تبين للقارئ فيما سبق أن إنكلترا حلت محل الروسيا في النفوذ لدى الباب العالي، وصارت وحدها المسموعة الكلمة في الأزمة الأخيرة عند رجال الدولة، وأنها توصلت إلى إبطال معاهدة «خونكار أسكله سي» التي خولت للروسيا حق إرسال جيوشها إلى قلب الدولة العلية عند الحاجة، فاستاءت الروسيا لذلك، وعقدت النية على الانتقام من الدولة العلية التي أحلت إنكلترا محلها، وقد كان المرحوم السلطان الغازي «عبد المجيد خان» عاملا على إصلاح أحوال الدولة، وتنظيم إدارتها، فأصدر فرمان الكلخانة الشهير الذي اشتمل على إصلاحات عديدة كانت تكفي لتقويم أحوال الدولة وتقويتها في ظرف قليل من السنين، فساء ذلك القيصر «نيقولا الأول» لأن سياسته كانت تقتضي تقهقر الدولة على الدوام، وعدم تمكنها من إصلاح شئونها، وتقويم المعوج في أحوالها؛ ولذلك أوعز إلى المسيحيين الأرثوذكس في الدولة بمعارضة «التنظيمات» والعمل على إيقاف تنفيذها، وبالرغم عما بذله الأرثوذكس من معارضة التنظيمات الجديدة، فإن الحكومة العثمانية التي كان على رأسها وقتئذ «رشيد باشا» ابتدأت في تنفيذها، واستبشر كل العثمانيين بقرب فلاحها تمام الفلاح، ونيل ثمارها. إلا أن ذلك كان من شأنه ازدياد حقد القيصر «نيقولا الأول» على الدولة العلية، فأمر بإجراء التجهيزات الحربية اللازمة، واستعد لمحاربة الدولة مؤملا إضعافها وإيقافها في طريق الإصلاح.
ولإيجاد المشاكل بين الروسيا والدولة العلية أوعز القيصر «نيقولا الأول» إلى القس «دانيلو» الذي كان حاكما على الجبل الأسود، وتابعا للدولة العلية، بأن يرفع راية العصيان في وجه الدولة، ودعاه قبل ذلك للسفر إلى سان بطرسبورغ، فسافر إليها وقوبل فيها باحتفاء عظيم، وأهداه القيصر المال والنياشين، وحرضه ضد الدولة بكل أنواع التحريضات حتى عاد إلى الجبل الأسود، ونادى أهله باسم الصليب والدين الأرثوذكسي للقيام في وجه الدولة؛ فلبوا نداءه وثاروا أجمعين.
فلما علمت الحكومة العثمانية بذلك؛ سيرت جيشا عظيما بقيادة عمر باشا - وهو قائد عثماني جليل اشتهر بقهر بلاد البوسنة - لقمع ثورة أهل الجبل الأسود، فسار الجيش ووقعت بينه وبين الثوار مواقع دموية في جبال هذه البلاد، حتى قهر الثوار وتم له الظفر والنصر، وقد كان لهذه الحادثة تأثير شديد في أوروبا، فاهتمت كل الدول بالأمر وعلى الخصوص النمسا، فإنه كان يهمها عدم اضطراب الأحوال في البلقان، ولكنها كانت مدينة للروسيا بمساعدتها في عام 1849 في قمع الثورة المجرية، فاضطرت للتظاهر بمساعدة أهل الجبل الأسود لدى الباب العالي، وكان غرضها الحقيقي توطيد السكينة والسلام في البلقان، وإحباط مساعي الروسيا، فسألت الباب العالي في آخر عام 1852 أن يعتدل في انتقامه أهالي الجبل الأسود، حتى لا تجد الروسيا حجة لخلق مشاكل جديدة.
وفي هذه السنة نفسها حدث خلاف عظيم بين الروسيا وفرنسا بشأن الأماكن المقدسة في الشام؛ وذلك أن لفرنسا بمقتضى معاهدات قديمة وحقوق ثابتة حماية معنوية على الكاثوليكيين في الشرق، وقد توصلت بهذه الحماية إلى جعل مفاتيح كنائس «أورشليم» بأيدي الكاثوليكيين، فأرادت الروسيا أن ترفع كلمة الدين الأرثوذكسي بتسليم مفاتيح الكنائس بأورشليم إلى القسس الأرثوذكس؛ ليزداد نفوذها في الشرق مما يخالف مصلحة فرنسا في الشرق وشرفها كل المخالفة؛ فلذلك احتجت الحكومة الفرنساوية على رغبة الروسيا، وطلبت من الباب العالي أن يفصل في هذا الخلاف بمقتضى الحقوق والمعاهدات، فعين الباب العالي لجنة للتحقيق. وبعد بحث طويل أقرت اللجنة على أن للكاثوليكيين وحدهم الحق في امتلاك الكنائس بأورشليم، وبناء على هذا القرار أصدر الباب العالي فرمانا بذلك بتاريخ 9 فبراير سنة 1852، فاستاءت الروسيا من هذا الفرمان غاية الاستياء، وألحت على الحكومة العثمانية بإبطاله مدعية أن معاهدتي «قينارجه» و«أدرنة» تخولان لها هذا الحق، ولكن الباب العالي أبقى فرمان 9 فبراير بالرغم عن إلحاح الروسيا ومعارضتها.
وفي آخر عام 1852 تعين لويس نابليون «نابليون الثالث» إمبراطورا على فرنسا، فعمل على رفع شأن بلاده في الشرق، وسر لهذا الخلاف الناشئ بين دولته وبين الروسيا؛ ليدافع فيه عن مصالح الكاثوليكية، ويستميل بذلك رجال الدين إليه.
وقد خافت النمسا وقتئذ أن يتسع الخرق على الراتق، وتشتعل نيران الاضطرابات في البلقان ونيران الحرب بين الروسيا والدولة العلية، فبذلت جهودها في تسوية مسألة الجبل الأسود، وأرسلت في يناير عام 1853 إلى الآستانة الكونت دي «ليننجن» يرجو الباب العالي باسم النمسا توطيد السكينة في هذه الجهات المضطربة، والعفو عن ثوار الجبل الأسود، ومكافأة المسيحيين الذين لم يثوروا ولحقهم الضرر في هذه الاضطرابات، فأجاب الباب العالي رجاء النمسا، وتأيدت السكينة والطمأنينة في الربوع المضطربة.
أما ما يختص بمسألة الأماكن المقدسة، فقد أرادت فرنسا أن تتساهل مع الروسيا خصوصا وأنها بلغت مرامها، واكتسب «نابليون الثالث» ميل الكاثوليكيين إليه، فسألت الباب العالي أن يمنح القسوس الأرثوذكس بعض امتيازات في كنائس أورشليم، وخابرت الحكومة الروسية في أمر عقد لجنة بسان بطرسبورغ من مندوبي الحكومتين للنظر في مسألة الأماكن المقدسة، فقبلت الروسيا، وكان يخيل وقتئذ للعالم كله أن الخلاف بين الروسيا وفرنسا أوشك أن ينتهي بسلام. •••
غير أن القيصر «نيقولا الأول» أمر في الوقت نفسه البرنس منشيكوف بالسفر إلى الآستانة؛ ليخلق سببا لإعلان الحرب على الدولة العلية، وكانت مأموريته ظاهرها أنه مكلف بتسوية مسألتي الجبل الأسود والأماكن المقدسة مع الباب العالي، وقد سافر «منشيكوف» من سان بطرسبورغ في 10 فبراير سنة 1853 مصحوبا بضباط عديديين خلافا للعادة الجارية عند سفر أحد السياسيين إلى إحدى العواصم لمخابرة حكومتها في أمر. وجمعت الروسيا على نهر «بروث» جيشا مكونا من خمسين ألف عسكري، وبدت جليا لكل أوربا رغبة الروسيا في الحرب، بل عزمها على إعلانها.
وكان يظن القيصر «نيقولا الأول» أن البروسيا والنمسا تساعدانه ضد الدولة العلية، وأن إنكلترا لا تعارضه في شيء، وكان لا يخاف مساعدة فرنسا لتركيا، ولا يظن أن إنكلترا وفرنسا تتحدان مع تركيا ضده، وكان سفيره بلوندرة يمثل له الحكومة الإنكليزية ميالة للسلم، والرأي العام الإنكليزي مضادا للحرب، والعلائق بين إنكلترا وفرنسا غير متينة لا يخشى معها من عقد اتفاق بين هاتين الدولتين. كل ذلك حمل القيصر «نيقولا الأول» على الاستعداد للحرب وعدم المبالاة بنتائجها.
وقد سعى القيصر طويلا في الاتفاق مع إنكلترا على تقسيم الدولة العلية بين دولته وبينها، فتحادث في هذا الصدد كثيرا مع السير «هاميلتون سيمور» سفير إنكلترا بسان بطرسبورغ، ولكنه لم يفلح؛ لأن إنكلترا كانت تعلم أن بقية الدول الأوروبية لا ترضى بأمر خطير كهذا، وأن تقسيم الدولة العلية ليس بالأمر السهل، وعلى فرض وقوعه فإنه يجر أكبر المصائب على العالمين، فضلا عن أن هذا التقسيم لا يفيد في الحقيقة غير الروسيا.
অজানা পৃষ্ঠা