت أن أترك حية، وإلا أصبح مصيري مصير أمي المضرجة بدمائها التي ارتاحت منهم قبل قليل، قلت لهم: لا، عايزة أموت. - توا أم نسقوك التراب. - ادبحوني.
كانوا سكارى ومساطيل وتفوح من أفواههم رائحة العرق والمريسة، وأكدوا لها أنهم يريدونها في نفسها وجميعهم إذا رضيت ذلك، وإذا رفضت فإنهم سيربطون رجليها على ساق الشجرة ويفعلون بها، وشرعوا في ربطها على ساق شجرة النبق، حينما أزاحوا القصب رأوا الطفلين اللذين صرخا في رعب وهما يلتفان حول أمهما، هتف أحد الجنجويد مكبرا وهو يخرج سكينا كبيرا ويمضي نحو الطفلين اللذين أخفيا وجهيهما في جسد أمهما بين أثوابها الممزقة، قبض الأصغر ابن السابعة، سمته أمه أحمد، وحاول ذبحه، قالت له الأم: ما تخاف الله يا راجل؟
رد عليها وهو منشغل بتخليص الطفل من يدي أمه اللتين تقبضان عليه بشدة: الله؟ منو الله؟ اللي قتلناه في وادي هور قبل أسبوعين.
وضحك في وحشية، ثم أضاف بأنه إذا لم يقتل هذين الطفلين فإنهما سيكبران ويصبحان متمردين مثل أبيهما.
قالت إنها أحست بأن الأرض تميد تحت رجليها، وكانت تظن أن الله سوف يخسف بالجنجويد الأرض أو يحرقه حيا لنطقه بهذا الكفر البين، ولكن الجنجويد في لمح البصر فصل رأس الطفل عن جسده تماما، رمى بالرأس بعيدا وهو يصرخ مكبرا في هستيريا، بل جنون وقح، وأراد أن يمسك بالآخر الذي انطلق جاريا كما الريح، أطلقوا خلفه الرصاص ولكنه اختفى، جرى البعض خلفه، لكنهم لم يلحقوا به، وعادوا يعالجونها، فجأة صرخ جنجويد وسقط على الأرض وفي نحره سهم، وارتبك الآخرون، سقط جنجويدان آخران بنفس الطريقة، هرب الآخرون في كل اتجاه يبحثون عن مصدر السهم، وكانوا يصابون واحدا واحدا، فجن جنونهم، وأصبحوا يطلقون الرصاص في كل الاتجاهات عشوائيا، إلى أن أشار أحدهم لجهة مصدر السهام، فانطلقوا في جماعة تجاه تل الرمال، ولكن بقي بعض الجنجويد يسعفون الجرحى ويخلصونهم من السهام، بينما أخذ أحدهم يجردها من ملابسها بقطعها بالسكين، ثم بمساعدة آخرين ربط رجلها اليمنى على شجرة النبق والأخرى على وتد دق بالأرض، وأخذ يغتصبها وهي تصرخ وتقاوم، تعض وترفس، تقرص بأظافر أناملها الحادة، وتبصق في وجوههم، ثم أخذ مكانه آخر وآخر، عندما عاد الآخرون كانوا في قمة الإحباط، وأراد واحد منهم أن يطلق النار عليها، إلى أن أوقفه أحدهم ممسكا سلاحه، قائلا: إن الموت بالنسبة لها راحة، خليها تمشي تعيش في معسكر كلمة بين ميتة وحية، لا زوج لا أطفال لا أم لا أب لا بيت لا قرية لا شرف. أخرج جنجويد من جرابه رأس زوجها، وقال إنه سوف يعلقه في باب بيته، إلى أن يأخذ بثأره، لقد قتل اثنين من إخوته الأشقاء بسهامه المسمومة. أكل قطعة لحم نيئة أخرجها من ذات الجراب، إنها كبد الإمباية، سوف أقتل: ألف ألف ألف ألف ألف إمباية.
وأجهش بالبكاء. كان رجلا نحيفا طويلا ذا جسم ناشف تكاد عظامه ترى، مثله مثل كل الجنجويد، تفوح منه رائحة وبر الإبل مختلطا بعرق البلح والمريسة، بالإضافة لإفراز بكتريا الفم، حيث إنه ليس من طبيعته أن يستاك أو ينظف فمه؛ لأن ذلك من سمة النساء وليس من الرجولة بشيء، كان شعره يتكوم في رأسه مهملا كعشب الخريف، عيناه حمراوان صغيرتان غائرتان في محجريهما كجمرتين موقدتين، بصورة عامة كان أقرب للذئب منه إلى الإنسان، على الرغم من أنه يعتبر ممن وفدوا حديثا، إلا أنه رقي في مراتب الحظوة من قبل القادة الميدانيين بدارفور، بل إنه من القلة القليلة من الجنجويد التي استطاعت أن تجلس وتتبادل الحوار وتستمتع بالشواء اللذيذ مع منسق قوات الجنجويد من الحكومة، وهو سياسي شهير وشخصية مربكة ومرتبكة وشديدة الذكاء والعنف، وما ذلك إلا لصفات يتميز بها هذا الجنجويد.
وهو يصنف من الذين يؤمنون بالقضية ويجندون من أجلها أقرب الأقربين ويطيعون الأوامر، ولا يتردد إطلاقا في قتل أي شيء كائنا ما كان، بشرا أو حيوانا، ولا ترف له عين أو يرتجف له قلب أو يرق ضمير، وعلى الرغم من ذلك فهو سريع البكاء إذا مات أحد أقاربه أو معارفه أو إذا مرض ولو مرضا طفيفا هينا. كان يخاف من الموت خوفا غريبا، والناس يحسون هذا التناقض البين في شخصيته، ولا يجدون تفسيرا، وبالنسبة لقادته فلا بأس فيه طالما كان يقوم بكل ما يرجى منه على أتم وجه، وأطلقوا علية لقبا ما زال لا يدرك أبعاده أو معانيه، ولكنهم قالوا له إنه اسم أحد صحابة الرسول
অজানা পৃষ্ঠা