ثقلت مئونتها على الأعناق
وحضرت المائدة بالأطعمة، فدعاه إليها وعلى سواه قدمه، فامتنع الشيخ وتأخر، وأحجم عند الإقدام وتقهقر، وقال: معاذ الله أن يأكل السائل المسكين، مع حضرة الرئيس الأجل المكين؛ لأنه لا يسوغ للصعلوك، الذي لا يساوي قلامة ظفر مملوك، أن يتجارى على الأكل مع المالك، ولو ساقه الجوع إلى المهالك، وكيف يجلس معه على خوان، يتعذر الدنو منه على الوجوه والأعيان؟! فقال له الرئيس النبيل: هذه عادتنا مع الحقير والجليل، ولا زال يدعوه إلى الزاد وهو يمتنع، ولونه من شدة الخجل ينتقع، إلى أن تقدم لكن على رغم أنفه؛ لأنهم كانوا يقودونه من أمامه ويسوقونه من خلفه، ولما قعد للأكل ولم يتفق له ذلك من قبل، مد يده وهي في غاية الارتعاش، وتناول أول لقمة فسقطت على الفراش، وهكذا كان يأكل بخوف ووجل، وكأن حلقه مسدود بصخرة من جبل، مع أنه كان يتأتى له في غير هذا الخوان، ابتلاع عشرة أرغفة بفخذ من الضان، ولا شك أنه ما تحصل من هذه المائدة الكثيرة على شبع، بل قام جائعا يتمنى الأكل مرة أخرى مع التبع، إلا أنه قد حيل بينه وبين المرام؛ لخوفه من التوبيخ والملام، ولما فرغ من غسل يديه، وانتصب أمام الرئيس على رجليه، أشار إليه بالقعود، وأجاب بالركوع والسجود، فألح عليه حتى جلس فوق بساط منقوش، في قاعة بجوار قاعة المائدة مفروش، وبعد أن شرب القهوة، ازداد فرحا ونشوة، وبات إلى الصباح وهو في سرور وانشراح، ثم خرج من القصر ولسان حاله يقول، وفي طريقه يجول:
تبدل عسري بيسر وقد
بلغت من الدهر كل المنى
فيا رب زدني قبولا به
أعيش سعيدا حليف الغنى
وكان برفقته أحد غلمان الدار، فأخذه معه في السير إلى جهة اليسار، حتى أوصله في عطفة مائلة، إلى المنزل الذي نقلت إليه العائلة، ثم تركه وانصرف من حيث أتى، ودخل هو على زوجته فسمعها تقول لأحد أولادها: يا فتى، أين أبوك الأقرع بن شعلان؟ فإنه لو رأى ما نحن فيه من الخير والإحسان، لزال عنه الهم والترح، ولبكى من شدة الفرح، تالله يا قرة العين، وحياة أختك أم بطنين، إني أطن أننا الآن في منام، والذي نحن فيه أضغاث أحلام. فقال لها وقد لاحت منه التفاتة إلى جهة الباب: هذا أبي قد أقبل يرفل في أبهج أثواب، فعند ذلك هرولت الشيخة بملابسها الجديدة إليه، وقبلت يده وسلمت بالاشتياق عليه، وقالت له: يا أبا الأطفال، من أين لنا هذا الإقبال؟ فقال لها: يا بنت عبد الله، هو من عند الله، ثم قص عليها ما جرى من أوله إلى آخره، وأوقفها على باطنه وظاهره، وقال لها: وأنت أخبريني كيف كان الانتقال، من دويرتنا الحقيرة إلى هذا المنزل العال؟! فقالت: جاءني جماعة من الغلمان، بأقمشة صالحة للبنات والصبيان، وقالوا: إن الشيخ بعث بها إليكم فالبسوا منها ما شئتم، فإنه فصلها عليكم، وسيروا بنا إلى الدار التي اشتراها برسمكم، وأعدها بجوار قصور الأعيان والأمراء لكم، فلما توسطناها وطفنا بما فيها من المناظر والمخادع، والأروقة الواسعة المطلة على الدور والجوامع، وكان طوافنا فيها بالذكور والإناث، وجدناها بديعة الهندسة كاملة الأثاث، وألفينا بها من الحنطة والسمن والعسل، والفول والزيت والزيتون والثوم والبصل، ما يكفي بلا تردد في القول، مدة لا تنقص عن نصف حول، وها هي أمامك وبين يديك، فطف بها إن لم يكن في الطواف مشقة عليك. فقال لها وقد تبسم، وهو بمدح المنعم عليه يترنم: قولي معي في الابتهال، بعد الصلاة على النبي والآل: اللهم بارك لنا فيما أعطيت، ومتعنا بزيارة ساكن طيبة وحج البيت، وانظر بعين الرضا والقبول، والرعاية الكاملة والشمول، إلى من عمنا من بحر كرمه، بوافر هباته ونعمه.
وكان الليل بظلامه أقبل، والنهار بضيائه تحول، فأكلوا حتى اكتفوا مما تهيأ لهم من الطعام الفاخر، وحمدوه سبحانه على ما اغترفوا من بحر جوده الزاخر ، وباتوا في مسرات وأفراح، إلى أن أشرقت غرة الصبح الوضاح، ثم نهض من نومه كأنما نشط من عقال، وصلى صبحه وأفرغ عليه ملابسه في الحال، وأكل مع أولاده ما تيسر، وخرج من داره واكترى من السوق حمارا أخضر، فركبه وانساب في الأزقة والشوارع، فالتقط كل خبر شائع، وسارع بما جمع إلى مولاه، فقص عليه ما سمع من الأفواه، ويا ليته باع كما شرى، بل أضاف إلى كل لفظة من أمثالها عشرا، فحظي عنده بأعلى منزلة، وبالغ في احترامه وبجله، وقال له: أيها الشيخ المعمر، ومن هو نعم السمير المدبر، اركض بخيلك ورجلك ولو في الدواوين والمصالح، وأتحفني بأخبار المقيم والغادي والرائح، وإن لاح لك في مدحي فرصة، فانتهزها عسى تزول بها عني الغصة؛ لأعود يا أبي، كما كنت إلى منصبي. فأجابه الشيخ بالطاعة والسمع؛ لطمعه في الحصول منه على النفع، ثم ودعه وانقلب إلى داره، وأمر كلا من زوجته وأولاده بالتجرد عن أطماره، وصعد بهم في الثلث الأخير من الليل على السطح، وكان يحفظ من القرآن الشريف سورة الفتح، فتلاها بسكينة وخشوع، وقد تناثرت من عينيه الدموع، وقال: يا أولادي، أنتم تعلمون ما كنا فيه من الفقر، وعري البدن والفاقة التي تقصم الظهر، وإن هذا الرجل المحسن تكفل لنا بالمئونة والكسوة، ودفع عنا بما وصلنا به من الإحسان ما كان للزمن من الجفوة، فارفعوا أكف الضراعة بإخلاص، واطلبوا منه جل وعلا إنقاذه من ضيق الأقفاص، وعودته إلى ما كان عليه من الإقبال، وامتيازه في الدرجة عن الأقران والأمثال، وقد استمر معهم على ذلك نحو سنة، لا تأخذهم فيها عند السحر نوم ولا سنة.
فلما كان في أول ليلة من شهر الصيام، خلعوا ملابسهم والناس نيام، ودعوا وعليهم أمنت الوالدة، وكانت أبواب الدعاء مفتحة والأيام مساعدة، فاستجيب دعاء الوالد والأفراخ، وانتشل الرئيس من وحلة الطرد وما له من الأوساخ، وذكر عند الوزير بخير في الديوان فأمر برده إلى منصبه، وانجلت عنه غياهب الحرمان، وعند فراغ الشيخ في صبيحة هذه الليلة من عبادته سعى إلى خدمته على حسب عادته، فتعذر عليه الوصول إلى الجناب، بسبب ازدحام الحمير والبغال والخيل على الباب، ولما أعياه ذلك، وضاقت عليه المسالك، قال لبعض الخدم، وكان اسمه كعب بن قدم: كيف السبيل إلى لقاء السيد الجليل؟ فقال مستهزئا به وقد رجمه بالحصى، وضربه على كتفيه بالعصا: من أنت أيها الحقير، حتى تحظى بمقابلة الرئيس الخطير؟ إني أظن يا سخيف العقل أنك مجرد من حلية الفضل، أيخطر ببالك أنه باق على عهده القديم، أو أنه يجد وقتا يستغرقه في منادمة النديم؟! أما علمت يا خرفان أنه تحول من شان إلى شان، وأنه أماط عنه جلباب التواضع والفتور، واستعد لمباشرة الأمور، وكأن به قد أهمل الرفيق، وتغافل إلا عن الرحيق.
فقال له الشيخ: كذبت فيما ادعيت، ولا جرم أنك عليه افتريت، وسأقص عليه خبرك؛ ليقطع من الدنيا أثرك، فقال الخادم: يا شيخ الضلال سترى، أن مثلي ما كذب وما افترى، وكان الأقرع قد تعب من طول مدة الوقوف، فرجع إلى داره بالخيبة والكسوف، وبمجرد دخوله العتبة، قال له ابنه أبو رقبة: يا أبتي، إن الراتب ما أتي به في هذا اليوم، وإنه لا قدرة لنا في الليل والنهار على الصوم؛ فسكت الشيخ على مضض، وقد اعتراه من شكوى ولده المرض؛ لأن عائلته لما كانت كثيرة العدد، كان لا يبقى من مرتبها اليومي أدنى شيء إلى غد، ويقال إنهم باتوا في هذه الليلة بلا زاد، وإن أحوالهم قد تبدلت بعد الصلاح بالفساد.
অজানা পৃষ্ঠা