وفي هذا الوقت نفسه تقدم القائد العثماني «عمر باشا» إلى مدينة «إيباتوريا» - التي هي أيضا ثغر من ثغور بحيث جزيرة القرم - وانتصر على الجيوش الروسية فيها نصرا مبينا في 17 فبراير عام 1855، وانضم بعد هذا النصر إلى جيوش الدولة وجيوش فرنسا وإنكلترا المحاصرة لمدينة «سباستوبول».
ولما رأت النمسا أن فرنسا وإنكلترا أساءتا الظن بها، ورضيتا بمساعدة البيمونتي؛ اجتهدت في إرضائهما والاشتراك معهما في العمل، فعرضت على البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني أمر استعدادها للحرب، وعزمها على إرسال جنودها ضد الروسيا، فرفضت طلبها بأشنع صورة ووجهت إليها الملام العنيف على اتباعها إرشادات فرنسا وإنكلترا بدون مراعاة مصلحة البروسيا والحكومات الجرمانية، وكان الموغر للصدور وقتئذ ضد النمسا المسيو «دي بسمارك» الطائر الصيت، وكان عضوا بالمجلس المشترك لحكومات الاتحاد الجرماني بفرانكفور ومسموع الكلمة عند حكومته «البروسيا» وقد أظهر بمهارته السياسية الفائقة لحكومة البروسيا وحكومات الاتحاد الجرماني أن خير وسيلة لمساعدة الروسيا هي جمع العساكر البروسيانية والجرمانية على الحدود أمام الحدود الفرنساوية؛ لتخشى فرنسا شأنها ويرجع «نابليون الثالث» عما كان عزم عليه من إرسال جيش جرار إلى النمسا مخترقا به البلاد الجرمانية لمحاربة الروسيا، وجعلها بين نار جيوشه من جهة مقاطعتي الأفلاق والبغدان، وبين نار الجيوش المتحدة من جهة القرم. وقد أفلحت سياسة «بسمارك» وعدل «نابليون الثالث» عن مشروعه عندما علم بوقوف الجنود البروسيانية والجرمانية أمام حدود فرنسا.
وقد خطر على بال «نابليون الثالث» عندئذ أن يسافر بنفسه إلى الشرق، ويتولى القيادة العامة على جيوش تركيا وفرنسا وإنكلترا، ولكن إنكلترا عارضته في رغبته كما عارضه الكثيرون من نصاحه ووزرائه.
وفي 2 مارس من السنة نفسها - 1855 - توفي القيصر «نيقولا الأول» وتولى بعده القيصر «إسكندر الثاني»، فأعلن لأوروبا رغبته في السلم وميله إلى عقد الصلح؛ مما اطمأنت له خواطر الكثيرين من رجال السياسة، وحمل فرنسا على طلب عقد مؤتمر دولي جديد بفيينا؛ حيث قبل طلبها وعقد المؤتمر في 16 مارس.
ولما عقد المؤتمر اتفق مندوبو النمسا وإنكلترا وفرنسا وتركيا والروسيا على شرطي إعلان عدم حماية الروسيا لمقاطعتي الأفلاق والبغدان، وحرية الملاحة في نهر الدانوب. أما ما يختص بضمانة استقلال الدولة العلية وسلامتها، فقد صرح مندوبو الروسيا بأن دولتهم تحترم استقلال تركيا، ولكنها لا تقبل الاشتراك مع الدول في أمر ضمانته، وقد رفضت الروسيا، وكذلك الشرط الرابع وهو المتعلق بتحديد عدد سفنها في البحر الأسود؛ فأوقفت بسبب ذلك جلسات المؤتمر في 27 مارس عام 1855، ولما أعيد عقد المؤتمر رفض «غورتشاكوف» مرة جديدة تحديد عدد سفن الروسيا في البحر الأسود وضمانتها مع الدول لاستقلال الدولة العلية، وعرض على دول أوروبا قفل بوغازي الآستانة والدردانيل، كما تعهدت به الدول في معاهدة عام 1841، وإعطاء الباب العالي حق فتحهما عند الحاجة لسفن الدول المتحالفة معه، فلم يحصل بذلك الاتفاق بين مندوبي الدول، وأوقفت جلسات المؤتمر للمرة الثانية في 27 أبريل عام 1855، وفي أوائل يونية أعيد عقد المؤتمر للمرة الثالثة، ولكن مندوبي الدول تضاربت آراؤهم كما حصل في المرة الأولى والثانية، ولم يجدوا سبيلا للاتفاق؛ فأعلن قفل المؤتمر نهائيا بلا نتيجة تذكر. •••
وقد رأت فرنسا وإنكلترا أنهما صارتا في أشد حاجة للاتفاق بعد خيبة المؤتمر الدولي، فسافر الإمبراطور «نابليون الثالث» إلى لوندرة لزيارة الملكة «فيكتوريا»، حيث قوبل فيها بغاية الإجلال والإكرام، وبعد زمن قليل من زيارته ردت له الملكة زيارته بباريس، وبعدئذ اتفقت الحكومتان الفرنساوية والإنكليزية على إصدار أوامر جديدة لقواد جيوشهما ببلاد القرم أمرتاهم فيها بأن يحملوا الحملة الأخيرة على «سباستوبول»، وعينت الحكومة الفرنساوية في القرم الجنرال «بيليسييه» بدل «كانروبر» على قيادة الجيش الفرنساوي، وأمرته بالزحف على قلاع ومعاقل العدو، فاستولى بجيوشه في 7 يونيو عام 1855 مع مساعدة جيوش الدولة العلية له في قلعة «ماملون فير» المعروفة بالقمة الخضراء، وهجم في 18 يونيو على حصن «ملاكوف» فصدت الجيوش الروسية عنه جيش فرنسا؛ فاستاءت لذلك فرنسا وإنكلترا وتركيا، وجمعت قواها، واتفق قواد هذه الجيوش المجتمعة «عمر باشا» و«بليسييه» و«سمبسون» و«لامارمورا» على عمل مشترك للاستيلاء على «سباستوبول»؛ فهاجمت الجيوش المجتمعة في 8 سبتمبر عام 1855 مدينة «سباستوبول»؛ حيث احتل الجنرال الفرنساوي «ماك ماهون» قلعة «ملاكوف» بعد موت الكثيرين من جنود الدول المتحدة ومن جنود دولة الروسيا، وكان ذلك اليوم مشهودا ومن أكبر أيام الحروب، وانتهى بسقوط «سباستوبول» في أيدي الجيوش المتحدة.
وقد أحدث سقوط «سباستوبول» تأثيرا هائلا في كل أوروبا، وانتظر العالم كله إيقاف الحرب وعقد الصلح بين الروسيا ودول تركيا وفرنسا وإنكلترا، ولكن الحرب بقيت مستمرة، واحتلت الجيوش المتحدة جملة مواقع مهمة، منها مدينة «قلبرون». ولولا إقبال الشتاء لاستمرت الحرب بلا انقطاع، وفي أثناء الحرب استولت الأساطيل الفرنساوية والإنكليزية على ميناء «بتروباولوسك» واحتلت في بحر البلطيق «بومارسند» وضربت «سفيابورج».
فلما رأت الروسيا أن لا استطاعة لها على استمرار الحرب بذلت جهدها في استمالة فرنسا لها، وحل عقدة الاتفاق بين هذه الدولة وبين إنكلترا، وأرسلت إلى باريس جملة من عمالها وصنائعها؛ ليستميلوا إليها رجال السياسة الفرنساوية والقابضين على أزمة الرأي العام من الكتاب والخطباء، فأظهر الإمبراطور «نابليون الثالث» استعداده لمساعدة الروسيا، ولكنه وجدها ترفض مطالب الظافرين، فاضطر إلى الاستمرار على خطته الأولى نحوها، ولما كان من صالح إنكلترا أن تضعف نفوذ الروسيا في بحر البلطيق اتحدت هي وفرنسا اتحادا دفاعيا مع حكومة السويد التي كانت ألد عدوة للروسيا وقتئذ، وكانت تطمح لاسترجاع «فنلندا».
وجرى في هذه الأثناء أن «فيكتور إمانويل» ملك البيمونتي ذهب إلى باريس برفقة وزيره الشهير «كافور»، فانتهز الإمبراطور «نابليون الثالث» هذه الفرصة للانتقام من النمسا التي خدعته وخدعت إنكلترا في حرب القرم، فاستقبل ملك البيمونتي ووزيره أحسن استقبال، ووعدهما بالمساعدة على تحرير إيطاليا وتكوين وحدتها، فاضطربت الحكومة النمساوية وخافت شر العاقبة، وأبلغت في الحال حكومتي فرنسا وإنكلترا أنها مستعدة لأن ترسل معهما إنذارا للروسيا تهددها فيه بإعلان الحرب عليها إذا رفضت مطالب الدول الثلاث، وسألت الحكومة النمساوية فرنسا وإنكلترا أن تمضيا معها على اتفاقية تضمن أمام العالم استقلال الدولة العلية وسلامتها، فقبلت فرنسا وإنكلترا طلب النمسا، واتفقت الدول الثلاث على صورة الإنذار، وأرسلته بالفعل لقيصر الروسيا بتاريخ 16 ديسمبر عام 1855، وأعلنته بوجوب قبوله قبل تمام شهر أي قبل 17 يناير عام 1856، وهذا الإنذار يشتمل على الشروط الآتية:
أولا:
অজানা পৃষ্ঠা