وفي ذلك اليوم قضيت السهرة في ملعب للخيل (هيبودروم) ينتابه الألوف وتجري فيه الألعاب المدهشة على نغم الألحان، وأكثر هذه الفعال غرابة تقوم بها فتيات لهن خفة في الوثوب والحركات، أذكر أن فتاة منهن كانت تسوق ست أفراس وهي تثب من ظهر واحدة إلى الأخرى ولا تخطئ، وأخرى كانت ترقص على ظهر جواد يسير بها مسرعا ولا تهتز، وغير هذا كثير من الألعاب التي تحلو مشاهدتها في كل حين.
وزرت في اليوم التالي رجلا من مشاهير برلين اسمه الموسيو فون لاشان مدير المتحف التاريخي الثاني، كان معي له كتاب من صديقي المرحوم إسكندر كاتسفيلس فيس قنصل ألمانيا سابقا في طرابلس، وقد لقيت منه ومن حضرة قرينته كل ملاطفة وإكرام، وكانت السيدة تحدثني عما رأت من الأطلال والآثار في نواحي الموصل؛ حيث ذهبت مع زوجها حبا بالاطلاع والاكتشاف، ودعيت بعد ذلك منهما لقضية يوم الأحد في «بوتسدام»، وهي مدينة في ضواحي برلين عدد أهلها 50 ألفا؛ فلبيت الدعوة وسرت في القطار مع صحبي زهاء نصف ساعة، ووصلتها فإذا هي مجموع محاسن طبيعية وصناعية نسبتها إلى برلين كنسبة فرسايل إلى باريس، ترى في جميع جوانبها من بديع الزهر والشجر شيئا كثيرا، وفي وسطها بحيرات متسعة المجال تسير فيها البواخر الصغيرة وهي ملأى بالمتنزهين من أهل برلين وسواهم، ولا سيما إذا كان ذلك في يوم أحد أو عيد، وعلى هذا فالقطر الحديدية ما بين برلين وبوتسدام لا تقل عن خمسين في كل يوم، وقد كانت بوتسدام مسكنا لفريدريك الكبير ملك بروسيا الذي مر ذكره، أنشأ فيها الحدائق الغناء واعتنى بتلك المروج الفيحاء وشاد القصور الشماء، وفي جملتها قصر «سان سوسي»، ومعنى الاسم «خلي البال» إشارة إلى خلو أصحاب القصر من الشواغل، وهم يطلقون هذا الاسم على مثل هذه المصايف؛ حيث يقضي أمراء الزمان وقت الفراغ، وفي حديقة القصر غير غرائب الزهر والشجر برك اشتهرت بقوة ما يندفع من ماء أنابيبها، فإنه يصعد من بعضها إلى علو 39 مترا كأنما هو جبل من الماء صاعد ثم يهوي ويصب في بركة يحدث فيها لشدة وقعه اضطرابا وموجا كبيرا، وقد جرى الأمراء مجرى فريدريك الكبير الذي شاد القصور في بوتسدام وولع زمانا بسكناها فبنوا فيها فخيم المنازل هناك، رأينا في جملتها قصر أورانجري أو قصر البرتقال اشتهر بأغراس البرتقال، وضعت في براميل كبرى وقد صفت من حول البناء ولها رونق وبهاء، فإذا اشتد البرد عليها نقلوها إلى مواضع أدفأ في داخل المنزل، ومن ذلك قصر فريدريك الثالث والد الإمبراطور الحالي، مات فيه صاحبه فريدريك وأقامت فيه الإمبراطورة فريدريك والدة الإمبراطور الحالي إلى يوم مماتها، والقصر واسع الأنحاء كثير الجمال فيه مائتا غرفة، ولحديقته منظر تضرب به الأمثال، ومن ذلك قصر بابلسبرج بني على عهد فريدريك الكبير وزاده الملوك من بعده تحسينا، وفي حديقته بقعة تعرف باسم المطحنة سميت بذلك؛ لأنه لما بنى الملك هذا القصر كان في هذه البقعة مطحنة لفلاح بروسي فقير، فأراد الملك أن يشتريها منه، وامتنع الرجل ثم استدعاه الملك بعد أن فرغت الحيل في إقناعه وتهدده باغتصاب الأرض وبالعذاب إذا أصر على الإباء فلم يهتز الفلاح لهذا الوعيد، وقال للملك: «إن هذا يمكن إذا لم يبق في برلين قضاة»؛ فأعجب الملك بجرأة الفلاح وثقته بقضاة المملكة وترك المطحنة له على حالها كما رأيتها في ذلك اليوم، وأنعم عليه بجملة مال شأن الملوك العظام.
وبعد التنزه في غياض بوتسدام وهضابها وبحيراتها عدنا إلى منزل الموسيو فون لاشان في برلين، وقضينا السهرة عنده، وكان في جملة المدعوين بعض من أهل الأدب والمقام فأطلعنا صاحب الدار على رسوم عنده لبعض مدائن الشام، مثل: بيروت واللاذقية وجونية وطرابلس وسواها، ثم أرانا أشكالا من الجلد تمثل ألعاب «كراكوز» أو هي خيال الظل، وبينها رسوم عيواظ والمدلل، وقد أعجبت باعتناء هؤلاء القوم بأمور المشرق حين أراني المضيف رسالة من تصنيفه بالعلامات الموسيقية الإفرنجية في أغاني «الكراكوز»، وأسمعوني بعض هذه الأنغام فكأنني كنت في قهوة شرقية، وهنا غاية الاعتناء بالعلم ومثال التدقيق في جمع المعارف.
ودعينا إلى زيارة المتحف الذي يديره فون لاشان في اليوم التالي فذهبنا إليه ورأيت ما فيه من الآثار الألمانية التامة في كل فن ومطلب، هنالك مجموعة من الآثار النفيسة كشفها الأستاذ شليمان المشهور عند آثار تروادة، وقد ذاع ذكر هذا المكتشف وجاء مصر مرارا ليبحث عن قبر الإسكندر ذي القرنين ظنا منه أن الإسكندر دفن في مصر فلم يتوفق إلى اكتشافه. وفي المعرض من غرائب كل البلاد ما يقصر القلم عن وصفه، استوقف نظري منه ملابس كثيرة الحشو والزخارف لهنود أميركا الأصليين، وهي قديمة ضاع شكلها من بين الهنود الحاليين، وبطل استعمالها حتى إن فون لاشان قال لي إنه إذا أراد هنود أميركا الآن أن يعرفوا شكل أجدادهم الأقدمين وجب عليهم أن يأتوا برلين ويزوروا هذا المعرض ، حيث حفظت الأشكال الأولى على أصلها وغرابتها، وهنالك أيضا ملابس لثيودوروس ملك الحبشان الذي قتل في حربه مع الإنكليز سنة 1861، وكوبة كان يشرب الماء بها وآثار لا تحصى من أميركا وأفريقيا وآسيا، كلها أدلة على الاجتهاد والنشاط الذي امتاز به القوم الألمان، وهم - بلا ريب - من أهل الطبقة الأولى في العلم والصناعة، والتعليم عندهم إجباري حتى إنه يندر وجود واحد يجهل القراءة ومبادئ العلوم بينهم، على أنني لم أبرح برلين قبل أن أمتع النظر بمرآها جملة من مرتفع يسمى كروسبرج يطل عليها فقصدت أكمة مجاورة لها، ومعي الدليل والمنظار حتى إذا ارتقيت قمتها نظرت إلى الجنوب سهولا خضراء يزرعونها حنطة وغلالا، وإلى جانبها سهول يستعرض فيها الجيش الألماني وتجري المناورات العظيمة يرأسها الإمبراطور بنفسه، ويدعى إليها أكابر القواد من كل البلاد، وهنالك شجرة دلني إليها الدليل يقف تحتها الإمبراطور ساعة الاستعراض.
على مثل هذا قضيت أسبوعا في عاصمة الألمان العظيمة حتى إذا تم لي المراد من الدرس والفرجة برحتها في قطار قام ينهب الأرض نهبا في وسط حراج غضيضة وسهول أريضة في إقليم مكلنبرج، طورا يشق الأرض وتارة يسير على ضفاف البحيرات أو فوق الجسور حتى وصلنا الحدود الفاصلة بين بروسيا والدنمارك عند محطة «وارنموندا»، فسافرنا من هنالك في البحر زهاء ساعتين، ووصلنا بعدهما فرضة جدسر وهي مدينة دنماركية ركبنا فيها قطار سكة الحديد، ومررنا بعدها على عدة محطات آخرها محطة «دينجبونج»، وهناك وصلنا خليجا آخر لم يكن لنا بد من عبوره فعبرناه على طريقة غريبة لم أر مثلها قبل هذه المرة، ذلك أن القطار وقف على ضفة الخليج واتصل أوله بباخرة بحرية في الماء وفوق سطحها خطوط الحديد ليقف عليها القطار كأنما هي أرض مدت عليها الخطوط الحديدية، وسار القطار على مهل حتى صار كله فوق تلك السفينة فوقف وتحركت هي فسارت في الخليج حاملة للقطار حتى إذا وصلت البر من الناحية الثانية وقفت عند نقطة فيها خطوط الحديد للقطار فألقت رحلها ووقفت مكانها، ومن ثم تحرك القطار فسار من ظهر الباخرة إلى الأرض وظل سائرا في طريقه، فكان ذلك من أجمل ما رأيت في طريقي بين برلين وكوبنهاجن، وهي العاصمة التي وصلتها بعد سير 12 ساعة من برلين، وأما بقية المدائن الألمانية التي زرتها مثل كونستانس وستراسبورج ومايانس ووسبادن وفرانكفورت وكولون فترى الكلام عنها في فصل يجيء من فصول هذا الكتاب.
الدنمارك
خلاصة تاريخية
كان الدنماركيون أقواما متوحشة شأنهم شن الغارات على الممالك المجاورة لبلادهم، واشتهروا بهذه الغارات والغزوات في البر والبحر حتى صار اسمهم - وهم أهل الشمال - مرادفا للشر والهجوم عند سكان أوروبا في القرون المتوسطة، وهم يومئذ مع أهل السويد والنورويج يدا واحدة؛ لأنهم من جنس واحد، وقد اشتهرت غزوات الدنماركيين في إنكلترا من القرن التاسع إلى الحادي عشر؛ فإن ملكهم سوين هاجم بلاد الإنكليز سنة 1981 وملكها وأورثها من بعده لابنه كانوت الذي صار أعظم ملوك زمانه؛ لأنه ملك إنكلترا والدنمارك والسويد والنورويج وكان مشهورا بالعدل والحكمة، ولما مات في سنة 1036 اقتسم أولاده الثلاثة أملاكه، فكانت بلاده الأصلية نصيب ابنه هرديكانوت وهو الذي ضاعت إنكلترا من يد الدنمارك في أيامه، واستعادت استقلالها.
ولم يحدث بعد هذا أمر مهم في تاريخ البلاد غير تعاقب الملوك والغزوات إلى أن ورثت العرش ملكة اسمها مرغريتا كانت مفرطة الذكاء كثيرة الحكمة، ظهرت مآثر اقتدارها في ممالكها الثلاث، وهي: الدنمارك والسويد والنورويج فسميت سميراميس الشمال إشارة إلى سميراميس ملكة آشور التي تروى عنها عظائم الفعال، وذلك في أواخر القرن الرابع عشر، ولما اشتهر أمر الانقلاب الديني في أوروبا بعد أيام لوثيروس كان ملك الدنمارك رجلا عاتيا جبارا اسمه كوستيان الثاني، وهو يعرف عند بعض المؤرخين باسم نيرو الشمال إشارة إلى نيرو قيصر الرومان الذي اشتهر بقسوته وفظائعه، فلما انتشر المذهب البروتستانتي في ممالك كرستيان هذا استعمل منتهى الشدة مع الذين اعتنقوه، حتى إنه دعا معظم أشراف السويد إلى وليمة وفتك بهم غدرا وعدوانا؛ بسبب انضمامهم إلى طائفة البروتستانت فهاجت أمة السويد لذلك، وقامت بنصرة أمير نجا من الذبح اسمه جوستافوس فاسا، فحاربت جنود الدنمارك تحت قيادته وطردتها من البلاد، وبذلك انسلخت بلاد السويد عن هذه المملكة وصارت مملكة مستقلة في سنة 1521، وبعد هذا بقليل فر كرستيان من البلاد؛ لأن معظم الأهالي قاموا عليه فسارت بلاد الدنمارك بعد ذلك في سبيل التقدم تحت إمرة ملوكها من آل أولدنبرج، ولم يحدث أمر يذكر لهم غير أن الملك استبد بالأمر في سنة 1660، ولم يبق أثرا لنفوذ الأشراف والأمراء ووافقه عامة الناس على صنيعه.
وكانت الدنمارك من الدول البحرية، ولها متاجر واسعة فلما عظم أمر نابوليون الأول اتحدت معه على مناوأة الإنكليز فهاجمها أسطولهم مرتين تحت قيادة اللورد نلسون أمير البحر المشهور في سنة 1801 و1807، ودمر حصون عاصمتها كوبنهاجن وأسر أسطولها برمته فاستخدمه في محاربة نابوليون، وكان ملك الدنمارك صديقا لنابوليون حميما ظل على ولائه إلى يوم سقوطه، فأسخط ذلك دول أوروبا الناقمة على نابوليون، وسلخت منه بلاد النورويج فأضافتها إلى مملكة السويد على ما سيجيء في تاريخ هاتين المملكتين. وفي سنة 1834 تحرك الأهالي لطلب الحقوق الدستورية فسلم بها الملك فريدريك السادس، وصارت البلاد دستورية شوروية من ذلك الحين، فتقدمت في درجات الحضارة ونمت ثروتها، ولكنها فقدت بعض أملاكها في سنة 1864 بعد محاربة شاقة مع بروسيا، وأخذت منها ولايات لاونبرج وشليسوج وهولشتين، كما تقدم عند الكلام عن ألمانيا.
অজানা পৃষ্ঠা