كل هذه الصفات العقلية تلخصها كلمة «روح النقد».
وكلمة «نقد» مأخوذة من اليونانية
Chrinein
وتعني «الحكم». فروح النقد هي إذن روح الحكم الصائب. فما الحكم بالمعنى الدقيق والرفيع لهذه الكلمة؟ هو أن يتخذ المرء الموقف العقلي للقاضي الذي هو بسبيل إصدار حكم. ومن الواجب أن يكون القاضي غير متحيز، وعدم التحيز يقتضي منه أن يطرح جانبا ميوله الشخصية، وأن ينتظر بصبر حتى تعرض عليه كل الحجج التي ينبغي له أن يختار بينها. كما أن هذه الصفة توجب على القاضي أن يضفي على كل من هذه الحجج قيمتها الحقيقية، وأهميتها الفعلية، دون أن يضيف شيئا إلى تلك التي يقدرها هو شخصيا. وأخيرا فالنزاهة تقتضي أن تظهر كل الحجج في الحكم النهائي بقيمتها الفعلية، ويكون تأثيرها معادلا لتلك القيمة.
وعلى ذلك، فاتصاف المرء بروح النقد، معناه إذن أن يأخذ على عاتقه أن يفحص كل البراهين التي يمكنها أن توجه القرار في اتجاه معين أو في اتجاه آخر فحصا دقيقا، ودون تدخل من أهوائه، وأن يعي ذهنه تلك البراهين بما لها من قيمة حقيقية، وأن يؤلف بينها في النتيجة النهائية دون إغفال واحد منها، ويتطلب ذلك طاقة أخلاقية كبيرة، وقدرة على كبح أهواء الذات، كما يتطلب ذلك النوع من الذكاء الذي أسماه باسكال «الحس المرهف
Esprit de finesse » والذي يمكنه من أن يجمع كل الحجج الدقيقة والعديدة جدا، ويجعل لكل منها دورا، دون أن يغفل واحدة منها.
وإذن فروح النقد هي بالاختصار «حاسة البرهان». ولقد كان الباحثون على حق عندما أضفوا أهمية خاصة على روح النقد في العلوم التي تتخذ الحقائق البشرية موضوعا لها، كالتاريخ مثلا؛ إذ إن الميول والأهواء الشخصية أو الاجتماعية للعالم ترتبط بمجال بحثه ارتباطا وثيقا. فالمؤرخ يجب ألا يكون منتميا إلى عصر معين، أو إلى وطن معين. غير أن هذا المطلب يستحيل تحقيقه بمثل هذه الصرامة؛ إذ إن المؤرخ لا بد أن يحب ما يحبه وطنه، وحزبه، وعصره، وأن يكره ما يكرهه هؤلاء، ولكن يجب عليه ألا يحسب لهذه المشاعر حسابا؛ بل يجب أن يفكر «كما لو كان» وطنه وحزبه غير موجودين بالنسبة إليه؛ أعني أن يجعل روحه معاصرة لما يرويه من أحداث.
من الضروري أن يكمل الخيال روح النقد
يتضح لنا مما سبق ضرورة توافر صفة أخرى في العالم. تلك هي صفة الخيال، وكثيرا ما يقال إن العالم لا ينبغي له أن يكون خياليا، وإن هذه الصفة هي التي تميزه عن الفنان مثلا، ونحن نسلم بأنه قد يكون للخيال أثر ضار في تفكير العالم؛ فقد يعوقه عن رؤية الأشياء على ما هي عليه، ويفرض عليه آراء وهمية «وأفكارا مسبقة».
غير أن الخيال يسهم بنصيبه في المجهود العلمي، وإنه لمن الخطأ الاعتقاد بأن العلم لا يضيف شيئا إلى ما يلاحظه، فهو يكشف لنا فيه عن عالم كامل؛ فالعالم يخمن بأن وراء الاتصال الظاهري للأجسام المادية أعدادا لا متناهية من الذرات ومركباتها، تتحرك بسرعة فائقة، ويفصل بعضها عن بعض حيز مكاني يفوقها امتدادا إلى أبعد حد. كذلك يلمح الفلكي بفكره، أن في السماء التي تزخر بالنجوم مساحات شاسعة مليئة بعدد لا يحصى من العوالم الكبرى، التي تقع على مسافات يستحيل علينا تصور اجتيازها أو إدراكها. ذلك هو الجانب الشاعري في العلم، وهذا الجانب الشاعري هو الذي خلقه العالم من أساسه، وليس معنى ذلك أن العالم المحسوس، كما ندركه، قد عدم كل جمال، ولكنا نود أن نشير إلى أن هناك جمالا آخر مختلفا عن الأول كل الاختلاف، هو جمال عقلي صرف، يبتكره ذهن العالم وحده، ولكي يضفي العالم مثل هذا الجمال على الكون، كان عليه أن يسلبه الجمال المحسوس أولا، وأن يستبعد شهادة الحواس، وكأنها حجاب خداع، ويأبى على الخيال الحسي لذته، لكي يفسح المجال للخيال الذي يمكن تسميته بالخيال العقلي. (1) العلم والشعر: هوميروس وأرشميدس
অজানা পৃষ্ঠা