تأليف
فرنسيس فتح الله مراش
حال الكون
وجود لا حد له ولا مدى، وبدء ليس له ابتدا، يفوق طور العيان فلم يره بشر قط، ويسمو على إدراك الأذهان فلا يمثله إلا ذاته فقط. حتى إذا ما لمح كمالاته الممجدة، واستملح عنايته المؤبدة، أوحى إلى الأبواب السرمدية فانفتحت، وأوعز إلى غوامض الحركة فاتضحت، فاندفع الغبار الكوني من تلك المصارع الدهرية، وانتشر في هاتيك العرصات الأبدية، وإذ تبلبل ببعضه تسلح بالتجاذب، وحمل حمل التحارب، فانطبق كل على قرينه بالالتصاق طبق إيعاز الخلاق، فنجمت العوالم الكروية، شموسا وكواكبا درية، وانطلقت ثانويات تلك الملاحم الكونية.
أجيج شب من صراع ذلك الجم الغفير، فأحرق دقائق الأثير، حتى انبجس نور الاحتراق، وأنار غسق الانطباق، فكانت الحرارة في الأكوان، بظهور النور للعيان. ولما استكملت تلك البخاريات جمادا، بعد اتقادها أجيالا وآمادا، نضجت نضوج الثمر في الكمام، وانشغل الفضاء بالأجرام، وهاك منها البعض، كعطارد والأرض.
ولما أصدرت الحرارة عنصر الضو، تمازجا فانبثقت منهما كهرباء الجو. فهاك ثلاثة متوالدة، قمن في ذات واحدة، فحصحصت الكائنات، وتحركت الساكنات، وتنوعت الحركات وتجنست، وتفاقمت الآثار وتكردست. وإذ لاحت الأرض لتلك المؤثرات صلعاء قفرا، قالت: فلنكسها بإذن الله جمال البردة الخضرا ، فانضم عنصر الناريات النواهض، واتحد أصل الماء بأصل الحوامض، حتى ترتبت الأصول فتداخلت بالاتحاد، وتفاعلت على بعضها المواد. وهكذا نهضت الحياة بين تلك الأصول الراقدة، فنبهت إلى النمو والحركة سواكن الذرات الجامدة، فهب النبات للحال من وراء تلك الفواعل الغارسة، حتى اخضرت اليابسة، وأصبحت الوحشية مأنوسة وآنسة. فما كان الله ليرضى أرضا بلا سكن، وقوتا بلا بدن؛ ولذلك دعا تلك القوة الحيوية إلى التعاظم، ونبهها إلى التراكم، فتعاظمت القوة الحيوية وكملت، وشملت أصل الحركة وحملت، حتى انتشرت النطفة الحيوانية، بعد استكمالها مقومات البنية العضوية، فأخذ الحيوان يتجمل ويتكمل، ويتوالد ويتسلسل. ولما تعدد أنواعا، طلب إشباعا، فحمل كل على قريبه حمل البعول، حتى برزت المسوخ والنغول، وهكذا حمل الهواء جانحه، والماء سابحه، والتراب سارحه، ولم يلبث أن خلق الله الإنسان، فكان علم الأكوان.
حال الجماد
نزاع دائم في دقائق الجماد، وصراع لا يفتر له انقاد، فإذا انطبقت العناصر تصاب بالجمود والقرار، وإذا تخللت انتشرت أو سالت إلى أهوية وبخار. فالصخور تتحلل، والمياه تتسلسل، والهوا يتبلبل، فحراك لا يقف مداره، وعراك لا يقر قراره. وبذلك تحترق المعدنيات، فتنهض المرتفعات، وتذوب الجامدات، وتجمد السايلات، وتفقد العيون سلسالها، وتزلزل الأرض زلزالها. وهكذا لا يزال الجماد بين اجتماع وانفصال، وسلام وقتال، ولا تبرح الحركة بين اقتراب وابتعاد، وخمود واتقاد، حتى تقوم الكائنات المختلفة، وتبرز الأصول المتصفة، بالحياة والثوران، كالنبات والحيوان.
حال النبات
فهب النبات من مرابضه الحيوية، وانتشر على سطح الكرة الأرضية، فتوج الجبال ووشح التلال، وظلل المنحدرات والوديان، وجلل السهول والقيعان، فتكلل الشجر بالسحاب، والتحف النبت بالضباب. وما زالت الطبيعة تفلح المثوى، والأرض تصلح المأوى، حتى تنوعت الأجناس وتحددت، وتفردت الأنواع وتعددت، فذهب النوع يحمي ذريته، والشخص يحفظ بنيته، فأعضاء تهتم بالتثبيت والتشييد، وأخرى تخدم للتوليد والتجديد، وأجزاء ترد غارات التقلبات، وآلات تردع طبائع المؤثرات، كتضعيف اشتداد الضو، وتلطيف كثافات الجو. فالزهور تبتسم عن أصول الحياة القوتية، والجذور والأوراق تستقي وتنتقي المواد الغذوية، على حالة البهيمية، فيتقوم الجهاز العضوي، ويتشيد البنيان الحيوي، ليكون طعاما للحيوان ومقاما للإنسان، فكان النبات طباخ الأكوان، والحيوان أكال الألوان. ولما كانت الحياة عرضة للعوارض، وموقعا للقوارض، جعلت أجناد ذلك الوجود الأكبر، تغذو قوايم هذا الكون الأخضر، فبينما الجذوع تتيه بقاماتها النضرة، والأغصان تزهو بأوراقها الخضرة، والرياض تبتسم بأزهارها لدى سقوط الأنداء، والغياض تهتز بأدواحها رافلة بمطارف الأفياء، يهب الجو عليها برامحات أهوائه، وسافحات أنوائه، فتنقض الصواعق آخذة بالجذوع، فتصاب بالهجوع، وتفتك السيول بالجذور، وتنثر عقود الزهور، فيما أن الكل يكون ملاعب الحوادث الجمادية، وفرايس الطبيعة الحيوانية، لإخراجها عن فصلها وإيلاجها في أصلها.
অজানা পৃষ্ঠা