وتقرب نابليون إلى المصريين وحاول استمالتهم بأن وعدهم بأن يكونوا هم سادة وطنهم دون الشركس والترك، ولكن العنصر المصري لم يستجب إلى هذا النداء، أولا لأن نابليون كان مسيحيا، وثانيا لأن الإذلال الذي مارسه الشركس والترك كان قد أحدث ذلا بين الشعب المصري.
وشتت نابليون المماليك وبعثرهم في الصعيد وسوريا، وألف مجلسا نيابيا من المصريين في القاهرة كان بالطبع يريد أن يعتمد عليه للاستشارة فقط.
ولكن الشعب كان قد تخبط في فوضى نحو ثلاث مئة سنة، وكان قد هوى إلى حضيض من الذل والفقر والجهل بحيث لم يتفهم العبرة في هذا الإنسان الجديد، نابليون الذي كان ينظر إلى الدنيا بعينين قد رأتا الثورة، كما كان يحس بقلب قد عرف أن باريس قد قتلت ملكين لاستبدادهما.
والحق أن نابليون لم يكن جنديا عظيما فقط، بل كان إنسانا جديدا. كما نرى مثلا من جلبه للمعلمين إلى مصر، ومن تأليفه لجنة لسن القانون الذي يعزى إليه، وهذا القانون الذي أخذنا نحن به أيام إسماعيل، كان يعزى إليه في أكثر من معنى، فإنه كان يتدخل في أعمال اللجنة التي كانت تسنه، وكان يشير عليها بما يجب من حذف أو إثبات أو تنقيح.
وقد روى لنا الشيخ الجبرتي أشياء كثيرة عنه، فقد أطار بلونا يحمل بعض الجنود في سماء القاهرة، وأنشأ المطاعم التي كان الجبرتي يتعجب من نظافتها وسرعة الخدمة فيها، وأنشأ «مؤسسة مصر» التي لا تزال حية إلى الآن، وقد رأى الجبرتي فيها عجائب من الكيمياء، مواد تمتزج بمواد فتخرج منها مواد أخرى تختلف لونا وقواما عما كانت عليه قبل الامتزاج ...
وقد كان هذا بعض «العلم» الجديد الذي كانت أوروبا تدرسه بعد أن تفشت فيها الصناعات وتطلبت البحث والاستقراء للوقوف على الحقائق التي تزيد الإنتاج.
وللأسف لم يفهم الجبرتي ولا غيره من المصريين شيئا من هذا النور الجديد الذي تهيأت به أوروبا بعد ذلك لاقتحام المستقبل والاستيلاء على العالم، ولكنهم فهموا وعرفوا، أن هناك آفاقا رحبة من الأمم والأقطار التي لم يسبق لهم أن سمعوا عنها، وعرفوا فوق ذلك هذه الحقيقة الكبرى، وهي أن المماليك ليسوا من القوة والعظمة بحيث لا يمكن الانتصار عليهم، بل كذلك عرفوا أن الأتراك ليسوا هذه «الدولة العلية» التي لا يمكن التمرد على سلطانها.
وكان محمد علي من نتائج حملة نابليون، فإنه جاء لاسترداد سلطة الباب العالي، واختاره العلماء والأعيان بقيادة العظيم عمر مكرم، وكان محمد علي يتظاهر أمامهم بالأمانة والخضوع لهؤلاء الذين اختاروه ولكنه صار ينظر إليهم ويعاملهم معاملة الأسياد للعبيد، معاملة المماليك للمصريين، وهذا هو ما أسخط عليه عمر مكرم وجعله يندم على الأمانة التي وضعها في غير موضعها.
ولما استقر الحكم لمحمد علي أخذ يستعين برجال الحملة الفرنسية أنفسهم ويستخدمهم في تقوية الجيش المصري وتزويده بالذخائر والأسلحة، بل صار يستجلب المعلمين للتدريس في المدارس لخدمة الجيش، والجيش وحده، دون الشعب المصري.
ومع ذلك تجاوزت نهضة محمد علي الحربية إلى الشعب كما هو الشأن في مثل هذه النهضات، فبقيت بعض المدارس بعد وفاته، وتعلم فيها المصريون، كما أن شامبليون استطاع أن يهتدي إلى حجر رشيد ويرتفع به إلى كشف اللغة، أو بالأحرى الخط الهيروغليفي، وانفتح للعالم بذلك أوسع الأبواب للوقوف على أسرار الفراعنة.
অজানা পৃষ্ঠা