وقد وهب الله الدولة العثمانية سلطة عالية ورهبة عظيمة حينا طويلا من الزمان، فأخضعت لسلطانها الأمم والدول، وأرهبت بقوتها وعظمتها كل قوي وكل عظيم، ورفعت رايتها الهلالية الجليلة على أصقاع شاسعة وأقطار واسعة، فأبقت فتوحاتها وانتصاراتها في نفوس الأمم المقهورة بغضاء كامنة، وعداوة لدودة، فكان ذلك السبب الأول في الحروب العديدة التي وجهت ضدها، وأقيمت في وجهها.
ولما كانت البلاد الواقعة تحت سلطة الدولة العلية من أجمل بلاد العالم وأغناها؛ فقد تاقت نفوس أصحاب الدول الأوروبية لإخراج الترك من هذه البلاد وتقسيمها بينها، فكانت هذه الدول تحارب الدولة العلية بأمل تقسيمها شيئا فشيئا، والاستيلاء على أجزائها جزءا فجزءا، وهذا هو سبب آخر لعداوة بعض الدول الأوروبية للدولة العلية.
وإذا دققنا النظر في سبب العداوة المشهور، وهو مسألة الدين، وجدنا أن الدولة العلية هي الدولة الوحيدة في دول الأرض التي عاملت رعاياها الذين يدينون بغير دينها بالتسامح والتساهل والاعتدال. فقد اتبعت أوامر الشرع الشريف، وتركت للمسيحيين حرية دياناتهم وعوائدهم وتقاليدهم، واحترمت عقائدهم كل الاحترام، فعاشوا طويلا ممتعين بهاته الحرية على حين أن مسيحيي إسبانيا قتلوا المسلمين؛ لأنهم مسلمون، وهتكوا أعراض نسائهم، وحرمة بيوتهم، وما رحموا إنسانا.
ولم تكتف الدولة العلية حماها الله بحسن معاملة المسيحيين واحترام أديانهم وعقائدهم، بل عاملتهم كأعز أبنائها المسلمين، ولم تميز بين هؤلاء وبينهم، وسلكت مع الكل طريق المساواة، وعينت الكثيرين من المسيحيين في المناصب السامية والوظائف العلية، وائتمنتهم على أمورها، وجعلتهم محل ثقتها، وبقاء المسيحيين إلى اليوم في الدولة العلية أكبر شاهد على اعتدالها الديني في الماضي وفي الحاضر، بل بقاء الجنسيات المختلفة كالبلغار والصرب واليونان وغيرها دليل ساطع وبرهان قاطع على أن الدولة العلية احترمت من نفسها وبمحض إرادتها دين الذين وقعوا تحت سلطتها، ولم تقهر أحدا على اعتناق الدين الإسلامي، ويعترف الكتاب والمؤرخون جميعا، بل ويعترف كل إنسان في الوجود مجرد عن الغرض الأعمى أن الدولة العلية كان في قدرتها يوم كانت أقوى دول الأرض أن تجبر كل المسيحيين في بلادها على اعتناق دين الإسلام، أو أن تطردهم من أراضيها إذا خالفوا رغبتها، ولكنها احترمت الشرع الشريف فاحترمت الدين المسيحي وأصحابه.
وهي حقيقة يقررها التاريخ، وينطق بها كل منصف محب لها، ولكن من غرائب أحوال هذا الوجود أن هذه الفضيلة السامية، وهذه المكرمة الفريدة كانت أكبر سبب لكل ما لحق الدولة العلية من الضرر والإجحاف، وأصلا لكل ما حل بها من المصائب والبلايا؛ فاحترامها لعقائد المسيحيين على اختلاف أنواعهم أقام أمامها بعض دول أوروبا بحجة المسيحيين أنفسهم، وكان سببا لحروب جمة.
فمسألة اختلاف الدين في الدولة العلية التي هي نتيجة الاعتدال الديني والعدل والإنصاف، كانت ولا تزال الداء الدفين الذي يهدد حياة الدولة من وقت إلى آخر. فتداخل الدول الأوروبية في شئون الدولة العلية باسم المسيحيين المحكومين بها، ومضايقة أوروبا للدولة باسم هؤلاء المسيحيين، واضطرابات الدولة تقوم باسم هؤلاء المسيحيين، والإنذارات التي توجه للدولة توجه باسم هؤلاء المسيحيين؛ بل وأغلب الحروب التي جرت مع الدولة جرت باسم هؤلاء المسيحيين، ويعلم الله إنهم سعداء الحظ في الدولة العلية، وأن تداخل أوروبا بحجة نصرتهم لا لزوم له البتة.
ولو أنصفت الدول الأوربية قليلا لاعترفت بهذه الحقيقة الواضحة، وهي أن المسيحيين في الدولة العلية لا ينقصون عن المسلمين في حسن المعاملة إن لم يكونوا من الراجحين، وها هم اليهود لا يثورون ولا يهيجون ولا يشتكون ولا يتألمون، بل يحمدون الدولة ليلا ونهارا في السراء والضراء، ويسبحون في كل آونة بنعمها عليهم وحسن رعايتها لهم، وما ذلك إلا لأنه لا يوجد في الدول الأوروبية دولة تدعي الدفاع عنهم والعمل لمصالحهم، فهم ليسوا بآلات في الدولة ضد الدولة، بل هم يعرفون من أنفسهم أنهم عثمانيون ممتعون بكل الحقوق العثمانية، وأما العناصر التي كالأرمن تستعملها بعض الدول كإنكلترا، فهي تثور بعوامل الدين وبدسائس دينية، وقد ثبت ذلك جليا في المسألة الأرمنية، وشوهد أن الأرمن الكاثوليك كانوا على سكينة تامة، بينما كان البروستانت يثورون ويدبرون المكائد ضد الحكومة العثمانية.
فمسألة الدين في الدولة العلية هي الآلة القوية التي يستعملها أصحاب الدسائس والغايات، وأولئك الذين يثورون بدسائس أعداء الدولة إنما يثورون ضد أنفسهم، ويقضون على حياتهم وسعادتهم بعبثهم وجنونهم واتباعهم لأوامر أعداء الدولة المحركين لهم؛ فالذين ماتوا من الأرمن في الحوادث الأرمنية إنما ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية، والذين ماتوا في كريد ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية، بل والذين ماتوا من جنود اليونان في تساليا ماتوا فريسة الدسائس الإنكليزية نفسها، ومن يعمل بنصيحة أعداء الدولة ويتبع أوامرهم فجزاؤه ما نال الأرمن واليونان.
وبديهي أن دولة مثل دولة إنكلترا التي تدعي محبة المسيحيين في الشرق، والعمل لراحتهم وسعاداتهم، لو كانت صادقة في دعواها، لرأت من الواجب عليها أن تصافي الدولة العلية حتى تنال منها متمناها بشأن المسيحيين، وإلا فمن الجنون في السياسة أن تدعي إنكلترا محبة المسيحيين، ثم تعادي الدولة العلية القابضة بيديها على زمام أمور المسيحيين، فهل يقبل العقل البشري أن دولة قوية كالدولة العلية تعمل في بلادها على خلاف رغبتها، وتنيل أصدقاء الإنكليز أي أصدقاء ألد أعدائها الراحة والسعادة والهناء؟! هل يقبل العقل البشري أن المسيحيين المدافعة عنهم إنكلترا يعادون المسلمين، ثم يسألونهم معاملتهم بالرقة واللطف وحسن العناية بهم؟!
إن الاتفاق والوفاق بين المسلمين والمسيحيين في الدولة العلية لا يكون نتيجة الضغط والقوة، بل نتيجة الميل المتبادل وحسن النية من الجانبين، والإخلاص والوفاء للدولة العلية، وإذا كانت دول أوروبا تريد حقيقة سعادة المسيحيين في الشرق، فأول واجب عليها هو أن تأمرهم بالامتثال لأوامر الدولة، والتعلق بها، والإخلاص في خدمتها، وإلا فالدولة أو فالدول العاملة على إلقاء بذور الشقاق والعداوة بين المسلمين والمسيحيين لا تجني ويستحيل أن تجني شيئا آخر غير العداوة المرة والخصومة الشديدة.
অজানা পৃষ্ঠা