ذلك أن الشاب حين يقف مترددا بين فتاتين يريد اختيار إحداهما للزواج يحس عنة، أي: عجزا جنسيا، فإذا ما استقر رأيه على إحداهما زالت عنه هذه العنة.
والاشتهاء الجنسي هو في ذاته اشتهاء ذهني، والقوة الجنسية هي نتيجة هذا الاشتهاء، فإذا تردد الشاب في اشتهائه فقد هذه القوة، وإذا زال التردد عادت القوة.
والأديب الذي يتردد بين الحق والباطل، أو بين الانضواء إلى القوى الرجعية والانضواء إلى القوى التجديدية، يحس احتباسا ذهنيا، عنة ذهنية، تصده عن الانطلاق الحر في التفكير، وهو لذلك لا يحسن الكتابة والتأليف حتى حين يختار هذا الشرق بتقاليده ورجعيته وهو على وجدان باختياره؛ لأنه يبقى في أعماق نفسه كارها لاختياره، كأنه قد رفض الزواج من فتاته الجميلة إيثارا لفتاة دميمة لا يحبها ولكنه يطمع في مالها.
وأدباؤنا الذين مالوا إلى الشرق بتقاليده ورجعيته يحسون هذه العنة الذهنية، بل يحسها القراء منهم، ويصدون عنهم، وفي مصر ألوان عديدة من الإغراء تجر الكاتب الملهم نحو الشرق، فتفقده إلهامه ويحتبس ذهنه، وهو عندئذ لا يحسن حتى الكتابة عن الشرق، ولكنه يحمل نفسه، مع عنته، على الدفاع عن التقاليد والرجعية؛ لأنه يجد في هذا الدفاع ثراء وطمأنينة ومقاما، وضميره يهمس إليه بأنه خائن.
وقد سبق أن قلنا: إن التوتر هو الشرط الأول للغلو، ولا يستطيع كاتب متردد أن يتوتر ويغلو، ولذلك لا يستطيع أن يحقق النبوغ فضلا عن العبقرية.
ثم هناك خيانة أخرى هي تلك القوانين التي سنها دعاة الاستعمار والاستبداد لتقييد الأقلام وأحيانا لقصفها، وذلك لأنهم يعرفون أن أعلى الأصوات هذه الأيام هو هذا الصوت الخافت الذي يصدر عن صرير الأقلام؛ إذ هو يزعجهم إزعاج قنابل المدافع، وخاصة في يد الكاتب الذي لا يتعب من الحديث عن حي بولاق وما يعانيه الإنسان المصري فيه من قبح وشقاء.
وإن الكاتب الذكي ليحتاج في مصر أحيانا أن يخفي ذكاءه، وأن يزعم أنه جاهل خشية الاستبداد الذي يحيق به ويرتب له ألوانا من عذاب الفقر والسجن والاضطهاد، ولكني مع ذلك أعتقد أن الكاتب الذي يخون أدبه، ويفر ذهنيا ونفسيا من حي بولاق، وينتكس إلى مغارة التاريخ الماضي، هو أخطر علينا من أية قيود تفرضها حكومة مستبدة وتمنع بها الكتب أو تقصف بها الأقلام. •••
إن للكاتب المصري مشكلات عديدة، ومشكلة اللغة قد تعد في مقدمة المشاكل الماثلة، ذلك أننا نعالج موضوعات عصرية بلغة غير عصرية، وإنك لتجد من كتابنا من يحاولون الكتابة بلغة الجاحظ مع أنه بالرغم من براعته في عصره لم يعد يلائمنا؛ إذ هو كان يختار الكلمة التي تجري على ألسنة الفقهاء، والتي تشير إلى الصحراء، وكان يخاطب الأمراء والوزراء ، ولم يرسم في ذهنه جمهورا من هذه الجماهير التي نخاطبها، ولم يعالج موضوعا من هذه الموضوعات التي نعالجها.
ونحن إذ نخاطب جمهورا ديموقراطيا يجب علينا أن نتخذ اللغة الديموقراطية، وإذا كانت كتب البلاغة لم تذكر شيئا عن اللغة الديمقراطية، فلأن مؤلفيها لم يعيشوا قط في نظام ديمقراطي، وهي، أي: كتب البلاغة، لم تذكر أيضا شيئا عن اللغة الصحفية؛ لأنها ألفت قبل ظهور الصحافة، كما أنها تجهل السينمائية.
إن كتب البلاغة في حاجة إلى تصفية وإلى تجديد، بل يحق لنا أن نتساءل: هل نحن في حاجة إلى قواعد البيان والبلاغة؟ ألا نستطيع الاستغناء عنها ونعترف بالواقع، وهو أن الكاتب لا يحتاج إليها؟
অজানা পৃষ্ঠা