وما علم «لويس فيليب» ملك فرنسا بهذه الاتفاقية حتى أعلن غضبه وسخطه، ووافق وزيره الأول «تييرس» على الاستعداد للحرب، فجند هذا الأخير الجنود الفرنساوية، وجمع الرديف، واشتغل بتحصين الحدود، وساعد الجرائد على تهييجها الشعب ضد دول أوروبا، فتهيجت فرنسا كلها منادية بالانتقام لها ولأمير مصر من دول أوروبا.
وفي 11 سبتمبر سنة 1840 ضرب الأميرال الإنكليزي «نابييه» ثغر بيروت وجبر «إبراهيم باشا » على إخلاء هذا الثغر، وبعد إخلائه بثلاثة أيام أعلن الباب العالي عزل «محمد علي باشا» من إمارة مصر نفسها، وكان ذلك بناء على إيعاز «بونسونبي» سفير إنكلترا بالآستانة. فأحدثت هاتان الحادثتان في فرنسا تأثيرا شديدا، وهياجا عظيما؛ مما جعل عناية الحكومة الفرنساوية بتتميم استعداداتها الحربية عظيمة شديدة، وصير الحرب قاب قوسين أو أدنى.
وقد استعفى بعد ذلك بقليل المسيو «تييرس» من رئاسة الوزارة الفرنساوية، وعين مكانه المرشال «سولت» وتقلد المسيو «جيزو» سفير فرنسا بإنكلترا منصب وزارة الخارجية؛ فبذل أقصى جهده في تعديل اتفاقية 15 يوليو التي عقدت بين الدول الأربع في لوندرة، ولكنه لم يفلح في مسعاه؛ لشدة كراهة «بالمرستون» وزير خارجية إنكلترا لفرنسا ولعزيز مصر.
وفي ذلك العهد جاءت الأخبار من الشام مؤيدة آمال بالمرستون، فإن الأسطول الإنكليزي والأسطول النمساوي استوليا على أهم المواني السورية، وخرجت «عكا» نفسها من أيدي الجنود المصرية في 2 نوفمبر سنة 1840، ولم يستطع المرحوم «محمد علي باشا» قمع الهيجان الذي أحدثته الدسائس الإنكليزية ضده في الشام، فسر بالمرستون بهذه الأخبار، وأراد أن يزيد الطين بلة ويجعل الاضطراب عاما في كل أنحاء أوروبا، فاقترح على الدول الأوروبية عزل «محمد علي باشا» من إمارة مصر نفسها وإخراجه هو وعائلته من الديار المصرية، فازداد لذلك الهياج في فرنسا ازديادا هائلا، وحمل المسيو «تييرس» في مجلس النواب الفرنساوي على الوزارة حملة شديدة متهما إياها بترك إنكلترا تنتقم من «محمد علي باشا» صديق فرنسا الحميم، فأجاب المسيو «جيزو» وزير خارجية فرنسا على اعتراضات «تييرس» وغيره من الخطباء بأن فرنسا لا تقبل أبدا نزع إمارة مصر من أيدي «محمد علي باشا» وأبنائه من بعده، وأنها مستعدة للدفاع عن حقوقه في مصر، ولو اضطرت إلى الحرب. فأدركت أوروبا من لهجة الحكومة الفرنساوية أن قبول اقتراح بالمرستون يكون داعية لحرب عامة، وأصلا لمصائب جمة، فرفضته إرضاء لفرنسا، ومنعا للحرب وعواقبها الوخيمة.
ولم يخضع المرحوم «محمد علي باشا» لأوامر الدول الأوروبية إلا عندما رأى أن فرنسا غير قادرة على مقاومة أوروبا كلها، وأن الأميرال الإنكليزي «نابييه» يهدد ثغر الإسكندرية إن بقي مستمرا على المقاومة وعدم الامتثال لأوامر الدول، فأمضى معه اتفاقية تعهد فيها بسحب الجنود المصرية من الشام، وتعهد له فيها الأميرال «نابييه» بجعل إمارة مصر له ولأبنائه من بعده، وما وصل خبر هذه الاتفاقية إلى الآستانة حتى أشار «بونسونبي» سفير إنكلترا بها على الباب العالي برفضها، فرفضها، وصرح بأنه لا يقبل جعل إمارة مصر وراثية لعائلة «محمد علي باشا» بل له وحده مدة حياته.
فلما علمت فرنسا بذلك عرضت حكومتها على مجلس النواب مشروع تحصين مدينة باريس، أي إتمام الاستعدادات الحربية، فأقر المجلس على المشروع بارتياح تام، وأيد الحكومة في خطتها ودفاعها عن حقوق مؤسسة العائلة الخديوية، فاضطربت حكومة النمسا وحكومة البروسيا عندما تحققت أن استعدادات فرنسا للحرب حقيقية، وأن الاعتداء على حقوق «محمد علي باشا» وسلالته في مصر يكون سببا لحرب عمومية في أوروبا، واتفقتا على منع الحرب بكل الوسائل، وتأييد «محمد علي باشا» وسلالته من بعده في إمارة مصر، وجبرتا بالفعل إنكلترا والروسيا على تقديم مذكرة مشتركة معهما للباب العالي طلبت فيها الدول الأربع جعل إمارة مصر لمحمد علي باشا وسلالته من بعده، وقد قدمت هذه المذكرة في 31 يناير سنة 1841، وأخذت النمسا بعد تقديمها تجتهد في استمالة فرنسا للاشتراك مع بقية الدول في أمر تسوية المسألة المصرية؛ فقبلت فرنسا ذلك، ولكنها اشترطت عدم التعرض لاتفاقية لوندرة التي أبرمت بالرغم عن معارضتها وتم مفعولها.
وقد أقرت فرنسا مع الدول في لوندرة على اتفاقية البوغازات التي تضمنت قفل بوغاز الدردنيل والبوسفور لكل سفن الدول الحربية بلا استثناء.
وقبل أن تمضي الدول على هذه الاتفاقية أصدر الباب العالي، متبعا في ذلك نصيحة السفير الإنجليزي «بونسونبي» خطا شريفا أعلن فيه أن حكومة مصر تبقى وراثية لعائلة «محمد علي باشا» ولكن الدولة تحتم انتخاب من تشاء من أعضاء العائلة لإمارة مصر عند وفاة أميرها الحاكم، وألا تجند مصر أكثر من ثمانية عشر ألف عسكري، وأن تؤخذ الضرائب بنفس الطريقة التي تؤخذ بها في تركيا، وأن يرسل للدولة منها الربع، فرفض عزيز مصر هذه القيود كما رفضتها فرنسا، وعاد الهياج والاضطراب في فرنسا إلى ما كانت عليه. فاهتم «مترنيخ» وزير النمسا الأول بالأمر، وسعى في عزل الصدر الأعظم «رشيد باشا» الذي كان يعمل بنصائح السفير الإنكليزي، فعزلته الدولة وعينت مكانه «رفعت باشا» وأصدرت إرادة جديدة بتعيين «محمد علي باشا» واليا على مصر، وجعل إمارة مصر لأبنائه من بعده الأرشد فالأرشد، وبأن يتفق بعد بين مصر والباب العالي على مبلغ ترسله مصر سنويا للدولة العلية.
فقبل المرحوم «محمد علي باشا» هذه الشروط في 10 مايو سنة 1841، ولم يعد لإنكلترا وسفيرها بالآستانة حجة لخلق المشاكل ومد أجل الشقاق، وبذلك أمضت الدول كلها في لوندرة بتاريخ 13 يوليو من السنة نفسها على اتفاقيتين: الأولى معلنة قفل باب المسألة المصرية حين ذاك. والثانية: متعلقة بقفل بوغازي الدردنيل والبوسفور أمام سفن الدول الحربية.
وبذلك انتهت هذه الأزمة المشئومة. •••
অজানা পৃষ্ঠা