ولم توقع الحكومة العثمانية نهائيا على معاهدة «قاينارجه» إلا يوم 24 يناير سنة 1775.
ولم يمض على هذه المعاهدة زمن يسير حتى أحدثت الروسيا في بلاد القرم الاضطرابات بفضل الدخلاء العاملين بأمرها، وأرسلت جيشا جرارا إلى داخل البلاد بدعوى تسكين الاضطرابات، ولكن غرضها الحقيقي كان الاستيلاء على بلاد القرم، وبالفعل استولت عليها، وظهر للعيان أن الروسيا إنما كانت تعمل لإخراج هذه البلاد من حوزة الدولة العلية، وأن بذل جهدها في سبيل إعلان استقلالها لم يكن إلا ليسهل لها الاستيلاء عليها، وقد احتجت الدولة العلية ضد هذا العمل المخالف لشروط معاهدة «قاينارجه» وأرادت إعلان الحرب ضد الروسيا، ولكنها رجعت عن عزمها بنصائح فرنسا التي كانت تعلم أن الروسيا والنمسا متفقتان على تقويض أركان السلطنة العثمانية.
ولكن الروسيا كانت تبذل أقصى جهد للوصول إلى إعلان الحرب بينها وبين تركيا، فأرسلت مبعوثين من عندها؛ لتهييج بلاد اليونان والأفلاق والبغدان ضد السلطنة السنية، ونشرت الجواسيس في أنحاء الدولة العلية؛ ليحدثوا فيها القلاقل، ويخلقوا الاضطرابات. فلما رأت الدولة العلية ذلك، وأن لا مناص لها من الحرب طلبت من سفير الروسيا بالآستانة أن يخابر دولته في تسليم حاكم الأفلاق الذي عصى أمر الدولة والتجأ إلى الروسيا، وفي عزل قناصل الروسيا المهيجين للأهالي في بلاد الدولة، وفي منح الدولة العلية حق تفتيش مراكب الروسيا التجارية التي تمر من بوغاز الآستانة.
فرفضت الروسيا هذه الطلبات، وكان ذلك الرفض إعلانا للحرب بينها وبين الدولة العلية.
ولما كانت النمسا متفقة مع الروسيا على مساعدتها ضد تركيا، أرسل جوزيف الثاني إمبراطور النمسا جيشا عظيما لمحاربة الأتراك والاستيلاء على مدينة «بلغراد» فانهزم جيشه أمام العثمانيين، واضطر للعودة إلى مدينة «تمسوار» ببلاد المجر حيث اقتفى أثره الجيش التركي وهزمه هزيمة عظيمة.
أما الجيش الروسي، فقد استولى في هذه الأثناء على مدينة «أوزي» وبينما الجيش العثماني يقاوم جيش الروسيا والنمسا إذ مات المرحوم السلطان «عبد الحميد الأول» في 7 أبريل سنة 1789، وتولى بعده السلطان الغازي «سليم خان الثالث» حيث أمور الدولة مرتبكة والحرب قائمة على قدم وساق، وقد انتهز الروسيون فرصة انتقال الملك في الدولة العلية، واتحدوا مع النمساويين في الحركات العسكرية، وتولى القيادة العامة قائد واحد، فانتصر الجيشان على جيش الدولة، واستولى الروسيون على مدينة «بندر» واحتلوا جزءا عظيما من بلاد الأفلاق والبغدان وبسرابيا، ودخل النمساويون بلاد الصرب ومدينة بلغراد.
وقد مات حين ذاك جوزيف الثاني إمبراطور النمسا، وعقبه على سرير المملكة النمساوية ليوبولد الثاني، فسعى في عقد الصلح مع الدولة العلية تخوفا من قيام النمساويين بالثورة ضده تقليدا للأمة الفرنسوية التي كانت ثائرة وقتئذ ثورتها الأولى الكبيرة ضد لويس السادس عشر. فعقدت عهدة بين النمسا والدولة العلية في أغسطس سنة 1791 بمدينة «زشتوي» وقد ردت النمسا إلى الدولة العلية بمقتضى هذه المعاهدة بلاد الصرب وبلغراد التي كانت في قبضتها، ولم تخسر الدولة العلية من هذه الحرب مع النمسا خسارة تذكر.
أما الروسيا: فقد استمرت بمفردها على محاربة الدولة العلية حتى توسطت بينهما البروسيا وإنكلترا وهولاندا، فأمضيت بينهما معاهدة بمدينة «ياش» أخذت الروسيا بمقتضاها بلاد القرم نهائيا وبساربيا والبلاد الواقعة بين نهري بوج دينستر ومدينة «أوتشاكوف».
وبذلك انتهت هذه الأزمة الشديدة التي جاءت في أواخر القرن الثامن عشر، وكانت عنوانا لأزمات شداد توالت بعد بعضها في القرن التاسع عشر. نأتي عليها الواحدة بعد الأخرى.
المسألة الشرقية في القرن التاسع عشر
অজানা পৃষ্ঠা