الأندلس
كان جل مرادي من السياحة في إسبانيا أن أرى بلاد الأندلس البهية، حيث شاد العرب مملكتهم الزاهرة المشهورة؛ ولهذا فإني قمت من مدريد في قطار الحديد قاصدا هذه الولاية، ومررت في أرض كثيرة المزارع والربى والآجام يزرع فيها الرمان والبرتقال والعنب والتين، وغير هذا من أشكال الفاكهة اللذيذة والبقول الخضلة التي تكثر في إسبانيا كلها، وفي هذا الإقليم بنوع أخص وهو يرويه نهر سماه العرب باسم الجدول الكبير واسمه الإسباني «جواد الكفير»، وبعد سفر 12 ساعة في القطار وصلت مدينة «كوردوفا» واسمها عند العرب قرطبة، وهي مدينة قديمة العهد في تاريخ إسبانيا، كانت مقرا لمتاجر الفينيقيين الذين أنشئوا فيها معاصر للزيت وانتقاها الرومانيون من بعدهم فجعلوها نخبة المدائن الإسبانية، حتى إن بعض قياصرتهم ولدوا فيها، مثل تراجانوس وأدريانوس، كل هذا وهي ما رأت عزا عظيما مثل عز الدولة العربية حين جعلها عبد الرحمن الأموي قاعدة مملكة الأندلس، وصارت مقرا للعلم والصناعة تضاهي بغداد في ذلك على عهد الدولة العباسية، حتى إن عدد الجوامع في قرطبة على عهد عبد الرحمن بلغ 700 جامع غير المدارس والحدائق والمتنزهات الكثيرة.
وحيث وصولي قرطبة نزلت في فندق أوريان بني في ميدان يعرف باسم قبطان باشا، وقد تميز هذا الميدان بأغراس من البرتقال والنخل جعلت صفوفا متبادلة؛ أي إنهم زرعوا نخلة تليها شجرة برتقال في طول تلك الصفوف، وهم يقصدون من ذلك تمثيل الذوق العربي. وخرجت من هذا الفندق مارا بالميدان المذكور، فقصدت آثار جامع عظيم بناه الأمير عبد الرحمن الأول صاحب الأندلس، وقصد من بنائه أن يجعله ندا للجامع الأموي في دمشق؛ ولهذا الجامع شهرة ذائعة، فلطالما بالغ كتاب الإفرنج في شرح محاسنه حتى إنه ليعد من معجزات الصناعة وأفخر ما ترك الأولون للآخرين، بني على عمد من الرخام بعضها أحمر وبعضها أخضر والبعض أبيض أو لها ألوان أخرى، وعدة العمد كلها من داخل الجامع 750، فكأنما هي حقل زرع عمدا شهية، وقد نصبت صفوفها الحسناء تلي بعضها البعض على نسق يمثل للناظر الجمال والفخامة والعظمة في لحظة واحدة. وطول هذا المعبد من داخله 167 مترا والعرض 119، وصفوف الأعمدة العظيمة فيه لا تقل عن 36 صفا، لها مهابة يقصر عن وصفها الشرح الطويل، وله مئذنة عريضة يمكن للرجل أن يرتقيها على ظهر الجواد وعلوها 93 مترا، ومحراب وقفت أمامه زمانا أتأمل تلك المحاسن البديعة، وهو قطعة واحدة من الرخام الأبيض زخرف بالفسيفساء النادرة الإتقان، وفوقه مصباح من الذهب الوهاج، ولذلك منظر لا يمحى من الأذهان، وله أيضا مقصورة صنعت من خشب الأبنوس والند حفرت فيها رسوم وآيات كاملة الجمال قد لا يأتي بمثلها مهرة الصناع في هذا الزمان. وقد كان هذا الجامع ينار بمصابيح عددها 7425، ولا عجب في أن الإسبان لما جعلوه كنيسة لم يغيروا شيئا من وضعه اللطيف؛ فقد قيل إن أحد الأساقفة أراد تغيير شيء منه على عهد شارل الثالث، ولكن المجلس البلدي خالفه في الرأي فبقي الجامع على حاله، وحدث أن هذا الملك زار الجامع بعد ثلاث سنين فقال لمن حوله من خدمة الدين: «بحقكم، ألا تغيروا شيئا في هذا المعبد العظيم، فإن الذي تريدون إحداثه لا يمكن وجود مثله في كل يوم، وأما هذا فلا نظير له في الوجود.» وهذه شهادة بعظمة هذا البناء الفاخر الذي يفتخر بمثله الأوائل على الأواخر.
وليس في قرطبة الآن شيء يستحق الذكر غير هذا الأثر العظيم وأطلال دراسة وآثار عفت ما بقي منها غير الموضع، من ذلك ناحية على مقربة من المدينة اسمها فيجا بنى فيها عبد الرحمن الثالث قصر الزهراء المشهور في تاريخ الأندلس بطلب من زوجته الزهراء؛ إذ رجته أن يبني لها قصرا تقضي فيه آخر أيام اللذات؛ فأحضر المهندسين والبنائين من بغداد والشام وبلاد الروم وجهات إسبانيا، وجاء بالخشب من الشام وأفريقيا وبالمرمر من بعيد الأقطار، وأشغل في البناء عشرة آلاف عامل وثمانمائة بهيم، ثم أنفق مالا على زخرفه ورياشه، ووضع فيه الأدوات المرصعة بالحجارة الكريمة بعضه شري بالمال وبعضه جاءه هدية من الملوك المعاصرين، وكان من قاعات هذا القصر غرفة زوجته التي بني القصر لها زركشت مفروشاتها باللؤلؤ وجدرانها بالفسيفساء، ومن أدواتها سرير لها، قام على عمد من البلور وطشت وإبريق من الذهب مرصعان بالجواهر. ويتبع ذلك مواضع للخادمين والأعوان، ومنهم 600 جارية وحراس خارج القصر لا يقلون عن 4000 راجل و8000 فارس، وقد كان عبد الرحمن ينفق إيراد الدولة على بناء هذا القصر مدة 25 سنة، ويقال - بوجه الإجمال - إن النفقات بلغت مبلغا هائلا، وما بقي لهذا القصر العظيم إلى الآن أثر، بل إن في مكانه بساتين وأغراسا، فسبحان الذي يغير ولا يتغير!
سفيل:
واسمها العربي إشبيلية، قصدتها بعد قرطبة، وهي التي كانت مقر ملوك إسبانيا على عهد الدولة الغوثية، ومنها نشأت الفتنة التي أدت إلى قدوم العرب وخضوع البلاد لهم، وهي الآن مدينة جميلة يخترقها نهر جميل، وتكثر فيها البساتين والحدائق الغناء كانت في أيام العرب معروفة بعلومها وآثارها، وعدد سكانها الآن نحو 150 ألفا، يذكر عن هذه المدينة أنها شرقية في منظرها عامة وخاصة؛ فإن كثرة البساتين والفاكهة ونظام البيوت والشوارع يخيل لك أنك في بلاد شامية؛ لأن البيوت هنا شرقية الوضع لها في مدخلها فسحة صغيرة يجلس فيها رب الدار ويقضي أعماله مع زائريه، ويليها حاجز من الشعرية، وراءه فسحة كبيرة مبلطة بالرخام الأبيض تزرع فيها الأزهار والأغراس من برتقال وورد وزنبق ومنثور، وفي وسطها بركة من الماء يجلس حولها أهل البيت وفوقهم القبة الزرقاء، ومن حولها الغرف، أرضها بلاط أبيض فكل ذلك يحكي ما في دمشق الشام من نظام المنازل.
وإني حال وصولي هذه المدينة قصدت بناء شهيرا يسمونه الكازار محرفا عن القصر، وقد صارت هذه الكلمة ذات شهرة في أوروبا مثل الهمبرا المحرفة عن الحمراء، يسمون بها الحانات والملاهي والمراسح في أكثر العواصم الأوروبية، وذهبت إلى الألكازار، وهو قصر الأمير عبد العزيز من أمراء الدولة العربية قام على عمد وركائز من الرخام الأبيض، وقاعاته كلها مزينة بالفسيفساء المذهبة، وهي نادرة المثال عظيمة المجال، والسقوف ألواح سميكة من الخشب حفرت عليها رسوم وآيات جميلة على النسق العربي المشهور، والشبابيك فيه واطئة عريضة أكثرها لا يخلو من رسوم عربية، ودخلت الحمام الكائن في هذا القصر، فإذا هو آية من آيات الإتقان الشرقي كأن بانيه يرتاح إلى الجلوس على مصاطبه لا سيما وروائح الند والعود تتضوع من جوانبها، وله في أعلاه كشك كانت الغيد الحسان تسمع الأمير منها شجي الألحان، وهو راقد فوق وثير الفراش وقد نسي متاعب الزمان، هذا هو الحمام الشتوي، وأما الصيفي فوضع داخل قسم النساء من وراء الحديقة يشبه بمنظره فسقية شبرا المشهورة، وله طريق مبلطة أرضها بالطوب الأحمر ينفذ الماء من أنابيب فيها لا تظهر للعين، فإذا فتح لها مفتاح تدفق الماء على نسق بديع من تلك العيون الخفية. وحديقة الحرم مشهورة بجمالها أيضا تمشينا فيها بين شهي الأغراس وأشجار المانلا تفوح منها الروائح العطرية، وأشجار نخل وبرتقال وتفاح وغير هذا مما يذكر المتفرج بالهناء الشرقي والحياة الخالية من الهم، وأعجبني نوع من البرتقال تظهر الفصوص في ثمره من قبل أن يقشر وطعمه شهي لذيذ.
ومما يذكر في هذه المدينة كنيسة جيرالدا، هي أعظم كنائس إسبانيا وأشهرها، بدأ كارلوس الأول ببنائها وأتمها الملوك من بعده، وكانت بغيتهم جعلها أحسن الكنائس فوسعوا نطاقها، واشتروا لها من التحف والمثمنات ما يقرب من تحف كنيسة مار بطرس في رومة، وكنائس روسيا المشهورة، وفي هذه الكنيسة مدفن ابن خرستوفوروس كولومبوس مكتشف القارة الأميركية. وفي هذه المدينة معمل للسجاير للحكومة تعمل به أربعة آلاف ابنة وامرأة، وسجايره مشهورة باسم سفيل، وضواحي المدينة بديعة الجمال نامية الشجر والأغراس الشهية، قضيت نهارا أدور في جوانبها وراق لي حسنها الباهر وعدت في السهرة فرأيت رقص البنات الإسبانيات وهن يلبسن جلبابا قصيرا إلى حد الركبة ويمسكن بالدفوف ينقرن عليها ساعة الرقص، وعلى رأسهن منديل مثل بنات العرب ومنظرهن كثير الجمال، وهذا جل الذي يذكر عن إشبيلية برحتها قاصدا غرناطة والمسافة 11 ساعة في قطار الحديد.
جرنادا:
سكانها تسعون ألف نسمة واسمها العربي غرناطة، لم يعرف عنها شيء قبل دخول الإسلام إلى إسبانيا، فهي مدينة عربية محضة، ولم تزل كل محاسنها إلى هذا النهار آثارا عربية، ووضعها عربي يروق للناظرين، وقد أصبحت بلدة لا يزيد عدد سكانها عن سبعين ألفا، على حين أن منازلها كانت تزيد عن هذا العدد في أيام عزها السالف حتى إنه ليس فيها شيء يذكر غير هذه الآثار العربية المبنية على قمة جبل شيدت فوقه الفنادق العظيمة يقصدها السائحون، وقد كانت غرناطة عاصمة الدولة العربية الثانية التي أسسها محمد ابن الأحمر المعروف باسم محمد الأول الغالب سمي بذلك؛ لانتصاره في كثير من المواقع ولما سمع الناس يقولون له ذلك يوما أجابهم أن «لا غالب إلا الله»، وقد اشتهرت هذه العبارة عنه ونقشت على كل جوانب القصر العظيم الذي بناه ويعرف باسم الحمراء أو الهمبرا، وهو من عجائب الآثار الجليلة ولعله أعظم آثار القرون الوسطى في البلاد الأوروبية، واسم الهمبرا متداول في أوروبا يسمون به المراسح والحانات، وهذا بعض ما يستحق الذكر عنه.
অজানা পৃষ্ঠা