المنازل والديار
أسامة بن منقذ
تحقيق مصطفى حجازي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال أسامة بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ الكناني - غفر الله له، ولجميع أمة محمد ﷺ: "الحمد لله وإن تنقلت بنا الدنيا تنقل الظلال، وتقلب بنا الدهر من حال إلى حال، وعفت رسوم آثارنا، واستولت يد الاعتداء على ديارنا، وتصدع شملنا أيدي سبا، وتشعبت بنا سبل المذاهب، وأخنت الحوادث على معشري وآلي، وأفنى الموت أسودي وأشبالي، كل ذلك بقدر جرى به القلم في القدم، وقضاء سبقت به المشيئة قبل الخروج إلى الوجود من العدم، ألقى ما سر من ذلك وساء بالتسليم والرضا، وافوض إليه جل وعلا فيما قدر وقضى، واقر بأن ابتلاءه بعدله، ومعافاته بفضله، وأرجو من رحمته أن يكون ذلك كفارة لذنوب سلفت، وموعظة دعت عن المعاصي وصرفت، وأن ما نالنا من الدنيا وآفاتها، بذنوب اقترفناها فرحمنا بتعجيل مكافاتها، وصلى الله على رسوله الأمين، محمد خاتم النبيين، الذي وصفه في كتابه الكريم، فقال: (وإنك لعلى خلق عظيم) وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأصحابه البررة المتقين، وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، صلاة دائمة إلى يوم الدين.
وبعد: - جعلك الله بنجوة من النوائب، وأصفى لك الحياة من كدر الشوائب، ولا راعك بحادثة تنسى ما قبلها، وتصغر ما بعدها، وتفتح من النكبات أبوابًا لا تستطيع سدها - فإني دعاني إلى جمع هذا الكتاب، ما نال بلادي وأوطاني من الخراب؛ فإن الزمان جر عليها ذيله، وصرف إلى تعفيتها حوله حيله، فأصبحت "كأن لم تعن بالأمس" موحشة العرصات بعد الأنس، قد دثر عمرانها، وهلك سكانها، فعادت مغانيها رسومًا، والمسرات بها حسرات وهمومًا، ولقد وقفت عليها بعدما أصابها من الزلازل ما أصابها، وهي "أول أرض مس جلدي ترابها"، فما عرفت داري، ولا دور والدي وإخوتي، ولا دور أعمامي وبني عمي وأسرتي، فبهت متحيرًا مستعيدًا بالله من عظيم بلائه، وانتزاع ما خوله من نعمائه.
ثم انصرفت فلا أبثك حيبتي ... رعش القيام أمس ميس الأصور
وقد عظمت الرزية حتى غاضت بوادر الدموع، وتتابعت الزفرات حتى أقامت حنايا الضلوع، وما اقتصرت حوادث الزمان على خراب الديار دون هلاك السكان، بل كان هلاكهم أجمع، كارتداد الطرف أو أسرع، ثم استمرت النكبات تترى، من ذلك الحين وهلم جرا، فاسترحت إلى جمع هذا الكتاب، وجعلته بكاء للديار والأحباب، وذلك لا يفيد ولا يجدي، ولكنه مبلغ جهدي، وإلى الله ﷿ أشكو ما لقيت من زماني وانفرادي من أهلي وإخواني، واغترابي عن بلادي وأوطاني:
لو كانت الأحلام ناجتني بما ... ألقاه يقظان لأصماني الردى
وإليه ﷿ أرغب في أن يمن علي وعليهم بغفرانه، ويعوضنا برحمته في دار رضوانه، إنه لا يرد دعاء من دعاه، ولا يخيب رجاء من رجاه.
وقد جعلت هذا الكتاب فصولًا؛ فافتتحت كل فصل بما يوافق حالي، ثم أفضت فيما يوافق ذا القلب الخالي، ليلا يأتي الكتاب وهو كله عويل ونياحة، ليس فيه لسوى ذي البث راحة، على أن رزايا الدنيا كالأجل؛ تمهل ولا تمهل، فإن تولت اليوم فغدًا تقبل:
فما أحد من ريبهن سليم
وتتبع هذا المعنى صعب وحصره لا يمكن، وقد أوردت منه ما يبرد اللوعة، ويسكن الروعة، والعذر إلى من وقف عليه مبذول، وهو عند الكرام مقبول.
فصول الكتاب ١- فصل في ذكر المنازل ٢- فصل في ذكر الديار ٣- فصل في ذكر المغاني ٤- فصل في ذكر الأطلال ٥- فصل في ذكر الربع ٦- فصل في ذكر الدمن ٧- فصل في ذكر الرسم ٨- فصل في ذكر الآثار ٩- فصل في ذكر المساكن والمحل والمعاهد والأعلام والمعالم والعرصات ١٠- فصل في ذكر الأرض ١١- فصل في ذكر الأوطان ١٢- فصل في ذكر المدن ١٣- فصل في ذكر البلاد ١٤- فصل في ذكر الدار ١٥- فصل في ذكر البيت ١٦- فصل في ذكر بكاء الأهل والإخوان
١- فصل في ذكر المنازل
عن ابن أبي مريم قال: مررت بسويقة عبد الوهاب وقد خربت، وعلى حائط. منها مكتوب:
هذي منازل أقوام عهدتهم ... في خفض عيش وعز ماله خطر
صاحت بهم نائبات الدهر فانقلبوا ... إلى القبور، فلا عين ولا أثر
وقال الأسود بن يعفر:
1 / 1
ماذا أرجى بعد آل محرق ... درست منازلهم، وبعد إياد
أهل الخورنق والسدير وبارق ... والقصر ذي الشرفات من سنداد
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
فإذا النعيم وكل ما يلهى به ... يومًا يصير إلى بلى ونفاد
ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة ... في ظل ملك ثابت الأوتاد
وقال بشر بن أبي خازم:
أي المنازل بعد الحول تعترف ... أم هل صباك
وقد حكمت
منصرف؟!
أم ما بكاؤك في دار عهدت بها ... عهدًا، فأخلف، أم في أيها تقف؟!
كأنها بعد عهد العاهدين بها ... من الذنوب وخرمى واحف صحف
(الذنوب، وخر ما واحف): مواضع
أضحت خلاء قفارًا لا أنيس بها ... إلا الجوازي والظلمان تختلف
فأصبحوا بعد نعماهم بمبأسة ... والدهر يخدع أحيانًا فينصرف
قوله: يخدع، أي يخالف ما تريد، يقال للرجل إذا وعد ثم أخلف: خدع، وإذا أطلع الضب رأسه ثم أدخله يقال: خدع الضب، وخدع الريق، إذا تغير وفسد، وخدعت السوق؛ إذا كسدت، وقوله: "فينصرف" أي ينقلب ويحول.
تبكي لهم أعين من شجو غيرهم ... وإن بكى لهم باك فقد لهفوا
(لهفوا): أي الحق ذلك وقال ابن أبي طاهر:
يا منزلًا لعب الزمان بأهله ... طورًا يفرقهم، وطورًا يجمع
أين الذين عهدتهم بك مرة ... كان الزمان بهم يضر وينفع
أصبحت تفزع من رآك، وطالما ... كنا إليك من الحوادث نفزع
أيام لا أغشى لأهلك مربعًا ... إلا وفيه للمسرة مربع
لهفي عليك، لو أن لهفًا ينفع ... أو أن دهرًا راحم من يجزع
ما كان ذاك العيش إلا خلسة ... خطفًا كرجع الطرف أو هو أسرع
وقلت:
يا ليت أن ديارنا كانت كذا ... طورًا تفرقنا وطورًا تجمع
لكنها درست وأوحشها الردى ... من أهلها فهي القفار البلقع
لا يرتجى لهم إياب جامع ... لشتاتهم حتى يضم المجمع
وقال عبد الله بن الزبعري في العاص بن وائل:
وأصبحت المنازل وهي قفر ... مخلاة عليهن القتام
كأن الناس بعدك نظم سلك ... تقطع لا يقوم له نظام
وقال المتنبي أبو الطيب أحمد بن الحسين:
أبنى أبينا نحن أهل منازل ... أبدًا غراب البين فينا ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر ... جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الأُلى ... جمعوا الكنوز فما بقين ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه ... حتى توى فحواه لحد ضيق
خرس إذا نودوا، كأن لم يعلموا ... أن الكلام لهم حلال مطلق
وقال البحتري:
وما أهل المنازل غير ركب ... مناياهم رواح وابتكار
لنا في الدهر آمال طوال ... نرجيها، وأعمار قصار
وقال أيضًا:
يا منزلًا نسجت له أيدي الصبا ... من حوكهن سبائبًا وبرودًا
هل كنت إلا منزلًا عمدت له ... عقب الزمان فغادرته عميدًا؟!
وقال أيضًا:
قفا نعط المنازل من جفون ... لها في الشوق أحشاء غزار
عفت آياتهن، وأي ربع ... يكون له على الزمن الخيار؟!
وقال أبو تمام، حبيب بن أوس الطائي:
يا منزلًا أعطى الحوادث حكمها ... لا مطل في عدة ولا تسويفا
أرسى بناديك الندى وتنفست ... نفسًا بعقوتك الرياح ضعيفا
شعف الغرام بعقوتيك، وربما ... روت رباك الهائم المشعوفا
ولئن نرى بك ملقيًا أجرانه ... ضيف الخطوب، لقد أصاب مضيفا
وهي الفجائع لم تزل نكباتها ... يألفن ربع المنزل المألوفا
خلفت بعقوتك الشؤون وطالما ... كانت بنات الدهر عنك خلوفا
أيام لا تسطو بأهلك نكبة=إلا تراجع صرفها مصروفا وقال أيضًا:
وأبى المنازل إنها لشجون ... وعلى الصبابة إنها لتبين
فاعقل بنضو الدار نضوك نقتسم ... فيها الصبابة: مسعد، ومعين
لا تمنعني وقفة أشفى بها ... داء الصبابة إنها ماعون
واسق الأثافي من شؤونك ريها ... إن الضنين بدمعه لضنين
وقال أبو نواس الحسن بن هانئ:
عفا المصلى فأقوت الكثب ... مني فالمربدان فاللبب
1 / 2
فالمسجد الجامع المروءة والمج ... د عفا فالصمان فالرحب
منازل قد عمرتها زمنًا ... حتى بدا في عذارى الشهب
في فتية كالسيوف هزهم ... شرخ شباب وزانهم أدب
ثم أراب الزمان فاقتسموا ... أيدي سبا في البلاد فانشعبوا
لن يخلف الدهر مثلهم أبدًا ... علي، هيهات شأنهم عجب!
وقال البحتري:
فيء إليك، فقد تخون أسرتي ... حتف الردى وتحامل النكبات
تلك المنازل ما تمتع واقفًا ... بزهى الشخوص، ولا وغى الأصوات
ولن تخلف الأيام لي بدلًا بهم ... أيهات من بدل بهم أيهات
ومعيري بالدهر يعلم في غد ... أن الحصاد وراء كل نبات
وقال كاسب بن غياث أحد بني حن:
هل منزل دارس يبين ... سؤال من ما له معين؟!
أقوى وأودت به الليالي ... وصرف دهر له فنون
فما بربعيه من أنيس ... كأن من فيه لم يكونوا
صاح بمن حله زمان ... واخترمتهم به المنون
فكل عهد لهم محيل ... وكل ربع لهم دفين
سوى الذي حل في فؤادي ... من حبهم فهو لا يبين
وكل حي إلى افتراق ... تشعبهم نية شطون
وقال آخر:
دعني وتسكاب دمعي في منازلهم ... فللشؤون ولي من بعدهم شان
أحبابنا ما الديار اليوم بعدكم ... تلك الديار ولا الأوطان أوطان!
وقال القاضي أبو المجد محمد بن عبد الله بن سليمان ﵀:
يا معشر الأحباب قد ... أضحت منازلهم قبورا
كنت الصغير فليتني ... لم أدع بعدهم كبيرا
عن زنام الزامر قال: لما اشتد بالمعتصم المرض - في مرضه الذي مات فيه - أفاق في بعض الأيام، فقال: هيئوا لي الزلال؛ لأركب فيه في دجلة غدًا، فعملوه، فركب وركبت معه، فمر في دجلة بإزاء منازله، فقال: يا زنام ازمرلي:
يا منزلًا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك، لكنني ... بكيت عيشي فيك إذ ولى
والعيش أولى ما بكاه الفتى ... لا بد للمخزون أن يسلى
قد كان لي فيك هوى مرة ... غيره الدهر وما ملا
فما زال ينتحب حتى عاد على منزله.
مات المعتصم ﵀ لثماني عشرة بقيت من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين.
وحدثني من أثق به، أنه لما وقع بمصر الغلاء العظيم في أيام المستنصر بالله، واستولت كتامة والجند على الدولة، واستنفدوا ما في الخزائن من الأموال، وتضعضعت الدولة، أمر المستنصر بإحضار ابن الجوهري الواعظ، فحضر، ونصب له كرسي، فلما صعد على الكرسي تلفت يمينًا وشمالًا على نواحي القصر، ثم أنشد:
يا منزلًا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
الأبيات، فارتفع البكاء والضجيج في القصر، وما زاد على ذلك، يستعاد منه ويكرره حتى انقضى المجلس.
وقال آخر:
أحب منازل الأحبا ... ب إن غابوا وإن حضروا
وأسقيها دموع العي ... ن إن لم يسقها المطر
بقدر كرامة الأحبا ... ب يكرم بعدها الأثر
ولولا راحة الشكوى=لكان القلب ينفطر وقال آخر:
أيا منزلًا بالدير أصبح خاليًا ... تلاعب فيه شمال ودبور
كأنك لم تسكنك بيض نواعم ... ولم تتبختر في فنائك حور
وأبناء أملاك كرام وسادة ... صغيرهم بين الأنام كبير
إذا لبسوا أدراعهم فضراغم ... وإن لبسوا تيجانهم فبدور
وقال الحارث بن شداد، أخو بني كعب بن عمرو:
إلى الله أشكو ما أرى من عشيرتي ... وما كنت فيما قد مضى استزيدها
تذكرنيهم وحدتي، ومنازل ... سواء علينا رثها وجديدها
أرى الناس راعوا للديار وللحيا ... وكعب بن عمرو لا يريع شريدها
أنشدني الخطيب العالم قدوة الشريعة "أبو زكريا يحيى بن سلامة الحصكفي - حرمه الله - عند اجتماعي به بميافارقين في سنة سبع وعشرين وخمسمائة لبعض أهل المعرة، وقد اجتاز بقرية من أعمال المعرة يقال لها: "سياث" وفيها علوج من الإفرنج يهدمون من جدرانها الحجارة، ويكسرونها بالمعاول؛ ليخف عليهم حملها، فوقف كالمتأسف، وقال:
مررت بربع من سياث فهاجني ... بها زجل الأحجار تحت المعاول
تصدى لها عبل الذراع، كأنما ... جنى الدهر فيما بينهم حرب وائل
1 / 3
فقلت له: شلت يمينك خلها ... لمستخبر أو واقف أو مسائل
منازل قوم حدثتنا حديثهم ... ولم أر أجلى من حديث المنازل
وقال آخر:
إذا أنت لم ترع العهود لمنزل ... فلست براع عهد أهل المنازل
ولا سيما دار ولدت بربعها ... وكنت بها جذلان في خير آهل
وقال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:
هاج ذا القلب منزل ... بالبليين محول
غيرت آيه الصبا ... وجنوب وشمأل
فلئن بان أهله ... لبما كان يؤهل
قد أرانا بغبطة ... فيه نلهو ونجذل
وقال جرير بن عطية بن الخطفي:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى ... والعيش بعد أولئك الأقوام
ضربت معارفها الروامس بعدنا ... وسجال كل مجلجل سجام
ولقد أراك ... وأنت جامعة الهوى
يثنى بعهدك
خير دار مقام
فإذا أتيت على المنازل باللوى ... فاضت دموعي غير ذات نظام
وقال أبو حية النميري:
ألا حييا قصرًا رسوم المنازل ... بسلان سلمانين أو ميث عاقل
خلت من أنيس صالحين فأصبحت ... مرادًا لوحدان النعاج الخواذل
بما قد أرى الحي الجميع بغبطة ... بها، والنوى قطاعة للوسائل
وقال أيضًا:
أأبكاك رسم المنزل المتقادم ... بأمراش أقوى من حلول الأخارم
(أمراش): موضع:
فأمرت به عيناك لما عرفتها ... بمبتدر نظم الفريدين ساجم
لعرفانك الربع الذي صدع العصا ... به البين صدعًا ليس بالمتلائم
فقد كنت أدرى أن للبين صيحة ... على الحي في يوم لنفسك ضائم
وقال الراعي، وهو عبيد بن حصين النميري - وكان قومه ارتحلوا، فصار بعضهم إلى العراق، وبعضهم إلى الشام:
تذكرت فاستبكاك رسم المنازل ... بقارة أقوى أو بسوقة حائل
خلت من جميع ساكن وتبدلت ... ظباء السليل بعد خال وجامل
ذكرت بها من لن أبالي بعده ... تفرق حي في النوى متزايل
وإن امرأ بالسيف أكبر همه ... وبطنان ليس الشوق عنه بغافل
وقال جرير بن عطية:
شعفت بعهد ذكرته المنازل ... وكيف تناسى الحلم والشيب شامل
لعمرك لا أنسى ليالي منعج ... ولا عاقلًا، إذ منزل الحي عاقل
فيا حبذا أيام يحتل أهلها ... بذات الغضا والحي في الدار آهل
وإذ نحن أُلافٌ لدى كل منزل ... ولم تتفرق للطيات الحمائل
وقال أيضًا:
حي المنازل إذ لا نبتغي بدلًا ... بالدار دارًا، وبالجيران جيرانا
نهدي السلام لأهل الغور من ملح ... هيهات من ملح بالغور مهدانا
أحبب إلي بذاك الجزع منزلة ... بالطلح طلحًا وبالأعطان أعطانا
روى أن أبا عمرو بن العلاء ﵀ غاب عن البصرة عشرين سنة، ثم عاد فجلس مجلسه في الجامع، ففقد إخوانه وأصحابه الذين كانوا يقعدون إليه، فبكى، وأنشأ يقول:
يا منزل الحي الذي ... ن تفرقت بهم المنازل
أصبحت بعد عمارة ... قفرا تهب بك الشمائل
فلئن رأيتك موحشا ... فبما رأيت وأنت آهل
وقال عدي بن الرقاع العاملي:
هل أنت منصرف فتنظر ما ترى ... أبقى الحوادث من رسوم المنزل؟!
دار بإحدى الرجلتين كأنها ... قد عفيت حججًا، ولما تحلل
فسقيت من دار ... وإن لم تسمعي
أصواتنا
قطر الربيع المسبل
قد كان أهلك مرة لك زينة ... فاستبدلوا بدلًا ولم تستبدلي
فابكي إذا بكت المنازل أهلها ... معذورة، وظلمت إن لم تفعلي
أهلًا كرامًا لن يحلك مثلهم ... في ذا الزمان ولا الزمان المقبل
وقال أيضًا:
لمن المنازل أقفرت بعباء؟ ... لو شيت هيجت الغداة بكائي
لولا التجلد، واعترافي أنه ... لا قوم إلا عقرهم لفناء
لرثيت أصحابي الذين توجهوا ... ودعوت أخرس لا يجيب دعائي
وفراق ذي حسب وروعة فاجع ... داويته بتجمل وعزاء
ليرى الرجال الشامتون صلابتي ... وأكف ذاك بعفة وحياء
وقال البحتري:
منازل أضحت للرياح منازلًا ... تردد فيها بين نؤي ورمدد
شجدت صاحبي أطلالها فتهللت ... مدامعه فيها، وما قلت: أسعد
1 / 4
وقلت لعيني في المنازل عبرة ... من الشوق لم تملك بصبر فتردد
وقال أيضًا:
سألت الغوادي ملحفًا في سؤالها ... وناشدتها في سقى برقة ثهمد
منازل ما أبقى البلى من عراصها ... سوى أرسم معفوة الآى همد
وقال آخر:
تزافر صحبي يوم ذي الأثل زفرة ... تذوب قلوب من لظاها وأضلع
منازل لم تسلم عليهن مقلة ... ولا جم بعد البين فيهن مدمع
فدمع على رسم الديار مفرق ... وقلب على أهل الديار مروع
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات:
يا سند الظاعنين من أحد ... حييت من منزل ومن سند
ما إن بمثواك غير راكدة ... سفع وهاب كالفرخ ملتبد
استبدلت بالظباء والبقر العي ... ن خلاف العقائل الخرد
فساخط أنت أم رضيت بما اس ... تبدلت بالحي بعدهم فقد
بدلت غير الرضا وشط بهم عن ... ك صروف المنون والأبد
وقال الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب - رضوان الله عليهم -:
أعلى العهد منزل بالجناب ... كان فيه متى أردت طلابي؟!
المغاني تلك المغاني فهل في ... هن ما قد عهدت من إطرابي؟
ليست الدار بعد أن توحش الد ... ار نوى غير جندل وتراب
فإذا لم يعد حنيني على الدا ... ر حبيبًا فليس يغني انتحابي
وقال الشريف نظام الملك أبو الحسن على الفاطمي، أحد شعراء الدولة بمصر - إذ أنا بها - ويعرف بالأخفش:
أحبابنا لم تذق عيناي مذ بعدت ... عني منازلكم غمضًا ولا وسنا
ولا وجدت لقلبي من يسر به ... ولم تر العين شيئًا بعدكم حسنا
وقال البكاء - واسمه أرطاة بن كعب (جاهلي):
لمن المنازل قد عفون سنينا ... أقفرن بعد تحدد وبلينا
بقنان ودعة والبقيل تغيرت ... بعدي تحن بها الرياح حنينا
وبدارة السلم التي شوقتها ... دمن يظل حمامها يبكينا
ما كنت أول من تفرق شمله ... ورأى الغداة من الفراق يقينا
وقال الرماح بن ميادة، وميادة أمه سندية، وأبوه الأبرد بن ثوبان بن سراقة بن سلمى، ابن ظالم:
منازل أما أهلها فتحملوا ... فساروا، وأما خيمها فمقيم
كأني بها لما عرفت رسومها ... ثقيل لدى أيدي الرقاة سليم
ولم تر عيني مربعًا مثل مربع ... بذي العش لو أن النعيم يدوم
وقال عباس بن كبير بن جابر بن عمرو بن غيظ بن السبد:
سقى الصفرات العفر حول تبالة ... إلى رحب بالوشم غيث مطبق
منازل من حيي ذؤيب بن مازن ... وغيظ وكعب قبل أن يتفرقوا
عصائب في بر البلاد وبحرها ... فمنهم شآم غائر ومشرق
ديار من الحي الذين رماحهم ... معاقل في الهيجا وبالوتر تسبق
عظام مقاريهم جماع فدورهم ... يد الدهر تنتاب النهار وتطرق
بهم تتقى الحرب العوان وفيهم ... حفاظ على جل الأمور ومصدق
عن سنان بن يزيد الديلمي قال: كنت مع مولاي جرير بن سهم التيمي، وهو يسير أمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضوان الله عليه - إلى الشام، فلم انتهى إلى مدائن كسرى، وقف مولاي ينظر، ثم تمثل:
جرت الرياح على محل ديارهم ... فكأنما كانوا على ميعاد
الأبيات التي تقدمت للأسود بن يعفر، فقال له علي - رضوان الله عليه -: أي شيء قلت؟ فأنشده الشعر، فقال: هلا قلت: "كم تركوا من جنات وعيون" ثم قال: يا ابن أخي إن هؤلاء كفروا النعم، فحلت بهم النقم، فإياكم وكفر النعم، فتحل بكم النقم.
وقال الشريف البياضي:
مالي أعلل نفسي بالوقوف على ... منازل أقفرت منكم وأطلال؟!
وأبتغي البرء منها وهي بالية ... هيهات! كيف يداوي باليًا بال؟!
وقال آخر:
يذكرني لمع البروق منازلي ... بنجدٍ وأهليها، فأضنى بها وجدا
وهذي النوى حكم من الله نازل ... وما كنت ممن يستطيع له ردا
وقال الأقرع بن معاذ:
حي المنازل بين حمة فاللوى ... إن كنت مشتغلًا بهن عميدا
يا برق حمة ما فعلت على البلى ... لا زلت يصحبك الغمام سديدا
فلئن بكيت لأبكين صبابة ... ولئن صبرت لأصبرن جليدا
1 / 5
وقال عبيد الله بن قيس الرقيات:
ما هاج من منزل بذي العلم ... بين لوى المنجنون فالسلم
لم تبق منه الرياح معلمة ... إلا بقايا الثمام والحمم
وقفت بالدار ما أبينها ... إلا إدكارًا، توهم الحلم
بادت وأقوت من الإنيس كما ... أقوت محاريب دارس الأمم
واستبدل الحي بعدها إضمًا ... هيهات غمر الفرات من إضم
قيل لأعرابية أصيبت بابنها: ما أحسن عزاءك! قالت: إن فقدي إياه أمنى كل فقد سواه، وإن مصيبته هونت على المصائب من بعده، ثم قالت:
من شاء بعدك فليمت ... فعليك كنت أحاذر
كنت السواد لناظري ... فعليك يبكي الناظر
ليت المنازل والديار ... حضائر ومقابر
كان الرقاشي يجتمع إليه جماعة من أصحابه وإخوانه يتحدثون ويتذاكرون، فغاب في بعض أحواله، ثم رجع بعد مدة، فوجد بعضهم قد مات، وبعضهم قد غاب، فوقف على مجلسهم وبكى، وقال:
لولا التطير قلت غيركم ... ريب الزمان فخنتم عهدي
درست منازل كنت آلفها ... من بعدكم، وتغيرت بعدي
وقال أبو العلاء (أحمد بن عبد الله) بن سليما المعري:
أعفى المنازل قبر يستراح به ... وأفضل اللبس فيما أعلم الكفن؟
إن الذين على وجه الثرى وطئوا ... يشابهون أناسًا في الثرى دفنوا
وقال آخر:
دعني وتسكاب دمعي في منازلهم ... فللشؤون ولي من بعدهم شان
أحبابنا ما الديار اليوم بعدكم ... تلك الديار، ولا الأوطان أوطان
وقال آخر:
أبكى إلى الشوق أن كانت منازلكم ... بجانب الغرب خوف القيل والقال
أقول: بالخد خال حين أذكره ... خوف الرقيب، وما بالخد من خال
وقال مهيار:
يا منزلًا لعبت به أيدي البلى ... لعب الشكوك، وقد بدا بتيقن
إما تناشدني العهود فإنها ... خيست فكانت بين ذخر المقتنى
نفض الصبي أوراقه، وأعادني=خوط اليراعة، كيف تغمز تنحني إني لأعلم قبل فضى ختمه=ما في كتاب بالمشيب معنون وقال آخر:
أمزمعة للبيت ليلى ولم تمت ... كأنك عما قد أظلك غافل؟!
ستعمل إن شطت بهم غربة النوى ... وزالوا بليلي أن لبك زائل
وأنك مسلوب التصبر والأسى ... إذا بعدت ممن تحب المنازل
وقال آخر:
تطوى المنازل عن حبيبك دائبًا ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
ألا أقمت ولو على جمر الغضا ... قلبت، أوحد الحسام الصارم؟!
كذبتك نفسك لست من أهل الهوى=تشكو الفراق وأنت عين الظالم؟ قلت: لي على من تقدم ذكره من الشعراء فضل المزية؛ إذ كنت دونهم صاحب الرزية فكان شعري أولى أني قدم على أشعارهم، وإن قصرت بي البلاغة عن اقتفاء آثارهم، لكن للمتقدم السبق، وهو بالتقدمة أولى وأحق، وإن كنت وهم كما قال ذر لأبيه: يا أبه. مالك إذا تكلمت أبكيت الناس، وإذا تكلم غيرك لم يبكهم؟ قال: يا بني. ليست النائحة المستأجرة كالثكلى.
وأنا ذاكر شيئًا من شعر أخي ﵀ وشعري مما يدخل في هذا الفصل: قال أخي عز الدولة أبو الحسن علي بن مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ ﵁:
يا منزلًا لعب البلى برسومه ... شعفًا ببهجته فليس يريم
لا تبعدن وجاد ربعك وابل ... يروى ثراك أتيه ويسيم
فاسق الربوع من الدموع سجالها ... إن الرسوم لها عليك رسوم
وقال أيضًا:
سل المنازل عمن كان يسكنها ... من الأحبة والإخوان ما صنعوا؟
تخبرك وعظًا بلا لفظ فقد نظرت ... آمالهم والمنايا كيف تصطرع
وهكذا بعد نفخ الصور خاوية ... تضحى المنازل أعلاهن متضع
بنى أبي إن عدا دهر ففرقنا ... فهم نفسي بكم ما عشت مجتمع
نزحتم أدمعي حتى لقد محلت ... جفون عيني، ومات اليأس والطمع
وإن دهرًا رمى عن جيده دررًا ... أمثالكم لزمان عاطل ضرع
وقال أيضًا:
يا منزلًا أضحى كجسمي باليًا ... حزن القلوب، وحسرة للناظر
لي كل يوم في ربوعك زفرة ... يرمى لظاها بالشرار الطائر
غربت شموسك والذين عهدتهم ... بك في ملمات الزمان الغابر
فعليهم مني سلام نشره ... متضوع كثنائهم في الحاضر
1 / 6
قلت: كان ﵀ تأخر عنا، وخرجت أنا وأخواي إلى دمشق، ثم إلى مصر، فكان يتأسف لبعدنا عنه، وخلو منازلنا منا.
وهذا شيء من شعري في هذا المعنى، بعد ما أصابنا من الزلازل ما أصابنا، قلت:
إلى الله أشكو روعتي لمنازل ... خلت، وجوى قلبي لأهل المنازل
سيوفي إذا ما نازلتني ملمة ... حصوني إذا خفت الردى ومعاقلي
مضوا سلفًا قبلي فلم أحظ بعدهم ... من العيش والعمر الطويل بطائل
وقلت:
هذي منازلهم عفت وتفرقوا ... فسل المنازل عنهم ماذا لقوا؟!
تخبرك أن الأرض قد وارتهم ... وأبت لهم أن يسمعوا أو ينطقوا
وبقيت بعدهم لهم فادح ... وكآبة تضنى، وخطب يطرق
أرجو اللحاق بهم، ودون لحاقهم ... باب من الأجل المؤقت مغلق
فإذا نهاني عن رجاء لقائهم=يأسى هفا قلب إليهم شيق وقلت:
قل للذي فقد الأحبة وانثنى ... يسقى منازلهم دموعًا تسجم:
ماذا وقوفك في الديار مسائلًا ... عن أهلها، ومتى يجيب الأبكم؟!
سل عنهم صرف الزمان فإنه ... بهم من الدار المحيلة أعلم
أفناهم ريب المنون، وهذه ... آثارهم عظة لمن يتوسم
هي شيمة الأيام: كف تبتنى ...
مذ كانت الدنيا
وكف تهدم
وإذا رأيت محسدين فقلما ... ترجيهم الأيام حتى يرحموا
وترى تقلب هذه الدنيا بنا ... وكأننا فيها سكارى نوم
وقلت:
يعنفني في الدار صحبي على البكا ... فيا ويح قلبي من خلي وجاهل؟
وقالوا: أتبكي للمنازل؟ قلت: لا ... ولكنما أبكى لأهل المنازل
وقلت:
حيي ربوعك من ربى ومنازل ... ساري الغمام بكل هام هامل
وسقتك يا دار الهوى بعد النوى ... وطفاء تسفح بالهتون الهاطل
حتى تروض كل ماح ما حل ... عاف، وتروى كل ذاو ذابل
أبكيك، أم أبكى زماني فيك، أم ... أهليك، أم شرخ الشباب الزائل
ما قدر دمعي إن تقسمه الجوى ... والوجد بين أحبة ومنازل؟
أنفقته سرفًا وهأنا ماثلٌ ... في ماحلٍ أبكى بجفن ما حل
وإذا فرغت إلى العزاء دعوت من ... لا يستجيب، ورمت نصرة خاذل
وقلت:
أنظر منازل آل منقذ إنها ... عظمة اللبيب، وعبرة للناظر
كانوا بها في نعمة محروسة ... بمكارم وذوابلٍ وبواتر
ما رامها ملك ولا ذو قدرة ... إلا انثنى عنها بقلب طائر
متلهفًا ما اسطاعها، ومن الذي ... يلج العرين على الهزبر الخادر؟!
فأصابها قدر فأهلك من بها ... وأعاد شامخها كرسم داثر
فإذا ذكرتهم عرتني حسرة ... تمرى سحائب دمعي المتبادر
وقلت:
يا منزلًا كان فيه العز مقترنا ... بالسيف، والمال مقرونًا إلى الكرم
من خاف جورًا وعدمًا ثم لاذ به ... لاقى الأمانين من جور ومن عدم
أفنت حماتك أحداث الزمان، فيا ... لله من فتكها بالأسد في الأجم!
أعيت مناواتهم غلب الملوك إلى ... أن جاءهم قدر قد خط بالقلم
"فأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم" ... كأن ما خولوه كان في الحلم
ولم تدع منهم إلا حديثهم ... كما تحدث عن عاد وعن إرم
فيا لقلبي لأحزان أكاتمها ... عليهم، ولدمع غير مكتتم!
وقلت:
غاضت دموعي في المنازل وارعوى ... صبري، وراجعني الرقاد النافر
إن لم أسح بها سحائب أدمع ... ينجاب خشيتها الغمام الباكر
أأحمل الأطلال منة عارض ... وسحاب دمعي مستهل ماطر؟!
إني إذن بشؤون عيني باخل ... وبعهد من سكن المنازل غادر
وقلت:
إن لم تطيقا يوم رامه ... أن تسعدا، فذرا الملامه
عنفتماني أن وقف ... ت بمنزل أقضى ذمامه
وشكوتما ... من وقفة
فيه
الكلالة والسآمه
هو منزل الأحباب لم ... يدع البلى إلا رمامه
وعلى حق أن تصافح سحب أجفاني رغامه
وأبيكما لأروي ... ن ولو بسح دم أوامه
فإلام لومكما؟ أفي ... رعي العهود على آمه؟!
وقلت:
هذي منازلهم وأن ... ت بهم معنى مغرم
فاسفح دموعك في ثرا ... ها أو يمازجها الدم
1 / 7
واسأل بهم صرف الزما ... ن فإنه هو أعلم
يخبرك أن القوم قد ... قدموا على ما قدموا
وغدا نخيم حيث حل ... لوا في القبور وخيموا
وقال مهيار:
أنظر معي، فهي نظرة أمم ... أعلم السفح ذلك العلم؟!
أنت بريء مما تشبهه الع ... ين، وطرفي بالدمع متهم
يطربني اليوم للمنازل ما أس ... أر عندي أيامها القدم
ويطبيني ... على فصاحة شك
واي إليها
ربوعها العجم
على يا دار جهد عيني وما ... على عار أن تبخل الديم
لك الرضا من جمام أدمعها ... أو دمها إن سقى ثراك دم
وقال أيضًا:
لها منزل بالغور بين مفدن ... مشيد ومنشور البساط مروض
حبست به أبغي الحياة لقاتلي ... غرامًا، وأدعو بالشفاء لممرضي
رأت شيبة ما صرحت لعوارضي ... فصرح بالهجران كل معرض
وقالت: أشيخ؟ قلت: كهل، فأطرقت ... وقالت: أمام الشيب إنذار منبض
نبا عنك بعد الشيب قلبي وناظري ... ومن أين يصفو أسودان لأبيض؟!
فصل آخر في ذكر المنال
السابق إلى بكاء المنازل امرؤ القيس بن حجر - واسمه حندج، والحندجة: القطعة الصغيرة من الرمل - بقوله:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ... بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح، فالمقراة لم يعف رسمها ... لما نسجته من جنوب وشمأل
وقوفًا بها صحبي على مطيهم ... يقولون: لا تهلك أسى وتجمل
وإن شفائي عبرة لو سفحتها ... فهل عند رسم دارس من معول؟
وقال النابغة الذبياني - وهو زياد بن معاوية -:
دعاك الهوى واستجهلتك المنازل ... وكيف تصابي المرء والشيب شامل
وقفت بربع الدار قد غير البلى ... معالمها، والساريات الهواطل
أسائل عن سعدي، وقد مر دونها ... على حجرات الدار سبع كوامل
وقال جرير بن عطية:
قل للمنازل من أثيلة تنطق ... بالجزع جزع القرن لما تخلق
حييت من طلل تقادم عهده ... وسقيت من صوب الغمام المغدق
وقال أرطأة بن سهية - وسهية أمه، وأبوه زفر بن عبد الله بن مالك بن شداد -:
ومن عجب الأيام أن كل منزل ... لو جرة من أكناف رمان دارس
طلاب بعيد، واختلاف من النوى ... إذا ما أتى من دون وجرة فارس
وقد طال ما عشنا جميعًا وودنا ... جميع إلى من يبتغي الأنس آنس
وقال أبو حية النميري، واسمه الهيثم بن الربيع:
لعل الهوى إن أنت حييت منزلًا ... بأكياب مرتد عليك عقابله
(أكياب): موضع.
فلما سألت الربع أين تيممت ... نوى الحي لم ينطق، وضلل سائله
وكنت إذ خبرت أن مكلفًا ... بكى أو تعناه عداد يماطله
من الحب، عنفت المحب، فقد بكى ... فؤادي حتى أسلمته عواذله
كأن فؤادي طائر في حبالةٍ=رأى غيه لما اعتقته حبائله
يا برق طالع منزلًا بالأبرق ... واحد السحاب له حداء الأينق
دمن لوت عزم الفؤاد ومزقت ... فيها دموع العين كل ممزق
وقال المتنبي:
لك يا منازل في القلوب منازل ... أقفرت أنت، وهن منك أواهل
يعلمن ذاك، وما علمت، وإنما أولاكما ببكًا عليه العاقل
وأنا الذي جلب المنية طرفه=فمن المطالب، والقتيل القائل؟! تخلو الديار من الظباء؛ وعنده=من كل تابعة خيال خاذل وقال البحتري:
سقم دون أعين ذات سقم ... وعذاب دون الثنايا العذاب
وكمثل الأحباب، لو يعلم العاذل، عندي منازل الأحباب
وقال ابن زريق الكاتب:
بالله يا منزل اللهو الذي درست ... آياته، وعفت مذ بنت أربعه
هل الزمان معيد فيك لذتنا ... أم الليالي التي أمضته ترجعه؟!
في ذمة الله من أصبحت منزله ... وجاد غيث على مرباك ممرعه
من عنده لي عهد لم يضعه كما ... عندي له عهد صدق لا أضيعه
ومن يصدع قلبي ذكره، وإذا ... جرى على قلبه ذكرى يصدعه
استودع الله في بغداد لي قمرًا ... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي أن يودعني ... روح الحياة، وأني لا أودعه
كم قد تشفع في ألا أفارقه ... وللضرورة حال لا تشفعه
1 / 8
وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات وأدمعه
لا أكذب الله: ثوب الصبر منخرق ... عني لفرقته لكن أرقعه
وقال آخر:
تطوى المنازل عن حبيبك دائبًا ... وتظل تبكيه بدمع ساجم
ألا أقمت ولو على جمر الغضا ... قلبت، أو حد الحسام الصارم
كذبتك نفسك، لست من أهل الهوى ... تشكو الفراق وأنت عين الظالم
وقالت امرأة من كلب:
سقى الله المنازل بين شرج ... وبين نواظر ديمًا رهاما
فلو أنا نطاع إذا أمرنا ... أطلنا في ديارهم المقاما
فإني لا أنى ما عشت أهدى ... لها ولمن يحل بها السلاما
وما يغني السلام إذا نزلنا ... لوى لامٍ، ألام الله لاما
وقال إسماعيل بن يسار مولى قريش:
ما على رسم منزل بالجناب ... لو أبان الغداة رجع الجواب
غيرته الصبا، وكل ملثٍ ... دائم الودق مكفهر السحاب
دار هند، وهل زمان بهند ... عائد بالهوى وصفو الجناب؟!
صاح أبصرت أو سمعت براع ... رد في الضرع ما مرى في الحلاب؟
أقصرت شرتي، وولى شبابي ... واستراحت عواذلي من عتابي
وقال جميل بن معمر العذري:
إن المنازل هيجت إطرابي ... واستعجمت آياتها بجوابي
قفرًا تلوح بذي اللحين كأنها ... أنضاء وشم، أو سطور كتاب
لما وقفت بها القلوص تبادرت ... مني الدموع لفرقة الأحباب
وذكرت عصرًا يا بثينة شفني ... إذ فاتني، وذكرت شرخ شبابي
وقال الشريف الرضي ﵀:
أيا منازل سلمى أين سلماك ... من أجلها إذ أتيناها أتيناك
زرناك شوقًا، ولو أن النوى بسطت ... عرض الفلاة لنا جمرا لزرناك
وقال أبو الصفي رفاعة بن عاصم الثقفي:
أمنزلتي ثبجاء من بطن واسط ... إلى ذي الأراطي، كيف حالكما بعدي؟
تتابع أنواء الربيع عليكما=أمالكما بالمالكية من عهد؟ وقال آخر:
سقى الله باب الكرخ من متنزه ... إلى قصر وضاح، فبركة زلزل
منازل لو أن امرأ القيس حلها ... لأقصر عن ذكرى حبيب ومنزل
وقال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
كأن لم تكن سعدى بأحياء غيقة ... ولم ترى من ليلى بهن منازل
ولم تتربع بالسرير ولم تكن ... به الصيف خيمات العذيب الظلائل
أبى الصبر عن سُعدى هوىً ذو علاقة ... ووجد بسُعدى شارك القلب قاتل
وقال جرير بن عطية:
خليلي هيجا عبرة أو قفا بنا ... على منزل بين البقيعة والحبل
فإني لباقي الدمع أن كنت باكيًا ... على كل دار حلها مرة أهلي
لعمرك لولا اليأس ما انقطع الهوى ... ولولا الهوى ما حن من واله قبلي
تريدين أن أرضى، وأنت بخيلة ... ومن ذا الذي يرضى الاخلاء بالبخل
وقال أيضًا:
حي المنازل بالبردين قد بليت ... للحي لم يبق منها غير أبلاد
(أبلاد) أي آثار:
ما كدت تعرف هذا الربع غيره ... مر السنين كما غيرن أجلادي
لقد علمت ... وما أخبرت عن أحد
أن الهوى بنقا البشرين معتادي
وقال عروة بن الورد:
ألم تعرف منازل أم عمرو ... بمنعرج النواصف من أبان؟
وقفت بها، ففاض الدمع مني ... كمنحدر من النظم الجمان
ولكن لن يلبث وصل حي ... وجدة وجهه مر الزمان
وقال حفص الأموي:
يا منزل الحي بالأجراع من لجب ... بادت معارفه في سالف الحقب
دار لأسماء إذ كانت تجاورنا ... والحبل، إذ كان منها غير منقضب
إذا تذكرت أهل الغمر ساعدني=موار دمع على الخدين منسكب
كانوا لنا جيرة حتى تخونهم ... دهر يفرق بين الجيرة الصقب
وغربتهم نوى عنا مطوحة ... ومن تغله النوى يشحط ويغترب
جاء الفراق ولم نلبس لبغتته ... ثوب العزاء، ولم نذهل عن الطرب
فنحن بين شج لم يقض عبرته ... وبين حران باكي العين منتحب
وقال جميل بن معمر:
أهاجتك المنازل والطلول ... عفون، وخف منهن الحمول
نعم، وذكرت دنيا قد تقضت ... وأي نعيم دنيا لا يزول
أسائل دار بثنة أين حلت ... كأن الدار تفهم ما أقول
وقال الشريف الرضي ﵁:
1 / 9
يقر بعيني أن أرى لك منزلًا ... بنعمان يزكو تربه ويطيب
وأرضا بنوار الأقاحي صقيلة ... تردد فيها شمأل وجنوب
وأي حبيب غيب النأي شخصه ... وحال زمان دونه وخطوب
تطاولت الأعلام بيني وبينه ... وأصبح نائي الدار وهو قريب
يقولون: مشغوف الفؤاد مروع ... ومشغوفة تدعو به فيجيب
عفافي من دون التقية زاجر ... وصونك من دون الرقيب رقيب
وفي القلب داء في يديك دواؤه ... ألا رب داء لا يراه طبيب
وقال زهير بن أبي سلمى:
كم للمنازل من عام ومن زمن ... لآل أسماء بالقفين فالركن
لآل أسماء إذ هام الفؤاد بها ... حينًا، وإذ هي لم تظعن ولم تبن
وإذ كلانا إذا حانت مفارقة ... من الديار، طوى كشحًا على حزن
فقلت ... والدار أحيانًا يشط بها
صرف الأمير على من كان ذا شجن
لصاحبي وقد زال النهار بنا ...:
هل تؤنسان ببطن الجو من ظعن
يقطعن أميال أجواز الفلاة، كما ... يغشى النواتي غمار اللج بالسفن
وقال النابغة الذبياني:
أهاجك من أسماء ربع المنازل ... بروضة نعمى فبرق الأجاول
أربت بها الأرواح حتى كأنما ... تهادين أعلى تربها بالمناخل
عهدت بها حيا كراما فبدلت ... خناطيل آرام الظباء المطافل
وقال زهير:
لسلمى بشرقي القنان منازل ... ورسم بصحراء اللبيين ماثل
أتى عام حلت صيفه وربيعه ... وعام وعام يتبع العام قابل
تحمل عنها أهلها، وخلت لها ... سنون، فمنها مستبين وحائل
طربت، وقال القلب: هل دون أهلها ... لمن جاورت إلا ليال قلائل؟
وقال عدي بن الرقاع:
أتعرف بالصحراء شرقي شابك ... منازل أعراها الأنيس وملعبا؟!
ظللت أرائيها صحابي، وقد أرى ... بها أهلها من بين غر وأشيبا
ومحتجبات بالستور، كأنما ... تجن ستور الخز منهن ربربا
أخطرة شوق في الفؤاد تعرض ... لتنكأ قلبًا مستهاما معذبا
وقال ذو الرمة غيلان:
خليلي عوجا من صدور الرواحل ... بجمهور حزوى فابكيا في المنازل
لعل انحدار الدمع يعقب راحة ... من الوجد أو يشفى نجي البلابل
دعاني، وما داعي الهوى من بلادها ... إذا ما نأت خرقاء عني
بغافل
وقال أيضًا:
ألا حي المنازل بالسلام ... على بخل المنازل بالكلام
لمى باللوى درجت عليه ... رياح الصيف عامًا بعد عام
ألا يا ليتنا يا مي ندري ... متى نلقاك في عرج اللمام
[يريد بعرج اللمام] اختلاف داريهما.
وقال أيضًا:
أمنزلني مي سلام عليكما ... على النأي، والنائي يود وينصح
ولازال من نوء السماك عليكما ... ونوء الثريا وابل متبطح
وإن كنتما قد هجتما راجع الهوى ... لذي الشوق حتى ظلت العين تسفح
أجل عبرة كادت لعرفان منزل ... لمية لو لم تسهل الماء تذبح
إذا غير النأي المحبين لم أجد ... رسيس الهوى من حب مية يبرح
فلا القرب يدني من هواها ملالة ... ولا حبها إن تنزح الدار ينزح
تصرم أهواء القلوب ولا أرى ... نصيبك من قلبي لغيرك يمنح
وبعض الهوى بالهجر يمحى فينمحي ... وحبك عندي يستجد ويربح
وقال ذو الرمة أيضًا:
ألا أيهذا المنزل الدارس اسلم ... وأسقيت صوب الباكر المتغيم
وإن كنت قد هيجت لي دون صحبتي ... رسيس هوى من حب مية مسقم
هوى كادت العينان يفرط منهما ... له سنن مثل الجمان المنظم
أحب المكان القفر من أجل أنني ... به أتغنى باسمها غير معجم
وقال الحارث بن خالد:
إني وما نحروا غداة منى ... عند الجمار تئودها العقل
لو بدلت أعلى منازلها ... سفلًا، وأصبح سفلها يعلو
فيكاد يعرفها الخبير بها ... فيرده الإقواء والمحل
لعرفت منزلها بما ضمنت ... مني الضلوع لأهلها قبل
وقال البحتري:
جئنا نحيي من أثيلة منزلًا ... جددًا معالمه بذي الأنصاب
أدى إلى العهد من عرفانها ... حتى لكاد يرد رجع جوابي
وقال أيضًا:
1 / 10
مستهتر بالظاعنين وفيهم ... صد يسعر لوعة المستهتر
يسل المنازل عنهم، وعلى اللوى ... دمن دوارس إن تسل لم تخبر
ومن السفاهة أن تظل مكفكفًا=دمعًا على طلل تأبد مقفر وقال أيضًا:
لا زال محتفل الغمام الماطر ... يهمي على حجرات أهل الحاجر
فلرب نزلة هناك محيلة ... ومحلة قفر ورسم داثر
أبهت لساكنها النوى وتكشفت ... عن أهلها سنة الزمان الناظر
ولقد تكون بها الأوانس من مهى ... ميل القلوب إلى الصبي وجآذر
وقال أبو حية النميري:
طربت وهاجتك المنازل من جن ... ألا ربما يعتادك الشوق بالحزن
نظت إلى أظعان زينب بالضحى ... فأعولتها لو أن إعوالها يغني
فوالله لا أنساك زينب ما دعت ... مطوقة ورقاء شجوا على غصن
وقال الأحوص:
زبيرية بالعرج منها منازل ... وبالخيف من أدنى منازلها رسم
أسأئل عنها كل ركب لقيته ... وما لي بها من بعد مكتنا علم
أيا صاحب النخلات من بطن أرثد ... إلى النخل من ودان ما فعلت نعم؟!
فإن تك حرب بين قومي وقومها ... فإني لها في كل حادثة سلم
وقال البحتري:
أكثرت في لوم المحب فأقلل ... وأمرت بالصبر الجميل فأجمل
لم يكفه نأي الأحبة باللوى ... حتى ثنيت عليه لوم العذل
قسم الصبابة فرقتين: فشوقه ... للظاعنين، ودمعه للمنزل
متقسم الأحشاء يندب أربعًا ... متقسمات بالصبا والشمال
خطت على تلك المنازل والربى ... منهن أعباء الغمام المثقل
وقال أيضًا:
منازل لم نذمم عهد معرسنا ... فيها، ولا ذم يومًا عهدها فينا
تجرمت عندها أيامنا حججا ... معدودة وخلت فيها ليالينا
وقال أيضًا:
خذا من بكائي في المنازل أودعا ... وروحًا على لومي بهن أو أربعا
فما أنا بالمشتاق إن قلت: أسعدا ... لنندب ربعًا من سعاد ومربعا
ولي لوعة تستغرق الهجر والنوى ... جميعًا، ودمع ينفد الحب أجمعا
وقال مهيار بن مرزويه الديلمي:
وبالغور للناسين عهدي منزل ... حنانيك من شات أقام وصائف
أغالط فيه رقبة لا جهالة ... وأسأل عنه وهو باد [ي] المعارف
ويعذلني في الدار صحبي كأنني ... على عرصات الدار أول واقف
أنشد المبرد، قال: أنشدتني القريظية (من بني قريظ):
سقى الله نجدًا من ربيع وصيف ... وماذا ترجى من ربيع سقى نجدا؟
على أنه قد كان للعيش مرة ... وللبيض والفتيان منزلة حمدا
وقال آخر:
وإن بصحراء الغوير منازلًا ... لأحبابنا، أكرم بها من منازل
وفيها الذي هام الفؤاد بحبها ... على أنه لم يحظ منها بطائل
وقال أبو الفتح الحسن بن عبد الله بن عبد الجبارين أبي حصينة السلمي:
سل المنزل الغوري أين خرائده ... وأين تولى بدره وفراقده
وإن كان ذاك الربع مذ بان أهله ... ليعتاده الوجد الذي أنا واجده
ومن لوعة من أهله لو شكوتها ... إليه للانت
وهي صم
جلامده
وقفنا به فاستمطرت كل مقلة ... عهاد البكا آياته ومعاهده
وأنبت من سحب الدموع ترابه ... حيًا بشر النجاع بالخصب رائده
وقال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
أللشوق لما هيجتك المنازل ... بحيث التقت من بيشتين الغياطل
تذكرت فانهلت لعيني عبرة ... يجود بها جار من الدمع هامل
ليالي من عيش نعمنا بوجهه ... زمانًا، وسُعدى لي خليل مواصل
وقال البحتري:
ليت المنازل سرن يوم متالعٍ ... إذ لم يكن أنس الخليط مقيما
فلربما أروت دموعًا من دم ... فيها، وأظمت لائمًا وملوما
ولقد منعت الدار إعلان الهوى ... وطويت عنها سرك المكتوما
وسلي محيل الربع هل أبثثته ... إلا الوقوف عليه والتسليما؟
سقيت رباك بكل نوء عاجل ... من وبله حقًا لها معلوما
وقال البحتري أيضًا:
نشدتك الله من برق على إضم ... ألا سقيت جنوب الخبت فالعلم
وصبت بينهما حتى تسليهما ... بمستهل من الوسمى منسجم
منازل ما تجيب الصب من خرس ... ولا تريع إلى شكواه من صمم
1 / 11
أقام ينشد شملًا غير متفق ... من آل ليلى، وشعبًا غير ملتئم
وقال ذو الرمة غيلان:
أإن ترسمت من خرقاء منزلة ... ماء الصبابة من عينيك مسجوم؟!
منازل الحي، إذ لا الدار نازحة ... بالأصفياء، وإذ لا العيش مذموم
تعتادني زفرات حين أذكرها ... تكاد تنفد منهن الحيازيم
وقال البحتري:
أرى بين ملتف الأراك منازلًا ... مواثل لو كانت مهاها مواثلا
فقف مسعدًا فيهن إن كنت عاذرًا ... وسر مبعدًا عنهن إن كنت عاذلا
لقينا المغاني باللوى، فكأننا ... لقينا الغواني الآنسات عواطلا
وقال القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل بن قادوس - منشئ ديوان الرسائل بمصر - من ابتداء قصيدة:
هذي منازل من هويت فيمم ... واربع، وسح بربعها ديم الدم
عجنا فمن صب بصب دموعه ... درب، ومن متعمل متعلم
وقال آخر:
وقفت لليلى بعد عشرين حجة ... بمنزلة فانهلت العين تدمع
كأن زمامًا في الفؤاد معلقا ... تقود به حيث استمرت وأتبع
وقال آخر:
ما للمنازل لا يجبن حزبنا ... أصممن أم قدم البلى فبلينا؟!
لا، بل بلين فهجن داء ساكنًا ... لمتيم، وأثرن منه دفينا
روحوا العشية روحة مذكورة ... إن متن متن، وإن حيين حيينا
قلت: مرت بي هذه الأبيات في خبر استطرفته فأوردته، وليس مما قصدت له، لكن الأبيات أوجبت إيراده.
روى أن المأمون أمر أن يحمل إليه عشرة من الزنادقة سموا له من أهل البصرة، فجمعوا، وأبصرهم طفيلي، فقال: ما اجتمعوا هؤلاء إلا لصنيع، فانسل فدخل في وسطهم، ومضى بهم الموكلون، حتى انتهوا إلى زورق قد أعد لهم، فدخلوا في الزورق، فقال الطفيلي: هي نزهة، فدخل معهم الزورق، فلم يكن بأسرع من أن قيد القوم، وقيد معهم الطفيلي، ثم سير بهم إلى بغداد، فلما دخلوا على المأمون جعل يدعوا بأسمائهم رجلًا رجلًا، ويأمر بضرب أعناقهم، حتى وصل إلى الطفيلي وقد استوفى العدة،، فقال للموكلين: ما هذا؟ قالوا: والله ما ندري غير أنا وجدناه مع القوم فجئنا به، فقال له المأمون: ما قصتك؟ ومن أنت؟ فقال: يا أمير المؤمنين امرأته طالق إن كان يعرف من أقاويلهم شيئًا، ولا مما يدينون به، وإنما أنا رجل طفيلي، رأيتهم مجتمعين، فظننت صنيعًا يدعون إليه، فضحك المأمون، وقال: يؤدب، وكان إبراهيم بن المهدي قائمًا على رأسه، فقال: يا أمير المؤمنين هب لي أدبه، وأحدثك بحديث عجيب عن نفسي، قال: قل يا إبراهيم، قال: خرجت من عندك يومًا، وطفت في سكك بغداد متطربًا حتى انتهيت إلى موضع، فشممت من أبازير قدر قد فاح طيبها، فتاقت نفسي إليها وغلى طيب رائحتها، فوقفت على خياط، فقلت: لمن هذه الدار؟ فقال: لرجل من التجار البزازين، قلت: ما اسمه؟ قال: فلان بن فلان، ثم رميت بطرفي إلى شباك فيها مطل، فنظرت إلى كف قد خرج على معصم، فشغلني يا أمير المؤمنين حسن الكف والمعصم عن رائحة القدر، فبقيت باهتًا ساعة، ثم أدركني ذهني، فقلت للخياط: هو ممن يشرب النبيذ؟ قال: نعم، وأحسب أن عنده دعوة، وليس ينادم إلا تجارًا مثله مستورين، [فبينا] أنا كذلك إذ أقبل رجلان جليلان راكبان من رأس الدرب، فقال لي الخياط: هؤلاء منادموه، فقلت: ما اسماهما وكنهما؟ فقال: فلان وفلان، فحركت دابتي وداخلتهما، وقلت: جعلت فداكما قد استبطأكما أبو فلان - حرسه الله - وسايرتهما حتى أتيا الباب، فأجلاني، وقدماني، فدخلت ودخلا، فلما رآني معهما صاحب المنزل لم يشك أني منهما بسبيل، أو قادم قدم عليهما من موضع، فرحب بي وأجلسني في أفضل المواضع، فجيءيا أمير المؤمنين بالمائدة، وعليها خبز نصف، وأتينا بذلك اللون، فكان طعمه أطيب من ريحه، فقلت في نفسي: هذه الألوان قد أكلتها، بقيت الكف، كيف أصل إلى صاحبتها؟ ثم رفع الطعام، وجيء بالوضوء، ثم صرنا إلى مجلس الشراب والمنادمة، فإذا أشكل منزل يا أمير المؤمنين، وجعل صاحب المنزل يلطف بي، ويقبل علي بالحديث، وجعلوا لا يشكون أن ذلك منه عن معرفة متقدمة، حتى إذا شربنا أقداحًا خرجت علينا جارية كأنها جان، تتثنى كالخيزران، فأقبلت فسلمت غير خجلة، وثنيت لها وسادة، فجلست، وأتي بعود، فوضع في حجرها، فجسته فتوهمت في جسها حذقها، ثم اندفعت تغني:
1 / 12
توهمها طرفي فأصبح خدها ... وفيه مكان الوهم من نظري أثر
يصافحها كفى، فتألم كفها ... فمن مس كفي في أناملها عقر
فهيجت يا أمير المؤمنين بلابلي، وطربت لحسن الشعر وحذقها، ثم اندفعت تغني:
أشرت إليها: هل عرفت مودتي؟ ... فردت بطرف العين: إني على العهد
فحدت عن الإظهار عمد السرها ... وحادت عن الإظهار أيضًا على عمد
فصحت: السلاح - يا أمير المؤمنين - وجاءني من الطرب ما لم أملك [معه] نفسي، ثم اندفعت تغني الصوت الثالث:
أليس عجيبًا أن بيتًا يضمني ... وإياك لا نخلو ولا نتكلم
سوى أعين تشكو الهوى بجفونها ... وتقطيع أنفاس على النار تضرم
إشارة أفواه، وغمز حواجب ... وتكسير أجفان، وكف تسلم
فحسدتها والله يا أمير المؤمنين على حذقها ومعرفتها بالمعنى الذي قصدته من الشعر، ولم تخرج عن الفن الذي بدأت به، فقلت: بقي عليك يا جارية [شيء]، فضربت بعودها الأرض، وقالت: متى كنتم تحضرون مجالسكم البغضاء؟! فندمت على ما كان مني، ورأيت القوم كأنهم قد تغيروا لي، فقلت: أما عندكم عود غير هذا؟ قالوا: بلى، وأتيت بعود، فأصلحت من شأنه، ثم غنيت: ما للمنازل لا يجبن حزبنا.... الأبيات التي تقدمت فما استتممته - يا أمير المؤمنين - حتى قامت الجارية فانكبت على رجلي تقبلهما، وقالت: معذرة إليك يا سيدي، فوالله ما سمعت أحدًا يغني هذا الصوت غناك، وقام مولاها وأهل المجلس، ففعلوا كفعلها، وطرب القوم، واستحثوا الشرب، فشربوا بالطاسات والكاسات، ثم اندفعت أغني:
أبى الله أن أمسي ولا تذكرينني ... وقد سجمت عيناي من ذكرك الدما
إلى الله أشكو بخلها وسماحتي ... لها عسل مني، وتبذل علقما
فردى مصاب القلب، أنت قتلته ... ولا تتركيه ذاهل القلب مغرما
فطرب القوم يا أمير المؤمنين حتى خرجوا من عقولهم، فأمسكت ساعة حتى تراجعوا، ثم غنيت الصوت الثالث:
هذا محبك مطوى على كمده ... عبرى مدامعه تجري على جسده
له يد تسأل الرحمن رحمته ... مما به، ويد أخرى على كبده
فجعلت الجارية تصيح: هذا الغناء والله يا سيدي لا ما كنا فيه منذ اليوم، فسكر القوم، وكان صاحب المنزل حسن الشرب، صحيح العقل، فأمر غلمانه أن يخرجوهم ويحفظوهم إلى منازلهم، وخلوت معه، فلما شربنا أقداحًا، قال: يا سيدي ذهب ما مضى من أيامي ضياعًا، إذ كنت لاأعرفك، فمن أنت يا مولاي؟ فلم يزل يلح علي حتى أخبرته، فقام وقبل رأسي، وقال: وأنا عجبت يا سيدي أن يكون هذا الأدب إلا لمثلك، وإني لجالس مع الخلافة ولا أشعر؟ ثم سألني عن قصتي، فأخبرته حتى وصلت إلى صاحبة الكف والمعصم، فقلت: أما الطعام فقد نلت منه حاجتي، وبقي الكف والمعصم، فقال للجارية: قومي، فقولي لفلانة تنزل إلي، فلم يزل ينزل إلى جواريه واحدة واحدة، فأنظر كفها ومعصمها، فأقول: ليست هي، حتى قال: والله ما بقي غير أختي وأمي، وبالله لأنزلنهما إليك، فعجبت من كرمه وسعة صدره، فقلت: جعلت فداك، أبدأ بالأخت قبل الأم، فعسى أن تكون هي، ففعل، فلما رأيت كفها ومعصمها قلت: هي هذه، فأمر غلمانه فساروا إلى عشرة مشايخ من جلة جيرانه، فأقبلوا بهم، وأمر ببدرتين فيهما عشرون ألف درهم، ثم قال للمشايخ: هذه أختي فلانة، أشهدكم أني قد زوجتها من سيدي إبراهيم بن المهدي، وأمهرتها عنه عشرين ألف درهم، فرضيت وقبلت النكاح، فدفع إليها بدرة، وفرق الأخرى على المشايخ، وقال لهم: انصرفوا، ثم قال: يا سيدي أمهد لك بعض البيوت فتنام فيه مع أهلك؟ فأحشمني ما رأيت من كرمه فقلت: بل أحضر عمارية فأحملها إلى منزلي، قال: ما شئت، فأحضرت عمارية فحملتها إلى منزلي، فوالله يا أمير المؤمنين لقد اتبعنا من الجهاز ما ضاقت عنه بيوتنا، فأولدتها هذا الغلام القائم على رأس أمير المؤمنين، فعجب المأمون من كرم الرجل، وألحقه في خاصته، وأطلق الطفيلي وأجازه.
وقال بشر بن أبي خازم:
تغيرت المنازل من سليمى ... برامة فالكثيب إلى بطاح
[بطاح]: موضع:
ديار قد تحل بها سليمى ... هضيم الكشح، جاثلة الوشاح؟
ليالي تستبيك بذي غروب ... يشبه ظلمه خضل الأقاح
وقال مهيار:
هل عند ظبي المنحنى ... إجابة فيسألا؟
1 / 13
أم أنا معذور إذا ... سألت عنه الطللا
بلى عدمت الناز ... لين فبكيت المنزلا
عثرت في غدرك بي ... عثرة من لا وألا
كان دلالًا فغفر ... ناه، فتم مللا
٢- فصل في ذكر الديار
قال الله ﵎: (وإذ أخذنا ميثاقكم، لا تسفكون دماءكم، ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ...) الآية: قال الخليل: كل موضع حله قوم فهو دار، وإن لم يكن فيه أبنية، وسميت دارًا لدورها على سكانها، كما سمى الحائط حائطًا؛ لإحاطته على ما يحويه.
قال القاضي الماوردي ﵀: إن قيل: هل يسفك أحد دمه، ويخرج نفسه من دياره؟ ففيه قولان: أحدهما معناه: لا يقتل بعضكم بعضًا، ولا يخرجه من دياره.
والثاني: أنه القصاص الذي يقتص منهم بمن قتلوه، فصاروا قاتلين لأنفسهم بالقصاص.
وقوله تعالى: (ولا تخرجون أنفسكم من دياركم) فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يخرج بعضكم بعضًا.
والثاني: لا تسيئوا جوار من جاوركم، فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم.
والثالث: لا تفعلوا ما تخرجون به من الجنة التي هي داركم.
قوله ﷿: (هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر، ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله، فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فاعتبروا يا أولي الأبصار) .
(أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب): يعني يهود بني النضير. (من ديارهم): يعني منازلهم بالحجاز. (لأول الحشر): أجلاهم رسول الله ﷺ بعد رجوعه من أحد إلى أذرعات الشام، وأعطى كل ثلاثة نفر بعيرًا يحملون عليه ما استقل إلا السلاح، وكان النبي ﷺ قد عاهدهم - حين هاجر إلى المدينة - ألا يقاتلوا معه ولا عليه، فكفوا يوم بدر، لظهور المسلمين على المشركين، وأعانوا المشركين يوم أحد حين رأوا ظهورهم على المسلمين، فقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، قتله محمد بن مسلمة ﵀ غيلة، وسأذكر قتله بعد الفراغ من تفسير هذه الآية، ثم سار النبي ﷺ فحاصرهم ثلاثًا وعشرين ليلة محاربًا، حتى أجلاهم عن ديارهم.
وقوله تعالى: (لأول الحشر): أنهم أول من أجلاه النبي ﷺ من اليهود، وقيل: أول حشرهم أنهم يحشرون بعدها إلى أرض المحشر في القيامة.
وروى عن النبي ﷺ أنه قال - لما أجلاهم -: (هذا أول الحشر، وأنا على الأثر) وقيل: أول حشرهم؛ لما ذكره قتادة ﵀: أنهم يأتي عليهم بعد ذلك نار من مشرق الشمس تحشرهم إلى مغربها، تبيت معهم إذا باتوا، وتأمل من تخلف.
قتل كعب بن الأشرف
كان قتل كعب بن الأشرف في ربيع الأول، على رأس خمسة وعشرين شهرًا من الهجرة. قال ابن إسحاق ﵀ إلى أهل السافلة، وعبد الله بن رواحة ﵀ إلى أهل العالية بشيرين، بعثهما رسول الله ﷺ إلى من بالمدينة من المسلمين بفتح الله تعالى عليه، وقتل من قتل من المشركين، قال كعب بن الأشرف - وكان رجلًا من طيء، ثم أحد بني نبهان، وكانت أمه من بني النضير - حين بلغه الخبر: أحق هذا؟ أترون محمدًا قتل هؤلاء الذين يسمى هذان الرجلان؟ - يعني زيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة ﵄ فهؤلاء أشراف العرب وملوك الناس، والله لئن كان محمد أصاب هؤلاء القوم لبطن الأرض خير من ظهرها، فلما تيقن عدو الله الخبر خرج حتى أتى مكة، فنزل على المطلب بن أبي وداعة بن صبيرة السهمي، وعنده عاتكة ابنة أبي العيص بن أمية بن عبد شمس بن [عبد] مناف، فأنزله وأكرمه، فجعل يحرض على رسول الله ﷺ، وينشد الأشعار، ويبكي أصحاب القليب من قريش الذين أصيبوا ببدر، فمن ذلك قوله:
طحنت رحى بدر لمهلك أهلها ... ولمثل بدر تستهل الأدمع
قتلت سراة الناس حول حياضهم ... لا تبعدوا إن الملوك تصرع
كم قد أصيب به من ابيض ماجد ... ذي بهجة تأوي إليه الضيع
طلق اليدين إذا الكواكب أخلفت ... حمال أثقال يسود ويرفع
ويقول أقوام ... أثير بشحطهم
إن ابن الأشرف ظل كعب يجزع
صدقوا، فليت الأرض ساعة قتلوا ... ظلت تسوخ بأهلها وتصدع
1 / 14
صار الذي أثر الحديث بطعمة ... أو عاش أعمى من عشًا لا يسمع
نبئت أن بني المغيرة كلهم ... خشعوا لقتل أبي الحكيم وجدعوا
يعني [بأبي الحكيم]: أبا جهل
نبئت أن الحارث بن هشامهم ... في الناس يبنى الصالحات ويجمع
ليزور يثرب بالجموع، وإنما ... يحمي عن الحسب الكريم الأروع
ثم رجع كعب بن الأشرف إلى المدينة، فشبب بأم الفضل بنت الحارث، فقال:
أراحل أنت لم تلمم بمنتبه ... وتارك أنت أم الفضل بالحرم؟
ترتج ما بين كعبيها ومرفقها ... إذا تأنت قيامًا ثم لم تقم
أشباه أم حكيم إذ تواصلنا ... والحبل منها متين غير منجذم
إحدى بني عامر هام الفؤاد بها ... ولو تشاء شفت كعبًا من السقم
فرع النساء، وفرع القوم والدها ... أهل المحلة والإيفاء بالذمم
لم أر شمسًا بليل قبلها طلعت ... حتى تجلت لنا في ظلمة الظلم
1 / 15
ثم شبب بنساء المسلمين حتى آذاهم، فقال رسول الله ﷺ: "من لي من ابن الأشرف"، فقال محمد بن مسلمة [أخو بني عبد الأشهل]﵀ أنا لك به يا رسول الله، أنا أقتله، قال: فافعل إن قدرت على ذلك، فرجع محمد، فمكث ثلاثًا لا يأكل ولا يشرب إلا ما يعلق به نفسه، فذكر ذلك لرسول الله ﷺ، فدعاه، فقال له: لم تركت الطعام والشراب؟ قال: يا رسول الله قلت لك قولًا لا أدري أوفي لك به أم لا، قال: إنما عليك الجهد، قال: يا رسول الله إنه لابد أن نقول قال: "قولوا ما بدا لكم؛ فأنتم في حل من ذلك" فاجتمع في قتله محمد بن مسلمة، وأبو نائلة سلكان ابن سلامة بن وقش، وكان أخا كعب بن الأشرف من الرضاعة، وعباد بن بشر بن وقش، والحارث بن أوس بن معاذ، وأبو عبس بن جبر ﵃، ثم قدموا إلى كعب بن الأشرف - قبل أن يأتوه - أبا نائلة، فجاءه فتحدث معه ساعة، وتناشدا الأشعار، وكان أبو نائلة يقول الشعر، ثم قال: ويحك يا ابن الأشرف، إني قد جئتك بحاجة أريد ذكرها لك، فاكتم عني، قال: أفعل، قال: كان قدوم هذا الرجل علينا بلاء من البلاء؛ عادتنا العرب، ورمونا عن قوس واحدة، وقطعت عنا السبل حتى ضاع العيال، وجهدت الأنفس، وأصبحنا قد جهدنا وجهد عيالنا، فقال كعب بن الأشرف: أما والله لقد كنت أخبرك يا ابن سلامة أن الأمر سيصير إلى ما أقول، فقال له أبو نائلة: ومعي رجال من أصحابي عل مثل رأيي، وقد أردت أن آتيك بهم، فنبتاع منك طعامًا، فتحسن في ذلك إلينا، ونرهنك ما يكون لك فيه وفاء، فقال كعب: ما كنت أحب يا أبا نائلة أن أرى هذه الخصاصة بك، وإن كنت لمن أكرم الناس علي، أنت أخي نازعتني الثدي، فاصدقني ذات نفسك، ما الذي تريدون في أمره؟ قال: خذلانه والتنحي عنه، قال: سررتني يا أبا نائلة، فما ترهنوني؟ أترهنوني أبناءكم؟ قال: لقد أردت أن تفضحنا، قال: أترهنوني نساءكم؟ قال: كيف نرهنك نساءنا وأنت أشب أهل يثرب وأعطرهم، ولكنا نرهنك من الحلقة ما فيه وفاء - وأراد أبو نائلة ألا ينكر السلاح إذا جاءوا به - قال: إن في الحلقة لوفاء، فخرج أبو نائلة من عنده على ميعاد، فأجمعوا أمرهم على أن يأتوه إذا أمسى لميعاده، ثم أتوا النبي ﷺ عشاء فأخبروه، قال ابن إسحاق: فمشى معهم رسول الله ﷺ إلى البقيع، ثم وجههم وقال: "انطلقوا على اسم الله، اللهم أعنهم" ثم رجع رسول الله ﷺ إلى بيته، فأقبلوا حتى انتهوا إلى حصنه، فهتف به أبو نائلة، وكان كعب حديث عهد بعرس، فوثب في ملحفته، فأخذت امرأته بناحيتها، وقالت: إنك امرؤ محارب، وإن أصحاب الحرب لا ينزلون في هذه الساعة، فقال: إنه أبو نائلة، لو وجدني نائمًا ما أيقظني، قالت: والله إني لأعرف في صوته الشر، فقال: "لو يدعى الفتى لطعنة أجابا"، فنزل فتحدث معهم ساعة، وتحدثوا معه، ثم قالوا له: هل لك يا ابن الأشرف أن نتماشى إلى شعب العجوز فنتحدث به بقية ليلتنا هذه؟ قال: إن شئتم، فخرجوا يتماشون، فمشوا ساعة، ثم إن أبا نائلة أدخل يده في فودى رأس كعب، ثم شم يده، فقال: ما رأيت كالليلة طيبًا أعطر قط، ثم مشى ساعة، ثم قال: اضربوا عدو الله، فضربوه فاختلفت عليه أسيافهم، فلم تغن شيئًا، قال محمد بن مسلمة: فذكرت مغولًا في سيفي حين رأيت أسيافنا لا تغني شيئًا، فأخذته - وقد صاح عدو الله صيحة لم يبق حولنا حصن إلا أوقدت عليه نار - فوضعته في ثنته، وتحاملت عليه حتى بلغت عانته، فوقع عدو الله فاحتز رأسه، وقد أصيب الحارث بن أوس بن معاذ، فجرح في رجله؛ أصابه بعض أسيافنا، قال: فخرجنا حتى أسندنا في حرة العريض، وقد أبطأ علينا صاحبنا الحارث بن أوس، ونزفه الدم، فوقفنا له ساعة حتى أتانا يتبع آثارنا، فحملناه فجئنا به رسول الله ﷺ [آخر الليل]، وقال الواقدي: فلما بلغوا "بقيع الغرقد"، وقد قام رسول الله ﷺ وهو واقف على باب المسجد، فقال: "أفلحت الوجوه" قالوا: "ووجهك يا رسول الله" ورموا برأس كعب بين يديه، فحمد الله على قتله، ثم أتوا بصاحبهم الحارث، فتفل على جرحه، فلم يؤذه، قال محمد بن مسلمة: فأصبحنا وقد خافت يهود لوقعتنا بعدو الله، فليس فيها يهودي إلا وهو يخاف على نفسه، قال الواقدي: ففزعت يهود ومن معها من المشركين، فجاءوا إلى النبي صلى
1 / 16
الله عليه وسلم حين أصبحوا، فقالوا: لقد طرق صاحبنا الليلة، وهو سيد من ساداتنا، فقتل غيلة بلا جرم، ولا حدث علمناه، فقال النبي ﷺ "إنه لو قر كما قر غيره ممن هو على مثل رأيه ما اغتسل، ولكنه نال منا الأذى وهجانا، ولن يفعل أحد منكم مثل فعله إلا كان له السيف" ودعاهم رسول الله ﷺ إلى أن يكتبوا بينهم كتابًا ينتهون إلى ما فيه، فكتبوا بينهم وبينه ﷺ كتابًا في دار رملة بنت الحدث، وخافت يهود من يوم قتل كعب بن الأشرف.
"قلت: اقتضت الآية ذكر قتل كعب بن الأشرف فذكرته، وإن لم يكن مما قصدت له". قوله ﷿: (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم) ... الآية. يعني تعالى بالمهاجرين: من هاجر عن وطنه من المسلمين إلى رسول الله ﷺ إلى دار الهجرة - وهي المدينة - خوفًا من أذى المشركين، ورغبة في نصرة نبيه ﷺ فهم المقدمون في الإسلام.
(يبتغون فضلًا من الله ورضوانًا): يعني فضلًا من عطاء الله تعالى في الدنيا، ورضوانًا من ثوابه في الآخرة.
وروى علي بن رباح اللخمي، أن عمر بن الخطاب - رضوان الله عليه - خطب بالجابية فقال: من أراد أن يسأل عن القرآن فليأت أبي بن كعب، ومن أراد أن يسأل عن الفرائض، فليأت زيد بن ثابت، ومن أراد أن يسأل عن الفقه، فليأت معاذ بن جبل، ومن أراد أن يسأل عن المال فليأتني، فإن الله تعالى جعل له خازنًا وقاسمًا، فإني باد بأزواج رسول الله ﷺ فمعطيهن، ثم بالمهاجرين الأولين أصحابي، أخرجنا من ديارنا وأموالنا. قال قتادة: لأنهم اختاروا الله ورسوله ﷺ على ما كانت من شدة حتى ذكر لنا أن الرجل كان يعصب على بطنه الحجر ليقيم صلبه من الجوع، وكان الرجل يتخذ الحفيرة في الشتاء دثارًا ماله دثار غيرها. رضوان الله عليهم أجمعين.
وقوله ﷿: (قال نوح: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا، إنك إن تذرهم يضلوا عبادك، ولا يلدوا إلا فاجرًا كفارًا) في قوله (ديارا) وجهان: أحدهما: يعني أحدًا، والآخر: من يسكن الديار.
قيل: إن رجلًا من قوم نوح ﵇ مر به، وعلى كتفه ولد له صغير فقال لابنه: احذر هذا فإنه يضلك - يعني نوحًا ﵇ فقال الصبي لأبيه: أنزلني، فأنزله عن كتفه، فرمى نوحًا ﵇ فشجه، فحينئذ غضب نوح ﵇، ودعا عليهم.
وقيل: لما أنزل الله ﷿ عليه: (إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) دعا عليهم.
عن أبي بريدة عن أبيه ﵀ قال: كان رسول الله ﷺ يعلمهم إذا دخلوا المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم يا أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية.
قال الخنوت، وهو توبة بن مضرس:
رحلت حرام عن البلاد فلن ترى ... أخرى المنون بها وجوه حرام
ولقد نرى بالجزع منهم مجلسًا ... ضخمًا، ومبرك جامل قمقام
أضحت ديار بني أبيك كأنها ... بالبرقتين تخط بالأقلام
فاترك بكاءك في الديار فقد قضت ... عيناك نحبهما من التسجام
وفي بني حرام يقول رؤبة بن العجاج:
أقفرت الوعساء من حرام ... وقد يكونون ذوي أحلام
بها، وأحيانًا ذوي عرام ... فإن تكن سوايق الأيام
ساقتهم للبلد الشآمي فبالسلام ثم بالسلام
وقال التهامي:
ماتت لفقد الظاعنين ديارهم ... فكأنهم كانوا لها أرواحًا
ولقد عهدت بها ... فهل أرينه
مغدى لمنتجع العلى ومراحا
وقال آخر:
أين أهل الديار من قوم نوح ... ثم عاد من بعدهم وثمود
بينما هم على النمارق والديبا ... ج أفضت إلى التراب الخدود
وقال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي:
لمن الديار بأبرق الحنان ... فالبرق فالهضبات من أدمان
أفوت منازلهم وغير رسمها ... بعد الأنيس تعاقب الأزمان
فإذا غشيت لها ببرقة واسط ... ولواء بينة منزلًا أبكاني
وقال أبو نواس - الحسن بن هانئ -:
لقد طال في رسم الديار بكائي ... وقد طال تردادي بها وعنائي
كأني مريغ في الديار طريدة ... أراها أمامي تارة وورائي
1 / 17
فلما بدا لي اليأس عديت ناقتي ... عن الدار، واستولى على عزائي
وقال آخر:
ليت الديار التي تبقى فتحزننا ... كانت تبيد إذا ما أهلها بانوا
بانوا فأفئدة فيهم معذبة ... لو خلفوها لدناهم كما دانوا
ينأون عنا، وما تنأى مودتهم ... فالقلب رهن لديهم أينما كانوا
وقال آخر:
ولقد مررت على ديارهم ... وطلولها بيد البلى نهب
فوقفت حتى عج من لغب ... نضوى، ولج بعذلي الركب
وتلفتت عيني، فمذ خفيت ... عني الطلول تلفت القلب
وقال سيدوك الواسطي (وتنسب إلى الرستمي):
مررنا بأكناف العقيق فأعشبت ... أباطح من أجفاننا ومسايل
فمن واقف في جفنه الدمع واقف ... ومن سائل في خده الدمع سائل
وكادت تناجينا الديار صبابة ... وتبكي
كما نبكي عليها
المنازل
وقال أبو نواس:
لمن الديار تسربلت ببلاها ... أنستك رؤيتها، وما تنساها
لا تكذبن فما أراك بمنته ... عنها، وإن خبرت أن ستناهي
وقال أبو العلاء [أحمد بن عبد الله] بن سليمان المعري:
علام هجرت شرق الأرض حتى ... أتيت الغرب تختبر العبادا
فإن تجد الديار كما أراد ال ... غريب، فما الصديق كما أرادا
إذا الشعرى اليمانية استقلت ... فجدد للشآمية الودادا
فللشام الوفاء، وإن سواه ... توافي منطقًا غدر اعتقادا
ظعنت لتستفيد أخًا وفيًا ... وضيعت القديم المستفادا
وقال ابن الزقاق - من شعراء الأندلس -:
حننت إلى الديار، ولي حنين ... إلى الأحباب، ليس إلى الربوع
ولو أني أحن إلى مغاني ... أحبائي حننت إلى ضلوعي
روى أن المجنون قيس بن الملوح لما اختل عقله كان يخرج، فيأتي الشام، فيقول: أين أرض بني عامر؟ فيقال له: أين أنت من أرض بني عامر؟ عليك بنجم كذا فسر عليه، فينصرف، ويسير حتى يأتي أرض بني عامر، فيقف عند جبل لهم يقال له: "التوباذ" وينشد:
وأجهشت للتوباذ لما عرفته ... وكبر للرحمن حين رآني
فأذريت دمع العين لما رأيته ... ونادى بأعلى صوته فدعاني
فقلت له: أين الذين عهدتهم ... حواليك في أمن وخفض مكان؟!
فقال: مضوا، واستودعوني ديارهم ... ومن ذا الذي يبقى على الحدثان؟
وقال القاضي المهذب أبو محمد الحسن بن علي بن الزبير أحد شعراء مصر:
لكم خيال في الجفون ممثل ... أبدًا، وذكر بالفؤاد موكل
وإلى دياركم نحن صبابة ... ونفض أوعية الدموع ونرسل
تلك المنازل ما تمر سحابة ... فهمي بها إلا وعين تهمل
ما ضرها إذ ينزلون ربوعها ... ألا يرى "فيها لعلوة منزل"
وقال السننبسي:
وإني كلما زاد التياحي ... إليك وأضرم القلب الخفوق
أمر على دياركم وإني ... بمن أمسى بها صب مشوق
وأومي بالتحية من بعيد ... كما يومي بإصبعه الغريق
وقال أبو تغلب، الحارث بن غنم العدواني:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ... بحوزة أو بالجزع أو بقران؟!
وهل أرين تلك الديار التي بها ... نداماي قدمًا حيث كنت أراني؟!
وقال عدي بن الرقاع العاملي:
ليت شعري: هل تخبرني الديار ... بيقين عن أهلها أين ساروا؟
أسفًا هيجت فمالك منها ال ... يوم إلا تفجع وإدكار
دار حي تقادم العهد منها ... بعد حضارها، فبارت وباروا
صادفوا من غوائل الدهر غولًا ... بعد ما أنجدوا سنينًا وغاروا
فكأني من ذكرهم خالطتني ... من فلسطين بنت كرم عقار
وقال عبد الله بن قيس الرقيات:
هل للديار بأهلها علم؟! ... أم هل يبين فينطق الرسم؟!
يا صاح هل أبكاك موقفنا ... أم هل علينا في البكا إثم؟!
أم ما بكاؤك منزلًا خلقا ... قفرًا يلوح كأنه الوشم؟
وقال النابغة الجعدي، واسمه قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة:
ألا يا ديار الحي بين محجر ... إلى جانب القمري كأنه لم تغير
وقفت بها لا أنت قاض لبانة ... ولا اليأس يشفي حاجة المتذكر
ألا أيها الباكي على ما يعوله ... تجمل على ما يحدث الدهر واصبر
1 / 18
فإن أنت لم تصبر لما كان جائيًا ... فإن كان تنكير لديك فأنكر
وقال عكرمة بن ربيعة العبدري:
فإن تك عبد الدار خلت مكانها ... وبقيت فردًا في ديارهم وحدي
فيا رب يوم لو هتفت أجابني ... مصاليت أبطال سراع إلى المجد
وقال لبيد بن ربيعة العامري:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع ... وتبقى الديار بعدنا والمصانع
وقد كنت في أكناف جار مضنة ... ففارقني جار بأربد نافع
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا ... وكل فتى يومًا به الدهر فاجع
ولا أنا يأتيني طريف بفرحة ... ولا أنا مما أحدث الدهر جازع
وما الناس إلا كالديار وأهلها ... بها يوم حلوها وغدوا بلا قع
وما المرء إلا كالشهاب، وضوءه ... يحور رمادًا بعد إذ هو ساطع
وما البر إلا مضمرات من التقى ... وما المال والأهلون إلا ودائع
يقول الفتى: إني سأفعل ذاكم ... وما للفتى علم بما الله صانع
وقال زهير بن أبي سلمى:
لمن الديار بقنة الحجر ... أقفرن من حجج ومن دهر
لعب الرياح بها وغيرها ... بعدي سوافي المور والقطر
وقال عدي بن الرقاع العاملي:
منع النوم طارقات الهموم ... بأسى وإدكار خطب قديم
من لدن أن أجنني الليل حتى ... فضح الصبح واضحات النجوم
من ديار غشيتها ذكرةً ما ... بين صارات ضاحكٍ فالهزيم
[الهزيم]: موضع
نسجت ظهرها الرياحات حتى ... يرى القاع من جميع الرسوم
واختلاف الأيام حتى محاها ... سالف الدهر بعد سكن مقيم
جمعتنا بها نوى الحي حولًا ... نتلهى بسرنا المكتوم
ولقد حال دون ذلك هم ... مثله فليرع فؤاد الحليم
إن قومي تتابعوا بعد ما كا ... نوا، هم القوم، فابك غير ملوم
ولقد كان يخفض الجار فيهم ... غير مستشرف ولا مظلوم
وقال البحتري:
متى تستزد فضلًا من العمر تغترف ... بسجليك من أرى الخطوب وصابها
يسر بعمران الديار مضلل ... وعمرانها تدنو بها من خرابها
ولم أرتض الدنيا أوان مجيئها ... فكيف ارتضائيها أوان ذهابها
وقال أيضًا:
شرخ الشباب أخو الصبي وأليفه ... والشيب تزجية الهوى وخفوفه
وأراك تعجب من صبابة مغرم ... أسيان طال على الديار وقوفه
صرف المسامع عن ملامة لائم ... لا لومه أجدى ولا تعنيفه
فسقى اللوى، لا بل سقى عهد اللوى ... أيام نرتبع اللوى ونصيفه
وقال أيضًا:
بني تغلب أعزز علي بأن أرى ... دياركم أمست وليس بها أهل
خلت بلد من ساكنيها وأوحشت ... مرابع من سنجار يهمي بها الوبل
وأزعج أهل المحلبيات ناجز ... من الحرب ما فيه خداع ولا هزل
وأقوت من القمقام أعراص مارد ... فما ضمنت تلك الأعقة والرمل
أفي كل يوم فرقة من جميعكم ... تبيد، ودار من مجامعكم تخلو؟!
وقال مهيار:
يا ديار الحي من خبت اللوى ... عدت ظنًا بعد ما كنت حقيقه
أخذ الدهر قشيبًا رائقًا ... من مغانيك، وأعطاك سحوقه
خلت ... لما لم أطق حمل النوى
أن تلك الدمن الصم مطيقه
لم أكن أعلم ... حتى نحلت
كنحولي
أنها مثلي مشوقه
أين جيراني بها؟ لهفي لهم ... لهفة سكرتها غير مفيقه
وقال الشريف المرتضى أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبرايهم بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ﵃:
أي دمع جرى ونحن بنجرا ... ن لنا، والديار ثم رسوم
دمن لو رنت إليهن عينا ... ك، قبيل الفراق قلت: نجوم
ومغان من النحول كأروا (م) ... ح، ولكن ليست لهن جسوم
ما سررنا إلا بهن وفيه ... (م)
ن
قفارًا
سيقت إلينا الهموم
وقال أيضًا:
قد مررنا على الديار تبدأ (م) ... ن دثورًا، بجدة، وخمولا
نكرتها العيون منا فما تع ... رف إلا رسومها والطلولا
1 / 19
قال أبو عبد الله الطبري: قال رجل لأبي محمد الحريري ﵀: كنت على بساط الأنس، وفتح لي طريق إلى الانبساط، فزللت زلة، فحجبت عن مقامي، فكيف السبيل إليه؟ دلني إلى الوصول إلى ما كنت عليه. فبكى أبو محمد، وقال: يا أخي. الكل في قهر هذه الخطة، وفي أسر هذه الرزية، ثم شهق، وسكت ساعة، ثم أنشد:
قف بالديار فهذه آثارهم ... نبك الأحبة حسرة وتشوقا
كم قد وقفت بها أسائل مخبرًا ... عن أهلها أو صادرًا أو مشفقا
فأجابني داعي الهوى في رسمها ... فارقت من تهوى فعز الملتقى
قيل: لما تغير المتوكل على محمد بن عبد الملك الزيات، كان يتمثل قبل الإيقاع به بقول أبي العتاهية:
سل ديار الحي من غيرها ... وعفاها ومحا منظرها
وهي الدنيا إذا ما أدبرت ... جعلت معروفها منكرها
إنما الدنيا كظل زائل ... أحمد الله، كذا قدرها
وقال أبو كبير - واسمه عتبة بن قادم أحد بني حرام -:
يا صاح قف بديار الحي مقفرة ... من الأحبة واحبس أينقًا قودًا
سقى الإله ... وإن بانوا، وقل لهم
مبنى الخيام، وتلك الأجبل السودا
منازلًا كنت أهوى أن أكون بها ... كما مضى، ليت كان العيش مردودا
وقال محمد بن عبد الأزدي، ثم السلاماني:
أرسم ديار بالستارين تعرف ... عفتها شمال ذات نيرين حرجف
فلم تدع الأرواح والماء والبلى ... من الدار إلا ما يشوق ويشعف
وقفت بها والدمع يذري حبابه ... على الصدر حتى كادت الشمس تكسف
[تكسف]: يريد تغرب
رسومًا كآيات الكتاب مبينة ... بها للحزين الصب مبكى وموقف
كأنك لم تعهد بها الحي جيرة ... جميع الهوى، من حيرة ما تصرف
إذ الناس ناس، والبلاد بغرة ... وأنت بها صب القرينة مؤلف
وقال آخر:
كفى حزنًا أني مقيم ببلدة ... أخلاي عنها نازح وبعيد
أقلب طرفي في الديار فلا أرى ... وجوه أحبائي الذين أريد
وقال ثوب الغطفاني:
أبت ألا تكلمك الديار ... وغير رسمها بعدي القطار
فلو نطقت شفت مني سقامًا ... ولكن السكات لها شعار
فهل شعب يداني بعد شعب ... وهل لليان عيشتنا انكرار
عسى هذا العسار من الليالي ... يكون وراءهن لنا يسار
فكل نعيم عيش يا ابن ثوب ... له
لا بد
جمع وانتشار
وقال البحتري:
يا ربوع الديار إني على ما ... قد أراه منكن غير جليد
أخلق الدهر عهدكن وللده ... ر صروف يبلين كل جديد
فرقت شملنا النوى بعد ما كن (م) ... اجميعًا في ظل عيش حميد
وقال الشريف المرتضى ﵁:
إلى كم ذا التصامم والتعاشي ... وكم هذا التواكل والتواني
ولو أنا فهمنا عن خراب الد (م) ... يار مقالها لم يبن بان
ويجني العيش كل أذى ويهوى ... فيا للعيش يعشق وهو جان
وقال أيضًا:
من على هذه الديار أقاما ... لو ضفا ملبس عليه فداما
عج بنا نندب الذين تولوا ... باقتياد المنون عامًا فعاما
سكنوا كل ذروة من أشم ... يحسر الطرف ثم حلوا الرغاما
يا لحى الله مهملًا حسب الده ... ر نئوم الجفون عنه فناما
علقًا في يد المنى كلما نا ... ل هوى يبتغيه رام مراما
أبيات من شعر والدي وأخي ﵄ مما يوافق المعنى المقصود
قال مولاي والدي مجد الدين أبو سلامة مرشد بن علي بن مقلد بن نصر بن منقذ ﵁:
ما في وقوفك في الديار تورع ... فأفض شؤون العين فهي الأربع
درست فليس لناظر لولا الهوى ... من طول ما بليت به مستمتع
يا دار لو أنصفت ربعك لم أقف ... فيه كهاتفة تنوح وتسجع
ولما طلبت لي الأساة لأشتفى ... من لوعة طويت عليها الأضلع
ما قدر ما أسفي عليك وحسرتي ... قلت، ولو أن الحشا يتقطع
أنا مدع فيما أقول؛ لأنني ... باق، وعذري عنه ما لا يسمع
فوددت لو أني ظفرت براحة ... إما بموت أو بعيش ينفع
وقال أخي عز الدولة أبو الحسن علي بن مرشد بن علي ﵁:
1 / 20