في تلك الأيام كان الناس في البلدة بوجه عام يتعالون على القرويين وينظرون إليهم على أنهم أكثر منهم اتصافا ببطء الفهم وانعقاد اللسان والهمجية، وأكثر انصياعا نوعا ما رغم ما لهم من قوة. وكان القرويون يرون أن قاطني البلدات يتمرغون في الحياة السهلة المرفهة، ومن غير المحتمل أن ينجحوا في تجاوز المواقف التي تتطلب الجلد والاعتماد على النفس والكد والاجتهاد. كانوا يؤمنون بذلك على الرغم من حقيقة أن الساعات التي يقضيها الرجال في العمل داخل المصانع أو المتاجر كانت طويلة والأجور متدنية، على الرغم من حقيقة أن العديد من البيوت في البلدة ليس بها ماء جار أو مراحيض دافقة أو كهرباء. ولكن الناس في البلدة كانوا يحظون بإجازة في أمسيات أيام السبت أو الأربعاء وكامل يوم الأحد، وكان هذا كفيلا بألا يكونوا جلدين. أما المزارعون، فلم يحظوا ولو بيوم إجازة واحد في حياتهم، ولا حتى من ينتمون إلى الكنيسة المشيخية الاسكتلندية؛ فحتى الأبقار لا تحصل على راحة يوم الأحد.
حين كان أهل الريف يأتون إلى البلدة بغرض التسوق أو الذهاب إلى الكنيسة، فغالبا ما كان يبدو عليهم الخجل والرسمية الشديدة. ولم يكن أهل البلدة يدركون أن هذا قد ينظر إليه باعتباره سلوكا يدل على السمو والترفع؛ السلوك الذي يسعى صاحبه من ورائه إلى عدم السماح لأحد منهم بأن يجعل منه أضحوكة. ولم يكن المال يحدث فارقا كبيرا. وربما كان المزارعون يحافظون على مخزونهم من الكبرياء والحذر في وجود المواطنين الذين لهم سيطرة عليهم.
قال أبي فيما بعد إنه قد التحق بالمدرسة التكميلية في سن صغيرة جدا، لم تمكنه من معرفة ما كان يفعل، وإنه كان عليه أن يبقى هناك، وكان عليه أن يجعل من نفسه شيئا ذا قيمة. ولكنه قال إن هذا كان أمرا شكليا تقريبا، كما لو أنه لم يكن بالأمر الذي اهتم به كثيرا. ولم يكن الحال وكأنه قد ترك المنزل مع أول إشارة إلى أن ثمة أشياء لم يكن يفهمها. لم يكن واضحا تماما فيما يتعلق بالمدة التي مكثها هناك. ربما ثلاثة أعوام وجزء من الرابع، أو عامان وجزء من الثالث. ولم يترك المدرسة فجأة؛ فلم تكن المسألة مسألة الذهاب إلى المدرسة في أحد الأيام ثم التخلف عن الحضور في اليوم التالي وعدم الذهاب مجددا. بل بدأ في قضاء المزيد والمزيد من الوقت في الأحراش ووقتا أقل في المدرسة، حتى قرر والداه أنه لا جدوى من التفكير في إرساله إلى بلدة أكبر لقضاء عامه الدراسي الخامس، وأنه ليس ثمة أمل كبير في أن يلتحق بالجامعة أو يدخل الحياة المهنية. كان بإمكانهما تحمل نفقات ذلك - وإن لم يكن بسهولة - ولكن كان واضحا أن تلك لم تكن رغبته. ولم يكن بالإمكان اعتبار ذلك خيبة أمل كبيرة؛ فقد كان ابنهما الوحيد، وكانت المزرعة ستئول إليه.
لم يكن يوجد ريف بري في مقاطعة هورون حينذاك أكثر مما يوجد الآن. ربما كانت مساحته أقل؛ فقد قطعت أشجار المزارع تماما في الفترة ما بين عامي 1830 و1860، حين كان يتم افتتاح منطقة هورون. وجرف العديد من الجداول المائية؛ وكان الشيء التالي الذي يجب القيام به هو تعديلها لكي تجري مثل القنوات المحددة المسار فيما بين الحقول. كان المزارعون الأوائل يكرهون رؤية منظر أي شجرة، ويعجبهم منظر الأرض الزراعية المنبسطة. وكان الأسلوب الذكوري في التعامل مع الأرض إداريا وديكتاتوريا. النساء وحدهن هن من كن مسموحا لهن بالاعتناء بالطبيعة وعدم التفكير دوما بشأن ترويضها وإنتاجيتها، فقد كانت جدتي، على سبيل المثال، معروفة بأنها قد أنقذت صفا من أشجار القيقب الفضي بطول الشارع الموجود به منزلنا، كانت هذه الأشجار تنمو بجوار حقل زراعي، وكانت تزداد ضخامة وهرما، حتى إن جذورها كانت تتداخل مع عملية الحرث، وكانت تظلل جزءا أكبر مما ينبغي من المحصول. فخرج جدي وأبي في صباح أحد الأيام وعزما على قطع أولى هذه الأشجار. ولكن جدتي رأت من نافذة المطبخ ما كانا على وشك أن يفعلاه، وأسرعت وهي ترتدي مريلتها وعارضتهما على نحو غاضب، ووبختهما، ومن ثم اضطرا في النهاية لحمل فأسيهما ومنشار القطع المتعارض الخاص بهما ومغادرة المكان. وبقيت تلك الأشجار وأفسدت المحصول على حافة الحقل حتى جاء شتاء عام 1935 الفظيع وأجهز عليها.
ولكن القانون كان يلزم المزارعين بتخصيص قطعة أرض في الجزء الخلفي من مزارعهم لزراعة الأشجار. وكان بإمكانهم تقطيع الأشجار هناك بغرض الاستخدام والبيع على حد سواء. وبالطبع كان الخشب هو محصولهم الأول؛ فاستخدم خشب الدردار التوماسي في صناعة ضلوع السفن الهيكلية، والصنوبر الأبيض في صناعة صواريها، حتى إنه لم يعد متبقيا أي من هذين النوعين من الأخشاب إلا فيما ندر. وفي ذلك الحين، صارت هناك حماية قانونية لما تبقى من أشجار الحور والدردار والقيقب والبلوط والزان والأرز والشوكران.
عبر الأرض المخصصة لزراعة الأشجار - وتسمى الأحراش - في الجزء الخلفي من مزرعة جدي، كان يتدفق جدول بليث، الذي كان قد جرف منذ زمن طويل حين قطعت أشجار المزرعة لأول مرة. جرفت الأرض ثم كونت ضفة عالية نمت عليها أجمات كثيفة من أشجار الأرز. كان هذا حيثما بدأ أبي الصيد بالشراك. فقد ترك المدرسة وبدأ يقتحم عالم صيد حيوانات الفراء. كان يمكنه تتبع جدول بليث لعدة أميال في أي من الاتجاهين حتى منبعه في بلدة جري أو المكان الذي يصب فيه في نهر ميتلاند الذي يصب في بحيرة هورون. في بعض الأماكن - على الأخص في قرية بليث - كان الجدول يصير مرئيا للعيان لبعض الوقت، ولكن معظمه كان يجري عبر الأجزاء الخلفية من المزارع، حيث تصطف الأحراش على كلا جانبيه، ومن ثم كان من الممكن أن تتبعه دون أن يقع ناظريك على المزارع، والأرض المقطوع شجرها، والطرق الممهدة، والأسوار؛ كان من الممكن أن تتخيل أنك وسط الغابة مثلما كانت قبل مائة عام مضت، ولمئات الأعوام قبل ذلك.
كان أبي قد قرأ كثيرا من الكتب في ذلك الوقت، الكتب التي وجدها في المنزل وفي مكتبة بليث وفي مكتبة مدرسة الأحد. كان قد قرأ كتبا لفينيمور كوبر، واستوعب الخرافات وأشباه الخرافات عن البرية التي لم يكن معظم الصبية القرويين من حوله يعرفون عنها شيئا، لما كان قليلون منهم فقط هم من كانوا يمارسون القراءة. كان معظم الصبية الذين أشعلت خيالاتهم نفس الأفكار التي كان يتبناها يعيشون في المدن، وإذا كانوا أثرياء بالقدر الذي يسمح لهم بالسفر شمالا كل صيف مع عائلاتهم، فقد كانوا يذهبون في رحلات بالقوارب وفيما بعد في رحلات لصيد الأسماك والحيوانات. وإذا كانت عائلاتهم أثرياء بحق، فإنهم كانوا يجوبون أنهار الشمال الأقصى بصحبة مرشدين من الهنود. كان الناس الذين يسعون لهذه التجربة في البرية يمرون بسياراتهم على ريفنا دون أن يلاحظوا وجود ولو جزء من البرية هناك.
ولكن الصبية المزارعين من مقاطعة هورون، الذين كانوا يعلمون بالكاد بشأن هذا الريف الكبير العميق الذي يشكل جزءا من منطقة الدرع الكندي الذي يرجع إلى عصر ما قبل الكمبري والأنهار البرية؛ منجذبون إلى الأحراش المنتشرة بطول الجداول المائية، على الأقل البعض منهم لفترة؛ حيث كانوا يصيدون الأسماك والحيوانات ويشيدون الطوافات وينصبون الأشراك. وحتى لو لم يكونوا قد قرءوا كلمة واحدة عن ذلك النوع من الحياة، فقد كانوا على الأرجح لهم مغامراتهم فيها. ولكن سرعان ما كانوا يهجرون تلك الحياة لكي يشرعوا في عمل حياتهم الواقعي الشاق كمزارعين.
وكان من جملة الفروق بين المزارعين آنذاك، والآن، أنه في تلك الأيام لم يكن أحد يتوقع أن يلعب الاستجمام دورا منتظما في الحياة الريفية.
ولم يتخل أبي، بوصفه صبيا قرويا لديه ذلك الإدراك الزائد، سواء الملهم أو الرومانسي (لم يكن أبي ليكترث لتلك الكلمات)، والتعطش الذي غرسه فيه فينيمور كوبر؛ عن تلك المغامرات الشبابية في سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة أو العشرين. وبدلا من ترك الذهاب للأحراش، اعتاد الأمر على نحو أكثر مثابرة وجدية. وبدأ الآخرون يتحدثون عنه، وينظرون إليه كصائد بالشراك أكثر منه مزارعا شابا، وكشاب محب للعزلة وغريب الأطوار بعض الشيء، وإن لم يكن شخصا محل خوف أو بغض بأي حال. فقد كان يبتعد تدريجيا عن حياة المزارع، مثلما ابتعد من قبل عن التعليم والدخول إلى الحياة المهنية. كان يقترب نحو حياة ربما لم يستطع بلورتها في خياله بوضوح، حيث إنه كان على دراية أفضل بالأشياء التي لم يكن يريدها عن تلك التي كان يريدها.
অজানা পৃষ্ঠা