هذه من أشهر مدن الأرض وهي ثالثة المدن الإنكليزية؛ فإن الأولى لندن والثانية لفربول - كما لا يخفى - ولا يقل عدد سكان غلاسكو عن مليون نفس، وهي لو رآها الغريب ظنها لندن؛ لأنها نظيرة لها في الاتساع وضخم الأبنية وفخامتها وسوادها وكثرة الشوارع والميادين والمشاهد والمتاحف والمعامل التي لا تعد، وفيها سكك الحديد تحت الأرض وفوق الأرض والجسور والسفن تمخر في النهر، والعمال ألوف فوق ألوف على مثل ما في مدينة لندن، ولكنها نالت شهرة لم تنلها مدينة سواها في صنع السفن والبواخر من تجارية وحربية على أشكالها، فإنها تصنع في معاملها معظم مدرعات الأسطول الإنكليزي وشيئا كثيرا للدول الثانية، وقد تزيد نفقة المدرعة الواحدة من الطبقة الأولى عن مليوني جنيه، ولا يقل عدد الباخرات التي تخرج من معاملها في السنة عن 300 باخرة، فهم قد صرفوا مالا طائلا على الأحواض والترسانات، وبنوا لها الأرصفة والأسوار وكل ما يلزم مسافة ستة أميال، وهي من قدم مشهورة بعمل السفن؛ فقد كان جيمس واط أول من ارتأى تسيير السفن بالبخار من أهل هذه المدينة، وأول باخرة قامت منها في سنة 1812، فهي السابقة في هذا المضمار من أول عهد الناس بالبخار. زرت أحد هذه المعامل فرأيت من ألوف العمال وأدوات العمل ما لا يوصف في كتاب، وسمعت من طرق المطارق وقرقعة الآلات ما يصم الآذان، ومررت في ذلك اليوم بأهم شوارع المدينة، مثل شارع أرجيل وبكنان وميدان جورج فيه حديقة وبرك وتماثيل العظام، مثل الملكة فكتوريا وزوجها ولفنستون وواط وأرجيل وولتر سكوت، ويحيط بهذا الميدان قصور باذخة وأندية فخيمة، أهمها بناء المجلس البلدي وهو صرح يندر نظيره في الأرض، ولا مثيل له في مدن إنكلترا كلها أنفقوا على بنائه أكثر من نصف مليون جنيه وفتحته الملكة فكتوريا باحتفال باهر ، وقد تفردت هذه المدينة بمجلسها البلدي ونظام أعماله حتى أقر العارفون كلهم أن غلاسكو لها أحسن الحكومات المحلية من بين مدائن الأرض طرا، وكل ذلك من حسن التفات رجالها ونظام مجلسها البلدي ومحافلها، وقد أسعدني الحظ أني قابلت حضرة محافظها يوم زيارتي للمدينة، وكان معي توصية لجنابه فلما ارتقيت سلم ذلك البناء العظيم ووصلت مكتب المحافظ أرسلت إليه اسمي، فخرج لمقابلتي مرحبا مكرما، ودعاني إلى حضور مرقص عظيم يقام في دار المحافظة في كل عام وموعده ذلك اليوم، فقبلت الدعوة شاكرا ولما حضرت في المساء للمرقص رأيت نحو ألفين ما بين سادة وسيدات تردوا بأنفس الأطالس وأبهى الحلل، وقد برزت السواعد والنهود وتحلت الصدور ببارق الجواهر وأبرقت الأسرة فرحا وحبورا، وفاحت من جوانب القصر وقاعاته التي تحكي قاعات الملوك الروائح العطرية وصدحت الأنغام الشجية، وكان المحافظ واقفا بملابسه الرسمية، وهي جبة من القطيفة الحمراء تجر ذيولها وتشبه ملابس الشيوخ الشرقيين، بطنت بالفرو الأبيض ولها أكمام واسعة مطرزة وقبعة مستطيلة مثل قبعات القناصل الرسمية، حملها المحافظ في شماله، وسلسلة من الذهب مدلاة من العنق على صدره في آخرها قطعة من الذهب عليها شعار الدولة واسم المجلس البلدي، وكان أعضاء المجلس بملابسهم الرسمية أيضا واقفين حول جنابه وقرينته مع بعض قريباتها وصديقاتها يستقبلن الضيوف بالترحيب والبشاشة، ولا حاجة إلى القول إن الرقص وما تلاه من ألوان الطعام الشهي بعد منتصف الليل كانا على غاية ما يرام فخرجت من تلك السهرة الشهية وكلي إعجاب بعظمة غلاسكو وأنس أهلها، وعزمت في اليوم التالي على مبارحتها لأزور بعض مدن أرلاندا، وسافرت في البر والبحر بين مناظر لا تختلف كثيرا عما تقدم وصفه حتى دخلت جزيرة أرلاندا، وألقيت رحلي في مدينة بلفاست.
بلفاست
أرى قبل التقدم إلى الكلام عن مدينة بلفاست هذه في جزيرة أرلاندا، وعن عاصمة الجزيرة دبلن وغيرها من الأماكن الأرلاندية، أن أقول شيئا عن تاريخ هذه البلاد موجزا؛ لأن أهم ما يقال فيه ورد في الخلاصة التاريخية العامة عن إنكلترا، غير أن أرلاندا هذه عمرت وتقدمت في الحضارة قبل إنكلترا بزمان طويل، وكان لها دولة زاهرة من قبل أيام التاريخ المسيحي، ولما دخل يوليوس قيصر إنكلترا وأخضعها سنة 55 لم يمكن له أن يخضع أرلاندا؛ لأن ملوكها كانوا أقوياء.
ولما بدأ الدانماركيون وأهل شمال أوروبا يسطون على ممالك أوروبا كانت هذه الجزيرة في جملة ما دخلوا من الأراضي، وتمكنوا من الانتصار على ملوكها في أول الأمر، فدام القتال بينهم وبين الأهالي من سنة 438 مسيحية إلى سنة 838 حين جاء أولاف ستريك ملك الدنماركيين وملك البلاد، وظلت أرلاندا خاضعة له ولخلفائه حتى سنة 1084 حين قام بطل من أهلها اسمه أوبريان حارب المعتدين وطردهم من البلاد وأعاد إليها استقلالها فنمت وتقدمت تقدما عظيما.
وكانت مملكة إنكلترا في ذلك الزمان تقوى وتمتد أيضا وهي مجاورة لأرلاندا، فبدأ ملوكها يتطلعون إلى هذه الجزيرة، وأول من حاول فتحها منهم هنري الثاني؛ فإنه صدر له أمر من البابا بضم أرلاندا إلى أملاكه في سنة 1155 وحارب البلاد، فملكها بعد عدة مواقع وولى عليها أناسا من قبله ونقل بعضا من الإنكليز إليها، ومن ذلك العهد بدأ العدوان بين الأرلانديين والإنكليز وتعاظم في أيام إدورد الثالث الذي ضيق على أهل هذه الجزيرة وقمع ثورتهم بعد أن هبوا يريدون الاستقلال، وعين حكاما جائرين شددوا الوطأة على الأهالي، واشتد بسبب ذلك الجفاء بين الأمتين. وكان لأرلاندا مجلس نواب يسن النظامات الداخلية، فصدر أمر الملك هنري السابع سنة 1495 بأن تكون قرارات هذا المجلس كلها قابلة للتغيير لا يعمل بها إلا إذا صدق عليها مجلس النواب الإنكليزي، ثم لما ولي الملك جيمس الأول نقل إلى الجهة الشمالية من أرلاندا عددا كبيرا من أهل اسكوتلاندا وإنكلترا وأقطعهم الأراضي في ولاية الستر التي تعد مدينة بلفاست عاصمتها، وزاد الملوك الباقون على هذا إلى أن كانت أيام الثورة الإنكليزية سنة 1688، وولي الأمر بعدها الملك وليم الثالث فنقل كثيرين من الإنكليز أيضا إلى قضاء الستر، وكان القوم من حزبه ضد المنتمين لآل ستيورت المعزولين وعرفوا من ذلك الحين باسم الحزب الأورانجي نسبة إلى وليم الثالث، وهو في الأصل يعرف باسم أمير أورانج وما زالوا حتى يومنا هذا شأنهم في البلاد.
وبقيت أرلاندا على هذا النظام وهي تشكو ظلم العمال الإنكليز والنظامات التي أفقرت الأهالي، وجعلت الأرض كلها ملكا لبضعة من الأكابر حتى أول هذا القرن الماضي، حين سعى وزراء الدولة الإنكليزية في ضم أرلاندا ضما نهائيا إلى إنكلترا، وتم لهم ذلك فأبطل البرلمان الأرلاندي وصار أعضاؤه من أعضاء البرلمان الإنكليزي في سنة 1801، ولكن الأعضاء الأرلانديين شعروا بفقد الاستقلال والخسارة من هذا النظام فبدءوا يطلبون العود إلى النظام الأول، ويلحون على مجلس النواب الإنكليزي أن ينصف أهل بلادهم ويغير نظام الأراضي فيها حتى قام منهم في العصر الحاضر رجال كبار العقول نظموا الحزب الأرلاندي، وجعلوا له قوة كبرى تحسب الحكومة حسابها، وكان رئيس هذا الحزب أيام صولته المستر بارنل المعروف باسم ملك أرلاندا الغير المتوج، ولكنه تضعضعت أحواله قليلا بعد موت بارنل وما زال أفراده على مطالبهم، وأهمها أن يغير نظام الامتلاك الجائر؛ لأن الجزيرة - كما قلنا - ملك بعض اللوردة والموسرين ورثوها عن أجداد أخذوها في أيام ملوك إنكلترا الذين ذكرناهم في هذه الخلاصات التاريخية. وأهل البلاد قاعدون في الأرض بصفة مستأجرين يزرعونها ويستغلونها ويؤدون مالا معلوما عنها للورد كل سنة يتقاضاه وهو بعيد عن الأرض، سواء صحت المواسم أو لم تصح، فأكثر مال البلاد يروح إلى إنكلترا وينفق على غير الأرلانديين، والأجر التي يؤديها المستأجرون للوردة كبيرة، فإذا عسر في أحد السنين عليهم أداؤها أمكن للورد أن يطردهم منها، ولو أنهم أقاموا فيها هم وأجدادهم الأجيال، وقد حدثت عدة حوادث من هذا القبيل أظهرت جور النظام الحالي وهيجت أحقاد الأرلانديين فأصروا على مطالبهم حتى رأى المستر غلادستون المشهور أن يجيب سؤلهم ويمنحهم استقلالا داخليا، ولم يوافقه جمهور الإنكليز على رأيه لما بين الأمتين من العدوان؛ ولأن الإنكليز يخشون أن يتخذ الأرلانديون هذا الاستقلال الداخلي وسيلة للاستقلال التام وتجزئة المملكة الإنكليزية، وما زالت هذه عقدة المسألة الأرلاندية إلى الآن.
وأرلاندا جزيرة بهية تعرف بمروجها السندسية حتى إنهم يسمونها جزيرة الزمرد؛ لكثرة خضرتها الشهية. وأهلها أكثرهم من الكاثوليك ما خلا سكان ولاية الستر فإن أكثرهم من البروتستانت، وهم أهل ذكاء وفصاحة وحذق كثير، قام منهم عظام الرجال من القواد مثل لنتون وروبرتس وولسلي وكتشنر وأرباب السياسة مثل دفرن وأوبريان وبارنل وغيرهم وكتاب الأرلانديين وخطباؤهم البلغاء في هذه الأيام أكثر من أن يعدوا، وقد كانت أرلاندا عامرة بالسكان لا يقل عدد سكانها عن 8 ملايين نفس في بدء القرن الماضي، فنزح منهم ألوف وملايين إلى الولايات المتحدة والمستعمرات الإنكليزية بسبب نفورهم من نظام الحكومة الحالي، حتى إنهم لا يزيدون اليوم عن أربعة ملايين.
وأما بلفاست فإنها مدينة زاهرة عامرة في الجهة الشمالية من أرلاندا لا يزيد عنها في الأهمية في هذه الجزيرة غير العاصمة دبلن - التي سيجيء الكلام عنها - وقد اشتهرت بلفاست في الأيام الحديثة بما حدث في المظاهرات السياسية ضد الحزب الأرلاندي الوطني الطالب الانفصال عن إنكلترا؛ لأن معظم أهل هذه المدينة من الحزب الأورانجي كما تقدم معنا في الخلاصة التاريخية، وقام منها بعض فحول السياسة وأصحاب النفوذ الكثير، وعرفت أيضا بين المدائن البريطانية بالنماء السريع والتقدم الباهر مدة الأعوام الأخيرة؛ فإنها كانت في بدء حكم الملكة فكتوريا مدينة صغيرة وصارت الآن ثانية مدائن أرلاندا، عدد سكانها 350 ألف نفس، ولها شهرة بتنسيق الشوارع وجمال الأبنية وغنى المخازن وأهمية المعامل الكثيرة المشهورة عنها، منها معامل السفن البخارية والشراعية على أشكالها تصنع فيها الباخرات الكبرى لوزارة البحر الإنكليزية، ولبعض الممالك الأخرى وللشركات التجارية العديدة، ولا يقل عدد العمال في بعضها عن ثلاثين ألفا.
وامتازت بلفاست أيضا بصنع الخزف وأشكال الفخار وبالمنسوجات الجميلة من الكتان (التيل) والحرير، ولأقمشتها الكتانية شهرة ذائعة في الخافقين حتى إن ملوك أوروبا وسراتها يوصون معاملها على ما يلزم لهم من القماش للقمصان والمناديل والفوط، وهم يرسلون منها في كل عام مقادير كبرى إلى الأقطار الخارجية. ولما كانت صناعة الكتان من الأسرار الخاصة بهذه المعامل على طرقها المعروفة، فهم يحرصون على إبقاء سر الصناعة في معاملهم ويحذرون من السرقة وتقليد بضاعتهم، فلا يصرحون لزائر أن يزور معاملهم إلا إذا وثقوا من أمره ولم يخشوا عاقبة زيارته؛ ولهذا فإني لما قصدت التفرج على أحد هذه المعامل دخلت مع أحد المعارف، وكان المعمل في شارع يعرف باسم شارع يورك، وهو متسع المجال يشغل من الأرض مساحة أربعة فدادين وله بناء فخيم كبير ذو خمس طبقات، فدار بنا أصحاب المعمل في جوانبه يروننا كيفية صنع التيل من بدء أمره إلى آخره، فرأينا كيف يغسل التيل ثم ينقى وينظف ثم يسرح ويمشط، ثم يجدل ويفتل ثم يغزل ثم ينسج ثم يبيض ويصقل، ثم يقطع ويفصل ثم يطوى ويحزم كل نوع منه على حدة، فكانت الفرجة على طرق هذه الصناعة من ألذ ما يمكن للمرء أن يمتع النظر به ويستفيد من درسه، وقد رأيت أبضعة هذا المعمل بعد أن ينتهي العمال منها، فإذا هي متينة بيضاء جميلة تشرح الصدر بهيئتها، وأخص بالذكر منها أنواعا من المناديل البيضاء يرسلون منها المقادير إلى جلالة الملك وأهل بلاطه وكثير من السراة الإنكليز، وفي هذا المعمل 4500 عامل وقوة آلاته البخارية 1400 حصان، وفي قاعة منه عظيمة للنسج 65000 دولاب تدور عليها خيطان التيل فتغزل وتنسج، ولها دوي هائل يصم الآذان.
واتجهت بعد هذا إلى معمل للحبال، وصناعة الحبال في هذا الثغر مشهورة أيضا حتى إن أكبر معامل الأرض للحبال توجد في مدينة بلفاست هذه، وكان المعمل الذي دخلته عظيما يشغل من الأرض مساحة عشرين فدانا وفيه ثلاثة آلاف عامل ومائة كاتب، فدرت في جوانب المعمل ورأيت من أدلة الاجتهاد في هذه الصناعة البسيطة ومن مقدار الربح الوافر ما جعلني أفكر في حال الشرق ومصنوعاته التي كادت تنقرض بسبب وجود هذه المعامل الكبرى في مدائن الغرب، وتمنيت لو يبدأ أهل هذه الأقطار بالتعاون على العمل والاشتراك حتى يمكن لهم مجاراة أهل أوروبا في بعض الصناعات وإبقاء مقدار من الربح لهم بدل أن يكون النفع كله لمعشر الأوروبيين.
অজানা পৃষ্ঠা