ذلك أن الكارثة الخاصة تحدث لنا توترا قد لا تحدثه الكارثة العامة، فإذا كنا على شيء من الذكاء فإن هذا التوتر يبعث فينا غضبا أو حزنا، نجعل منه مادة فنية جديدة للقراء؛ لأن مشكلتنا الشخصية تعود مشكلة عامة للبشر، ومأساتنا الفردية مأساة المجتمع كله.
وكاتب بلا توتر، وبلا قلق، وبلا جنون، لا يساوي ثمن الحبر الذي يكتب به، فنحن نقلق ونسخط، ثم نتوتر، إذا كنا نجد في الوسط الذي نعيش فيه من الأخطاء والعلل ما يستحق غضبنا وتوترنا، ولكن نوبة القلق، نوبة التوتر، نوبة الجنون، لا تلائم الكتابة.
ولذلك يحتاج الكاتب المتوتر إلى فترة من الحضانة أو الاختمار، يبدأ عقبهما فيكتب، كما لو كان شخصا آخر غريبا، أي: يكتب في وجدان وتعقل.
إن الأديب يحتاج إلى البر العاجي، ولكن لا ليعيش فيه، وإنما ليعتكف فيه، ويلجأ إلى خلوته بعض الوقت، كي يتأمل الحوادث ويفكر فيها ويتدبرها، وإذا كانت السوق هي ميدان الصحفي التي يدرس فيها تتابع الحوادث، فإن ميدان الأديب يجب أن يشمل السوق والبرج العاجي معا، الأولى للاتصال بالمجتمع ودراسة الأشخاص والأشياء، والثاني للتأمل والاستنتاج.
والصحفي ينقل إلينا الحوادث فور وقوعها، ولكن الأديب ينقلها إلينا بعد الاختمار والتدبر اللذين يحتاجان إلى أيام أو إلى سنوات.
وعالمنا في ارتباط أفكاره واشتباك أممه، يتطلب من الأديب أن يكون صحفيا، يرتبط بالمجتمع، ويدرس المذاهب السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية التي تفشو فيه، ثم ينقلها، في برجه العاجي، إلى الشعر أو النثر، إلى الأدب. •••
الأسلوب الحسن هو ثمرة الرجل الحسن، ذلك لأننا نكتب في الكتاب أو الجريدة كما نخاطب أصدقاءنا في الشارع أو الغرفة، فإذا كنا على أخلاق حسنة فإننا لا نغش أصدقاءنا، بل هم يجدون منا الصراحة والأمانة والكلمة المكشوفة التي لا تضمر خبيئة، وكذلك الشأن في الكتابة؛ لأن أسلوبنا هو أخلاقنا.
هذا هو الأساس في الأسلوب، ولكن كما يكون المشي رقصا، وكما يكون الكلام غناء، كذلك يمكن، بل يجب أن نعمد إلى الجمال في التعبير ونهدف إلى شيء من الإيقاع حتى في النثر.
والأسلوب هو الشخص، هو الشخصية، وأعظم ما يرفع من شأن الشخصية هو هذا الغلو الذي يلازم العظيم في عظمته، الغلو في بيرون الشاعر، في سعد زغلول، الغلو في فولتير، والأسلوب العالي هو ذلك الذي ينطوي على غلو، ولكننا لا نستطيع أن نفتعل الغلو، ولو فعلنا لما زدنا على التهريج.
وإذن يجب أن يكون الغلو أصيلا في الكاتب، وهو لن يكون أصيلا إلا إذا كان الكاتب يتوتر من المساوئ والكوارث، ثم يحضن بالتأمل هذه المساوئ والكوارث، كما تحضن الدجاجة بيضها، أي: يتعقل ويكتب عن روية وتدبر.
অজানা পৃষ্ঠা