ثالثا:
ضمانة الدول الأوروبية لحقوق هذه المقاطعات.
وما وصل «أغناتييف» إلى الآستانة حتى وصلته أخبار انهزام الجيش الصربي أمام الجيش العثماني الظافر؛ فقد انتصرت الجنود العثمانية انتصارا عظيما في «دليجراد» و«ألكسيناتس»، وباتوا على مقربة من «بلغراد» عاصمة الصرب التي صار أمر سقوطها في أيدي العثمانيين محققا، فقدم في الحال «أغناتييف» إنذاره للباب العالي، وقبلت الدولة العلية عقد الهدنة في 2 نوفمبر عام 1876.
ولما رأت إنكلترا أن الروسيا تهدد الدولة العلية على لسان الجنرال «أغناتييف»، أرادت أن تظهر لتركيا مودتها لها؛ لتنتفع من هذه المودة عن الحاجة كما سيرى القارئ؛ فأمرت أسطولها بالسفر إلى مياه الشرق والوقوف في «بزيكا»؛ أي: في مدخل الدردانيل. وعندئذ اتفقت الدول على عقد مذاكرة بينها وبين بعضها في الآستانة. •••
وقد اجتمع مندوبو الدول بالآستانة في أوائل ديسمبر عام 1876، وقرروا عدم اشتراك تركيا في مداولاتهم ومناقشاتهم، بل إرسال قرارهم النهائي إليها بعد إتمام المداولات والاتفاق عليه، وهي أول مرة اجتمع مؤتمر دولي في عاصمة بلاد لم تشترك في هذا المؤتمر! وفي 23 ديسمبر تم اتفاق مندوبي الدول على وضع قرار نهائي، وفي 24 منه أبلغ هذا القرار إلى الباب العالي، وهو يتضمن أن الدولة العلية تتنازل لبلاد الصرب والجبل الأسود عن بعض الأراضي ليتسع نطاق إمارتيهما، كأنهما الغالبتان لتركيا! ويتضمن أن البوسنة والهرسك تصيران مستقلتين استقلالا إداريا وأن يعين لهما لمدة خمس سنوات حاكم يجب أن يكون تعيينه بموافقة الدول، وأن يكون البوليس في البوسنة والهرسك مسيحيا، وأن يترك لهاتين المقاطعتين نصف إيرادهما، وأن تكون لغة البوسنة والهرسك هي اللغة الرسمية فيهما، ويتضمن القرار غير ذلك أن القسم الموجود في شمال البلقان من بلاد بلغاريا يصير مستقلا استقلالا إداريا كالبوسنة والهرسك، وأن تحتل الجنود البلجيكية هذه المقاطعات السالفة الذكر لحين تنفيذ قرار الدول، وأن تعين لجنة دولية لمراقبة تنفيذ هذا القرار.
ولا ريب أن قرار الدول هذا كان في الحقيقة إعلانا لتركيا بأن دول أوروبا كلها متعصبة ضدها، وأنها متحدة في العمل على الإضرار بها؛ فإن الدول الأوروبية كانت تعلم علم اليقين أن هذه المطالب ترفضها تركيا رفضا باتا لما فيها من المساس بحقوقها، وكيف كانت تستطيع تركيا أن تقبلها بعد أن أقمعت الثورة في البوسنة والهرسك وهزمت جنود الصرب والجبل الأسود شر هزيمة؟!
وقد كانت إنكلترا وحدها تتظاهر للدولة العلية بالمحبة والولاء، ولكنها أضرت بها كغيرها بل أكثر من غيرها؛ لأن الدولة العلية انخدعت بتظاهر سواس الإنكليز بالميل لها، وحسبت أن بريطانيا مساعدة لها ضد الروسيا وقت الحرب، فلما جاءت الحرب علمت تركيا أن إنكلترا كانت ترمي فقط إلى تشجيعها على معارضة أوروبا مع علمها باتحاد أوروبا ضدها، وكذلك خدعت إنكلترا تركيا عند عقد مؤتمر برلين، حيث أخذت منها قبرص كما سيرى القارئ.
ولما رأى مندوبو فرنسا أن الدولة العلية عازمة على رفض مطالب المؤتمر عرضوا على بقية الأعضاء تعديل الطلبات، فقبلوا ذلك وأبلغوا الباب العالي أنهم يتركون مسألة تنازل الدولة العلية للصرب والجبل الأسود عن بعض الأراضي لمخابرة أخرى، وأنهم لا يسألون الباب العالي أن يستشير الدول في تعيين حاكم البوسنة والهرسك إلا في الخمس سنين الأولى، وأنهم عدلوا عن طلبهم بشأن تقسيم بلغاريا إلى قسمين، وجعل قسم منها مستقلا استقلالا إداريا، وأنهم عدلوا عن طلبهم بشأن جعل البوليس كله في البوسنة والهرسك مسيحيا، وقبلوا أن يكون من المسيحيين ومن المسلمين، وأنهم قبلوا اعتبار اللغة التركية في البوسنة والهرسك رسمية كاللغة السلافية، وحددوا للباب العالي مدة ثلاثة أشهر لتنفيذ ما بقي من مطالب الدول.
وقد أمضى مندوبو إنكلترا على هذا القرار مع بقية مندوبي الدول، ولكنهم كانوا ينصحون لسواس تركيا سرا برفض مطالب الدول.
ولكي تعلم الأمة العثمانية أن جلالة السلطان الأعظم لا يعرض بمصالحها للخطر، وأنه يستشير في صغائر الأمور وكبائرها كبار الأمة وعقلاءها، جمع جلالة السلطان الأعظم مجلسا عاليا مكونا من مائة وثمانين عضوا من كبراء الأمة ورؤساء الطوائف والمذاهب، وعرض عليهم مطالب الدول وسألهم رأيهم في الأمر، فرفضوها بالإجماع، وأشاروا على جلالة السلطان برفضها؛ فقرر جلالته رفضها عملا برأي كبراء الأمة ورؤساء المذاهب والديانات، وحفظا لكرامة الدولة وصيانة لشرفها.
অজানা পৃষ্ঠা