(الأول): أن الهواء إن كان يصير آلة يبصر بها حتى يكون هو المبصر (كالحدقة) مثلا حينئذ إذا اجتمع جماعة من ذوى الأبصار فينبغى أن يقوى إدراك الضعيف البصر الذى معهم فان شعاعه أن ضعف عن إحالة الهواء فهذه الأشعة الكثيرة اشتبكت بالهواء فيجب أن يستعين الضعيف بكثرة أشعة الابصار كما يستعين بقوة ضوء السراج وإن كانت الصورة المبصرة لا تظهر في الهواء بل فى العين ولكن بواسطة الهواء يصل اليها فأى حاجة في خروج الشعاع والهواء متصل بجرم العين والمبصر متصل بالهواء فينبغى أن يوصل الهواء الصورة بغير شعاع.
(الوجه الثانى): وهو مبطل لأصل الشعاع وأن الشعاع لا يخلو إما أن يكون عرضا فيستحيل عليه الانتقال أو جسما فيلزم منه محال لأنه إن كان لا يبقى متصلا بالعين ممتدا مثل الخطوط فلا يؤثر فى العين ما انفصل عنها وإن بقى متصلا به فينبغى أن يتفرق ويدرك الشىء متفرقا وينبغى أن يكون مثل خيط ممدود فاذا هبت ريح أمالته إلى موضع آخر وأخرجته عن استقامته فيجب أن يرى ما ليس على مقابلته بامالة الريح إياه أو يقطع اتصاله فيمنع الرؤية.
(والثالث): أنه لو كان ينفصل من العين مائلا فى المبصر لكان يدرك المبصر قريبا وبعيدا على وجه واحد من غير تفاوت فى القدر لأن الملاقى مطابق للملاقى فى الحالين مهما لم يقدر مقابلة فى مثل مخروط كما سبق ولا يمكن أن يقال أن الشعاع يقع على بعضه إذا بعد لأنه يبصر جميع المرئى بعيدا أو قريبا وقد يرى في بعض الأحوال أكثر فهذه هى الادراكات فالمدركات الخاصة بها هى الألوان والروايح والطعوم والأصوات وما ذكر فى اللمس ويدرك بواسطة هذه الأشياء خمسة أمور أخر وهى الصغر والكبر والبعد والقرب وعدد الأشياء وشكلها مثل الاستدارة والتربيع والحركة والسكون وتطرق الغلط إلى هذه التوابع أكثر من تطرقه إلى تلك الأصول .
(القول فى الحواس الباطنة) اعلم أن الحواس الباطنة أيضا خمسة* الحس المشترك والقوة المتصورة والقوة المتخيلة والقوة الوهمية والقوة الذاكرة* أما الحس المشترك فهو حاسة منها ينتشر تلك الحواس واليها يرجع أثرها وفيها يجتمع وكأنها جامع لها إذ لو لم يكن لنا ما يجتمع فيه البياض والصوت لما كنا نعلم أن ذلك الأبيض هو ذاك المغنى الذى سمعنا صوته فان الجمع بين اللون والصوت ليس للعين ولا للأذن* وأما القوة المتصورة فعبارة عن الحافظة لما ينطبع في الحس المشترك فان الحفظ غير الانطباع والقبول ولذلك كان الماء يقبل الصورة والشكل وينطبع فيها ولا يحفظها والشمع يقبل الشكل بقوة اللين ويحفظ بقوة اليبوسة ومهما حلت آفة بمقدم الدماغ بطل حفظ المتخيلات وحصل النسيان للصوره وأما الوهمية فهى التى تدرك من المحسوس ما ليس بمحسوس كما تدرك الشاة عداوة الذئب وليس ذلك بالعين بل بقوة أخرى وهى للبهائم مثل العقل للانسان* وأما الذاكرة فعبارة عما يحفظ هذه المعانى التى أدركتها الوهمية فهى خزانة المعاني كما أن المتصورة الحافظة للصور المنطبعة فى حس المشترك خزانة للصور وهاتان أعنى الوهمية والذاكرة في مؤخر الدماغ والمشترك والمصورة في مقدمه* وأما المتخيلة فهى قوة فى وسط الدماغ شأنها التحريك لا الادراك أعنى أنها تفتش عما فى خزانة الصور وعما في خزانة المعانى فانها مركوزة بينهما وتعمل فيها بالتركيب والتفصيل فقط فتصور إنسانا يطير وشخصا واحدا نصفه إنسان ونصفه فرس وأمثال ذلك وليس لها اختراع صورة من غير مثال سابق بل تركب ما ثبت فى الخيال متفرقا أو تفرق مجموعا وهذه تسمى مفكرة فى الانسان والمفكرة بالحقيقة هى العقل وإنما هذه آلته فى الفكر لا أنها المفكرة فانه كما أن ماهيات الأسباب هى التى بها تتحرك العين فى الجحر من جميع الجوانب حتى يتيسر بها الأبصار والتفتيش عن الغوامض فكذلك ماهيات الأسباب هى التى بها يتأتى التفتيش عن المعانى المودعة فى الخزانتين فطبع هذه القوة الحركة فلا تفتر ولا فى حالة النوم فمن طبعها سرعة الانتقال من الشىء إلى ما يناسبه إما بالمشابهة وإما بالمضادة أو بأن كان مقترنا به فى الوقوع الاتفاقى عند حصوله فى الخيال ومن طبعها المحاكاة والتمثيل حتى إذا قسم عقلك الشىء إلى أقسام حاكاه بشجرة ذات أغصان وإن رتب شيئا عل درجات حاكاه بالمراقى والسلالم وبها يتذكر ما نسى فانها لا تزال تفتش عن الصور التى فى الخيال وينتقل من صورة إلى صورة قربت منها حتى تعثر على الصورة التى منها أدرك المعنى المنسى فيتذكر بواسطتها ما نسيه وتكون نسبة تلك الصورة إلى حضور ما يقارنها ويتعلق بها نسبة الحد الأوسط إلى النتيجة إذ بحضوره يستعد لقبول النتيجة فهذه هى القوى الظاهرة والباطنة وهى بجملتها آلات إذ المحركة ليست إلا لجلب المافع أو دفع المضار والمدركة ليست إلا كالجواسيس التى تقتنص بها الأخبار فالمصورة والذاكرة لحفظها والمتخيلة لاحضارها بعد الغيبة فلا بد من أصل يكون هذه كلها آلة له وتجتمع اليه وتكون مسخرة له وسببه يعبر عن ذلك الأصل بالنفس وليس هو الجسم إذ كل عضو من الجسم هو أيضا آلة وإنما أعد لغرض يرجع إلى النفس فلا بد إذا من نفس تكون هذه القوة والأعضاء آلات لها.
(القول في النفس الانسانى) إذا كان مزاج العناصر أحسن واتم اعتدالا بلغ إلى الغاية التى لا يمكن أن يكون اتم وألطف وأحسن منها مثل نطفة الانسان التى حصل نضجها في بدن الانسان من أغذية هى ألطف من أغذية الحيوان ومن أغذية النبات وبقوى ومعادن أحسن من قواهما ومعادنهما فيستعد لقبول صورة من واهب الصور هى أحسن الصور وتلك الصورة هى نفس الانسان وللنفس الانسانى قوتان.
(إحداهما): عالمة.
(والأخرى): عاملة والقوة العالمة تنقسم إلى القوة النظرية كالعلم بأن الله تعالى واحد والعالم حادث وإلى القوة العملية وهى التى تفيد علما يتعلق بأعمالنا مثل العلم بأن الظلم قيح لا ينبغى أن يفعل وهذا العلم قد يكون كليا كما ذكرناه وقد يكون جزئيا مثل قولنا زيد لا ينبغى أن يظلم والقوة العاملة هى التى تنبعث باشارة القوة العلمية التى هى نظرية متعلقة بالعمل وتسمى العاملة عقلا عمليا ولكن تسميتها عقلا بالاشتراك فانها لا إدراك لها وإنما لها الحركة فقط ولكن بحسب مقتضى العقل وكما أن القوة المحركة الحيوانية ليست إلا لطلب أو هرب فكذا القوة العاملة فى الانسان إلا أن مطلبها عقلى وهو الخير والثواب متصل بما بعده والنفع فى العاقبة وإن كان مؤلما فى الحال بحيث تنفر منه الشهوة الحيوانية وللنفس الانسانى وجهان وجه إلى الجنبة العالية وهى الملأ الأعلى إذ منها يستفيد العلوم وإنما القوة النظرية للنفس الانسانى باعتبار هذه الجهة وحقه أن يكون دائم القبول ووجه إلى الجنبة السافلة وهى جهة تدبير بدنه وإنما يكون له القوة العملية باعتبار هذه الجهة ولأجل البدن ولا يمكن شرح القوة العقلية الانسانية إلا بذكر حقيقة الادراكات وأقسامها ليتبين أن هذه القوة خارجة عنها وزائدة عليها فنقول قد ذكرنا أن معنى الادراك هو أخذ صورة المدرك إلا أن هذا الأخذ على مراتب.
(الأول): إدراك البصر فانه يدرك الانسان مثلا مركبا مع لوازمه وتوابعه ولا يدركه مجردا بل يدرك معه لونا مخصوصا ووضعا مخصوصا وقدرا خصوصا وهذه توابع لو لم تكن هى بأعيانها لكان هو إنسانا مع عدمها فانه ليس إنسانا بها بل هى عوارض غريبة التحقت بالانسان وليس للبصر قوة تجريد الانسانية عن اللواحق الغريبة ثم يحصل منه صورة فى الخيال يطابق صورته فى الابصار أعنى أن صورته أيضا فى الخيال مع الوضع والقدر واللون وجميع لواحقه الغريبة كما كانت في الابصار غير مجردة عن اللواحق البتة ولا تخالف إلا فى أمر واحد وهو أن الجسم المبصر لو انعدم أو غاب بطل الابصار ولم تبطل صورته الباقية في الخيال أعنى فى القوة التى تسمى مصورة فكائنها صارت أبعد عن المادة قليلا حيث لم يستدع وجودها المادة وحضورها كما يستدعيها الابصار ولما كانت الصورة بقدرها ووضعها وأطرافها ووسطها وسائر أجزائها تحصل فى الخيال لم يمكن أن يحصل إلا في آلة جسمانية لأن أجزاء المقدر بمقدار وأطراف لا يتميز إلا في جسم كما لا يتميز الصورة إلا فى جسم هو مرآة أو ماء فهاتان القوتان أعنى البصر والخيال جسمانيتان* وأما الوهمية فهى عبارة عن قوة تدرك من المحسوسات معانى غير محسوسة مثل عداوة السنور للفأرة والشاة للذئب وموانقة الشاة لسخلتها وهى أيضا متعلقة بالمادة لأنه لو قدر عدم إدراك صورة الذئب بالحس لم يتصور إدراك هذه فهذه القوة أيضا جسمانية وملتصقة بأمور غريبة عن حقيقة المدرك زائدة على ماهية غيرمجردة عنها ومعلوم أنا ندرك الانسانية بحدها وحقيقتها أو مجردة بحيث لا يقترن بها شىء غريب إذ لو لم يدرك ذلك مجردا لما حكمنا عليه بأن القدر واللون والوضع غريب كلها في حقه وعوارض له ليست داخلة في ماهيته فاذن لها فينا قوة تدرك الماهية غير مقترنة بشىء من هذه الأمور الغريبة بل مجردة عن كل أمر سوى الانسانية وندرك السواد المطلق مجرداعن كل أمر سوى السوادية فكذلك سائر المعانى* وهذه القوة تسمى عقلا وهذه المجردات لا يقدرالخيال على إدراكها فانا لا نقدرعلى أن نتخيل إنسانا إلا على بعد منا أو قرب أو على قدر فى الصغر أو الكبر أو قاعدا أو قائما أو عاريا أو كاسيا وهذه الأمور غريبة عن ماهية الانسان فليس للخيال هذا الادراك ولا أيضا للابصار وهو حاصل فينا فهو إذن بقوة أخرى وتلك القوة هى المطلوب المسمى عقلا وبهذه القوة يقتنص الانسان العلم بالمجهولات بواسطة الحد الأوسط فى التصديقات وبواسطة الحد والرسم فى التصورات وتكون الادراكات الحاصلة فيها كلية لأنها مجردة فتكون نسبتها إلى آحاد جزئيات المعنى نسبة واحدة وليس ذلك الشىء لسائر الحيوانات سوى الانسان ولهذا كانت كلها على نمط واحد فى جهلها بوجه الحيلة للخلاص مما يشق عليها مع اختلاف أنواعها وليس لها إلا مقدار حاجتها فانها تخص بالطبع على سبيل الالهام والتسخير فاذن خاصية الانسان التى لا يشاركه فيها الحيوانات هى التصور والتصديق بالكليات وله استنباط المجهول بالمعلوم فى الصناعات وغيرها وهاتان القوتان مع سائر القوى كلها لنفس واحدة كما سبق* ثم نقول أن للقوة العقلية مراتب ولها بحسبها أسامى فالمرتبة الأولى أن لا يحصرها شىء من المعقولات بالفعل بل ليس لها الاستعداد والقبول كما فى الصبى وتسمى حينئذ عقله عقلا هيولانيا وعقلا بالقوة ثم بعد ذلك يظهر فيه نوعان من الصور المعقولة.
(أحدهما): نوع الأوليات الحقيقية التى تقتضى طبعها أن تنطبع فيه من غير اكتساب بل تقبلها بالسماع من غير نظر كما بيناه.
(والثانى): نوع المشهورات وهى فى الصناعات والأعمال أبين فاذا ظهر فيه ذلك سمى عقلا بالملكة أى قد ملك كسب المعقولات النظرية قياسا فان حصل بعد ذلك فيه شىء من المعقولات النظرية باكتسابه إياها سمى عقلا بالفعل كالعالم الغافل عن العلوم القادر عليها مهما أراد فان كانت صورة العلوم حاضرة فى ذهنه سميت تلك الصورة عقلا مستفادا أى علما مستفادا من سبب من الأسباب الالهية يسمى ذلك السبب ملكة أوعقلا فعالا ولا يجوز أن تكون هذه الادراكات بآلة جسمانية بل المدرك لهذه المعقولات الكلية جوهر قائم بنفسه ليس بجسم ولا هو منطبع فى جسم ولا يفنى بفناء الجسم بل يبق حيا أبد الآبدين إما متلذذا وإما متألما وذلك الجوهر هو النفس ويدل على كون إدراك العقل بغير جسم عشرة أمور سبعة هى علامات قوية مقنعة بعدمها وثلاثة هى براهين قاطعة.
অজানা পৃষ্ঠা