سويسرا
خلاصة تاريخية
عرفت هذه البلاد من أيام الرومانيين باسم هلفتيا، واشتهر أهلها من قدم بالبأس والجرأة والتفاني في طلب الحرية والدفاع عن الاستقلال، ولم تزل هذه صفاتهم حتى يومنا ، وهم ما نالوا استقلالهم الحالي إلا بعد حروب كثيرة واقتحام الأهوال مدة القرون الطوال، وكان من أمر هذه البلاد أن برابرة الأوروبيين الأول مثل الغوث والألمان والفرانك وسواهم دخلوا أرضها وعاثوا فيها فسادا بعد انحطاط الدولة الرومانية، فظلت في حوزتهم أجيالا، ولم تزل آثار الرومانيين ظاهرة في القسم الجنوبي من البلاد، وأما القسم الشمالي فألماني اللغة والشرقي فرنسوي، والكل جمهورية واحدة تعد في مقدمة الجمهوريات اعتدالا وانتظاما. ولما قامت مملكة شارلمان كانت سويسرا من أملاكه ثم انفصلت عن فرنسا وصارت من ولايات النمسا أو ألمانيا، وحصلت بين أهلها وبين ملوك النمسا حروب كثيرة في القرون الوسطى، اشتهر فيها رجل اسمه غليوم تل، والمرجح في الأذهان أن قصته وهمية، ولكن الألسن تداولتها في كل بلاد حتى أضحت من أمور التاريخ المشهورة، وخلاصتها: أن هذا الرجل كان من زعماء المحاربين للنمسا طلبا للاستقلال، فظفر به يوما الحاكم النمسوي وأراد تعذيبه بقتل ابنه، وكان غليوم تل من المشهورين بالرماية وله ولد وحيد تعلق على حبه، فقال له الحاكم إنه لا يطلق سراحه إلا إذا رمى تفاحة توضع على رأس ابنه بسهم يصيبها ولا يقتل الولد، وكان في ذلك خطر عظيم على الولد والوالد معا، ولكن غليوم تل أصاب التفاحة ولم يؤذ ابنه، وهي قصة تمثل على المراسح الأوروبية في كل مدينة.
وكان من وراء هذه الحروب أن ملوك النمسا رضوا باستقلال الولايات السويسرية واحدة بعد واحدة مع بقائها تابعة اسما للدولة النمسوية، فقويت هذه الولايات بالاتحاد حتى إنها فازت في الحرب على إمبراطورة النمسا وعلى ملوك فرنسا، وكانت سويسرا بلادا مهابة قوية في بدء القرن السادس عشر، فما اجترأ أحد على العبث باستقلالها من ذلك الحين حتى قام نابوليون بونابارت وغير نظامها كما فعل بغيرها، ولكنها عادت إلى حالها الأول بعد سقوطه، وحدثت من ذلك الحين ثورات وقلاقل كثيرة انتهت بحرب أهلية في سنة 1848 نظمت من بعدها الجمهورية الحالية على مثل ما تراها اليوم وعاصمتها مدينة برن في وسط البلاد، ورئيس الجمهورية ينتخب كل سنة وراتبه لا يزيد عن ستمائة جنيه في السنة، وهو يرأس مجلسا للنواب يقضي مصالح الأمة عامة، وأما مصالح الولايات الخاصة فتقضيها مجالس محلية في كل ولاية. ويقال بوجه الإجمال إن حكومة سويسرا من أنظم الحكومات وأهلها من أرقى أهل الأرض عقلا وأكثرهم علما؛ فإن مدارسهم في الطبقة الأولى من التقدم وصناعتهم متقنة ومشهورة، وهم أهل نشاط وهمة تليق ببلادهم الجبلية التي تكثر فيها العظائم والمحاسن الطبيعية إلى حد يفوق التصديق، ولهم أمانة تضرب بها الأمثال، فقد كان ملوك أوروبا لا يستخدمون لحراستهم الخاصة وحراسة ذويهم غير رجال سويسريين؛ لأنهم اشتهروا بالبسالة والأمانة، وهم من أقل الناس ميلا إلى الحيلة والخديعة وأكثرهم حبا للغريب وصدقا في المقال، فلا عجب إذا كثر السائحون في سويسرا، وهي جنة أوروبا ومنتزه السراة من أهلها، ما دام أن البلاد كلها محاسن بديعة وهذه طباع أهلها المشهورة.
وأما عدد سكان هذه البلاد فقد كان في بدء القرن الحالي 3313000 نفس ومساحتها 15465 ميلا مربعا.
سان غوثار
أما وقد بدأت بذكر ما في سويسرا
1
من عجائب المناظر التي تؤثر في الذهن، فإني أراني مقصرا في القليل الذي سيجيء؛ لأن هذه البلاد كعبة المتفرجين ومثابة السراة الموسرين ومصيف السائحين، وهي فردوس أوروبا وجنتها الفيحاء تجمعت فيها محاسن الجبل والوادي والسهل والبحر والنهر، وتناسقت على شكل يسحر الألباب ويقصر عن وصفه أبرع الكتاب، ولطالما سبقني البارعون إلى تقرير الحقائق عما في هذه البلاد الحسناء من فخيم المناظر وبديع الأمور، فأنا أكتفي هنا بقليل مما رأيت فيها. وقد كنت قصدتها من الإسكندرية في شهر يونيو سنة 1895، ومررت ببعض مدائن الطليان قبل الوصول إليها، مثل برندزي والبندقية وميلان - ترى الكلام عنها في باب إيطاليا - حتى وصلت إلى حدود سويسرا ورأيت جبالا شامخة شاهقة تعلو قممها إلى السحاب هي جبال الألب المشهورة، ليس في أوروبا أرفع منها قمة ولا أوعر مسلكا ولا أفخم منظرا، فلما مدت خطوط الحديد في كل الممالك - وكان لا بد من خط حديدي يمر في تلك الجهة ويربط هذه الممالك بعضها ببعض - تعاونت ألمانيا وإيطاليا وسويسرا على مده في جبال الألب، فأنت إذا ركبت القطار من حدود إيطاليا ترى العجب من كثرة ما يخترقه هذا القطار من الجبال، يدخل في نفق ويخرج من نفق طول الطريق حتى إن عدد السراديب في ذلك الخط لا يقل عن 64، فضلا عما دكوه من الجبال وما فتتوا من الصخور ومهدوا من الطرق مدة تسع سنين، أنفقوا من خلالها 1200000 كيلو من الديناميت؛ لنسف تلك الجبال الهائلة، وأطول نفق في هذا الخط كله النفق المعروف باسم سان غوثار، وهو جبل شاهق طويل عريض نقبوه من جانب إلى جانب، والقطار يمر في جوفه ويظل ثلث ساعة سائرا سيرا حثيثا في بطن الأرض؛ لأن طول هذا النفق نحو مائة كيلومتر، يقضيها المسافر في ظلام دامس ودخان متكاثف، وتعتريه رهبة ودهش غريب متى فكر أنه تحت الأرض يسعى مجدا، ومن فوقه جبال الألب الهائلة، فيصفر عجبا لهمة الرجال وعظمة الإنسان إذا تضافر وأتم الغرائب.
وماذا أقول عن محاسن هاتيك الربوع التي يخترقها القطار في خط سان غوثار، وأنا لو أوتيت مقدرة أعظم الواصفين ما قدرت على عشر معشار الذي يليق بعظمة هذه المناظر الفخيمة، وهي مقصد الطلاب ومطمع الرواد من كل بلاد فإن قوى الطبيعة كلها تضافرت وتعاونت هنالك وعرضت من أنواع الحسن الباهر ما يخلب الألباب ويفتن الأنظار فبين أنت في ذيالك القطر العجيب تسير في سهل دبجته يد الطبيعة بأشهى الأعشاب وأبهى أنواع الزهر والشجر الباسق إذا أنت على ضفة جدول لمائه خرير يلذ للسمع، وقد راق زلاله ورق استرساله ورصعت جوانبه بوشي من الخضرة وأشكال الزهر الغريب، تحملك على الظن أنك في ديار النعيم حتى إذا ضاع فكرك في التأمل ببدائع هذا السهل رأيت أنك فوق جسر عظيم يمتد من جبل إلى جبل، كأنما هو معلق بينهما وتحته الوادي تجري فيه الأنهار، فإذا ما اجتزت ذلك الجسر سرت إلى جانب المجرى سيرا متعوجا متعرجا، كأنما القطار أفعى تنساب بك ما بين تلك المروج البهية والضفاف الشهية، وتقع في حيرة إلى أي الجانبين تحول الأنظار، إلى جانب الوادي وما يليه من خضرة نضرة ومنازل رصعت بها الجوانب ترصيعا، وقد التفت من حولها الأغصان على شكل بديع وماء ينسيك متاعب الدهر وأحواله، أم إلى الجانب الآخر، حيث قام جبل شاهق باسق في قمته سحاب تتساقط منه كرات المطر كأنما هي اللؤلؤة والدر على تلك الأعشاب الندية، ومن دون السحاب ثلج يجلل قمة الجبل ويزيده مهابة وجمالا، ومن دون الثلج صخور بينها شجر تحن النفس إلى ذكر مثله وتصبو إلى التظلل طول العمر بفيئه، لا سيما وقد جرت من بين تلك الصخور والجبال جداول ماء معين يتدفق في هاتيك المسالك البهية تدفقا يروق للناظرين، ويتساقط من سفح الجبل فيريك أعجب ما رأيت من أشكال الجنادل، وهي تغيب آونة وتظهر أخرى ما بين المسالك التي يتعشق القلب ذكرها وتمثل للرائي منتهى العز وحد الإعجاز في الجمال.
অজানা পৃষ্ঠা