ولما انتهيت من مدينة ستراسبورغ برحتها إلى جهة الشمال فمررت بما لا يعد من المدائن العامرة، وكلها بادية عليها أدلة التقدم والنماء ترى معاملها وخطوطها الحديدية في كل جانب، ولو أحصيت خطوط الحديد في الممالك بالنسبة إلى اتساعها لكانت ألمانيا في مقدمتها، هذا غير أن الأهالي بلغوا درجة قصوى من التهذيب وانتشرت مصنوعاتهم في كل قطر فقد مررت في هذا الطريق على مدينة «مانهيم» وهي تعرف في اصطلاح القوم بلفربول الرين؛ لكثرة معاملها ومصنوعاتها التي ترسل إلى هذا القطر وسائر الأقطار، وظللنا نخترق العمائر حتى وصلنا «مايانس» أو مينز بلغة الألمان، وهي من أمهات المدائن الألمانية، لها شهرة ذائعة في حسن موقعها على نهر الرين وجودة الهواء والمناظر ووفرة الحصون والاستحكامات التي قامت إلى كل جانب منها، وأكثرها في جبال تحيط بهذه المدينة إلى جانبي النهر؛ ولذلك كانت هذه المدينة من المواقع العسكرية المشهورة، وفيها حامية كبيرة لا يقل عددها عن اثني عشر ألفا وهم منتشرون في المدينة وضواحيها تراهم كيفما سرت وعلامات الانتظام والتعليم العسكري المشدد ظاهرة عليهم، وقد وصفنا حالة الجندية الألمانية وصعوبتها واستبداد ضباطها بالعساكر، وغير هذا عند الكلام عن برلين، وفي هذه المدينة الجميلة حديقة غناء قائمة على ضفة النهر تشغل مكانا فسيحا فيها، وكلها آيات ومحاسن توجهنا إليها وسرنا منها إلى كنيسة فيها مدافن الأساقفة القدماء الذين نشئوا في مينز ونواحيها، وقد أذهلني أن امرأة هي قندلفتة الكنيسة أو حارستها جاءت لنا بالمفاتيح ودارت معنا ترينا جوانبها، والعادة في كل الأنحاء تقريبا أن تكون هذه الخدمة للرجال لا للنساء.
ورأيت في مايانس ميدان جوتنبرج المشهور مخترع الطباعة ولد في هذه المدينة فأقاموا له هذا التذكار تمثالا في وسط الميدان، وكان الرجل من بسطاء الأهالي ولد في مايانس ونزح إلى ستراسبورغ للارتزاق؛ فحدث أنه كان جالسا تحت ظل شجرة عند ستراسبورغ يوما، وأسند ظهره إلى جذعها زمانا فلما نهض انتزع رداءه ليحمله على يده؛ فرأى في الرداء علامات طبعت عليه، وهي تشبه الكتابة، وكانت تلك العلامات أثر قشور الشجر طبعت على الرداء من استناده إلى الجذع ففكر صاحبنا مدة في هذا الاتفاق المليح، وفطن منه إلى أنه يمكن أن تصنع حروف ناتئة إذا ضغط عليها ظهرت علاماتها على الورق أو القماش؛ فذهب إلى بيته وصنع بعض الحروف من الخشب ثم جعل يصبغها ويضع فوقها قماشا أو ورقا يضغط عليه فترتسم هيئة الحروف على الورق، وانتشر اختراعه، فكان ذلك بدء الطباعة وصيرورة العلم إلى حاله الحالية، وقد عمت المعارف بواسطة هذا الاختراع الجليل إلى درجة لم تخطر على بال المخترع، وكان أول كتاب طبع بهذه الحروف الإنجيل والتوراة باللغة اللاتينية، وأما الاختراع فتم في ستراسبورغ سنة 1440، ولما كان المخترع من أهل مايانس فقد أقيمت له التماثيل في المدينتين. ورأينا في هذه المدينة أيضا تمثال الشاعر شلر في ميدان سمي باسمه، وصعدت حديقة في رأس جبل حصين يشرف على النهر والمدينة، فتأملت الحصون المنيعة ورأيت هنالك طريقا عسكريا قال لي الدليل الذي كان يرشدني إلى هذه المواضع إنه يوصل إلى باريس توا، وكان نابوليون الأول قد أنشأه ليمهد الطرق لجيشه ويخضع ألمانيا عن هذا الطريق، فكانت النتيجة أن الجنود الألمانية جعلته طريقها إلى باريس وأخضعتها في الحرب الأخيرة.
وانتقلت من مدينة مايانس هذه قاصدا «وسبادن»، وهي على مقربة منها، تعد من أشهر مدائن ألمانيا بجمال مناظرها وجودة هوائها وحماماتها المعدنية يقصدها ألوف في كل عام للاستشفاء والاستحمام غير الذين يأتونها لتسريح الطرف بمناظرها البديعة والتمتع بهوائها المنعش. وقد مشيت في شارع كبير من شوارع هذه البلدة يعرف بشارع ولهلم وفيه صفوف من أشجار الكستناء الباسقة إلى الجانبين ومنازل فخيمة وفنادق عظيمة في كل جانب منه، وفي آخره حديقة عمومية عظيمة الترتيب بهيجة الأشكال نصبوا فيها تمثال ولهلم الأول بملابسه الجندية وهو في أيام الكبر، والتمثال كله من الرخام الأبيض الثمين، وعلى مقربة من هذه الحديثة أروقة طويلة قامت على عمد وقناطر عديدة ومن تحتها المخازن والدكاكين فيها كل أنواع الأبضعة الألمانية والأجنبية وفي طرف هذه الأروقة ملهى أو كازينو من الطبقة الأولى في الإتقان والجمال؛ دخلنا قاعة فسيحة فيه للرقص صنعوا قسما علويا منها داخل حواجز من النحاس الأصفر لجماعة العازفين والمغنين وعلق في سقفها 12 ثريا من النحاس الأصفر الذهبي غير المصابيح الأخرى، تنار كلها بالنور الكهربائي ولضوئها جمال غريب، هذا غير ما في الكازينو من الغرف والمحاسن الأخرى التي لا تختلف عما ذكرنا أو ما سنذكر في المدن الأخرى المشهورة بحماماتها. ومتنزهات وسبادن هذه متصلة بعضها ببعض لكثرتها، فما تنتهي من أحدها حتى تصل متنزها يضارعه في النظام والجمال وكثرة الواردين إليه، وفي جبل فوق وسبادن كنيسة روسية بنيت تذكارا لأميرة ناسو ، وهي الغراندوقة إليصابات الروسية ابنة القيصر نقولا الأول، اقترن بها أمير ناسو الألماني وتوفيت سنة 1845؛ فبنيت هذه الكنيسة تخليدا لذكرها، وهي يصعد إليها في طرق ومسالك متعرجة بين مشاهد الجبل البديعة وغياضه القديمة، تتضوع منها الروائح العطرة، ويقيم بعض خدمة الكنيسة الروسية كل يوم قداسا عن نفس الأميرة المذكورة.
وقد صنعوا قبر هذه الأميرة في تلك الكنيسة على شكل بديع ثمين من الرخام الأبيض والناصع، ووضعوا فوق الضريح تمثال الأميرة مستلقية على ظهرها وعينيها ناظرة إلى السماء وألبسوها ثوبا أبيض نقيا، ووضعوا على رأسها إكليلا من الزهر، وكل ذلك من المرمر الناصع الثمين يجعل لهذا الأثر منظرا يؤثر في النفس، ويعيد إلى الصدر ذكر الورع والعفاف، وقد بنيت في ذلك الجبل عدة فنادق ومطاعم وحدائق منظمة بديعة الترتيب، قضينا بينها بعض النهار ثم سافرنا منها إلى «فرانكفورت» وهي من أشهر المدن الألمانية وأعظمها، عدد سكانها نحو مائتين وخمسين ألف نفس، ولها شهرة ذائعة بمدارسها العالية ومتاحفها العظيمة ومصارفها الكبرى ويعد أهلها في الطبقة الأولى من التهذيب؛ لأنه لا يوجد بينهم أمي واحد ولا متسول، وهذا كثير مثله في مدن ألمانيا العامرة، وفرانكفورت مشهورة في التاريخ بالحروب والمعاهدات التي أمضيت بها، وأعظمها ما كان مختصا باتحاد الدول الألمانية؛ ولهذا فإن ولهلم الأول جاءها قبل غيرها من المدن الألمانية بعد انتصاره على فرنسا سنة 1871، وهنالك أمضيت المعاهدة النهائية بين ألمانيا وفرنسا، ومن أشهر ما يذكر عن هذه المدينة بنك روتشلد الكبير له معاملات مع كل المحلات المالية في الأرض، وقد كان آل روتشلد العظام من أهل فرانكفورت، ومنها بدأت عظمتهم بما أظهر جدهم أنسلم روتشلد من الأمانة لأمير فرانكفورت حين هاجمها نابوليون، وكان أنسلم روتشلد هذا مقربا للأمير وقد جمع مالا بالدأب والاجتهاد، فلما خاف الأمير من هجوم نابوليون استدعاه إليه وأودع أمواله كلها عنده ثم فر من المدينة؛ فأخذ روتشلد أموال الأمير وخبأها مع ماله الخاص في بيته، والبيت باق في فرانكفورت إلى اليوم أثرا جليلا شاهدته مدة وجودي فيها، ومن أغرب ما يروى عنه أن نابوليون لما دخل المدينة وفتحها بات ليلة في هذا البيت؛ لأنه كان من أحسن بيوت المدينة، وكانت تلك الأموال مخزونة في السقف فوق رأسه فما درى بها، ولما انتهت الحرب وخرج الفرنسيس من البلاد عاد الناس إلى مساكنهم وعاد روتشلد إلى هذا البيت، فوجد الأموال وأرجعها إلى الأمير كما كانت فسر الأمير بأمانته وساعده على الارتقاء، وظل روتشلد يجمع الأموال حتى صار من أكبر المثرين وورثه خمسة أولاد تفرقوا في عواصم أوروبا، وكان أشهرهم ابنه الثالث ناثان روتشلد توطن في أول أمره مدينة مانشستر، ثم جاء لندن وكان مقاولا للجيش الإنكليزي مدة حروبه الأخيرة مع نابوليون الأول حتى إنه ذهب بنفسه في أواخر الحرب إلى بروكسل؛ ليرى فيما يلزم لهذا الجيش، فحضر موقعة واترلو المشهورة، وعلم أن النصر تم فيها للإنكليز، ومن ثم أسرع في الرجوع إلى لندن في سفينة له خاصة، فبلغها وهو عالم بخبر النصر قبل أن تصل الأخبار إلى البلاد بيوم كامل قضاه كله في مشترى الأوراق المالية، وهي يومئذ في سقوط زائد بسبب خوف الناس من الحرب، وجمع منها مقدارا هائلا، فلما انتشر خبر النصر وفرار نابوليون ارتفعت قيمة الأوراق ارتفاعا عظيما وربح منها روتشلد في يوم واحد عدة ملايين، ومن ذلك العهد صار بيت روتشلد أكبر البيوت المالية في أوروبا، ولم يزل على ذلك إلى الآن.
وبعد أن شاهدت هذا في فرانكفورت عدت إلى مايانس لأتمم السياحة منها في نهر الرين، وهو الأمر الذي جئت هذه البلاد لأجله، وعرض هذا النهر لا يقل عن 600 متر في بعض الجهات. وأنت أينما سرت ترى القلاع القديمة والحديثة على رءوس الجبال وقصور الأغنياء تطل على النهر من تلك الأعالي، وإلى جانب الماء من هنا ومن هنا مروج خضراء وحقول أريضة ينتقل فيها أناس يظهر عليهم النعمة والرواء، وأرتال تمر على خطوط الحديد مرة تقرب من النهر ومرة تفذ في داخل البلاد حتى إن المسافر في النهر ليرى القطرات البخارية في بعض الأحيان خارجة من وسط الجبل على غير انتظار أو سائرة على ضفة الرين فيشهد من ذلك حركة لا تنقطع في النهر والبر، تشهد بعظمة هذه البلاد وتقدمها العجيب، والبواخر التي تسير في نهر الرين كثيرة الجمال والإتقان نزلت في واحدة منها اسمها ولهلم الأول، لها طبقة علوية ممتدة على طول الباخرة، وقاعة الطعام فيها فسيحة يدهش نظامها الأبصار، مدت فيها 12 مائدة عليها الآنية الفضية تسطع وتلمع، ومن حولها الخادمون بأنظف الملابس، وكان الراكبون في هذه الباخرة من الألمان والإنكليز والأميركان وسواهم يتأملون محاسن الرين مثلي ويعجبون، وقد اشتروا رسما لهذا النهر مطبوعا رسمت فيه المدن التي تقف فيها السفن وهي كثيرة لا يمكن لي وصفها، أذكر منها: «بون» وهي مدينة زاهرة عامرة اشتهرت بمدرستها الجامعة التي تلقى الإمبراطور الحالي دروسه فيها، ومنها «كوبلنتز» وهي نقطة عسكرية مشهورة، فيها ألوف من رجال الجند الألماني، وأذكر أننا بعد أن تجاوزنا كوبلنتز رأينا في إحدى الروابي قصرا فوقه راية أميركية حيت السفينة وأطلق من القصر مدفع صغير فضج الأميركيون السائحون معنا استحسانا. وهكذا ظللنا مدة 12 ساعة في نهر الرين نمر على أبهى أنواع الحقول والمدن والكروم تمتد من شاطئ النهر إلى أعلى الجبال، وهي التي يستخرج منها نبيذ الرين المشهور، ولا حاجة إلى القول إن مشاهد وادي الرين تفضل أكثر المشاهد المشهورة في الأرض والسفر فيه من ألذ أشكال السياحة، بقيت أتمتع بمحاسنها كل تلك المدة حتى وصلت مدينة «كولون» المشهورة بماء كولونيا العطر، يصنع في معاملها قناطير مقنطرة ويرسل منها إلى جميع الأقطار.
ولهذه المدينة شهرة بموقعها البديع على نهر الرين وجسرها الحديدي الطويل فوق ذلك النهر العظيم لا يقل عرضه عن خمسمائة متر ما بين هذه المدينة ومايانس، وبكنيستها الكاتدرائية المشهورة، وهي ذات برجين عاليين ارتفاع أكبرهما 650 قدما، وأما نقوش هذه الكنيسة الدقيقة في خارجها وداخلها والرسوم البديعة المنزلة على الزجاج في شبابيكها والعمد المستدقة والحفر الغريب في كل جوانبها فمما يحير الأفكار، ولا عجب فإن كنيسة كولون من أشهر كنائس الأرض طرا ، ويا ليت أن الوقت يسمح لي بالتطويل في وصف بنائها الأنيق، بدءوا ببناء هذه الكنيسة سنة 1327 حين أرسل البابا منشورا يطلب فيه جمع مال بالاكتتاب لبنائها، فما تم صنعها حتى عام 1600، ولكنها تهدمت مرارا وأضرت بها جنود نابوليون سنة 1794؛ إذ جعلتها مستودعا للمهمات وأخذت بعض التماثيل النحاسية منها فصبتها مدافع، فلما طرد الفرنسويون منها أعادوا زخارفها وظلوا إلى عهد قريب جدا يضيفون إليها أغرب غرائب الصناعة الحديثة حتى صارت من أعظم مشاهد الأرض الحالية، وهي قائمة على 56 عمودا كبيرا في طولها و18 عمودا في العرض، وتحت القبة الكبرى عمودان ضخمان بلغ محيط كل منهما 36 خطوة، وفي ذلك من المزية ما لا يخفى حتى إن الذي يقف أمام الكنيسة ويرى تلك العمد البديعة والقباب البهية والنقوش الفاتنة، وكلها من الرخام الأبيض الثمين ليزيد عجبه عن الذي يدخل جوانبها الكبرى ويقف أمام تلك الصور الدينية المنزلة في الزجاج فيخيل له أنه يرى حقيقة لا رسما.
وجملة القول أن كولون من أهم مدائن ألمانيا مناظر وصناعة وتجارة، عدد سكانها نصف مليون نسمة، وقد أقمت فيها أربعة أيام ثم برحتها قاصدا بلاد هولاندا.
هولاندا
خلاصة تاريخية
كانت هولاندا في أول عهدها بالعمران تعد مع البلجيك بلادا واحدة اسمها في أوروبا «نذرلاند» أو البلاد الواطئة، وأطلق عليها العرب اسم الفلمنك نسبة إلى ولاية فيها يتكلم أهلها اللسان الفلمنكي أو الفلاماندي القديم، وهو يقرب من اللسان الألماني، وكان يملك هذه البلاد أمراء برغندي إلى أن مات آخر أمراء هذه العائلة، وانتقل الملك إلى آل هابسبرج الذين يحكمون بلاد النمسا اليوم باقتران الأمير مكسميليان في سنة 1477 بابنة الأمير الأخير من أمراء برغندي، ومكسميليان هذا صار بعد وفاة أبيه إمبراطور النمسا، وانتقل منه الملك إلى كارلوس الأول الذي كان ملك إسبانيا وإمبراطور النمسا في آن واحد، فظلت البلاد تابعة لملوك إسبانيا حين وفاة ملكها كارلوس الثاني سنة 1700 حتى صارت الدول الكبرى تتسابق على امتلاك الفلمنك، وتحاربت فرنسا والنمسا عليها زمانا طويلا فانتهت الحرب بصلح عقد سنة 1714 في راسناد بين كارلوس السادس إمبراطور النمسا ولويس الرابع عشر ملك فرنسا، وكان من مقتضى هذا الصلح أن أكثر البلاد المعروفة باسم البلجيك اليوم أعيدت إلى مملكة النمسا وظلت في قبضتها حتى أيام الثورة الفرنسوية حين ألحقت بأملاك فرنسا.
অজানা পৃষ্ঠা