(١)
- هذا باب علم (ما) الكلم من العربية -
٢ أ/ أعلم أن الكلام يأتلف من ثلاثة أشياء: إسم، وفعل، وحرف. فالإسم: ما اقتصر سيبويه في تعريفه في أول الكتاب على المثال، وقفا كثير من أصحابنا أثره في ذلك.
وقد ذكر في الكتاب ما يخصصه من القبيلين الآخرين. وذلك أنه قسمه إلى المعرفة والنكرة. وقسم حروف المعرفة، وذلك مما يدل على معرفة الإسم، وعدد الحروف في أول الأبنية. وحد الفعل في أول الكتاب.
وإذا عرف من هذه الأشياء الثلاثة شيء على الوجه الذي ذكرنا، امتاز الثالث منهما ولم يستبهم.
وقد وصف الإسم أصحابنا بغير شيء. فالذي كان يعول عليه أبو العباس في تعريفه، وصفته المخصصة له: إنه ما جاز الأخبار عنه ومثال الأخبار عنه
1 / 53
كقولنا: قام زيد، وزيد منطلق، وهذا وصف يشمل عامَّة الأسماء. ولا يخرج منه إلا اليسير منها وذلك (مثل) إذ، وإذا لأنهما عند النحويين من الأسماء. ومع ذلك لا يجوز الإخبار عنهما. ويدل على أنهما إسمان قولنا: القتال إذا جاء زيد. فيكون خبرًا عن الحدث. كما تقول: القتال يوم الجمعة، فيكون خبرًا. وأما إذ. فإنه يضاف إليه الإسم في نحو: يومئذ. وحينئذ. ويقع خبرًا عن الحدث كاذا.
وهذه الأسماء التي تجريها على هذا الوصف الذي وصف به أبو العباس الإسم، إنها ليست متمكنة في الإسمية، ولا يكاد النحويون يطلقون عليها الإسم مطلقًا حتى يعتبروه بغيره. فكل ما جاز الإخبار عنه من الكلم فهو الإسم - وإن لم يكن كل إسم يجوز عنه الإخبار ومثل هذا الوصف في شموله علامة الأسماء، ما وصفه به أبو العباس من أنه ما دخل عليه حرف من حروف الجرّ -وهذا الوصف يشمل كثيرًا (من) الأسماء. وإن كان بعضها لا يدخل عليه حرف الجر (كيف)، لأنه إسم بدلالة أنه لا يتألف من إسم كان فيه كلام مفيد مستقل ولا يظن أنه فعل. ولا يجوز أن يكون حرفًا لما ذكرناه، مع ذلك فحرف الحرفّ لا يدخل عليه، كما لا يدخل على الأسماء التي (كيف) دال عليها، والأسماء المسمى بها الأفعال مثل: نزال، وتراك، وصه، ومع ونحو ذلك (فهي) أسماء عند النحويين، ولا يجوز دخول حرف الجرّ عليها، إلا أنَّ هذا الوصف يشمل أيضًا عامة الأسماء.
وأعلم أن الإسم يقع خبرًا كما يكون مخبرًا عنه وذلك نحو: زيد أخوك وعمرو منطلق. وهذا أيضًل معنى يختص به الإسم وليس كذلك الفعل، والحرف
1 / 54
وقد وصف الإسم أيضًا: ما دل على معنى، وذلك المعنى يكون شخصًا، وغير شخص ففصل (ما دل على معنى) بينه وبين الفعل الذي يدل على معنيين. وبقوله: إن ما يدل عليه (يكون شخصًا، وغير شخص)، بين الإسم، والحرف، فصار ذلك وصفًا شاملًا لجمع الأسماء، مخصصًا لها من الفعل والحرف. فإن قلت: معنى أسماء الاستفهام مثل (من) و(ما) (تدل على معنى) (وعلى الاستفهام) (فمن) يدل على معنى، وعلى الاستفهام، وكذلك (ما) يدل على الأجناس، أو على صفات من ميز، وعلى الاستفهام فقد دل على معنيين، إذا قيل كذا أن هذه الأسماء تدل على هذه المعاني التي تحتها، وكان حدها أن تذكر معها حرفًا من الاستفهام، وإنما حذفت معها للدلالة، وما يحذف من اللفظ للدلالة، فبمنزلة المثبت فيه. ألا ترى أنك إذا -حذفت المبتدأ والخبر للدلالة، كان بمنزلة إثباتك إياه في اللفظ.
وكذلك إذا حذفت (أن) الناصبة للفعل مع الفاء، وما أشبه مما يلزم فيه الإضمار ولا يستعمل معه الإظهار، كان بمنزلة الثابت في اللفظ وفي تقديره، فكذلك هذه الأسماء لما حذف معها حرف الاستفهام لدلالة الكلام عليه، كان بمنزلة إثباته. كما أنها لما حذفت مما ذكرنا، كانت في تقدير الثبات وإن لم يستعمل معها إظهار. ألا ترى أنك إذا تعديت هذا الموضع، استعلمت معه حرف الاستفهام، فإذا كان (أن) التي يستعمل معها إظهار (كان) بمنزلة المثبت في اللفظ. يختص الإسم/ ٢ ب من الصفات دخول الألف واللام وذلك نحو: الرجل، والفرس، والضرب، والأكل، والعلم، والجهل. فهذا الوصف يعرف به كثير من الأسماء وقد حكي.
1 / 55
١ - . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . اليجدع في أحرف آخر، فدخل الألف واللام على الفعل، وذلك نادر، ومن ذلك أيضًا جواز الكناية (عنه) نحو: ضربته: وأكرمته فالكناية على هذا الحد لا تكون إلا عن الأسماء. ومن ذلك دخول التنوين المصاحب للجر، وذلك كله يختص بعض الأسماء، ولا يشمل جميعها إلا أن ذلك مما يعين على معرفة الإسم.
وإما الفعل، فقد وصفه سيبويه: بأنه أمثلة أخذت من لفظ أحداث الأسماء، وبنيت لما مضى، ولما يكون ولم يقع وما هو كائن لم ينقطع ....
ومن أصحابنا من يقول في وصفه: أنه ما دل على حدث وزمان. ويدل على قولهم هذا، إنِّا نجد الأفعال تتعدى إلى جميع أقسام الأزمنة معرفتها ونكرتها، ومبهمها، ومخصوصها، كما نجدها تتعدى إلى جميع أقسام المصادر فلولا أنَّ فيها دلالة على مهمة اللفظ، ما كانت لتتعدى إلى جميع ضروب الأزمنة. كما لم يتعدَّ ما تتعدى الأفعال المتعدية إليه، فاستواؤه والمصدر في تعدى الفعل إليهما تعديا واحدًا، دلالة على ما ذكرنا من وقوع الدلالة عليه من اللفظ، وقد قيل لمن وصف الفعل بهذا الوصف. أرأيتهم قولكم: خلق الله الزمان. هل يدل هذا على زمان قلته؟ (فإن قلتم: لا) فسد الوصف. وأن قلتم يدل، فقد ثبتم زمانًا قبل. وذلك ممتنع لما يجيبون به عن ذلك. أن اللفظ فيه قد جرى عندهم مجرى الآن، وما يتخاطبون به، ويتعارفون. وهذا النحو غير ضيق في كلامهم. ألا ترى قوله ﷿: " ..... إنك أنت العزيز الكريم"، وكذلك قوله:
1 / 56
٢ - أبلغ كليبا، وأبلغ عنك شاعرها
إني الأغرُّ، وإني زهرة اليمن
فأجاب جرير.
٣ - ألم تكن في رسوم قد رسمت بها
من حاز موعظًة يا زهرة اليمن
وكذلك قوله تعالى: "وأرسلناه إلى مائة ألف، أو يزيدون" إنما هو عند كثير من أصحابنا أنهم جميع إذا رأيتم مثلهم، قلتم فيهم هذا الضرب من الكلام. فكذلك قولهم: "خلق الله الزمان". يجوز على هذا لحد الذي تجري هذه الأمثلة (عليه) في كلامهم، وما يتعارفونه الآن والدليل على أن الفعل مأخوذ من المصدر إنّ هذه المصادر تقع دالةّ على جميع ما تحتها، ولا تختص شيئًا منه دون شيء. ألا ترى أنّ (الضرب) يشمل جميع هذا الحدث، ولا يخص ماضيًا منه من حاضر، ولا حاضرًا من الآتي. وإنّ هذه الأمثلة تدل على أحداث مخصوصة، وحكم الخاص أن يكون من العام، ويستحيل كون العام من الخاص، وهذه الأمثلة تدل أيضًا على معنيين، أحدهما يأتي من الآخر. والأحداث تدل على معان مجردة مفردة، والمفردة في الرتبة أسبق من المركبة. فأما اعتلال بعض هذه الأحداث لاعتلال الفعل، فلا يدل على أنها مشتقة من الأفعال. كما أنّ أسماء الفاعلين لما أعتلت بجريانها على الفعل، لم تدل (على) أنها مشتقة من
1 / 57
الأفعال، ولو كانت ألفاظ هذه الأحداث مشتقة من ألفاظ الأمثلة، لوجب أن تتضمن الدلالة في لفظها على ما أشتق منها، وعلى زيادة معنى آخر. لأن المشتقات لا تخلو من هذا، فإن لم تدل ألفاظ الأمثلة" ولو كان الأمر على ما قاله من خالفنا في ذلك، ما يأتي، ولم أر على الحاضر دلالًة على أنها لست مأخوذة من ألفاظ الأمثلة" ولو كان الأمر على ما قاله من خالفنا في ذلك، لكان على ما وصفت لك. ألا ترى أن المضرب لما كان مأخوذًا من (الضرب)، دلّ على مكانه. فكذلك كان ينبغي أن يكون سببًا لهذه المصادر من أن تكون دالةّ على ما تدل عليه الأمثلة من المعنيين. وهذا الوصف الذي وصف به سيبويه الفعل لا يدخل عليه السؤال الذي تقدم، وهو أيضًا يشمل جميع ضروب هذه الأمثلة، وليس كوصف من خصص فقال فيها لأنها تدل على حدث وزمان، لأن (من) هذه الأمثلة ما هو عند النحويين دال على زمن غير مقترن /٣ آبحدث، وذلك نحو: كان المفتقرة إلى الخبر المنصوب وهو عندهم فعل، ومع ذلك فهو دال على الزمان مجردًا من الحدث، ومن ثم لزمه الخبر المنصوب، ولم يستعمل في الكلام إلا به، وصارت الجملة بلزوم الخبر -المنصوب- لها موازية للجملة التي من الفعل والفاعل نحو قام زيد. وضرب عمرو، والذي وصفه به، وينتظم جميع ذلك ألا ترى أن (كان) مثال مأخوذ من لفظ حدث دال على ما مضى.
كما أن (ضرب) كذلك، فهذا الوصف إذن أصح من غيره إذ لا دخل عليه، وكان منتظمًا جميع ما كان من هذه الأمثلة لا يدخل فيه ما ليس منه، ولا يخرج عنه ما هو منه، والذي تقدم من هذه الأزمان التي وصفت بها الأسماء مما هو كالحد الشامل لجميع ما كان يصفه به شيخنا أبو بكر. وهو ما دل على معنى وكان ذلك المعنى شخصًا، أو غير شخص. فهذا ينتظم جميع الأسماء
1 / 58
ولم يقتصر فيه على قوله: (ما دلّ على معنى) إذ لو اقتصر عليه، لا لتبس بالحرف. ألا ترى أن الحروف كلها تدل على معان، وإنّ المعاني التي تدل عليها تكون غير أشخاص. وقوله: يكون ما يدل عليه شخصًا، وغير شخص يخصص صفة (يكون) لا يشركه فيه الحرف، ولا يشركه فيه الفعل. ما يدل على حدث فيما مضى، وفيما هو كائن لم ينقطع، أو ما هو آت فقد اختصً الإسم بهذا الوصف من القبلين الآخرين، كما اختصّ الفعل منهما بوصف سيبويه له، فإن قال: فانّ الحرف أيضًا يدل على معنى، والمعنى الذي يدل عليه غير شخص فكيف ينفصل الإسم من الحرف بهذا الوصف مع هذا الإشتراك الموجود بينهما؟.
أعلم أن الفعل ينفسم بإنقسام الزمان، ماض وحاضر. وآت. فمثال الماضي، ما كان مبنيًا على الفتح نحو: ذهب. وسمع، وظرف، وضرب، ودحرج، واستخرج، ونحو ذلك. ومثال الحاضر نحو: يقوم، ويذهب، ويظرف، ويكتب، ويصلي، وهذا الضرب الذي وصفه سيبويه بأنه كائن لم ينقطع. فهذا الضرب وإن كان شيء منه قد مضى، وشيء منه لم يمض، فإنه عند العرب ضرب من ضروب لفعل غير الماضي، وغير المستقبل.
وعلى هذا عندهم حكم هذه الأفعال تتطاول أركانها، وتخرج إلى الوجود شيئَا فشيئًا، ويدلك على ذلك -من مذاهبهم- إنهم خصوه في النفي بـ (ما) فقالوا في نفيه: ما يصلي ولم ينفوه بـ (لن) كما نفوا المستقبل بها ولا بـ (لا) كما نفوا المستقبل الموجب بالقسم بها بـ (لم) كما نفوا الماضي بها، وأدخلوا لام الإبتداء على هذا المثال في نحو قوله ﷿: " .... وإن ربك ليحكم بينهم .... " ولم يدخلوه على المثالين الأخيرين. فهذا ولفظه الأخص لفظ المضارع، وهو ما يلحقه الألف والنون، والتاء والياء في قولك: أفعل أنا، وتفعل أنت أو هي، ونفعل نحن، ويفعل ويتسع فيوقع على الآتي أيضًا، والأصل أن يكون
1 / 59
للحاضر، بدلالة أن موضع الضمير من المواضع التي ترد فيها الأشياء إلى أصولها، يدلك على ذلك قولهم: لزيد مال. فإذا أضمر، قيل: له مال، فرددت إلى الفتح الذي هو الأصل، ومن ثم فتحت هذه اللام في المنادي المستغاث به. ألا ترى أنه واقع موضع المضمر، ولذلك بنى المفرد منه نحو، "يوسف أعرض عن هذا ... ". ومن ذلك أن عامة من يقول: أعطيتكم درهما، فيحذف الواو المتصلة بالميم إذا وصلها بالمضمر، قال: أعطيتكموه. كما قال: "أنلزمكموها". ومن ذلك أنك تقول: والله لأفعلنّ. فهذه (الواو) من (الباء) الجارة، فإذا وصله بالمضمر، رجعتها، فقلت: بك لأفعلنّ. ومثل ما أنشده أبو بكر.
٤ - ألا نادت أمامة باحتمال
ليجزيني فلا بك ما أبالي
وأنشد أبو زيد:
٥ - رأى برقا فأوضع فوق بكر
فلا بك ما أسال، ولا أغاما
فقد ردت هذه الأسماء مع المضمر إلى أصولها، فلما لم يقدموا الأبعدّ على الأقرب مع المضمر بل قدموا الأقرب على الأبعد، دل أن الأقرب الأول عندهم، الأولى من الأبعد وإذا كان اللفظ الذي هو الأول، ما هو عندهم أولى، ومثل ذلك لفظا المصدر الأول نحو: الضرب والحمل هو الأصل للشاهد الموجود/ ٣ ب وإن يقع على غيره. فإن (أن) إذا وصلت بالفعل، لم تقع إلا على الماضي والمستقبل
1 / 60
دون الحاضر، وكذلك ما كان دخل عليه السين، أو سوف مختصًا بالاستقبال (كأن) ما لم تدخل عليه، الزيادة بالحال أولى، كقولنا: يقوم. قج يقع على المستقبل، كما يقع على الحال، والمستقبل يختص بالسين وسوف. ومما يختص بالاستقبال من هذه الأمثلة لاعتلاله باعتلال الأمثلة، أن بعض هذه الأمثلة يعتل لاعتلال بعض. ألا ترى أن (تعدو) عدوًا يعتل لإعتلال (يعدو)، لوقوع الواو فيه بين الكسر والياء فتبعت الأمثلة الباقية، هذا المثال، وكذلك قالوا: أنا أكرم فحذفت الهمزة مع همزة المضارعة، ثم اتبع سائر الحروف الهمزة، وكذلك أعل (قام) و(باع)، فلما اعلا إتبعا مضارعهما، وإن كان ما قبل حروف العلة منهما ساكنًا، وكما لا يقول أحد. إن هذه الأمثلة مأخوذة من بعض لإعتلال بعضها من أجل، بعض، كذلك لا يجوز أن يكون المصدر مأخوذًا من الأمثلة لاعتلاله بعتلها في نحو، (القيام) و(زنة) و(عدة)، وصحتها في نحو: (اللواذ) بصحة الحرف في (لاوذ).
وأما الحرف، فما يدل على معنى في غيره وذلك (كالباء) الجارة، و(من) و(الواو العاطفة) وما أشبه ذلك، وهو أيضًا (ما) لا يكون خبرًا. ويجوز أن يخبر عنه. ألا ترى أنك، لو قلت: زيد حتى. أو عمرو لعلّ فجعلتهما أخبارًا عن
1 / 61
الإسم، لم يجز، وكذلك لو أخبرت عنهما، فقلت: حتى منطلق، أو حتى يقوم، فجعلت ما بعدهما خبرًا عنهما لم يستقم. فهذه جمل وستتبع ذلك زيارات في كتاب آخر إن شاء الله.
1 / 62
هذا باب ما ائتلف من هذه الألفاظ الثلاثة
كان كلامًا مستقلًا وهو الذي يسميه أهل العربية الجمل
أعلم أنّ الإسم يأتلف مع الإسم يكون منهما كلام، وذلك نحو: زيد أخوك. وعمرو ذاهب. والفعل مع الإسم: (نحو) قام زيد. وذهب عمرو. ويدخل الحرف على كل واحد من هاتين الجملتين، فيكون كلامًا. وذلك نحو: هل زيد أخوك؟ .. وإنّ زيد أخوك. وما عمرو منطلقًا. وكذلك يدخل الحرف على الفعل والإسم. كما دخل على الجملة المركبة من الإسمين، وذلك نحو: قام زيد. ويذهب عمرو. ولم يضرب زيد. فأما قولهم: زيد في الدار. والقتال في اليوم، فهو كلام مؤتلف من إسم وحرف، وليس هو على حد قولك: إنّ زيدًا منطلق، ولكنه من خبره الفعل والإسم، أو الإسم والإسم. ألا ترى أنّ قولك: (في الدار) ليس زيد، ولا القتال في اليوم، ولم يكونا إياهما، كان الكلام على غير هذا الظاهر، ويحتاج إلى ما يربطه بما قبله، ويعلقه، وأن يخلو ما يعلقه به من أن يكون إسمًا أو فعلًا، وكلاهما جائز، غير ممتنع تقديره، وإذا كان كذلك، كان داخلًا في جملة ما ذكرناه. وقد جعل أبو بكر هذا التأليف -في بعض كتبه- قسمًا برأسه وذلك مذهب حسن.
ألا ترى أن الكلام، وإن كان لا يخلو مما ذكرنا في الأصل، فقد صار له الآن حكم يخرج به عن ذلك الأصل يدلك على ذلك قولك: إنّ في الدار زيدًا، فلا يخلو ذلك المقدر المضمر من أن يكون إسمًا أو فعلًا -كما أعلمتك- فول كان فعلًا، لم
1 / 63
يجز دخول (أنّ) في الكلام. ألا ترى أنّ (أنّ) مدخل لها في الأفعال، وكذلك أخوات (أنّ)، فإن قلت فقد أنشد أبو زيد:
٦ - فليت دفعت الهم عني ساعة
فبتنا على ما خليِّلت ناعمي بال
وأنشد أبو عبيدة:
٧ - فليت كفافا كان خيرك كلُّه
وشرُّك كان عني ما ارتوى الماء مرتوي
ومن أبيات الكتاب:
٨ - فلو أنّ حقّ اليوم منكم إقامة
وإن كان سرج قد مضى فتسرعا
فإنَّ ذلك من الضرورات في الشعر للحاجة إلى إقامة الوزن، وهو يجيء على تقدير الحذف لاسم - (إنَّ) المنصوب. فأما الفعل، فلا مدخل لهذه الحروف عليه، لأنها مشبهة به، وعاملة عمله. وكما لا يدخل فعل على فعل بلا واسطة إسم، كذلك لا يدخل شيء من هذه الحروف على الفعل، فلا يجوز إذًا أن يكون الفعل مرادًا هنا، ولا يجوز أيضًا أن يكون المراد الإسم، لأنَّ الإسم لو كان مرادًا،
1 / 64
ما كان ليتخطى ذلك الإسم المراد، فيعمل في هذا المظهر. فإذا لم يخل هذا الكلام من هذين، لم يجز هذا، ثبت أن هذا قسم ونوع غير ما تقدم. من ها هنا أيضًا خالف حكمه حكم الفعل، فلم يجز تقديم ما إنتصب من الأحوال فيه عليه/ ٤ آفي نحو: ما قائمًا في الدار زيد. ولو كان حكمه حكم الفعل، لجاز هذا التقديم معه كما جوز مع الفعل، ومن ثم جعله أبو الحسن عاملًا للإسم المحدث عنه، ومرتفعًا به، إذا تقدمه في كل موضع. كما ترفع سائر الأشياء الجارية مجرى الفعل من أسماء الفاعلية، والصفات المشبهة بها. فهذا ضرب آخر من تألف هذه الكلم. وأما قولهم في النداء: يا زيد، وإستقلال هذا الكلام مع أنه مؤتلف من إسم وحرف، فذلك لأن الفعل ها هنا مراد عندهم يدلك على ذلك ما حكاه سيبويه في قولهم: يا أثلا أفلا ترى أن الإسم المنتصب لا يخلو من أن يكون العامل فيه فعلًا، وما هو مشبه به، أو إسمًا، فلا يجوز أن يكون العامل ما شبه به الفعل في نحو: (أن) و(ما) لأن ذلك العامل ما شبه به الفعل في نحو: (أن) و(ما) لأن ذلك لا يعمل مضمرًا. ولا يكون العامل فيه نحو: عشرين وخمسة عشر وبابه، لأن ذلك لا يعمل مضمرًا. وهي أيضًا لا تعمل في المعارف، وهذا الإسم معرفة، لأنه مشمر،، فثبت أن العامل فيه الفعل إلا أن ذلك الفعل مختزل غير مستعمل الإظهار، لأنك لو أظهرته، لكان على الخبر، ومحتملًا للصدق والكذب، ولو كان كذلك، لبطل هذا القسم من الكلام، وهو أحد المعاني التي تجري عليها العبارات. فلما وجدنا في كلامهم أفعالًا مضمرةً غير مستعملة الإظهار، وقع أنه لو أظهرت، لم تقلب معنى، ولم تبطل شيئَا عن حقيقته، وذلك قولهم: "رأسك والسيف" و"شرًا ونفسك". كان ترك ما كان إذا أظهر، قلب المعنى، وإزالة عما كان
1 / 65
عليه، أجرى بحسن الإظهار مع ذلك، لأن المعتبر عنه لما كان من جنس النطق، قام مقام العبارة، ولست تجد كذلك سائر الأحداث المعبرة عنها، ومما يبين لك ترك هذا الإظهار، ومعاقبة هذا الحرف للفعل (إذ) تجده يصل تارة بحرف وتارة بغير حرف. فوصله بالحرف كقولك في الإستغاثة: يا للمسلمين، ويا لله ووصله بغير الحرف: يا زيد. ويا عبد الله، ويا رجل إقبل، فصار في هذا كقولك: (جئته، وجئت إليه) و"حشيت صدره، وبصدره"، ولهذا أيضًا، ولمكان الياء، حسن أمالة هذا الحرف مع إمتناع الأمالة في حروف المعاني في أكثر الأمر، وقد أقيمت مقام الأمثلة المخوذة من المصادر ألفاظ جعلوها إسمًا لها، فأعنت عنها، وسدت مسدها وصارت كأمثلة الأمر إذا احتملت ضمير الفاعلين، وذلك كقولهم: تراك، ونزال، ونعاء، وصه، ومه، ورويد وإيه، وما اشبه ذلك، وهذا إنما أخصَّ به الأمر، موضع يغلب فيه الفعل، ويختص به، فلا يستعمل فيه غيره، فلما قويت الدلالة على الفعل هنا، استجازوا أن يتسعوا بإقامة هذه الألفاظ مقامه، وهي في الحقيقة أسماء سميت بها هذه الأمثلة، وهذا مثل حذفهم الفعل حيث علم أنه لا يكون إلا به، وذلك قولهم: "هلا خيرا من ذلك" وعلى هذا قوله:
٩ - تعدون عقر النيب أفضل مجدكم
بنى ضوطرى لولا الكمي المقنعا
فلم يستعمل الفعل بعدها للدلالة على الفعل، والعلم بأن هذا الموضع يختص به، ولم يجيء من هذا النحو في الخبر إلا أحرف قليلة من ذلك قولهم:
1 / 66
هيهات زيد. وشتان عمرو. وقالوا في مثل: "سرعان ذي أهالة:، هذا قولهم عند التضجر: (أف). فأما (هيهات) في قولك: هيهات زيد وقوله:
١٠ - فهيهات هيهات العقيق وأهله
وهيهات خلّ بالعقيق نواصله
فبمنزلة قولك: بعد ذلك. وبعد العقيق. والفتحة فيه على هذا فتحة بناء، اتبعت الألف التي قبلها. وقياس من أعمل الثاني من الفعلين، وهذا الذي يختار أصحابنا، أن يكون العقيق مرتفعًا، (هيهات) الثاني. وقد أضمر في الأول على شريطة التفسير، كما تقول: قام وقعد زيد. ومن أعمل الأول، كان العقيق مرتفعا، (هيهات) الأول، ويضمر في (هيهات) الثاني. فأما قوله تعالى: (هيهات هيهات لما توعدون) فليس من هذا، ولكن الفاعل مضمر في كل واحد منهما، لتقدم الذكر، فالفاعل هو البعث، أو الحشر، أو النشر، وما أشبه ذلك مما يدل على البعث، لأن في قوله تعالى: "أسعدكم أنكم إذا متم وكنتم ترابًا وعظامًا إنكم مخرجون" دليلًا على ذلك، وتقريرًا لما ينكرونه من البعث فكأنهم قالوا: ذهابا عن قوله تعالى: "وضرب لنا مثلا ونسي خلقه .. " بعد (إخراجكم)، وبعد (نشركم) لتعلقه بهذا الوعد/ ٤ ب وهذه الكلمة تستعمل على ضربين، مفتوحة، ومكسورة، فمن فتحها جعلها كلمة مفردة، والوقف عليها بالهاء ومن كسرها، فقال: هيهات، كان
1 / 67
الوقف عليها بالتاء كما أنها في (أذرعات) في قول من نون، ولم ينو الوقف عليها بالتاء. ويحتمل أن يكون الفتح فيها في قول من فتح بالنصب، لأنه ظرف، ولم يدخله غير الفتح كما أن (سحرّ) إذا أريد (سحر يومك) و(ذات مرة) و(بعيدات بين) لم تستعمل إلا ظروفًا. وهو قول مقول. والأول جعلوه الأولى والأقيس، لأن هذه الأسماء الموقعة موقع الفعل يغلب عليها البناء، لوقوعها موقع المبني ... ألا ترى أن (شتان) و(سرعان) مستقبلان وقد بنيا مع ذلك لوقوعهما موقع المبني، كذلك قسم ذلك ما كان واقعًا موقع الأمر، ومن هنا أيضًا بني المفرد في الواو، وعلى هذا إختار أبو عثمان، قوله تعالى: "قل لعبادي الذين آمنوا: يقيموا الصلاة .... " فإن (يقيموا) بني لما أقيم مقام (أقيموا) لأن المعنى إنما هو على الأمر. ألا ترى أنه ليس كل من قيل له (أقم) الصلاة أقامها ولا كل من قيل له قوله: "وقل ... التي هي أحسن ... " قالها. فإذا كان كذلك، توجه على الأمر،
والأسماء والأفعال المعرفة في الأصل إذا أوقعت موقع المبني، بنيت كما ترى في هذا الموضع (فهيهات) ونحوه من الأسماء المشابهة للحروف إذا وضعت موضع المبني، أجوز بالبناء وكذلك القول الآخر وجيه وهو أنّ هذه الأسماء المسمى بها الأفعال، بعضها ظروف كقولك: دونك، ووراءك، فكما جاز الظرف من أسمائها في الأمر، كذلك يجوز أن يكون في الخبر، فمن جعل الفتحة فتحة إعراب، كانت الكسرة في الجمع للإعراب أيضا والكسرة في الجمع نظير الفتحة في الواحد. ومن جعل الفتحة للبناء، كانت الكسرة في الجمع أيضًا للبناء، كما أنّ الفتحة في (ضرب) كالفتحة في (لن يضرب) فهذه جملة من القول في هذه الكلمة. وقد بسطناه بأكثر من هذا في غير هذا الموضع.
1 / 68
وأما (شتان)، فموضوع موضع قولك: افترق، وتباين. وهو من قوله ﷿ "أن سعيكم لشتى" و".أشتاتا ... ". وهذا الباب إذا كان كذلك، اقتضى فاعلين فصاعدا فمن قال: شتان زيد وعمر. (أسند إلى فاعلين) وعلى هذا قول الأعشى.
١١ - شتان ما يومي على كورها
ويوم حيان أخي جابر
فأسنده إلى فاعلين، معطوف أحدهما على الآخر، وأما قولك، شتان ما بينهما، فالقياس لا يمنعه إذا جعلت (ما) بمنزلة (الذي)، وجعلت (بين) صلًة. لأن (ما) لإبهامها قد على الكثرة. ألا ترى قوله "ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم .. ". ثم قال: ..... ويقولون .... ". فعلمت أن المراد به (جميع) وكذلك " ... مالا يملك لهم رزقًا .... " ثم قال:
" ... ولا يستطيعون"، وقد جاء في الشعر:
1 / 69
١٢ - لشتان (ما) بين اليزيدين. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلا أن الأصمعي طعن في فصاحة هذا الشاعر، وذهب إلى أنه غير محتج بقوله: ورأيت أبا عمرو قد أنشد هذا البيت على وجه القبول له، والإستشهاد به. وقد طعن الأصمعي على غير شاعر قد احتج بهم غيره كذي الرمة والكميت. فيكون هذا أيضًا مثلهم. وأما "سرعان ذي إهالة" فـ (ذي) ترفع بـ (سرعان) على حد إرتفاع الفاعل بالفعل، وما بعده منتصب على التمام على وجه الحال، (وفيه) مع ذلك بيين وتفسير للمشار إليه.
فأما (أف) ففيه لغات الحركات الثلاث بلا تنوين، ومع التنوين. وحكى أبو إسحاق مثل هذه لغة سابعًة ولم نعلم لفظه أخرى أقيمت مقام الفاعل في الخبر، وغير الأمر سوى ما ذكرت لك. فأما الإسم والفعل إذا ائتلف، وكذلك الإسم والإسم. فلم أعملهما غير مستقلين ولا مفتقرين إلى غيرهما إلا في الجزاء والقسم. ألا ترى أن الفعل والفاعل في الشرط لا يستغنى بهما، ولا يخلو
1 / 70
من أن تضم الجملة التي هي الخبر إليه. ولهذا المعنى حسن أن تعمل جملة الشرط مع الحرف الداخل عليها في الجزاء. وكذلك القسم لا يكون كلامًا مستقلًا دون أن تضم إليه المقسم عليه والمقسم. لأنه ضرب من الخبر يذكر ليؤكد به غيره جاء على حدّه النون، عليه الإخبار. فكما أن الجمل التي هي أخبار تكون من الفعل والفاعل، والمبتدأ والخبر، كذلك كانت الجملة التي هي قسم على هذين الوجهين. فما كان منه من فعل وفاعل، فقولك: (بالله لأفعلن). وهذه الجملة التي هي قولك: (بالله) متعلقة بها لا يستغنى بها عن المقسم عليه. ألا ترى أنك لو اقتصرت عليه، لم يجز ذلك، ولهذا، لم يجز الخليل في قوله تعالى: "والليل إذا يغشى" و"النهار إذا تجلى" وما عطف عليه من بعد أن تكون الواو جارة مبدلة من (الباء)، لأنك لو حملته على هذا الوجه، تركت القسم بغير مقسم عليه، فلما لم يسغ هذا، جعله عاطفا، وصار ما ذكر مشتركًا في الأول، ومثل به في الجملة التي هي من الفعل والفاعل، ما هي من المبتدأ والخبر، وذلك قولك: لعمرك لأفعلن وأيمن الله لأقومن فهذان الإسمان يرتفعان بالإبتداء، وخبرهما مضمر، والجملة بأسرها قسم ولا يستغنى بها حتى يضم إليها مّا اجتلبا لتأكيده من المقسم عليه /٥ آفإن قلت فقد أقول: أحلف بالله، وحلف بالله، فيكون كلامًا مستغنى به غيره، فإن ذلك إنما جوز إذا أردت الإفادة لجنس حلف عليه، ولم ترد هنا القسم. ولو أردت القسم، ولم يسلم (لأقسمن) حتى تذكر ما يقسم عليه، وما عدا ما ذكرت لك من الجملة المتآلفة من جزئين: أحدهما
1 / 71
خبر والآخر مخبر عنه، فهو مستقل مفيد مستغنى به عن غيره. وأعلم أن بعض الجمل قد تقوم مقام بعض، فمن ذلك قوله ﷿: " ... سواء عليكم أدعموتموهم أم أنتم صامتون" فهذه التي من الإبتداء والخبر موقعًة موقع التي هي من الفعل، والفاعل. ألا ترى أنها معادلة كما هو كذلك (وكذلك) قوله: " ... فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا أو نرد ... ". فقوله: (أن نرد). معادلة التي من الإبتداء والخبر، كما كانت التي من الإبتداء والخبر معادلة للفعل والفاعل في الآية الأخرى. يدلك على ذلك دخولها في حيز الإستفهام بعطفها عليه، وعلى هذا يتجه ما أشنده أبو زيد:
١٣ - أقيس بن مسعود بن قيس بن خالد
أموف بادراع ابن ظبية أو تذم
فظاهر قوله: (أو تذم)، إنها معادلة لما قبله من الجملة التي هي إبتداء وخبر. وقد يحتمل أن يضمر، بينما يكون الفعل في موضع خبره. ومما وقع من بعض هذه الجمل موقع بعض قولهم: أتقى الله امرؤ فعل خيرا، يثبت عليه.
فاللفظ كما ترى لفظ الخبر، والمعنى معنى الأمر، يدلك علي ذلك جزمك للفعل بعده. وهذا الجزم جواب له، وهو في الحقيقة -عندنا- ينجزم، لأنه جواب لشرك محذوف، ونظير هذا من الإبتداء والخبر قولهم: حسبك ينم الناس (فحسبك) مرتفع بالإبتداء والخبر محذوف مراد. وحسن فيه الحذف لأمرين: أحدهما أن حسبك بمنزلة (أكفف). والآخر أنك لا تكاد تقول: ذلك عند معرفة المخاطب بالمراد، فحذف الخبر للعلم به، - وهذا تفسير أبي العباس- فهاتان جملتان ألفاظهما ألفاظ الخبر، ومعناها معنى الأمر. وجزمكّ لـ (ينام) بعد
1 / 72