(الخامس فى سبب الرؤيا الصادقة): وليعلم أولا أن معنى النوم انحباس الروح من الظاهر إلى الباطن والروح عبارة عن جسم لطيف مركب من بخار الاخلاط معتصبة القلب وهو مركب القوى النفسانية والحيوانية وبها تتصل القوى الحساسة المتحركة إلى آلاتها ولذلك مهما وقعت سدة فى مجاريها من الأعصاب المؤدية إلى الحس بطل الحس وحصل الصرع والسكتة وكذلك إذا شدت يد الانسان شدا محكما أحس بخدر فى أطراف اليد مما يلى الأنامل وبطل فى الحال حسه إلى أن يحل فيعود الحس بعد زمان وهذا الروح بواسطة العروق الضوارب منتشر إلى الظاهر من البدن وقد يتحجز فى الباطن بأسباب مثل طلب الاستراحة من كثرة الحركة ومثل اشتغال الباطن لنضج الغذاء ولذلك يغلب النوم عند الامتلاء ومثل أن يكون الروح قليلا ناقصا فلا يفى أثره فى الباطن والظاهر جميعا ولنقصانه ولزيادته أسباب طبية والاعياء معناه نقصان الروح بالتحلل بسبب الحرارة وميل الرطوبة والثقل الذين يظهران فيه فيمنعانه عن سرعة الحركة كما يغلب وقوعه عن من أطال المقام فى الحمام وبعد الخروج منه وتناوله الشىء المرطب للدماغ فاذا ركدت الحواس بسبب انحباس الروح الحاملة لقوة الحس عنها بسبب من هذه الأسباب بقيت النفس فارغة عن شغل الحواس لأنها لا تزال مشغولة بالتفكر فيما تورده الحواس عليها فاذا وجدت فرصة للفراغ وارتفع عنها المانع استعدت للاتصال بالجواهر الروحانية الشريفة العقلية التى فيها نقش الموجودات كلها المعبر عنها فى الشرع باللوح المحفوظ فانطبع فيها أعنى فى النفس ما فى تلك الجواهر من صورة الأشياء لا سيما ما يناسب أغراض النفس ويكون مهما لها ويكون انطباع تلك الصورة فى النفس منها عند الاتصال كانطباع صورة مرآة فى مرآة أخرى يقابلها عند ارتفاع الحجاب بينهما وكل ما يكون فى إحدى المرآتين يظهر فى الأخرى بقدرها فان كانت تلك الصورة جزئية وقعت من النفس فى الصورة وحفظتها الحافظة على وجهها ولم تتصرف القوة المتخيلة الحاكية للأشياء بتمامها فتصدق هذه الرؤيا ولا يحتاج إلى التعبير إذ يكون ما رآه بعينه وإن كانت المتخيلة غالبة وإدراك النفس للصورة ضعيفا سارعت المتخيلة بطبعها إلى تبديل ما رأته النفس بمثال كتبديل الرجل بشجرة والعدو بحية أو إلى تبديله بما يشبهه ويناسبه مناسبة ما أو بما يضاده كما أن من رأى أنه ولد له ابن فولدت له بنت وكذا بالعكس وهذه الرؤيا تحتاج إلى تعبير ومعنى التعبير أن يتفكر المعبر فى أن هذا الذى بق فى حفظه من الصور التى رآها ما الذى يمكن أن تكون النفس قد رأته حتى انتقل الخيال منه إلى هذا الباقى فى الحفظ ويكون ذلك لمن يتفكر فى شىء فينتقل خياله إلى غيره ثم منه إلى غيره حتى نسى ما كان يتفكر فيه أولا فيكون طريقه فى التذكر والتخيل وذلك بأن يقول هذا الخيال الحاضر لماذا تذكرته فيتذكر السبب الموجب له ثم يتأمل فى ذلك حتى يتذكر بسببه وهكذا وربما يعثر فى تخيله على الأول الذى انجر به إلى هذا الأخير ولما كانت انتقالات الخيال غير مضبوطة بنوع مخصوص انشعبت وجوه التعبير وصارت تختلف بالأشخاص والأحوال والصناعات وفصول السنة وصحة النائم ومرضه وصار لا ينال إلا بضرب من الحدس ويغلط فيه ويغلب عليه الالتباس.
(السادس): أضغاث الأحلام وهى المنامات التى لا أصل لها وسببها حركة القوة المتخيلة وشدة اضطرابها فانها فى أكثر الأحوال لا تفتر عن المحاكاة والانتقالات وكذلك فى حال النوم لا تفتر أيضا فى أكثر الأحوال فمهما كانت النفس ضعيفة فتبقى مشغولة بمحاكاتها كما تكون فى حال اليقظة مشتغلة بالحواس فلا تستعد للاتصال بالجواهر الروحانية والمتخيلة باضطرابها إذا كانت قد قويت بسبب من الأسباب فلا تزال تحاكى وتخترع صورا لا وجود لها وتبقى فى الحافظة إلى أن يتيقظ النائم فيتذكر ما رآه فى المنام ويكون لمحاكاتها أيضا أسباب من أحوال البدن ومزاجه فان غلب على مزاجه الصفراء حاكاها بالأشياء الصفر وإن كان فيه إفراط الحرارة حاكاها بالنار والحمام الحار وإن غلبت عليه البرودة حاكاها بالثلج والشتاء وإن غلبت السوداء حاكاها بالأشياء السود والأمور الهائلة وإن كانت النفس مشغولة تفكر نسيت بخيال بقية التفكر فلا يزال الخيال يتردد فيما يتعلق بالهمة فيها وإنما حصلت صورة النار مثلا فى المتخيلة عند غلبة الحرارة لأن الحرارة التى فى موضع يتعدى إلى غيره إذا كان مجاورا له ومناسبا كما يتعدى نور الشمس إلى الأجسام بمعنى أنه يكون سببا لحدوثها إذا علقت الأشياء موجودة وجودا فائضا بأمثاله على غيره فالقوة المتخيلة منطبعة فى الجسم الحار ويؤثر به تأثيرا يليق بطبعه وهى ليست بجسم أعنى المتخيلة حتى يقبل الحرارة نفسها لكن يقبل من الحرارة المقدار الذى فى طبعها قبوله وهى صورة الحار وصورة النار وأمثاله هذا هو السبب فيه.
(السابع فى سبب معرفة الغيب فى اليقظة): اعلم أن سبب الحاجة إلى النوم لادراك علم الغيب بالرؤيا ما أوردناه من ضعف النفس وكون الحواس شاغلة لها حتى إذا ركدت الحواس اتصلت النفس بالجواهر العقلية واستعدت للقبول منها ويمكن أن يكون ذلك لبعض النفوس فى اليقظة من وجهين.
(أحدهما): أن لقوى النفس قوة لا يشغلها الحواس ولا يستولى عليها بحيث يستغرقها ويمنعها من شغلها بل يتسع ويقويها للنظر إلى جانب العلو وجانب السفل جميعا كما يقوى بعض النفوس فيجمع فى حالة واحدة بين أن يتكلم ويكتب فمثل هذه النفوس يجوز أن يفتر عنها فى بعض الأحوال شغل الحواس ويطلع إلى عالم الغيب فيظهر لها منه بعض الأمور فيكون مثل البرق الخاطف وهذا النوع من النبوة ثم إن ضعفت المتخيلة بقى فى الحفظ ما انكشف من الغيب بعينه وكان وحيا صريحا وإن قويت المتخيلة اشتغلت بطبيعة المحاكاة فيكون هذا الوحى مفتقر إلى التأويل كما يفتقر تلك الرؤيا إلى التعبير.
(والسبب الثانى): أن يغلب على المزاج اليبس والحرارة حتى يصرفه بغلبة السواد عن موارد الحواس فيكون مع فتح العينين كالمبهوت الغافل الغائب عما يرى ويسمع وذلك لضف خروج الروح إلى الظاهر فهذا أيضا لا يستحيل أن ينكشف لنفسه من الجواهر الروحانية شىء من الغيب فيتحدث به ويجرى على لسانه وكأنه أيضا غافل عما يحدث به وهذا يوجد فى بعض المجانين والمصروعين وبعض الكهان من الأعراب فيحدثون بما يكون موافقا لما سيكون وهذا النوع نقصان والسبب الأول نوع كمال.
(الثامن فى سبب رؤية الانسان فى اليقظة صورا لا وجود لها): وذلك أن النفس قد تدرك الغيب إدراكا قويا فيبقى عين ما أدركه فى الحفظ وقد تقبله قبولا ضعيفا يستولى عليه المتخيلة فتحاكيه بصورة محسوسة فاذا قويت تلك الصورة فى المصورة استصحب الحس المشترك وانطبعت الصورة فى الحس المشترك سراية اليه من المصورة والمتخيلة* والابصار هو وقوع صورة فى حس المشترك فان الصورة الموجودة من خارج ليست بمحسوسة بل هى بسبب صورة تماثلها فى الحس المشترك فالمحسوس فى الحقيقة هى الصورة الحادثة فى الحس بسبب الصورة الخارجة فالخارجة تسمى محسوسة بمعنى آخر فلا فرق بين أن تقع الصورة فى الحس المشترك من خارج أو من داخل فانها كيف ما يكون محسوسة يكون حصولها إبصارا فمهما وقع ذلك فى المشترك صار صاحبه مبصرا له وإن كانت الأجفان مغمضة أو كان فى ظلمة أيضا والذى يرى الانسان فى اليقظة إنما لا ينطبع فى الحس المشترك حتى يصير مبصرا لأن الحس المشترك مشغول بما يؤدى اليه الحواس من الظاهر وهى أغلب ولأن العقل يكسر على المتخيلة اختراعها ويكذبها فلا يقوى تصورها فى اليقظة فمهما ضعف العقل عن ردها وتكذيبها بسبب مرض من الأمراض لم يبعد أن ينطبع فى الحس المشترك ما يقع فى المتخيلة فيرى المريض صورا لا وجود لها بل إذا غلب الخوف واشتد توهم الخائف للمخوف وتخيله إياه وضعفت النفس والعقل المكذب فربما يمثل للحس صورة المخوف منه حتى يشاهد ويبصر ما يخافه ولهذا يرى الجبان الخائف صورا هائلة والقول الذى يحدث به فى الصحارى وبما يسمع من كلامه هذا سببه وقد تشتد شهوة هذا العليل الضعيف فيشاهد ما يشتهيه ويمد اليه يده كأنه يأكله ويرى صورا لا وجود لها بسبب ذلك.
(التاسع فى أصول المعجزات والكرامات): وهى ثلاث خواص.
(الخاصة الأولى فى قوة النفس فى جوهرها): بحيث يؤثر فى هيولى العالم بازالة صورة وإيجاد صورة بأن يؤثر فى استحالة غيرها ويؤثر فى استحالة الهواء غيما ويحدث مطرا كالطوفان أو بقدر الحاجة للاستسقاء أو ما يجرى مجرى ذلك وهو ممكن فانه قد ثبت فى الالهيات أن الهيولى مطيعة للنفوس ومتأثرة بها وإن هذه الصور تتعاقب عليها من آثار النفوس الفلكية وهذه النفس الانسانية من جوهر تلك النفوس وشديدة الشبه بها وهى التى كانت نسبتها اليه نسبة السراج إلى شمس فان ذلك لا يمنع من تأثير كما لا يمنع ضعف السراج من كونه مؤثرا فى التسخين والاضاءة كالشمس فكذلك نفس الانسان تؤثر فى هيولى العالم ولكن الغالب عليها أن يقتصر تاثيرها على عالمها الخاص وذلك بدنها وكذلك إذا حصلت فى النفس صورة مكروهة استحال مزاج البدن وحدثت رطوبة العرق وإذا حدثت فى النفس صورة الغلبة حمى مزاج البدن واحمر الوجه وإذا حصلت صورة مشتهاة فى النفس حدثت فى أوعية المنى حرارة مبخرة مهيجة للريح حتى يمتلئ. به عروق آلة الوقاع فتستعد له وهذه الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة التى تحدث فى البدن من هذه التصورات ليست عن حرارة وبرودة ورطوبة ويبوسة أخرى بل عن مجرد التصور فاذا صار مجرد التصور سببا لحدوث هذه التغيرات فى هيولى البدن وليس ذلك لكون النفس منطبعة فيه إذ ليست فى البدن فيجوز أن يؤثر فى بدن غيره مثل هذا التأثير أو دونه ولكن فيه أولى وأكثر إذ لها ببدنها بحكم علاقة البعثة لحدوثها معه وعشقها له بالطبع ميل اليه ولا ينكر مثل هذا العشق الطبيعى فان الصبى ربما وقع فى نار أو فى ماء فألقت أمه نفسها فى النار وراءه بالطبع فاذا لم يبعد عشق نفسها لبدن آخر هو فرع بدنها فمن أين يبعد عشقها لبدنها بالطبع وإن لم يكن حالة فى بدنها ولا فى بدن الولد وهذه العلاقة العشقية هى التى يقصر تأثيرها عليه وقد يتعدى أثر بعض النفوس إلى بدن آخر حتى يفسد الروح بالتوهم ويقتل الانسان بالتوهم ويعبر عن ذلك بأنه إصابة العين ولذلك قال عليه الصلاة والسلام.
(إن العين لتدخل الرجل القبر والجمل القدر): وقال عليه الصلاة والسلام أيضا.
(العين حق): ومعنى ذلك أن المصيب بالعين يستحسن الجمل مثلا ويتعجب منه ويتفق أن يكون نفسه خبيثة حسودة فيتوهم سقوط الجمل فينفعل الجمل عن توهمها ويسقط في الحال وإذا كان هذا ممكنا لم يبعد أن تقوى نفس من النفوس على الندور قوة أكثر من هذا فيؤثر فى هيولى العالم باحداث حرارة وبرودة وحركة وجميع تغاير العالم السفلى بنشعب عن الحرارة والبرودة والحركة كما سبق فى حوادث الجوهر وغيره ومثل هذا يعبر عنه بالكرامة والمعجزة.
অজানা পৃষ্ঠা