ولكن تولستوي طرد من الكنيسة لأنه قال عن المسيح: إنه لا يجد فيه غير رجل إنسانى عظيم لا أكثر، وإن السلوك المسيحي هو السلوك العملي. نظر بعقله وطردته الكنيسة الروسية من حظيرتها؛ لأنه استعمل عقله.
أما ثالثهم جوركي، الذي يشترك معهما في النزعة الإنسانية، فإنه يفترق منهما بأنه أديب الثورة، وهذا اختلاف كبير بل خطير.
فإن دستوفسكي يكاد يتمرغ في الألم ويلتذ ألمه، وتولستوي لا يجد للإصلاح غير المسيحية، نطبقها على كل شئوننا الاجتماعية، ولكن جوركي يثور ثورتين: على المجتمع وعلى الحكومة.
وهو لا يؤمن بالمسيحية أو بأي دين آخر، ولكنه يؤمن بالإنسانية، بالإنسان، بالشعب، بالعلم، الفضائل عنده هي من صنع الإنسان، والمخترعات والمكتشفات هي من صنع الشعب، وهو اشتراكي شعبي في سياسته وأدبه، يكتب بلغة الشعب، وتنطوي كل قصة له على مسألة اجتماعية.
وروسيا إلى سنة 1917 كانت مدوسة مسحوقة بالقيصر والنبلاء، بل حتى بالكنيسة، وكلنا يذكر راسبوتين، وفي هذه الظروف لم يكن مفر لكاتب إنسانى، شعبي أن تكون رسالته ثورية. هو ثائر على ما يقيد حرية الفكر من كتب العقائد المضللة، وهو ثائر على الجهل والتواكل والاستسلام، وهو ثائر على التجاريين والصناعيين الذين يجمعون الثروات بعرق العمال ويحرمونهم العيش اللائق، وهو يدعو إلى العلم وإلى الاشتراكية، ولكنه قبل هذا وفوق هذا، يدعو إلى أن يحيا الإنسان حياته كما يرسمها لنفسه مستقلا أبيا شجاعا.
الحياة عند جوركي هي أجمل ما في الكون، والحياة الحية الناهضة هي لباب الجمال، ويجب ألا ننسحب من الحياة في نسك أو عزلة، ويجب ألا نقنع بالكفاف، ونجبن عن الإقدام ونلجأ إلى الكهوف ونختبئ.
وأبطال جوركي هم العمال الذين نهضوا، فغسلوا رءوسهم من الجهل والخرافات، وتعلموا وقرأوا، وأصبحوا ثائرين، أبطال قصصه يمثل كل منهم فترة من فترات الحياة عند جوركي نفسه، بل إن حياته تختلط بمؤلفاته، ومن هنا ما فيها من صدق وكفاح. •••
حياة جوركي هي مؤلفاته، ومؤلفاته هي حياته.
فقد ألف كتابا في ثلاث مجلدات، عن تاريخ حياته، نقرأه ونحس في كثير من صفحاته أننا نقرأ إحدى قصصه الواقعية، وجميع قصصه واقعية منتزعة من اختباراته، ولكنها أيضا خيالية يجري فيها الواقع بكل فظائعه ومآسيه، كما يسري فيها الخيال والحلم عن المستقبل الناضر والسعادة المنتظرة.
فإنه يروي السفالة والخسة والفظاظة في حياة الدهماء، ولكنه إلى ذلك يرسم لنا خطوط الآمال في قدرة الإنسان على التعقل والتطور والسيطرة على الطبيعة والآلة.
অজানা পৃষ্ঠা