اشتهرت هذه البلاد ببسالة أهلها في أيام الرومانيين والمعارك الكثيرة التي جرت بينهم وبين قواد رومة، وكانوا يسمونها وقتئذ «غاليا»، ويعرفون الأهالي باسم «فرانك» أي الأحرار؛ نظرا لما عرف عنهم من الميل إلى الحرية والاستقلال، ثم توسع الناس في هذا الاسم فجعلوه عاما لكل الأوروبيين، وأخذه العرب عنهم فجعلوه الإفرنج أو الفرنجة كما تعلم وحرف قليلا بإبدال الكاف سينا فصار «فرانس»، وهو اسم فرنسا اليوم. وليس يعرف عن ملوكها الأقدمين ما يذكر قبل واحد اسمه ميروفيوس أسس الدولة الميروفنجية، وأشهر أفرادها كلوفيس الأول ولي سنة 481 وهو في العشرين من عمره وحارب الرومان وأجزاء فرنسا وألمانيا؛ فانتصر في كل حروبه وجعل باريس قاعدة مملكته واقترن بابنة ملك بورغونيا فعلمته الدين المسيحي وحملته على اعتناقه، فكان من وراء ذلك أن فرنسا كلها تمثلت بملكها الهمام وصارت بلادا مسيحية من ذلك الحين، ومات كلوفيس سنة 591 مسيحية فخلفه أولاد له أربعة وكلهم ضعفاء الرأي بلا تدبير فتضعضعت أحوال المملكة وقلت هيبة الملوك وانتقلت السلطة منهم إلى رؤساء البلاط الملوكي، وكانت وظيفة رئاسة البلاط قد صارت وراثية في عائلة رجل اسمه بين أرسنال، قام من نسله شار مارتل القائد الشهير الذي انتصر على العرب سنة 732 بين مدينتي تور وبواتييه في فرنسا وأرجعهم عن أوروبا، ويعد انتصاره في تلك السنة من أعظم الحوادث التاريخية؛ لأنه غير تاريخ أوروبا وأبقى الغرب للغربيين بدل أن يستولي عليه العرب.
ولما مات شارل مارتل هذا ورث الوظيفة - رئاسة البلاط الملوكي - والقوة ابنه بين القصير، وصار الملك في أيام هذا الوزير بلا مركز يعرف حتى إن البابا وافق الوزير على اختلاس الملك فعزل آخر ملوك الدولة الميروفنجية واسمه شلدرك، وتوج بين القصير ملكا في سنة 751 فكان ذلك بدء الدولة الثانية في فرنسا وتعرف باسم الكارلوفنجية.
ومات بين هذا في سنة 768 بعد أن ملك البلاد 17 سنة فأورث الملك من بعده لابنيه شارل وكارلومان، مات الثاني منهما بعد حين واستبد شارل بالملك وهو الذي اشتهر في التاريخ باسم شارلمان - أي شارل الكبير - أعطي هذا اللقب عن استحقاق؛ لأنه كان مديرا حكيما وقائدا باسلا وملكا عظيما حارب في كل جهة وانتصر على كل الأعداء فوسع دائرة مملكته وجعلها متصلة من آخر حدود فرنسا الغربية إلى حدود الرين والدانوب، وضم جزءا كبيرا من النمسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا إلى مملكته، وكان في أيامه أعظم ملوك الزمان لا يضارعه في الشهرة غير هارون الرشيد سلطان العرب وكان بين الاثنين وداد ومخابرة، وظل هذا الملك العظيم يفتح البلدان ويتقدم حتى توج سنة 800 إمبراطورا على يد البابا في رومة، وكان تتويجه يوم عيد الميلاد من السنة المذكورة ومات شارلمان سنة 814، وهو في الثانية والسبعين من عمره فخلفه ابنه لويس دبوناير وجعل أيكس لاشايل قاعدة مملكته، وما لبث زمانا حتى قسم المملكة على أولاده وهو حي فجعلوا يتخاصمون ويتحاربون بسبب ضعف أبيهم حتى انفصلت إيطاليا وألمانيا عن مملكة فرنسا وضعفت تلك السلطنة، وكان جميع ملوكها بعد شارلمان ضعافا لا يستحقون الذكر إلى أن قام في أيام لويس الخامس المعروف بالكسلان وزير اسمه «هوك كاييت» اختلس الملك من مولاه، وأسس دولة تعرف باسم كاييت في سنة 987.
وقد قام من بيت كاييت فروع ملوكية كثيرة، مثل آل فالوا وأورليان وبوربون وفيليب، ومن هؤلاء فيليب الثاني الملقب بأوغسطس ملك البلاد سنة 1180 واتحد مع ريكاردوس قلب الأسد ملك الإنكليز على تجريد الحملات لمحاربة الترك والعرب في فلسطين مدة الحروب الصليبية المشهورة.
شارلمان.
ونمت البلاد قليلا وتقدمت في حكم فيليب الثالث من ملوك هذه العائلة ما بين سنة 1270 و1284، ولكنها عادت إلى الضعف في أيام فيليب الخامس وحدثت في تلك المدة حروب طويلة بين إنكلترا وفرنسا تعرف بحرب المائة سنة، كان معظم النصر فيها للإنكليز حتى إن هنري الخامس ملك إنكلترا تقدم بجيش صغير على فرنسا وحارب جنودها في معركة أجنكور سنة 1415 فانتصر انتصارا باهرا وتقدم على باريس، ففر منها ملكها الضعيف شارل السادس، وامتلك الإنكليز مملكة فرنسا مدة 9 سنوات حتى إذا مات هنري الخامس ملك إنكلترا، وهو يومئذ أشهر قواد زمانه عاد الفرنسويون إلى السعي في الاستقلال، وتم لهم ذلك سنة 1450 على يد فتاة اسمها جان دارك اعتقدت أنه جاءها وحي بطرد الإنكليز، وألحت على ملك بلادها المعزول وأمرائه أن يسلموها قيادة جيش، فلما نالت بغيتها تقدمت في طليعة الجيش على الإنكليز وحاربتهم فانتصرت عليهم في جميع المواقع وهي عذراء في الثامنة عشرة من عمرها، ولكن جوادها كبا بها في الموقعة الأخيرة فأخذت أسيرة وقتلها الإنكليز حرقا بالنار؛ لأنهم زعموا أنها ساحرة فما أفادهم ذلك؛ لأن انتصار جان دارك أعاد فرنسا إلى أهلها.
ولهذه الفتاة ذكر عظيم في التاريخ وشهرة كبرى في فرنسا، وهي تعد عندهم في جملة القديسين، ولها في باريس تمثال أمام قصر التولري وعدة آثار وتماثيل أخرى في كل جوانب فرنسا.
ولما استقلت فرنسا شرع ملكها شارل السابع في إصلاح شئونها، وكان عاقلا حكيما وخلفه ابنه لويس الحادي عشر فحذا حذو والده واهتم بالطباعة، وكانت يومئذ شيئا حديثا اهتدى إليه جوتنبرج سنة 1450، فنقله الملك إلى باريس ونشط العلم والصناعة بكل قواه، وخلفه ابنه شارل الثاني وكان هماما حارب إيطاليا وملك جزءا كبيرا منها ثم أضاعها ومات في شرخ شبابه؛ فخلفه لويس الثاني عشر الذي أعاد جزءا من شمالي إيطاليا إلى مملكته، ثم خلفه فرانسوا الأول، وهو من أشهر ملوك فرنسا وأقدرهم، حارب في عدة مواقع، ولكن خصمه في أكثر الحروب كان أوسع منه سلطانا وأكثر جنودا وهو كارلوس الخامس ملك إسبانيا وإمبراطور ألمانيا، فكان النصر في أكثر المعارك لكارلوس، ولكن هذا لم ينقص من قدر فرانسوا الذي يعد من أعظم ملوك فرنسا، ومات هذا الملك سنة 1547 فخلفه ابنه هنري الثاني، ولم يكن له ذكر في التاريخ غير أن الخلاف كبر في بلاده بين الكاثوليك والبروتستانت واشتد في أيام ابنه هنري الثالث وحفيده فرانسوا الثاني، وحصلت في تلك المدة حروب كثيرة بين الحزبين، اشتهر فيها البرنس كوندي والبرنس هنري نافار الذي ملك فرنسا بعد ذلك باسم هنري الرابع والأميرال كوليني وكلهم من قواد البروتستانت، وكان من أمر المتحاربين أنهم تصالحوا بعد حروب أهلية طويلة في أيام شارل التاسع ملك فرنسا الذي ملك البلاد في التاسعة من عمره سنة 1560، وكان تحت وصاية أمه كاترين ده مديسي، ولكن الحزازات ظلت تحك في الصدور وساعد على إنمائها تعصب الملك وأمه، فدبر حزب الكاثوليك دسيسة لقتل البروتستانت جميعهم في ليلة واحدة في كل أنحاء فرنسا، واتفقوا على أن يكون اليوم 23 أوغسطس من سنة 1572، وهو يوم عيد القديس برثلماوس، فلما جاء الموعد قام الكاثوليك على إخوانهم البروتستانت وقتلوا منهم ألوفا.
وظلت البلاد في ارتباك إلى آخر حكم هنري الثالث، فلما قتل في سنة 1589 ورثه هنري الرابع الذي ذكرناه وكان حكيما عالما عادلا كثير الذكاء، ولكن مذهبه البروتستانتي أبعد عنه قلوب الكاثوليك من رعاياه؛ فاعتنق مذهبهم، ولما استتب له الملك أصلح ما اختل من أموره وقرر النظامات العادلة وأطلق الحرية للأديان، وكان - بوجه الإجمال - من أعقل ملوك فرنسا وأعظمهم، ولكنه قتل بيد راهب كثير التعصب سنة 1610، وخلفه لويس الثالث عشر ابنه، وكان يومئذ في التاسعة من عمره فجعلت والدته ماري ده مديسي وصية عليه، وكانت امرأة عاقلة استوزرت الكردينال ريشيلو المشهور؛ فأظهر الرجل من معجزات الاقتدار والدهاء ما حير أوروبا، وحارب ألمانيا وإيطاليا وسواهما حروبا طويلة كان النصر في أكثرها لفرنسا، وهي تعرف بحروب الثلاثين سنة من سنة 1618 إلى سنة 1648، وقد أسس ريشيلو هذا مجمع العلوم الفرنسوي المعروف باسم «أكادمي» ورفع فرنسا بحسن تدبيره إلى أرفع الذرى، ولكنه كان حقودا طماعا، واشتغل كل عمره بالفتن والدسائس، ومات لويس الثالث عشر فورثه حفيده لويس الرابع عشر، وهو طفل في الخامسة من عمره، فجعلت أمه ماري هايسبرج وصية عليه حتى إذا بلغ أشده واستلم زمام الملك أظهر اقتدارا عظيما، وكان أعظم ملوك زمانه بلا مراء، وحارب هذا الملك إسبانيا وألمانيا وإيطاليا وإنكلترا وهولاندا وكان النصر في أكثر الحروب له، ولكن الإنكليز انتصروا عليه في عدة معارك أشهرها معركة بلنهيم وقائدهم يومئذ الديوك أوف مارلبرو من بيت تشرتشل المشهور. وكان الكردينال مازارين وزيره في أوائل حكمه، فأصلح له مالية البلاد إصلاحا تاما وسارت فرنسا في سبيل العز مدة هذا الملك حتى عدت أكبر دول أوروبا. ومات لويس الرابع عشر في السنة الثانية والسبعين من عمره بعد أن حكم 65 سنة، وهو أطول حكم في تاريخ ملوك أوروبا وكان موته في سنة 1715، واشتهر حكم هذا الملك العظيم بتقدم العلم والصناعة وقيام الأبطال الكثيرين وبناء القصور الفخيمة، منها قصر ملوك فرنسا في فرسايل من ضواحي باريس، ولكنه اشتهر أيضا بإبطال معاهدة نانت التي أبرمت في أيام هنري الرابع وأعطي الناس فيها حرية الضمير والأديان؛ فنشأ عن رجوعه إلى التعصب أن البروتستانت نزح أكثرهم من فرنسا إلى إنكلترا وبلغ عدد المهاجرين نحو خمسمائة ألف نفس، أكثرهم من أهل الذكاء والصناع الماهرين، فخسرت فرنسا معارفهم وكسبتها إنكلترا، وكان رحيلهم من الحوادث المشهورة في تاريخ لويس الرابع عشر.
وخلفه لويس الخامس عشر، وكان فاتر الهمة كثير الميل إلى اللهو منغمسا في اللذات، جمع في قصره النساء الحسان من كل ناحية، وآثر معاشرتهن على تدبير مهام الملك، وكثر ظلم الحكام في أيامه وزاد تبذير البلاط الملوكي عن الحد المعتاد، فكانت الحكومة تلجأ إلى ابتزاز الأموال اللازمة لذلك التبذير بالعنف والقسوة من الأهالي، وشاعت عن الملك أمور كثيرة نفر منها الناس فكانوا يقرءون كتابات فولتير وغيره من الذين مهدوا السبيل للثورة، وحدث في أيامه أن ولاية اللورين سلخت من ألمانيا وضمت إلى أملاك فرنسا، وأن جزيرة كورسيكا أخذت من إيطاليا وضمت إلى مملكة فرنسا أيضا، ومات لويس الخامس عشر سنة 1774.
অজানা পৃষ্ঠা