أما أن هكس باشا كان صاحب الحكم المطلق، فهذا تدل عليه تصرفاته التي بلغت حتى تنصيبه الحكمداريين، الذين كانوا رؤساءه في وظائفهم بدون أن ينتظر أوامر الحكومة المركزية. وأما وقوع المسئولية عليه في حملته المشئومة فذلك ثابت من البرقية التي أرسلها سير إ. مالت إلى إرل جرانفيل (الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1884، ج12) حيث يقول فيها سير إ. مالت:
وكان مرادي أن يعلم أنه - أي هكس باشا - مطلق اليد حر التصرف، لا مسيطر عليه في الطريق التي يختار أن يسلكها، وأنه تقع على عاتقه وحده تبعة أعماله من أولها إلى آخرها. ولو أنه أشار على الحكومة المصرية بعد تنصيبه قائدا عاما بضرورة العدول عن حملة الأبيض، فيقيني أنها كانت تنصت لرأيه وتعمل به.
ومن الثابت أيضا أن هكس باشا كان معترفا بأن القوة التي كانت تحت إمرته فيها حد الكفاية، كما يتضح ذلك من البرقية التي أرسلها إلى الجنرال بيكر من الخرطوم في 18 يونيو سنة 1883 (راجع الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1883، ج22، الملحق رقم 1، للبرقية رقم 50) فقد اعترف فيها بأنه مستعد بالقيام بالحملة بالقوة التي لديه، وبأنه لا يرى احتمالا لوقوع أية نكبة. ولو كان من جهة أخرى معارضا في إرسال تلك الحملة، لكان بلا ريب قدم استقالته لا سيما أنه فعل ذلك عندما أراد الحصول على القيادة العليا.
نعم إن هكس باشا وضباطه البريطانيين كانت لهم دراية بمهنتهم العسكرية، لكنهم كانوا يجهلون أحوال البلاد وطبيعة أرضها جهلا تاما. وقد ساق الجنرال هكس باشا جيشه في فيافي كردفان، مخالفا بذلك الآراء السديدة التي أبداها الرجال العارفون بأحوال تلك الجهات، مثل عبد القادر باشا والكولونيل استوارت، فأهلك جيشه وهلك هو معه.
وقد وصف سير ريجنالد ونجت - وهو الجنرال الأكثر دراية بشئون السودان - حملة كردفان بأنها «ضرب من الجنون».
سبحان الله! ومن المسئول عن عواقب هذا الضرب من الجنون، أمصر التي أكرهت على اتباع مشورة أمليت عليها، أم الإنجليز الذين أملوا عليها هذه المشورة؟
فيتضح جليا مما تقدم أن قنصل بريطانيا العام كان يضغط على الحكومة المصرية، وهذا يفيد مصادقة الحكومة البريطانية على هذه الحملة المشئومة، وإلا كانت أشارت بقبول استقالة هكس باشا. ومن هذا المسلك يبدو تورط الحكومة البريطانية في سياسة متناقضة، فقد كانت من البداية إلى النهاية تتنصل من تبعة الأعمال الحربية في السودان، مع أنها كانت في الوقت ذاته موافقة بطريق غير مباشر على حملة كردفان.
الدور الثالث
تصريح إرل جرانفيل
من الواضح البين أن تصريح إرل جرانفيل الذائع الشهرة قد جاء بعد نكبة هكس باشا. وهاك نصه الذي عربناه من الكتاب الأزرق الإنجليزي عن مصر عام 1884، ج1، ص176:
অজানা পৃষ্ঠা