ثم إنه استعد للانصراف إلى حبسه وهو ساخط على يومه، راض عن أمه، فقلت له: إلى أين وقد فرج عنك الكرب، ونجوت وزال عنك الخطب، وتخلصت من الطبقة والتصفيد، وبلغت - بمنه تعالى - فوق ما تريد؟ فقال ودمعه في انهمال، ونيران جواه في اشتعال: يا بني، جزيت عني خيرا، ولا لقيت من زمانك ضيرا، كيف السبيل إلى الخلاص، وليس لي عن السجن مناص؟! وكيف أرمي ولدي باتباعك في مهاوي الفضيحة، وأكشف الغطاء عن أفعاله القبيحة؟ وإن أجلي قد أخذ في الاقتراب، وشمس حياتي قد توارت بالحجاب، فقلت له: لا تخش على ولدك من الفكاك العار، فإن لي التزاما بعيد المزار، أسيرك إليه في غد؛ بحيث لا يشعر بك أحد، فقال لي: لا سبيل إلي ما جنحت إليه؛ لأن ذمتي لا تطاوعني عليه، فقلت له: إن أبيت إلا الإصرار على الإقامة في غيابة الجب إلى يوم القيامة، فأنا أسعى في خلاصك منه بالقوة القهرية، وأفضح ولدك بين البرية، فقال لي: يا بني، سر على مهل ولا تعجل، فالجزاء من جنس العمل، وكما يدين الفتى يدان، وإني مستحق لهذه العقوبة من قديم الزمان؛ فإني قتلت والدي في حب المال، وجرعته بيدي كأس الوبال، وهذه آثار دمه على الجدار تشهد علي بأني رميته بسهام البوار. فلما عرفت حقيقة الخبر، ووقفت على جلية الأثر، تبين لي أن الوالد أشقى من الولد، وأن عذابه في الآخرة أشد، وكان الليل قد أدبر، والصبح قد أسفر، فانطلق وهو أبغض إلي من قاتل ابن جبير، ولسان حالي يتمثل فيه بقول البهاء زهير:
بحق الله متعني
من ذاتك بالبعد
فلا تصلح للهزل
ولا تصلح للجد
فلا صبحت بالخير
ولا مسيت بالسعد
فكان آخر عهدي بهذا الجار أول انقطاعي عن سماع مثل هذه الأخبار، فخرجت من داره، عازما على عدم ازدياره، قائلا في نفسي: لا راد لما قضاه الله وأراده، راجيا منه سبحانه أن يختم لنا بالحسنى وزيادة.
المقالة الثانية
في التصريح بحميد الأخلاق، والتلويح بالتوبة عن الاعتراض على الرزاق
অজানা পৃষ্ঠা