الْفَصْل الأول فِي بَيَان معنى الِاسْم والمسمى وَالتَّسْمِيَة
قد كثر الخائضون فِي الِاسْم والمسمى وتشعبت بهم الطّرق وزاغ عَن الْحق أَكثر الْفرق فَمن قَائِل إِن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى وَلكنه غير التَّسْمِيَة وَمن قَائِل إِن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَلكنه هُوَ التَّسْمِيَة وَمن ثَالِث مَعْرُوف بالحذق فِي صناعَة الجدل وَالْكَلَام يزْعم أَن الِاسْم قد يكون هُوَ الْمُسَمّى كَقَوْلِنَا لله تَعَالَى إِنَّه ذَات وموجود وَقد يكون غير الْمُسَمّى كَقَوْلِنَا إِنَّه خَالق ورازق فَإِنَّهُمَا يدلان على الْخلق والرزق وهما غَيره وَقد يكون بِحَيْثُ لَا يُقَال إِنَّه الْمُسَمّى وَلَا هُوَ غَيره كَقَوْلِنَا إِنَّه عَالم وقادر فَإِنَّهُمَا يدلان على الْعلم وَالْقُدْرَة وصفات الله لَا يُقَال إِنَّهَا هِيَ الله تَعَالَى وَلَا إِنَّهَا غَيره
وَالْخلاف يرجع إِلَى أَمريْن
أَحدهمَا أَن الِاسْم هَل هُوَ التَّسْمِيَة أم لَا
وَالثَّانِي أَن الِاسْم هَل هُوَ الْمُسَمّى أم لَا
وَالْحق أَن الِاسْم غير التَّسْمِيَة وَغير الْمُسَمّى وَأَن هَذِه ثَلَاثَة أَسمَاء متباينة غير مترادفة وَلَا سَبِيل إِلَى كشف الْحق فِيهِ إِلَّا بِبَيَان معنى كل وَاحِد من هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة مُفردا ثمَّ بَيَان معنى قَوْلنَا هُوَ هُوَ وَمعنى قَوْلنَا هُوَ غَيره فَهَذَا منهاج الْكَشْف للحقائق وَمن عدل عَن هَذَا الْمنْهَج لم ينجح أصلا
1 / 24
فَإِن كل علم تصديقي أَعنِي علم مَا يتَطَرَّق إِلَيْهِ التَّصْدِيق أَو التَّكْذِيب فَإِنَّهُ لَا محَالة لَفظه قَضِيَّة تشْتَمل على مَوْصُوف وَصفَة وَنسبَة لتِلْك الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف فَلَا بُد أَن تتقدم عَلَيْهِ الْمعرفَة بالموصوف وَحده على سَبِيل التَّصَوُّر لحده وَحَقِيقَته ثمَّ الْمعرفَة بِالصّفةِ وَحدهَا على سَبِيل التَّصَوُّر لحدها وحقيقتها ثمَّ النّظر فِي نِسْبَة تِلْكَ الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف أَنَّهَا مَوْجُودَة لَهُ أَو منفية عَنهُ فَمن أَرَادَ مثلا أَن يعلم أَن الْملك قديم أَو حَادث فَلَا بُد أَن يعرف أَولا معنى لفظ الْملك ثمَّ معنى الْقَدِيم والحادث ثمَّ ينظر فِي إِثْبَات أحد الوصفين للْملك أَو نَفْيه عَنهُ فَلذَلِك لَا بُد من معرفَة معنى الِاسْم وَمعنى الْمُسَمّى وَمعنى التَّسْمِيَة وَمَعْرِفَة معنى الهوية والغيرية حَتَّى يتَصَوَّر أَن يعرف بعد ذَلِك أَنه هُوَ أَو غَيره
فَنَقُول فِي بَيَان حد الِاسْم وَحَقِيقَته إِن للأشياء وجودا فِي الْأَعْيَان ووجودا فِي الأذهان ووجودا فِي اللِّسَان
أما الْوُجُود فِي الْأَعْيَان فَهُوَ الْوُجُود الْأَصْلِيّ الْحَقِيقِيّ والوجود فِي الأذهان هُوَ الْوُجُود العلمي الصُّورِي والوجود فِي اللِّسَان هُوَ الْوُجُود اللَّفْظِيّ الدليلي فَإِن السَّمَاء مثلا لَهَا وجود فِي عينهَا ونفسها ثمَّ لَهَا وجود فِي أذهاننا ونفوسنا لِأَن صُورَة السَّمَاء تنطبع فِي أبصارنا ثمَّ فِي خيالنا حَتَّى لَو عدمت السَّمَاء مثلا وَبَقينَا لكَانَتْ صُورَة السَّمَاء حَاضِرَة فِي خيالنا وَهَذِه الصُّورَة هِيَ الَّتِي يعبر عَنْهَا بِالْعلمِ وَهُوَ مِثَال الْمَعْلُوم فَإِنَّهُ محاك للمعلوم ومواز لَهُ وَهِي كالصورة المنطبعة فِي الْمرْآة فَإِنَّهَا محاكية للصورة الْخَارِجَة الْمُقَابلَة لَهَا
وَأما الْوُجُود فِي اللِّسَان فَهُوَ اللَّفْظ الْمركب من أصوات قطعت أَربع تقطيعات يعبر عَن الْقطعَة الأولى بِالسِّين وَعَن الثَّانِيَة بِالْمِيم وَعَن الثَّالِثَة بِالْألف وَعَن الرَّابِعَة بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ قَوْلنَا سَمَاء فَالْقَوْل دَلِيل على مَا هُوَ فِي الذِّهْن وَمَا فِي الذِّهْن صُورَة لما فِي الْوُجُود مُطَابقَة لَهُ وَلَو لم يكن وجود فِي
1 / 25
الْأَعْيَان لم ينطبع صُورَة فِي الأذهان وَلَو لم ينطبع فِي صُورَة الأذهان لم يشْعر بهَا إِنْسَان وَلَو لم يشْعر بهَا الْإِنْسَان لم يعبر عَنْهَا بِاللِّسَانِ فَإِذا اللَّفْظ وَالْعلم والمعلوم ثَلَاثَة أُمُور متباينة لَكِنَّهَا مُتَطَابِقَة متوازية وَرُبمَا تَلْتَبِس على البليد فَلَا يُمَيّز الْبَعْض مِنْهَا عَن الْبَعْض
وَكَيف لَا تكون هَذِه الوجودات متمايزة وَيلْحق كل وَاحِد مِنْهَا خَواص لَا يلْحق الْأُخْرَى فَإِن ذالإنسان مثلا من حَيْثُ أَنه مَوْجُود فِي الْأَعْيَان يلْحقهُ أَنه نَائِم ويقظان وَحي وميت وقائم وماش وقاعد وَغير ذَلِك وَمن حَيْثُ أَنه مَوْجُود فِي الأذهان يلْحقهُ أَنه مُبْتَدأ وَخبر وعام وخاص وجزئي وكلي وَقَضِيَّة وَغير ذَلِك وَمن حَيْثُ أَنه مَوْجُود فِي اللِّسَان يلْحقهُ أَنه عَرَبِيّ وعجمي وتركي وزنجي وَكثير الْحُرُوف وقليلها وَأَنه اسْم وَفعل وحرف وَغير ذَلِك وَهَذَا الْوُجُود يجوز أَن يخْتَلف بالأعصار ويتفاوت فِي عَادَة أهل الْأَمْصَار
فَأَما الْوُجُود الَّذِي فِي الْأَعْيَان والأذهان فَلَا يخْتَلف بالأعصار والأمم الْبَتَّةَ
فَإِذا عرفت هَذَا فدع عَنْك الْآن الْوُجُود الَّذِي فِي الْأَعْيَان والأذهان وَانْظُر فِي الْوُجُود اللَّفْظِيّ فَإِن غرضنا يتَعَلَّق بِهِ فَنَقُول
الْأَلْفَاظ عبارَة عَن الْحُرُوف الْمُقطعَة الْمَوْضُوعَة بِالِاخْتِيَارِ الإنساني للدلالة على أَعْيَان الْأَشْيَاء وَهِي منقسمة إِلَى مَا هُوَ مَوْضُوع أَولا وَإِلَى مَا هُوَ مَوْضُوع ثَانِيًا
أما الْمَوْضُوع أَولا فكقولك سَمَاء وَشَجر وإنسان وَغير ذَلِك
وَأما الْمَوْضُوع ثَانِيًا فكقولك اسْم وَفعل وحرف وَأمر وَنهي ومضارع وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّه مَوْضُوع وضعا ثَانِيًا لِأَن الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة للدلالة على الْأَشْيَاء منقسمة إِلَى مَا يدل على معنى فِي غَيره فيسمى حرفا وَإِلَى مَا يدل على معنى فِي نَفسه وَمَا يدل على معنى فِي نَفسه يَنْقَسِم إِلَى مَا يدل على زمَان وجود ذَلِك
1 / 26
الْمَعْنى وَيُسمى فعلا كَقَوْلِك ضرب يضْرب وَإِلَى مَا لَا يدل على الزَّمَان وَيُسمى اسْما كَقَوْلِك سَمَاء وَأَرْض
فأولا وضعت الْأَلْفَاظ دلالات على الْأَعْيَان ثمَّ بعد ذَلِك وضع الِاسْم وَالْفِعْل والحرف دلالات على أَقسَام الْأَلْفَاظ لِأَن الْأَلْفَاظ بعد وَضعهَا أَيْضا صَارَت موجودات فِي الْأَعْيَان وارتسمت صورها فِي الأذهان فاستحقت أَيْضا أَن يدل عَلَيْهَا بحركات اللِّسَان
وَيتَصَوَّر الْأَلْفَاظ أَن تكون مَوْضُوعَة وضعا ثَالِثا ورابعا حَتَّى إِذا قسم الِاسْم إِلَى أَقسَام وَعرف كل قسم باسم كَانَ ذَلِك الِاسْم فِي الدرجَة الثَّالِثَة كَمَا يُقَال مثلا الِاسْم يَنْقَسِم إِلَى نكرَة وَإِلَى معرفَة وَغير ذَلِك وَالْغَرَض من هَذَا كُله أَن تعرف أَن الِاسْم يرجع إِلَى لفظ مَوْضُوع وضعا ثَانِيًا
فَإِذا قيل لنا مَا حد الِاسْم
قُلْنَا إِنَّه اللَّفْظ الْمَوْضُوع للدلالة وَرُبمَا نضيف إِلَى ذَلِك مَا يميزه عَن الْحَرْف وَالْفِعْل
وَلَيْسَ تَحْرِير الْحَد من غرضنا الْآن إِنَّمَا الْغَرَض أَن المُرَاد بِالِاسْمِ الْمَعْنى الَّذِي هُوَ فِي الرُّتْبَة الثَّالِثَة وَهُوَ الَّذِي فِي اللِّسَان دون الَّذِي فِي الْأَعْيَان والأذهان
فَإِذا عرفت أَن الِاسْم إِنَّمَا يعْنى بِهِ اللَّفْظ الْمَوْضُوع للدلالة فَاعْلَم أَن كل مَوْضُوع للدلالة فَلهُ وَاضع وَوضع وموضوع لَهُ يُقَال للموضوع لَهُ مُسَمّى وَهُوَ الْمَدْلُول عَلَيْهِ من حَيْثُ أَنه يدل عَلَيْهِ وَيُقَال للواضع المسمي وَيُقَال للوضع التَّسْمِيَة يُقَال سمى فلَان وَلَده إِذا وضع لفظا يدل عَلَيْهِ ويسمي وَضعه تَسْمِيَة وَقد يُطلق لفظ التَّسْمِيَة على ذكر الِاسْم الْمَوْضُوع كَالَّذي يُنَادي شخصا وَيَقُول يَا زيد فَيُقَال سَمَّاهُ فَإِن قَالَ يَا أَبَا بكر يُقَال كناه وَكَانَ
1 / 27
لفظ التَّسْمِيَة مُشْتَركا بَين وضع الِاسْم وَبَين ذكر الِاسْم وَإِن كَانَ الْأَشْبَه أَنه أَحَق بِالْوَضْعِ مِنْهُ بِالذكر
وَيجْرِي الِاسْم وَالتَّسْمِيَة والمسمى مجْرى الْحَرَكَة والتحريك والمحرك والمحرك وَهَذِه أَرْبَعَة أسام متباينة تدل على معَان مُخْتَلفَة فالحركة تدل على النقلَة من مَكَان إِلَى مَكَان والتحريك يدل على إِيجَاد هَذِه الْحَرَكَة والمحرك يدل على فَاعل الْحَرَكَة والمحرك يدل على الشَّيْء الَّذِي فِيهِ الْحَرَكَة مَعَ كَونه صادرا من فَاعل لَا كالمتحرك الَّذِي لَا يدل إِلَّا على الْمحل الَّذِي فِيهِ الْحَرَكَة وَلَا يدل على الْفَاعِل
فَإِذا ظهر الْآن مفهومات هَذِه الْأَلْفَاظ فَلْينْظر هَل يجوز أَن يُقَال فِيهَا إِن بَعْضهَا هُوَ الْبَعْض أَو يُقَال إِنَّه غَيره
وَلَا يفهم هَذَا إِلَّا بِمَعْرِفَة معنى الغيرية والهوية
وَقَوْلنَا هُوَ هُوَ يُطلق على ثَلَاثَة أوجه
الْوَجْه الأول يضاهي قَول الْقَائِل الْخمر هِيَ الْعقار وَاللَّيْث هُوَ الْأسد وَهَذَا يجْرِي فِي كل شَيْء هُوَ وَاحِد فِي نَفسه وَله اسمان مُتَرَادِفَانِ لَا يخْتَلف مفهومهما الْبَتَّةَ وَلَا يتَفَاوَت بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَإِنَّمَا تخْتَلف حروفهما فَقَط وأمثال هَذِه الْأَسْمَاء تسمى مترادفة
الْوَجْه الثَّانِي يضاهي قَول الْقَائِل الصارم هُوَ السَّيْف والمهند هُوَ السَّيْف وَهَذَا يُفَارق الأول فَإِن هَذِه الْأَسَامِي مُخْتَلفَة المفهومات وَلَيْسَت مترادفة لِأَن الصارم يدل على السَّيْف من حَيْثُ هُوَ قَاطع والمهند يدل على السَّيْف من حَيْثُ نسبته إِلَى الْهِنْد وَالسيف يدل دلَالَة مُطلقَة من غير إِشَارَة إِلَى غير ذَلِك وَإِنَّمَا المترادفة هِيَ الَّتِي تخْتَلف حروفها فَقَط وَلَا تَتَفَاوَت بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان فلنسم هَذَا الْجِنْس متداخلا إِذْ السَّيْف دَاخل فِي مَفْهُوم الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة وَإِن كَانَ بَعْضهَا يُشِير مَعَه إِلَى زِيَادَة
1 / 28
الْوَجْه الثَّالِث أَن يَقُول الْقَائِل الثَّلج أَبيض بَارِد فالأبيض والبارد وَاحِد والأبيض هُوَ الْبَارِد فَهَذَا أبعد الْوُجُوه وَيرجع ذَلِك إِلَى وحدة الْمَوْضُوع الْمَوْصُوف بالوصفين مَعْنَاهُ أَن عينا وَاحِدَة مَوْصُوفَة بالبياض والبرودة
وعَلى الْجُمْلَة فقولنا هُوَ هُوَ يدل على كَثْرَة لَهَا وحدة من وَجه فَإِنَّهُ إِذا لم يكن وحدة لم يُمكن أَن يُقَال هُوَ هُوَ وَاحِد وَمَا لم يكن كَثْرَة لم يكن هُوَ هُوَ فَإِنَّهُ إِشَارَة إِلَى شَيْئَيْنِ
فلنرجع إِلَى غرضنا فَنَقُول من ظن أَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى على قِيَاس الْأَسْمَاء المترادفة كَمَا يُقَال الْخمر هِيَ الْعقار فقد أَخطَأ جدا لِأَن مَفْهُوم الْمُسَمّى غير مَفْهُوم الِاسْم إِذْ بَينا أَن الِاسْم لفظ دَال والمسمى مَدْلُول وَقد يكون غير لفظ وَلِأَن الِاسْم عَرَبِيّ وعجمي وتركي أَي مَوْضُوع الْعَرَب والعجم وَالتّرْك والمسمى قد لَا يكون كَذَلِك وَالِاسْم إِذا سُئِلَ عَنهُ قيل مَا هُوَ والمسمى إِذا سُئِلَ عَنهُ رُبمَا قيل من هُوَ كَمَا إِذا حضر شخص فَيُقَال مَا اسْمه فَيُقَال زيد وَإِذا سُئِلَ عَنهُ قيل من هُوَ وَإِذا سمي التركي الْجَمِيل باسم الهنود قيل اسْم قَبِيح ومسمى حسن وَإِذا سمي باسم كثير الْحُرُوف ثقيل المخارج قيل اسْم ثقيل ومسمى خَفِيف وَالِاسْم قد يكون مجَازًا والمسمى لَا يكون مجَازًا وَالِاسْم قد يُبدل على سَبِيل التفاؤل والمسمى لَا يتبدل وَهَذَا كُله يعرفك أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَلَو تَأَمَّلت وجدت فروقا كَثِيرَة غير ذَلِك وَلَكِن الْبَصِير يَكْفِيهِ الْيَسِير والبليد لَا يزِيدهُ التكثير إِلَّا تحيرا
وَأما الْوَجْه الثَّانِي وَهُوَ أَن يُقَال الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى على معنى أَن الْمُسَمّى مُشْتَقّ من الِاسْم وَيدخل فِيهِ كَمَا يدْخل السَّيْف فِي مَفْهُوم الصارم فَهَذَا إِن قيل بِهِ فَيلْزم عَلَيْهِ أَن يكون التَّسْمِيَة والمسمي وَالِاسْم والمسمى كُله وَاحِدًا لِأَن الْكل مُشْتَقّ من الِاسْم وَيدل عَلَيْهِ وَهَذَا مجازفة فِي الْكَلَام وَهُوَ كَقَوْل الْقَائِل الْحَرَكَة والتحريك والمحرك والمحرك وَاحِد إِذْ الْكل مُشْتَقّ من الْحَرَكَة وَهُوَ
1 / 29
خطأ فَإِن الْحَرَكَة تدل على النقلَة من غير دلَالَة على الْمحل وَالْفَاعِل وَالْفِعْل والمحرك يدل على فَاعل الْحَرَكَة والمحرك يدل على مَحل الْحَرَكَة مَعَ كَونه مَفْعُولا بِخِلَاف المتحرك فَإِنَّهُ يدل على مَحل الْحَرَكَة وَلَا يدل على كَونه مَفْعُولا والتحريك يدل على فعل الْحَرَكَة من غير دلَالَة على الْفَاعِل وَالْمحل فَهَذِهِ الْحَقَائِق متباينة وَإِن كَانَت الْحَرَكَة غير خَارِجَة عَن جَمِيعهَا
وَلَكِن للحركة حَقِيقَة فِي نَفسهَا تعقل وَحدهَا ثمَّ تعقل نسبتها إِلَى فَاعل وَهَذِه الْإِضَافَة غير الْمُضَاف إِذْ الْإِضَافَة تعقل بَين شَيْئَيْنِ والمضاف قد يعقل وَحده وتعقل نسبته إِلَى الْمحل وَهُوَ غير نسبته إِلَى الْفَاعِل كَيفَ وَنسبَة الْحَرَكَة إِلَى الْمحل واحتياجها إِلَيْهِ ضَرُورِيّ ونسبتها إِلَى الْفَاعِل نَظَرِي أَعنِي بِهِ الحكم بِوُجُود النسبتين دون التَّصَوُّر فَكَذَلِك الِاسْم لَهُ دلَالَة وَله مَدْلُول وَهُوَ الْمُسَمّى وَوَضعه فعل فَاعل مُخْتَار وَهُوَ التَّسْمِيَة ثمَّ لَيست هَذِه المداخلة من قبيل دُخُول السَّيْف فِي مَفْهُوم الصارم والمهند لِأَن الصارم سيف بِصفة وَكَذَا المهند فالسيف دَاخل فِيهِ وَلَيْسَ الْمُسَمّى اسْما بِصفة وَلَا التَّسْمِيَة اسْما بِصفة فَلَا يَصح فِيهِ هَذَا التَّأْوِيل
وَأما الْوَجْه الثَّالِث الَّذِي يرجع إِلَى اتِّحَاد الْمحل مَعَ تعدد الصّفة فَهُوَ أَيْضا مَعَ بعده غير جَار فِي الِاسْم والمسمى وَلَا فِي الِاسْم وَالتَّسْمِيَة حَتَّى يُقَال إِن شَيْئا وَاحِدًا مَوْضُوع لِأَن يُسمى اسْما وَيُسمى تَسْمِيَة كَمَا كَانَ فِي مِثَال الثَّلج إِذْ هُوَ معنى وَاحِد مَوْصُوف بالبارد والأبيض وَإِلَّا هُوَ كَقَوْل الْقَائِل الصّديق ﵁ هُوَ ابْن أبي قُحَافَة لِأَن تَأْوِيله أَن الشَّخْص الَّذِي وصف بِأَنَّهُ صديق هُوَ الَّذِي نسب بِالْولادَةِ إِلَى أبي قُحَافَة فَيكون معنى ال هُوَ هُوَ اتِّحَاد الْمَوْضُوع مَعَ الْقطع بتباين الصفتين فَإِن مَفْهُوم الصّديق ﵁ غير مَفْهُوم بنوة أبي قُحَافَة
1 / 30
فالتأويلات الَّتِي تطلق عَلَيْهَا هُوَ هُوَ غير جَارِيَة فِي الِاسْم والمسمى وَفِي الِاسْم وَالتَّسْمِيَة الْبَتَّةَ لَا حَقِيقَتهَا وَلَا مجازها والحقيقة من جُمْلَتهَا مَا يرجع إِلَى ترادف الْأَسْمَاء كَقَوْلِنَا اللَّيْث هُوَ الْأسد بِشَرْط أَن لَا يكون فِي اللُّغَة فرق بَين مَفْهُوم اللَّفْظَيْنِ فَإِن كَانَ بَينهمَا فرق فليطلب لَهُ مِثَال آخر وَهَذَا يرجع إِلَى اتِّحَاد الْحَقِيقَة وَكَثْرَة الِاسْم وَلَا بُد فِي قَوْلنَا هُوَ هُوَ من كَثْرَة من وَجه ووحدة من وَجه وأحق الْوُجُوه أَن تكون الْوحدَة فِي الْمَعْنى وَالْكَثْرَة فِي مُجَرّد اللَّفْظ
وَهَذَا الْقدر كَاف فِي الْكَشْف عَن هَذَا الْخلاف الطَّوِيل الذيل الْقَلِيل النّيل فقد ظهر لَك أَن الِاسْم وَالتَّسْمِيَة والمسمى أَلْفَاظ متباينة الْمَفْهُوم مُخْتَلفَة الْمَقْصُود وَإِنَّمَا يَصح على الْوَاحِد مِنْهَا أَن يُقَال هُوَ غير الثَّانِي لَا أَنه هُوَ لِأَن الْغَيْر فِي مُقَابلَة الهو هُوَ
وَأما الْمَذْهَب الثَّالِث الْمقسم للاسم إِلَى مَا هُوَ الْمُسَمّى وَإِلَى مَا هُوَ غَيره وَإِلَى مَا لَا هُوَ هُوَ وَلَا هُوَ غَيره فأبعد الْمذَاهب عَن السداد وأجمعها لقبُول الِاضْطِرَاب إِلَّا أَن يؤول وَيُقَال مَا أَرَادَ بِالِاسْمِ الَّذِي قسمه إِلَى ثَلَاثَة أَقسَام الِاسْم نَفسه بل أَرَادَ بِهِ مَفْهُوم الِاسْم ومدلوله وَمَفْهُوم الِاسْم غير الِاسْم فَإِن مَفْهُوم الِاسْم هُوَ الْمَدْلُول والمدلول غير الدَّلِيل وَهَذَا الانقسام الَّذِي ذكره متطرق إِلَى مَفْهُوم الِاسْم فَالصَّوَاب أَن يُقَال مَفْهُوم الِاسْم قد يكون ذَات الْمُسَمّى وَحَقِيقَته وماهيته وَهِي أَسمَاء الْأَنْوَاع الَّتِي لَيست مُشْتَقَّة كَقَوْلِك إِنْسَان وَعلم وَبَيَاض وَمَا هُوَ مُشْتَقّ فَلَا يدل على حَقِيقَة الْمُسَمّى بل يتْرك الْحَقِيقَة مُبْهمَة وَيدل على صفة لَهُ كَقَوْلِك عَالم وَكَاتب
ثمَّ الْمُشْتَقّ يَنْقَسِم وماهيته وَهِي أَسمَاء الْأَنْوَاع إِلَى مَا لَيست مُشْتَقَّة كَقَوْلِك إِنْسَان وَعلم وَبَيَاض وَمَا هُوَ مُشْتَقّ إِلَى مَا يدل على وصف حَال فِي الْمُسَمّى كالعالم والأبيض وَإِلَى مَا يدل على إِضَافَة لَهُ إِلَى غير مفارق كالخالق وَالْكَاتِب
1 / 31
وحد الْقسم الأول كل اسْم يُقَال فِي جَوَاب مَا هُوَ فَإِنَّهُ إِذا أُشير إِلَى شخص آدَمِيّ وَقيل مَا هُوَ لَيْسَ كَقَوْل من هُوَ فَجَوَابه أَن يُقَال إِنْسَان فَلَو قيل حَيَوَان لم يكن قد ذكر تَمام الْمَاهِيّة لِأَنَّهُ لَيْسَ تتقوم ماهيته بِمُجَرَّد الحيوانية لِأَنَّهُ هُوَ هُوَ بِأَنَّهُ حَيَوَان عَاقل لَا بِأَنَّهُ حَيَوَان فَقَط وَلَفظ الْإِنْسَان اسْم للحيوان الْعَاقِل فَلَو قيل بدل الْإِنْسَان أَبيض أَو طَوِيل أَو عَالم أَو كَاتب لم يكن جَوَابا لِأَن مَفْهُوم الْأَبْيَض شَيْء مُبْهَم لَهُ وصف الْبيَاض مَا يدْرِي مَا ذَلِك الشَّيْء وَمَفْهُوم الْعَالم شَيْء مُبْهَم لَهُ وصف الْعلم وَمَفْهُوم الْكَاتِب شَيْء مُبْهَم لَهُ فعل الْكِتَابَة نعم يجوز أَن يفهم أَن الْكَاتِب إِنْسَان وَلَكِن من أُمُور خَارِجَة وأدلة زَائِدَة على مَفْهُوم اللَّفْظ وَكَذَلِكَ إِذا أُشير إِلَى لون وَقيل مَا هُوَ فَجَوَابه أَنه بَيَاض فَلَو ذكر اسْما مشتقا فَقَالَ مشرق أَو مفرق لضوء الْبَصَر لم يكن جَوَابا لِأَن الْمَطْلُوب بقولنَا مَا هُوَ حَقِيقَة الذَّات وماهيتها الَّتِي بهَا هِيَ مَا هِيَ والمشرق شَيْء مُبْهَم لَهُ الْإِشْرَاق والمفرق شَيْء مُبْهَم لَهُ التَّفْرِيق
فَهَذَا التَّقْسِيم فِي مَدْلُول الْأَسَامِي ومفهومها صَحِيح وَيجوز أَن يعبر عَن هَذَا بِأَن الِاسْم قد يدل على الذَّات وَقد يدل على غير الذَّات وَيكون ذَلِك على سَبِيل المساهلة فِي الْإِطْلَاق فَإِن قَوْلنَا يدل على غير الذَّات إِن لم يُفَسر بِأَنا أردنَا بِهِ غير الْمَاهِيّة المقولة فِي جَوَاب مَا هُوَ لم يَصح فَإِن الْعَالم يدل على ذَات لَهُ الْعلم فقد دلّ على الذَّات أَيْضا فَفرق بَين أَن يَقُول عَالم وَبَين أَن يَقُول علم لِأَن الْعَالم يدل على ذَات لَهُ الْعلم وَلَفظ الْعلم لَا يدل إِلَّا على الْعلم
فَقَوله الِاسْم قد يكون ذَات الْمُسَمّى فِيهِ خللان وَيحْتَاج فِيهِ إِلَى إصلاحين
أَحدهمَا أَن يُبدل الِاسْم بِمَفْهُوم الِاسْم
1 / 32
وَالْآخر أَن يُبدل الذَّات بماهية الذَّات فَيُقَال مَفْهُوم الِاسْم قد يكون حَقِيقَة الذَّات وماهيتها وَقد يكون غير الْحَقِيقَة
وَأما قَوْله إِن الْخَالِق هُوَ غير الْمُسَمّى إِن أَرَادَ بِهِ لفظ الْخَالِق فاللفظ أبدا هُوَ غير مَدْلُول اللَّفْظ وَإِن أَرَادَ بِهِ أَن مَفْهُوم اللَّفْظ غير الْمُسَمّى فَهُوَ محَال لِأَن الْخَالِق اسْم وكل اسْم مَفْهُومه مُسَمَّاهُ فَإِن لم يفهم الْمُسَمّى مِنْهُ فَلَيْسَ اسْما لَهُ والخالق لَيْسَ اسْما لِلْخلقِ وَإِن كَانَ الْخلق دَاخِلا فِيهِ وَالْكَاتِب لَيْسَ اسْما للكتابة وَلَا الْمُسَمّى اسْما للتسمية بل الْخَالِق اسْم ذَات من حَيْثُ يصدر عَنهُ الْخلق فالمفهوم من الْخَالِق هُوَ الذَّات أَيْضا لَكِن لَا حَقِيقَة الذَّات فَقَط بل الْمَفْهُوم هُوَ الذَّات من حَيْثُ لَهُ صفة إضافية كَمَا إِذا قُلْنَا أَب لم يكن الْمَفْهُوم مِنْهُ ذَات الْأَب بل الْمَفْهُوم ذَات الْأَب من حَيْثُ إِضَافَته إِلَى الابْن والأوصاف تَنْقَسِم إِلَى إضافية وَغير إضافية والموصوف بجميعها الذوات فَإِن قَالَ قَائِل الْخَالِق وصف وكل وصف فَهُوَ إِثْبَات وَلَيْسَ فِي مَضْمُون هَذَا اللَّفْظ إِثْبَات سوى الْخلق والخلق غير الْخَالِق وَلَيْسَ للخالق وصف حَقِيقِيّ من الْخلق فَلذَلِك قيل إِنَّه يرجع إِلَى غير الْمُسَمّى فَنَقُول قَول الْقَائِل الِاسْم يفهم غير الْمُسَمّى منتاقض كَقَوْل الْقَائِل الدَّلِيل يعرف غير الْمَدْلُول فَإِن الْمُسَمّى عبارَة عَن مَفْهُوم الِاسْم فَكيف يكون الْمَفْهُوم غير الْمُسَمّى والمسمى غير الْمَفْهُوم
وَأما قَوْله إِن الْخَالِق لَا وصف لَهُ من الْخلق وَالْكَاتِب لَا وصف لَهُ من الْكِتَابَة فَلَيْسَ كَذَلِك وَالدَّلِيل على أَن لَهُ وَصفا مِنْهُ أَنه يُوصف بِهِ مرّة وينفى عَنهُ أُخْرَى وَالْإِضَافَة وصف للمضاف يَنْفِي وَيثبت كالبياض الَّذِي لَيْسَ بمضاف فَمن عرف زيدا وبكرا ثمَّ عرف أَن زيدا أَب لبكر فقد عرف شَيْئا لَا محَالة وَهَذَا الشَّيْء إِمَّا وصف أَو مَوْصُوف وَلَيْسَ هُوَ ذَات الْمَوْصُوف بل هُوَ وصف وَلَيْسَ وَصفا قَائِما بِنَفسِهِ بل هُوَ وصف لزيد فالإضافات من قبيل
1 / 33
الْأَوْصَاف للمضافات إِلَّا أَن مضمونها لَا يعقل إِلَّا بِالْقِيَاسِ بَين شَيْئَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُخرجهَا عَن كَونهَا أوصافا
وَلَو قَالَ الْقَائِل لَيْسَ الله ﷿ مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ خَالِقًا كفر كَمَا لَو قَالَ لَيْسَ مَوْصُوفا بِكَوْنِهِ عَالما كفر وَلَكِن إِنَّمَا وَقع هَذَا الْقَائِل فِي هَذَا الْخبط لِأَن الْإِضَافَة عِنْد الْمُتَكَلِّمين غير مَعْدُودَة فِي جملَة الْأَعْرَاض مَعَ أَنهم إِذا قيل لَهُم مَا معنى الْعرض قَالُوا إِنَّه الْمَوْجُود فِي مَحل لَا يقوم بِنَفسِهِ وَإِذا قيل لَهُم هَل الْإِضَافَة تقوم بِنَفسِهَا قَالُوا لَا وَإِذا قيل لَهُم هَل الْإِضَافَة مَوْجُودَة أم لَا قَالُوا نعم إِذْ لَا يُمكنهُم أَن يَقُولُوا الْأُبُوَّة مَعْدُومَة إِذْ لَو كَانَت الْأُبُوَّة مَعْدُومَة لم يكن فِي الْعَالم أَب وَإِذا قيل لَهُم الْأُبُوَّة تقوم بِنَفسِهَا قَالُوا لَا فيضطرون إِلَى الِاعْتِرَاف بِأَنَّهَا مَوْجُودَة فِي مَحل وَأَنَّهَا لَا تقوم بِنَفسِهَا بل تقوم فِي مَحل ويعترفون بِأَن الْعرض عبارَة عَن مَوْجُود فِي مَحل ثمَّ يعودون وَيُنْكِرُونَ أَنه عرض
وَأما قَوْله إِن من الِاسْم مَا لَا يُقَال إِنَّه الْمُسَمّى وَلَا يُقَال هُوَ غَيره فَهُوَ أَيْضا خطأ لِأَنَّهُ سيفسر ذَلِك بالعالم وَهَذَا إِذا اعتذر فِيهِ بِأَن الشَّرْع لم يَأْذَن فِي إِطْلَاق ذَلِك فِي حق الله ﷿ فَرُبمَا قيل لَيْسَ التَّصْرِيح بِالْحَقِّ والصدق مَوْقُوفا على إِذن خَاص وَرُبمَا سومح الْآن فِيهِ ورد النّظر مَعَه إِلَى الْإِنْسَان إِذا وصف بِالْعلمِ أفتقول إِن الْعلم لَيْسَ غير الْإِنْسَان وَقد كَانَ الْإِنْسَان مَوْجُودا وَلم يكن الْعلم وحد الْعلم غير حد الْإِنْسَان لَا محَالة فَإِن قَالَ الْعلم غير الْإِنْسَان وَلَكِن إِذا قُلْنَا عَن شخص وَاحِد إِنَّه عَالم وَإنَّهُ إِنْسَان لم يكن الْعَالم هُوَ الْإِنْسَان وَلَا هُوَ غير الْإِنْسَان لِأَن الْإِنْسَان هُوَ الْمَوْصُوف بِهِ قُلْنَا وَيلْزم هَذَا من الْكَاتِب والنجار فَإِن الْمَوْصُوف بِهِ أَيْضا هُوَ الْإِنْسَان
على أَن الْحق فِيهِ التَّفْصِيل وَهُوَ أَن يُقَال مَفْهُوم لفظ الْإِنْسَان غير مَفْهُوم
1 / 34
لفظ الْعَالم إِذْ مَفْهُوم الْإِنْسَان حَيَوَان نَاطِق عَاقل وَمَفْهُوم الْعَالم شَيْء مُبْهَم لَهُ علم فأحد اللَّفْظَيْنِ غير اللَّفْظ الآخر وَمَفْهُوم أَحدهمَا غير مَفْهُوم الآخر فَهُوَ بِهَذَا الْوَجْه هُوَ غير لَا يجوز أَن يُقَال هُوَ هُوَ وبوجه آخر هُوَ هُوَ وَلَا يجوز أَن يُقَال بذلك الْوَجْه إِلَّا هُوَ غَيره وَذَلِكَ إِذا نظرت إِلَى الذَّات الْوَاحِدَة الَّتِي تُوصَف بِأَنَّهَا إِنْسَان وَأَنَّهَا عَالِمَة فَإِن الْمُسَمّى بالإنسان هُوَ الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ عَالم كَمَا أَن الْمُسَمّى بالثلج هُوَ الْمَوْصُوف بِأَنَّهُ بَارِد وأبيض فَبِهَذَا النَّوْع من النّظر وَالِاعْتِبَار هُوَ هُوَ وبالاعتبار الأول هُوَ غَيره ومحال فِي الْعقل أَن يكون الِاعْتِبَار وَاحِدًا وَيكون لَا هُوَ هُوَ وَلَا غَيره كَمَا يَسْتَحِيل أَن يكون هُوَ هُوَ وَغَيره لِأَن الْغَيْر والهو هُوَ متقابلان تقَابل النَّفْي وَالْإِثْبَات فَلَيْسَ بَينهمَا وَاسِطَة
وَمن فهم هَذَا علم أَنه إِذا أثبت لله ﷿ وصف الْقُدْرَة وَالْعلم زَائِدا على الذَّات فقد أثبت مَا هُوَ غير الذَّات وَأثبت للغيرية معنى وَإِن لم يُطلقهُ لفظا توقفا إِلَى وُرُود التَّوْقِيف فَكيف لَا وَإِذا ذكر حد الْعلم دخل فِيهِ علم الله ﷿ وَلم يدْخل فِيهِ قدرته وَلَا ذَاته وَالْخَارِج عَن الْحَد كَيفَ لَا يكون غير الدَّاخِل فِي الْحَد وَكَيف لَا يجوز لحاد الْعلم إِذا لم يدْخل فِي حَده الْقُدْرَة أَن يعْتَذر وَيَقُول لَا يضرني خُرُوج الْقُدْرَة عَن الْحَد لِأَنِّي حددت الْعلم وَالْقُدْرَة غير الْعلم فَلَا يلْزَمنِي إدخالها فِي حد الْعلم فَكَذَلِك الذَّات العالمة غير الْعلم فَلَا يلْزَمنِي إدخالها فِي حد الْعلم فَمن استنكر قَول الْقَائِل الدَّاخِل فِي الْحَد غير الْخَارِج مِنْهُ وأحال إِطْلَاق لفظ الْغَيْر هَاهُنَا كَانَ من جملَة من لم يفهم معنى لفظ الْغَيْر وَمَا عِنْدِي أَنه لَا يفهم فَإِن معنى لفظ الْغَيْر ظَاهر لَكِن عساه يَقُول بِلِسَانِهِ مَا ينبو عَنهُ عقله ويكذبه فِيهِ سره وَلَيْسَ الْغَرَض من المحاجة البرهانية اقتناص الْأَلْسِنَة بل اقتناص الْعُقُول لتعترف بَاطِنا بِمَا هُوَ الْحق أفْصح عَنهُ بِاللِّسَانِ أَو لم يفصح
فَإِن قيل إِنَّمَا اضْطر الْقَائِلين بِأَن الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى إِلَى القَوْل بِهِ الحذر
1 / 35
من أَن يَقُولُوا الِاسْم هُوَ اللَّفْظ الدَّال بالاصطلاح فيلزمهم القَوْل بِأَن الله ﷿ لم يكن لَهُ اسْم فِي الْأَزَل إِذْ لم يكن لفظ وَلَا لافظ فَإِن اللَّفْظ حَادث فَنَقُول هَذِه ضَرُورَة ضَعِيفَة يهون دَفعهَا إِذْ يُقَال مَعَاني الْأَسْمَاء كَانَت ثَابِتَة فِي الْأَزَل وَلم تكن الْأَسْمَاء لِأَن الْأَسْمَاء عَرَبِيَّة وعجمية وَكلهَا حَادِثَة وَهَذَا فِي كل اسْم يرجع إِلَى معنى الذَّات أَو صفة الذَّات مثل القدوس فَإِنَّهُ كَانَ بِصفة الْقُدس فِي الْأَزَل وَمثل الْعَالم فَإِنَّهُ كَانَ عَالما فِي الْأَزَل
فَإنَّا قد بَينا أَن الْأَشْيَاء لَهَا ثَلَاث مَرَاتِب فِي الْوُجُود
أَحدهَا فِي الْأَعْيَان وَهَذَا الْوُجُود مَوْصُوف بالقدم فِيمَا يتَعَلَّق بِذَات الله ﷿ وَصِفَاته
وَالثَّانِي فِي الأذهان وَهَذَا الْوُجُود حَادث إِذْ كَانَت الأذهان حَادِثَة
وَالثَّالِث فِي اللِّسَان وَهِي الْأَسْمَاء وَهَذَا الْوُجُود أَيْضا حَادث بحدوث اللِّسَان
نعم نُرِيد بالثابت فِي الأذهان الْمَعْلُوم وَهِي أَيْضا إِذا أضيفت إِلَى ذَات الله ﷿ كَانَت قديمَة لِأَن الله ﷿ مَوْجُود وعالم فِي الْأَزَل وَكَانَ يعلم أَنه مَوْجُود وعالم فَكَانَ وجوده ثَابتا فِي نَفسه وَفِي علمه أَيْضا وَكَانَت الْأَسْمَاء الَّتِي سيلهمها عباده ويخلقها فِي أذهانهم وألسنتهم أَيْضا مَعْلُومَة عِنْده فَبِهَذَا التَّأْوِيل يجوز أَن يُقَال كَانَت الْأَسْمَاء فِي الْأَزَل
أما الْأَسَامِي الَّتِي ترجع إِلَى الْفِعْل كالخالق والمصور والوهاب فقد قَالَ قوم يُوصف بِأَنَّهُ خَالق فِي الْأَزَل وَقَالَ آخَرُونَ لَا يُوصف وَهَذَا خلاف لَا أصل لَهُ فَإِن الْخَالِق يُطلق لمعنيين أَحدهمَا ثَابت فِي الْأَزَل قطعا وَالْآخر منفي قطعا وَلَا وَجه للْخلاف فيهمَا إِذْ السَّيْف يُسمى قَاطعا وَهُوَ فِي الغمد وَيُسمى قَاطعا حَالَة حز الرَّقَبَة فَهُوَ فِي الغمد قَاطع بِالْقُوَّةِ وَعند الحز قَاطع بِالْفِعْلِ وَالْمَاء فِي الْكوز مرو وَلَكِن بِالْقُوَّةِ وَفِي الْمعدة مرو بِالْفِعْلِ وَمعنى
1 / 36
كَون المَاء فِي الْكوز مرويا أَنه بِالصّفةِ الَّتِي بهَا يحصل الإرواء عِنْد مصادفة الْمعدة وَهِي صفة المائية وَالسيف فِي الغمد قَاطع أَي هُوَ بِالصّفةِ الَّتِي بهَا يحصل الْقطع إِذا لَاقَى الْمحل وَهِي الحدة إِذْ لَا يحْتَاج إِلَى أَن يستجد وَصفا آخر فِي نَفسه
فالبارىء ﷾ فِي الْأَزَل خَالق بِالْمَعْنَى الَّذِي بِهِ يُقَال المَاء الَّذِي فِي الْكوز مرو وَهُوَ أَنه بِالصّفةِ الَّتِي بهَا يَصح الْفِعْل والخلق وَهُوَ بِالْمَعْنَى الثَّانِي غير الْخَالِق أَي الْخلق غير صادر مِنْهُ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي الْأَزَل على الْمَعْنى الَّذِي بِهِ يُسمى عَالما وقدوسا وَغير ذَلِك وَيكون فِي الْأَبَد كَذَلِك سَمَّاهُ غَيره بذلك الِاسْم أَو لم يسم وَأكْثر أغاليط الجدليين منشؤه عدم التَّمْيِيز بَين مَعَاني الْأَسَامِي الْمُشْتَركَة وَإِذا ميزت ارْتَفع أَكثر اختلافاتهم
فَإِن قيل فقد قَالَ الله تَعَالَى ﴿مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها أَنْتُم وآباؤكم﴾ ١٢ يُوسُف الْآيَة ٤٠ وَمَعْلُوم أَنهم مَا كَانُوا يعْبدُونَ الْأَلْفَاظ الَّتِي هِيَ حُرُوف مقطعَة بل كَانُوا يعْبدُونَ المسميات فَنَقُول الْمُسْتَدلّ بِهَذَا لَا يفهم وَجه دلَالَته مَا لم يقل إِنَّهُم يعْبدُونَ المسميات دون الْأَسْمَاء فَيكون فِي كَلَامه التَّصْرِيح بِأَن الْأَسْمَاء غير المسميات إِذْ لَو قَالَ الْقَائِل الْعَرَب كَانَت تعبد المسميات دون المسميات كَانَ متناقضا وَلَو قَالَ تعبد المسميات دون الْأَسْمَاء كَانَ مفهوما غير متناقض فَلَو كَانَت الْأَسْمَاء هِيَ المسميات لَكَانَ القَوْل الْأَخير كَالْأولِ
ثمَّ يُقَال مَعْنَاهُ أَن اسْم الْآلهَة الَّتِي أطلقوها على الْأَصْنَام كَانَ اسْما بِلَا مُسَمّى لِأَن الْمُسَمّى هُوَ الْمَعْنى الثَّابِت فِي الْأَعْيَان من حَيْثُ دلّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ وَلم تكن الإلهية ثَابِتَة فِي الْأَعْيَان وَلَا مَعْلُومَة فِي الأذهان بل كَانَت أساميها مَوْجُودَة فِي اللِّسَان فَكَانَت أسامي بِلَا معَان وَمن سمي باسم الْحَكِيم وَلم يكن حكيما وَفَرح بِهِ قيل فَرح بِالِاسْمِ إِذْ لَيْسَ وَرَاء الِاسْم معنى وَهَذَا هُوَ الدَّلِيل على أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى لِأَنَّهُ أضَاف الِاسْم إِلَى التَّسْمِيَة وأضاف التَّسْمِيَة إِلَيْهِم وَجعلهَا
1 / 37
فعلا لَهُم فَقَالَ ﴿أَسمَاء سميتموها﴾ ١٢ سُورَة يُوسُف الْآيَة ٤٠ يَعْنِي أَسمَاء حصلت بتسميتهم وفعلهم وأشخاص الْأَصْنَام لم تكن هِيَ الْحَادِثَة بتسميتهم
فَإِن قيل فقد قَالَ الله تَعَالَى ﴿سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى﴾ ٨٧ سُورَة الْأَعْلَى الْآيَة ١ والذات هِيَ المسبحة دون الِاسْم قُلْنَا الِاسْم هَاهُنَا زِيَادَة على سَبِيل الصّفة وَعَادَة الْعَرَب بِمثلِهِ جَارِيَة وَهُوَ كَقَوْلِه ﷿ ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ ٤٢ سُورَة الشورى الْآيَة ١١ وَلَا يجوز أَن يسْتَدلّ فَيُقَال فِيهِ إِثْبَات الْمثل إِذْ قَالَ ﴿لَيْسَ كمثله شَيْء﴾ ٤٢ سُورَة الشورى الْآيَة ١١ كَمَا يُقَال لَيْسَ كولده أحد إِذْ فِيهِ إِثْبَات الْوَلَد بل الْكَاف فِيهِ زِيَادَة
وَلَا يبعد أَن يكنى عَن الْمُسَمّى بِالِاسْمِ إجلالا للمسمى كَمَا يكنى عَن الشريف بالجناب والحضرة والمجلس فَيُقَال السَّلَام على حَضرته الْمُبَارَكَة ومجلسه الشريف وَالْمرَاد بِهِ السَّلَام عَلَيْهِ وَلَكِن يكنى عَنهُ بِمَا يتَعَلَّق بِهِ نوعا من التَّعَلُّق إجلالا وَكَذَلِكَ الِاسْم وَإِن كَانَ غير الْمُسَمّى فَهُوَ مُتَعَلق بِالْمُسَمّى ومطابق لَهُ وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَن يلتبس على الْبَصِير فِي أصل الْوَضع
كَيفَ وَقد اسْتدلَّ الْقَائِلُونَ بِأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى بقوله ﷿ ﴿وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى﴾ ٧ سُورَة الْأَعْرَاف الْآيَة ١٨٠ وَبِقَوْلِهِ ﷺ إِن لله تَعَالَى تِسْعَة وَتِسْعين اسْما مئة إِلَّا وَاحِدًا من أحصاها دخل الْجنَّة وَقَالُوا لَو كَانَ هُوَ الْمُسَمّى لَكَانَ الْمُسَمّى تسعا وَتِسْعين وَهُوَ محَال لِأَن الْمُسَمّى وَاحِد فاضطر أُولَئِكَ إِلَى الِاعْتِرَاف هَاهُنَا بِأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى وَقَالُوا يجوز أَن يرد بِمَعْنى التَّسْمِيَة لَا بِمَعْنى الْمُسَمّى كَمَا سلم الْآخرُونَ بِأَن الِاسْم قد يرد بِمَعْنى الْمُسَمّى وَإِن كَانَ هُوَ غير الْمُسَمّى فِي الأَصْل وَعَلِيهِ نزلُوا قَوْله
1 / 38
تَعَالَى ﴿سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى﴾ ٨٧ سُورَة الْأَعْلَى الْآيَة ١ وَلم يحسن كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ فِي الِاسْتِدْلَال وَالْجَوَاب جَمِيعًا
أما قَوْله ﴿سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى﴾ ٨٧ سُورَة الْأَعْلَى الْآيَة ١ فقد ذكرنَا مَا فِيهِ وَعَلِيهِ وَأما هَذَا الِاسْتِدْلَال فجوابهم عَنهُ بِأَن الِاسْم والمسمى وَاحِد وَإِنَّمَا أُرِيد بِالِاسْمِ هَاهُنَا التَّسْمِيَة فَقَط خطأ من وَجْهَيْن
أَحدهمَا أَن من يَقُول الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى لَا يعجز عَن أَن يَقُول الْمُسَمّى هَاهُنَا تِسْعَة وَتسْعُونَ لِأَن المُرَاد بِالْمُسَمّى مَفْهُوم الِاسْم عِنْد هَذَا الْقَائِل وَمَفْهُوم الْعَلِيم غير مَفْهُوم الْقَدِير والقدوس والخالق وَغير ذَلِك بل لكل اسْم مَفْهُوم وَمعنى على حياله وَإِن كَانَ الْكل يرجع إِلَى وصف ذَات وَاحِدَة فَكَأَن هَذَا الْقَائِل يَقُول الِاسْم هُوَ الْمَعْنى وَيُمكن أَن يَقُول لله تَعَالَى الْمعَانِي الْحسنى فَإِن المسميات هِيَ الْمعَانِي وفيهَا كَثْرَة لَا محَالة
وَالثَّانِي أَن قَوْله المُرَاد بِالِاسْمِ هَاهُنَا التَّسْمِيَة خطأ فَإنَّا قد بَينا أَن التَّسْمِيَة هُوَ ذكر الِاسْم أَو وَصفه وَالتَّسْمِيَة تَتَعَدَّد وتكثر بِكَثْرَة المسمين وَإِن كَانَ الِاسْم وَاحِد كَمَا أَن الذّكر وَالْعلم يكثر بِكَثْرَة الذَّاكِرِينَ وَالْعَالمِينَ وَإِن كَانَ الْمَذْكُور والمعلوم وَاحِدًا فكثرة التَّسْمِيَة لَا تفْتَقر إِلَى كَثْرَة الْأَسْمَاء لِأَن ذَلِك يرجع إِلَى أَفعَال المسمين فَمَا أُرِيد بالأسماء هَاهُنَا التسميات بل أُرِيد الْأَسْمَاء والأسماء هِيَ الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة الدَّالَّة على الْمعَانِي الْمُخْتَلفَة فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التعسف فِي التَّأْوِيل قيل الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى أَو لم يقل
فَهَذَا الْقدر يَكْفِيك فِي كشف هَذِه الْمَسْأَلَة وَإِن كَانَت الْمَسْأَلَة لقلَّة جدواها لَا تسْتَحقّ هَذَا الإطناب وَلَكِن قصدنا بالشرح تَعْلِيم طَرِيق التعرف لأمثال هَذِه المباحث لتستعمل فِي مسَائِل أهم من هَذِه الْمَسْأَلَة فَإِن أَكثر تطواف النّظر فِي هَذِه الْمَسْأَلَة حول الْأَلْفَاظ دون الْمعَانِي وَالله أعلم
1 / 39
الْفَصْل الثَّانِي فِي بَيَان الْأَسَامِي المتقاربة فِي الْمَعْنى وَأَنَّهَا هَل يجوز أَن تكون مترادفة لَا تدل إِلَّا على معنى وَاحِد أَو لَا بُد أَن تخْتَلف مفهوماتها
فَأَقُول الخائضون فِي شرح هَذِه الْأَسَامِي لم يتَعَرَّضُوا لهَذَا الْأَمر وَلم يبعدوا أَن يكون اسمان لَا يدلان إِلَّا على معنى وَاحِد كالكبير والعظيم والقادر والمقتدر والخالق والبارئ والمصور وَهَذَا مِمَّا أستبعده غَايَة الاستبعاد مهما كَانَ الاسمان من جملَة التِّسْعَة وَالتسْعين لِأَن الِاسْم لَا يُرَاد لحروفه بل لمعانيه والأسامي المترادفة لَا يخْتَلف إِلَّا حروفها وَإِنَّمَا فَضِيلَة هَذِه الْأَسَامِي لما تحتهَا من الْمعَانِي فَإِذا خلت عَن الْمَعْنى لم يبْق إِلَّا الْأَلْفَاظ وَالْمعْنَى إِذا دلّ عَلَيْهِ بِأَلف اسْم لم يكن لَهُ فضل على الْمَعْنى الَّذِي يدل عَلَيْهِ باسم وَاحِد فيبعد أَن يكمل هَذَا الْعدَد المحصور بتكرير الْأَلْفَاظ على معنى وَاحِد بل الْأَشْبَه أَن يكون تَحت كل لفظ خُصُوص معنى
فَإِذا رَأينَا لفظين متقاربين فَلَا بُد فِيهِ من أحد أَمريْن
أَحدهمَا أَن تتبين أَن أَحدهمَا خَارج عَن التِّسْعَة وَالتسْعين مثل الْأَحَد وَالْوَاحد فَإِن الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة عَن أبي هُرَيْرَة ﵁ ورد فِيهَا الْوَاحِد وَفِي رِوَايَة أُخْرَى ورد الْأَحَد بدل الْوَاحِد فَيكون مكمل الْعدَد معنى التَّوْحِيد إِمَّا بِلَفْظ الْوَاحِد أَو بِلَفْظ الْأَحَد فَأَما أَن يقوما فِي تَكْمِيل الْعدَد مقَام اسْمَيْنِ وَالْمعْنَى وَاحِد فَهُوَ بعيد عِنْدِي جدا
الثَّانِي أَن نتكلف إِظْهَار مزية لأحد اللَّفْظَيْنِ على الآخر بِبَيَان اشتماله على
1 / 40
دلَالَة لَا يدل عَلَيْهَا الآخر مِثَاله لَو ورد الغافر والغفور والغفار لم يكن بَعيدا أَن تعد هَذِه ثَلَاثَة أسام لِأَن الغافر يدل على أصل الْمَغْفِرَة فَقَط والغفور يدل على كَثْرَة الْمَغْفِرَة بِالْإِضَافَة إِلَى كَثْرَة الذُّنُوب حَتَّى إِن من لَا يغْفر إِلَّا نوعا وَاحِدًا من الذُّنُوب قد لَا يُقَال لَهُ غَفُور والغفار يُشِير إِلَى كَثْرَة على سَبِيل التّكْرَار أَي يغْفر الذُّنُوب مرّة بعد أُخْرَى حَتَّى إِن من يغْفر جَمِيع الذُّنُوب وَلَكِن أول مرّة وَلَا يغْفر الْعَائِد إِلَى الذَّنب مرّة بعد أُخْرَى لم يسْتَحق اسْم الْغفار
وَكَذَلِكَ الْغَنِيّ وَالْملك فَإِن الْغَنِيّ هُوَ الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء وَالْملك أَيْضا هُوَ الَّذِي لَا يحْتَاج إِلَى شَيْء وَيحْتَاج إِلَيْهِ كل شَيْء فَيكون الْملك مُفِيدا معنى الْغنى وَزِيَادَة وَكَذَلِكَ الْعَلِيم والخبير فَإِن الْعَلِيم يدل على الْعلم فَقَط والخبير يدل على علمه بالأمور الْبَاطِنَة وَهَذَا الْقدر من التَّفَاوُت يخرج الْأَسَامِي عَن أَن تكون مترادفة وَتَكون من جنس السَّيْف والمهند والصارم لَا من جنس الْأسد وَاللَّيْث فَإِن عجزنا فِي بعض هَذِه الْأَسَامِي المتقاربة عَن هذَيْن المسلكين فَيَنْبَغِي أَن نعتقد تَفَاوتا بَين معنى اللَّفْظَيْنِ وَإِن عجزنا عَن التَّنْصِيص على خُصُوص مَا بِهِ الِافْتِرَاق كالعظيم وَالْكَبِير مثلا فَإِنَّهُ يصعب علينا أَن نذْكر وَجه الْفرق بَين معنييهما فِي حق الله تَعَالَى وَلَكنَّا لَا نشك فِي أصل الِافْتِرَاق
وَلذَلِك قَالَ عز من قَائِل الْكِبْرِيَاء رِدَائي وَالْعَظَمَة إزَارِي فَفرق بَينهمَا فرقا يدل على التَّفَاوُت فَإِن كل وَاحِد من الرِّدَاء والإزار زِينَة للابس وَلَكِن الرِّدَاء أشرف من الْإِزَار
وَلذَلِك جعل مِفْتَاح الصَّلَاة الله أكبر وَلم يقم عِنْد ذَوي البصائر النافذة الله أعلم مقَامه وَكَذَلِكَ الْعَرَب فِي اسْتِعْمَالهَا تفرق بَين اللَّفْظَيْنِ إِذْ تسْتَعْمل الْكَبِير حَيْثُ لَا تسْتَعْمل الْعَظِيم وَلَو كَانَا مترادفين لتواردا فِي كل
1 / 41
مقَام تَقول الْعَرَب فلَان أكبر سنا من فلَان وَلَا تَقول أعظم سنا وَكَذَلِكَ الْجَلِيل غير الْكَبِير والعظيم فَإِن الْجلَال يُشِير إِلَى صِفَات الشّرف وَلذَلِك لَا يُقَال فلَان أجل سنا من فلَان وَيُقَال أكبر وَيُقَال الْعَرْش أعظم من الْإِنْسَان وَلَا يُقَال أجل من الْإِنْسَان
فَهَذِهِ الْأَسَامِي وَإِن كَانَت مُتَقَارِبَة الْمعَانِي فَلَيْسَتْ مترادفة وعَلى الْجُمْلَة يبعد الترادف الْمَحْض فِي الْأَسْمَاء الدَّاخِلَة فِي التِّسْعَة وَالتسْعين لِأَن الْأَسَامِي لَا ترَاد لحروفها ومخارج أصواتها بل لمفهوماتها ومعانيها فَهَذَا أصل لَا بُد من اعْتِقَاده
1 / 42
الْفَصْل الثَّالِث فِي الِاسْم الْوَاحِد الَّذِي لَهُ معَان مُخْتَلفَة وَهُوَ مُشْتَرك بِالْإِضَافَة إِلَيْهَا
كالمؤمن مثلا فَإِنَّهُ قد يُرَاد بِهِ الْمُصدق وَقد يشتق من الْأَمْن وَيكون المُرَاد إِفَادَة الْأَمْن والأمان فَهَل يجوز أَن يحمل على كلا الْمَعْنيين حمل الْعُمُوم على مسمياته كَمَا يحمل الْعَلِيم على الْعلم بِالْغَيْبِ وَالشَّهَادَة وَالظَّاهِر وَالْبَاطِن وَغير ذَلِك من المعلومات الْكَثِيرَة وَهَذَا إِذا نظر إِلَيْهِ من حَيْثُ اللُّغَة فبعيد أَن يحمل الِاسْم الْمُشْتَرك على جَمِيع المسميات حمل الْعُمُوم إِذْ الْعَرَب تطلق اسْم الرجل وتريد بِهِ كل وَاحِد من الرِّجَال وَهَذَا هُوَ الْعُمُوم وَلَا تطلق اسْم الْعين وتريد بِهِ عين الشَّمْس وَالدِّينَار وَعين الْمِيزَان وَالْعين المنفجرة من المَاء وَالْعين الباصرة من الْحَيَوَان وَهَذَا هُوَ اللَّفْظ الْمُشْتَرك بل تطلق مثل ذَلِك لإِرَادَة أحد مَعَانِيه وتميز ذَلِك بِالْقَرِينَةِ وَقد حُكيَ عَن الشَّافِعِي ﵁ فِي الْأُصُول أَنه قَالَ الِاسْم الْمُشْتَرك يحمل على جَمِيع مسمياته إِذا ورد مُطلقًا مَا لم تدل قرينَة على التَّخْصِيص وَهَذَا إِن صَحَّ مِنْهُ فَهُوَ بعيد بل مُطلق لفظ الْعين مُبْهَم فِي اللُّغَة لَا يتَعَيَّن بِهِ وَاحِد من مسمياته إِلَّا أَن تدل قرينَة على التَّعْيِين
فَأَما التَّعْمِيم فَرُبمَا خَالف وضع الشَّرْع وضع اللِّسَان نعم فِيمَا تصرف الشَّرْع فِيهِ من الْأَلْفَاظ لَا يبعد أَن يكون من وَضعه وتصرفه إِطْلَاق اللَّفْظ لإِرَادَة جَمِيع الْمعَانِي فَيكون اسْم الْمُؤمن بِالشَّرْعِ مَحْمُولا على الْمُصدق ومفيدا الْأَمْن بِوَضْع شَرْعِي لَا بِوَضْع لغَوِيّ كَمَا أَن اسْم الصَّلَاة وَالصِّيَام قد اخْتصَّ بِتَصَرُّف الشَّرْع بِبَعْض أُمُور لَا يَقْتَضِي وضع اللُّغَة ذَلِك فَهَذَا غير بعيد لَو كَانَ عَلَيْهِ دَلِيل
1 / 43