مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها
مناهج التربية أسسها وتطبيقاتها
প্রকাশক
دار الفكر العربي
সংস্করণের সংখ্যা
١٤٢١هـ
প্রকাশনার বছর
٢٠٠١م
জনগুলি
مقدمات
تقديم
...
تقديم:
يعرض المؤلف في الفصل الأول من الكتاب المفاهيم الأساسية لمناهج التربية، مميزا بين المنهج والبرنامج، ومبرزا العلاقة بين مفهوم الدين ومناهج التربية وبين الفلسفة ومناهج التربية، وموضحا مفهوم النظريات التربوية.
ويتناول في الفصل الثاني أسس مناهج التربية، ويناقش طبيعة المعرفة ومصادرها، ويبين أن التطبيق هو غاية العلم والمعرفة، وأن للعلم والمعرفة دورا في قيادة الإنسانية.
ويختص الفصل الثالث بالطبيعة الإنسانية، ويوضح ضرورة دراسة الفطرة الإنسانية، ويشرح مكونات الإنسان، ويقارن بين علم النفس الإسلامي وعلم النفس الغربي، ويتناول النمو بالتعلم، وواجبات المنهج نحو الطبيعة الإنسانية، كما يوضح طبيعة التعلم.
ويفرد المؤلف الرابع لطبيعة الحياة والمجتمع، فيوضح مفهوم الحياة وطبيعة المجتمع ومكوناته ودور المناهج التربوية، والعلم وتعليم الكبار، ويتناول مفهوم العدل في النظم والمؤسسات، وعلاقة العدل بمفهوم القيادة، وواجبات مناهج التربية نحو حقيقة المجتمع والحياة.
ويخصص الفصل الخامس لأهداف المناهج التربوية، ومعايير تلك الأهداف، وأهمية التغيير، ومصادر التلقي في منهج التربية، كما يناقش العدالة بين الفرد والمجتمع.
ويعالج الفصل السادس محتويات مناهج التربية وأنواعها. أما الفصل السابع فيعرض لطرائق التدريس الأساسية، ومراحل عملية التدريس ودور المدرس ووظيفة الوسائل التعليمية.
1 / 5
وفي الفصل الثامن تناول لطرائق وأساليب التقويم: أسسه وأنواعه ومستوياته وأدواته، وفيه معالجة للتقويم المرجعي المعيار والتقويم المرجعي المحك.
والفصل التاسع والأخير يتحدث عن تطوير المناهج والتغيير وعوائقه، ومتطلبات المنهج ومراحل تطويره.
والمؤلف في عرضه هذا حريص -وفي اقتدار- على أن يبين أن الإطار الإسلامي كفيل بأن يكون البلسم والعلاج للتناقض بين ما هو عالمي وما هو محلي، وبين ما هو عام وما هو فردي، وبين الأصالة والمعاصرة، وكفيل بالتخفيف من التوتر بين الاعتبارات الباقية أو الطويلة الأمد، والاعتبارات الزائلة أو القصيرة الأمد، وبين التوتر بين ما هو روحي وما هو مادي.
ولقد قدم الدكتور مدكور هذا كله في أسلوب جزل وعبارة واضحة ومضمون خصب بحيث يعتبر الكتاب متعة فكرية للقارئ والدارس، جدير بالثناء والتقدير. وهو إثراء للمكتبة العربية في مجاله، وعطاء لا يستطيعه إلا من نذر نفسه للتعليم والبحث العلمي، وكرس جهده للتطوير وخدمة أمتنا العربية والإسلامية.
وعلى الله قصد السبيل
مدينة نصر في رجب ١٤١٨هـ
نوفمبر ١٩٩٧م
د. جابر عبد الحميد جابر
1 / 6
سلسلة المراجع في التربية وعلم النفس:
تصدر هذه السلسلة بغرض النهوض بمستوى المراجع والكتب في مجال التربية وعلم النفس والاجتماع بحيث تشتمل على أحدث ما صدر في هذا المجال عالميا مع معالجته بمنظور ورؤية عربية مدعمة بخبرات الخبراء.
ويسر اللجنة الاستشارية أن يشارك أصحاب الفكر والكتاب وأساتذة الجامعات بنشر مؤلفاتهم المتميزة في تلك السلسلة.
وتضم اللجنة الاستشارية التي تناقش هذه الأعمال قبل صدورها مجموعة من خيرة علماء التربية وعلم النفس في مصر والعالم العربي، وهم:
أ. د. جابر عبد الحميد جابر. رئيس اللجنة
أ. د. فؤاد أبو حطب. عضوا
أ. د. عبد الغني عبود. عضوا
أ. د. محمود الناقة عضوا
أ. د. أمين أنور الخولي عضوا
أ. د. عبد الرحمن عبد الرحمن النقيب عضوا
أ. د. أسامة كامل راتب عضوا
أ. د. علي خليل أبو العينين عضوا
أ. د. أحمد إسماعيل حجي عضوا
أ. د. عبد المطلب القريطي عضوا
أ. د. علي أحمد مدكور عضوا
أ. د. مصطفى رجب المنيلاوي عضوا
أ. د. علاء الدين كفافي عضوا
أ. د. علي محيي الدين راشد عضوا
أ. د. علي حسين حسن عضوا
أ. د. مصطفى عبد السميع عضوا
مدير التحرير:
الكيميائي: أمين محمد الخضري
المهندس: عاطف محمد الخضري
جميع المراسلات والاتصالات على العنوان التالي:
دار الفكر العربي
سلسلة المراجع في التربية وعلم النفس
٩٤ شارع عباس العقاد-مدينة نصر-القاهرة
ت: ٢٧٥٢٩٨٤- فاكس: ٢٧٥٢٧٣٥
1 / 7
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهديه إلى يوم الدين، وبعد:
نحن نتعامل مع قضية التربية والتعليم في بلادنا -على مستوى الحوار والنقاش، وعلى مستوى الواقع المعاش- كمن لديه شجرة هزيلة ذابلة، تتساقط ثمارها المرة المعطوبة. فأخذ يهذب أغصانها، ويشذب أوراقها، وينظف ثمارها، ظنا منه أن هذا سيعالج ضعفها البادي، ويمنع سقوطها الوشيك، دون أن ينظر إلى جذع الشجرة المنخور، ولا إلى جذورها الممتدة خلال التربة البور!
لقد أضعنا زمنا طويلا نناقش جزئيات القضية وأطرافها المختلفة دون تدبر عميق لإطارها الشامل وأصولها الكلية، فمنا من عاب المناهج المحشوة بالمعلومات والمعارف التي لا قيمة لها في عصر التفجر المعرفي، ومنا من رأى أن المعلم هو حجر الزاوية ولا يصلح التعليم إلا بإصلاحه، وثالث تكلم عن المباني المتهالكة وعن تمويل التعليم، ورابع تحدث عن الدروس الخصوصية ومجانية التعليم، وخامس ركز على ازدحام الفصول الدراسية بالتلاميذ، والتسرب، وعدم استيعاب الملزمين.. إلخ.
والمؤكد أن هذه الأمور كلها وغيرها، هي الثمار العفنة والنتاج الرديء لأصول مغروسة في أرض غير صالحة للاستنبات.
نحن يا سادة في حاجة إلى أن نسأل أنفسنا أولا: من نحن؟ وما نريد أن نكون؟ وأن نجيب عن هذين السؤالين، فالإجابة عنهما توضح لنا فلسفتنا الاجتماعية الشاملة: كيف نرى الله؟ وما حقيقة الكون غيبه وشهوده؟ وما حقيقة الإنسان من حيث مصدره، وغايته، ووظيفته في الحياة، وعلاقته بالكون من حوله، ومركزه في هذا الكون؟ وما حقيقة الحياة الدنيا والآخرة في نظرنا؟ وما المعايير التي تحكم نظم الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟ وما موجهات الثقافة والفنون والآداب والصحافة والإعلام والإعلان في هذه الحياة؟ وما أهدافها التي تعمل على تحقيقها في ضوء الرؤية الاجتماعية الشاملة المتكاملة؟
إنه بدون تحديد هذه "الفلسفة الاجتماعية" أو "الهوية الاجتماعية" لا يمكن تحديد "الفلسفة التربوية"، فالفلسفة التربوية تنبثق عن الفلسفة الاجتماعية الشاملة، تؤكدها وتعيدها إلى جادة الصواب إذا انحرفت أو انحرف بعض عناصرها عن الخط المرسوم لها.
والفلسفة التربوية هي تحديد للأسس العقائدية والأسس الاجتماعية، والأسس النفسية التي على أساسها تصمم مناهج التربية والتعليم، ويعد المعلمون، ويمول التعليم، وعلى أساسها تقام المباني المدرسية المناسبة، وتنظم الإدارة المدرسية، وتخطط المناشط التربوية المختلفة.. إلخ.
1 / 9
إن الفلسفة التربوية هي بمثابة قاعدة الانطلاق الموحدة، التي تحدد للنظام التعليمي غاياته المنشودة، التي تعمل الوسائل المختلفة والمتنوعة على تحقيقها، إنها تحديد واضح لطبيعة المجتمع الذي نريد بناءه، ولطبيعة الإنسان الذي يجب أن نربيه.. الإنسان القادر على أن يسهم بإيجابية وفاعلية في بناء هذا المجتمع.
باختصار، إن الفلسفة التربوية الواضحة المنبثقة عن فلسفة اجتماعية شاملة أو عن تصور متكامل لحقائق الألوهية، والكون، والإنسان، والحياة، هي بداية أي إصلاح اجتماعي، فضلا عن أن يكون هذا الإصلاح متصلا بعملية حاسمة في بناء البشر وبناء المجتمعات الإنسانية كمناهج التربية والتعليم.
إن هذا الكتاب هو محاولة لتصميم منهج التربية، انطلاقا من أسسه المعرفية والنفسية والاجتماعية، ومرورا بمكوناته المتمثلة في الأهداف والمحتوى وطرائق وأساليب التدريس، ووصولا إلى وسائل وأساليب التقويم والتطوير.
وبذلك فسوف يتناول هذا الكتاب القضايا التالية:
أولا: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية، مثل: مفهوم الدين، ومفهوم العبادة، ومفهوم التربية، ومفهوم المنهج، والفرق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "البرنامج"، ومفهوم التعلم. إلخ، وهذا هو موضوع الفصل الأول.
ثانيا: أسس بناء المنهج، حيث يتفق المنهجون في كل بلاد العالم تقريبا على أن للمنهج أسسا ثلاثة هي: طبيعة المعرفة، والطبيعة الإنسانية، وطبيعة الحياة والمجتمع. وسنتناول هذه الأسس في الفصول: الثاني، والثالث، والرابع على التوالي.
ثالثا: انطلاقا من مفاهيم الفصل الأول والأسس التي تلت ذلك ستيم تحديد الأهداف العامة للمنهج، واختيار المحتوى، وطرائق وأساليب التدريس، وطرائق وأساليب التقويم، وسيكون ذلك في الفصول: الخامس والسادس والسابع والثامن على التوالي.
رابعا: وأخيرا، نتناول موضوع تطوير المنهج: أسبابه، وأسسه، وكيفياته، في الفصل التاسع والأخير.
ورجاؤنا في الله كبير، أن يهدي البصائر إلى فهم الواقع الذي نحن فيه، والحق الذي نرجوه، إنه على ما يشاء قدير.
القاهرة: جمادى الأولى ١٤١٨هـ
أكتوبر ١٩٩٧م علي أحمد مدكور
1 / 10
الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية
مدخل
...
الفصل الأول: المفاهيم الأساسية لمناهج التربية
مقدمة:
إن تربية الإنسان المعاصر التي يمكن أن تحفظ له الاستقامة على الفطرة التي فطره الله عليها لن تأتي إلا عن طريق تصحيح منهج التلقي الذي يستقي منه الإنسان فهمه لطبيعة الكون والإنسان والحياة، وإدراكه لطبيعة مركزه في الكون ودوره في الحياة. كما تقتضي إدراكه للمفاهيم الحاكمة والمؤثرة في منهج التلقي. ومن أهم هذه المفاهيم، مفهوم الدين، ومفهوم العبادة، ومفهوم التربية، ومفهوم الفلسفة، ومفهوم اللغة، وعلاقة كل ذلك بمنهج التربية، لكننا نبدأ بمفهوم المنهج وخصائصه، مع التفريق بين مفهوم "المنهج" ومفهوم "البرنامج".
إن أي منهج للتربية لا بد أن يعتمد على نظرية تربوية، والنظرية التربوية تعتمد بالضرورة على فلسفة تربوية، والفلسفة التربوية لمجتمع ما، لا بد أن تعتمد على عقيدة المجتمع وفلسفته وتصوره العام للكون والإنسان والحياة. وكل ذلك لا بد أن يعتمد على لغة قوية، هي في واقع الأمر للتفكير والتعبير والاتصال.
مفهوم المنهج وخصائصه: يعرف ابن منظور المنهج بأنه الطريق البين الواضح "ومنهج الطريق وضحه١ والمنهاج كالمنهج، وفي التنزيل: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، والمنهاج -كما يقول ابن كثير- هو: "الطريق الواضح السهل، والسنن والطرائق". لكن تعريف المنهج بأنه الطريق السهل الواضح، وأنه السنن والطرائق، هو تعريف عام يصلح لكل جوانب الحياة ومجالاتها، كالزراعة والصناعة والتجارة والتربية وغير ذلك. ومن هنا كان لا بد من السير خطوة نحو التخصص.. نحو التربية. ويرى كثير من المتخصصين في المناهج وطرائق التدريس، أن المنهج التربوي هو "مجموع الخبرات والأنشطة التي تقدمها المدرسة للتلاميذ بقصد تعديل سلوكهم وتحقيق الأهداف المنشودة"٢. _________ ١ ابن منظور: لسان العرب، الجزء الخامس، ص٤٥٥٤. ٢ محمد عزت عبد الموجود، وزملاؤه: أساسيات المنهج وتطبيقاته، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٨١م، ص١١.
مفهوم المنهج وخصائصه: يعرف ابن منظور المنهج بأنه الطريق البين الواضح "ومنهج الطريق وضحه١ والمنهاج كالمنهج، وفي التنزيل: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، والمنهاج -كما يقول ابن كثير- هو: "الطريق الواضح السهل، والسنن والطرائق". لكن تعريف المنهج بأنه الطريق السهل الواضح، وأنه السنن والطرائق، هو تعريف عام يصلح لكل جوانب الحياة ومجالاتها، كالزراعة والصناعة والتجارة والتربية وغير ذلك. ومن هنا كان لا بد من السير خطوة نحو التخصص.. نحو التربية. ويرى كثير من المتخصصين في المناهج وطرائق التدريس، أن المنهج التربوي هو "مجموع الخبرات والأنشطة التي تقدمها المدرسة للتلاميذ بقصد تعديل سلوكهم وتحقيق الأهداف المنشودة"٢. _________ ١ ابن منظور: لسان العرب، الجزء الخامس، ص٤٥٥٤. ٢ محمد عزت عبد الموجود، وزملاؤه: أساسيات المنهج وتطبيقاته، القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، ١٩٨١م، ص١١.
1 / 13
ويلاحظ على هذا التعريف أمران: الأول: أنه فقد صفة النظام أو المنظومة، والثاني: أنه قصر المنهج على الخبرات والأنشطة ولم يشر إلى فلسفة المنهج وأسسه الموجهة للممارسة التربوية فيه، فهو تعريف ينحو منحي سلوكيا وضعيا.
مفهوم منهج التربية:
ومن هذا تظهر الحاجة إلى تعريف مناسب لمنهج التربية، وهنا يمكن القول: إن منهج التربية في تصورنا هو: "نظام متكامل من الحقائق والمعايير والقيم الثابتة، والخبرات والمعارف والمهارات الإنسانية المتغيرة التي تقدمها مؤسسة تربوية إلى المتعلمين فيها بقصد إيصالهم إلى مرتبة الكمال التي هيأهم الله لها، وتحقيق الأهداف المنشودة فيهم".
الخصائص التي يتميز ويتفرد بمجموعة من الخصائص أهمها ما يلي:
الخاصية الأولى: هي أن منهج التربية "نظام" أي: إنه بمفهومه، وخصائصه، وأسس بنائه، وعناصره، يكون كلا متكاملا، كل جزء فيه يتأثر ببقية الأجزاء ويؤثر فيها، وكل جزء يؤثر في الكل ويتأثر به.
الخاصية الثانية: هي أن هذا المنهج "رباني" في مصدره وغايته، فهو يعتمد على الوحي؛ لذلك فهو يزود الإنسان "المتعلم" بمجموعة الحقائق والمعايير والقيم الإلهية الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. إن من الضروري أن يفهم المتعلم الحقائق الثابتة كحقيقة الألوهية، وحقيقة الكون، وحقيقة الإنسان، وحقيقة الحياة. فبدون فهم هذه الحقائق، لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة وجوده، ولا دوره في هذا الوجود فضلا عن مصدر وجوده وغاية وجوده.
وخاصية الربانية التي تميز منهج التربية يراد بها هنا أمران:
١- ربانية المصدر والمنبع.
٢- ربانية الوجهة والغاية١.
ربانية المصدر والمنبع:
إن أولى مقومات منهج التربية أنه صادر من التصور الإسلامي الذي هو نظام رباني "صادر من الله للإنسان، وليس من صنع الإنسان، تتلقاه الكينونة الإنسانية بجملتها من بارئها، وليست الكينونة الإنسانية هي التي تنشئه، كما تنشئ التصور
_________
١ يوسف القرضاوي: الخصائص العامة للإسلام، مكتبة وهبة، ط٢، ١٤٠١هـ-١٩٨١م، ص٧.
1 / 14
الوثني، أو التصور الفلسفي -على اختلاف ما بينهما- وعمل الإنسان فيه هو تلقيه وإدراكه والتكيف به، وتطبيق مقتضياته في الحياة البشرية"١.
وإذا كان الفكر البشري لم ينشئ هذا النظام، فإن له وجودا قويا في مجاله للعمل فيه، "بيد أن عمله هو التلقي والإدراك والتكيف والتطبيق في واقع الحياة.. غير أن القاعدة المنهجية الصحيحة للتلقي.. هي هذه.. أنه ليس للفكر البشري أن يتلقى هذا التصور بمقررات سابقة، يستمدها من أي مصدر آخر، أو يستمدها من مقوماته هو نفسه، ثم يحاكم إليها هذا التصور ويزنه بموازينها.. إنما هو يتلقى موازينه ومقرراته من هذا التصور ذاته، ويتكيف به، ويستقيم على منهجه"٢.
"وفي الوقت ذاته يعتبر الفكر البشري -في ميزان هذا التصور- أداة قيمة وعظيمة، يوكل إليها إدراك خصائص هذا التصور ومقوماته -مستقاة من مصدرها الإلهي- وتحكيمها في كل ما حوله من القيم والأوضاع، دون زيادة عليها من خارجها، ودون نقص كذلك منها.. ويبذل منهج التربية لهذه الأداة العظيمة من الرعاية والعناية، لتقويمها وتسديدها وابتعاثها للعمل في كل ميدان هي مهيأة له.. الشيء الكثير"٣.
إذن فوظيفة الإنسان في هذا النظام هي التلقي في حدود طبيعته الإنسانية، وفي حدود وظيفته، "فالإنسان محكوم أولا بطبيعته: طبيعة أنه مخلوق حادث، ليس أزليا ولا أبديا، ومن ثم فإن إدراكه لا بد أن يكون محدودا بما تحدده طبيعته، ثم هو محدود بوظيفته، وظيفة الخلافة في الأرض لتحقيق معنى العبودية لله فيها.. ومن ثم فقد وهب من الإدراك ما يناسب هذه الخلافة بلا نقص ولا زيادة".
ربانية الوجهة والغاية:
أما ربانية الوجهة والغاية فنعني بها -كما يقول الدكتور القرضاوي: "أن الإسلام يجعل غايته الأخيرة وهدفه البعيد، هو حسن الصلة بالله ﵎، والحصول على مرضاته، فهذه غاية الإنسان، ووجهة الإنسان، ومنتهى أمله وسعيه وكدحه في الحياة"٤. ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ﴾ [الانشقاق: ٦]، ﴿وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى﴾ [النجم: ٤٢] .
الربانية والمنهج:
إن منهج التربية هنا منهج رباني في مصدره وغايته، ولذلك فهو يزود الإنسان "المتعلم" بمجموعة الحقائق والمعايير والقيم الثابتة التي توجه عمله وإسهامه، بل وتعينه على عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله. فلا مراء أنه من الضروري لكل
_________
١ سيد قطب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته، بيروت، دار الشروق، ١٤٠٢هـ-١٩٨٢م، ص٤١.
٢ المرجع السابق، ص٤٥.
٣ المرجع السابق، ص٤٧.
٤ يوسف القرضاوي، مرجع سابق، ص٧.
1 / 15
إنسان "متعلم" أن يفهم الحقائق الثابتة في الوجود: كحقيقة الألوهية وحقيقة الربوبية، وحقيقة الكون، وحقيقة الحياة، وحقيقة الإنسان ... إلى آخره. فبدون فهم هذه الحقائق لا يستطيع الإنسان أن يفهم حقيقة وجوده، ولا دوره في هذا الوجود، فضلا عن مصدر وجوده وغايته.
ومن الضروري أن يعرف الإنسان "المتعلم" المعايير التي يرجع إليها في إقامة الجوانب المختلفة لحياته على الأرض. فالشورى معيار لسياسة الحكم ونظامه، والعدالة الاجتماعية معيار للنظام الاقتصادي، والتراحم، والتكافل، والتعاون معايير لتنظيم الحياة الاجتماعية والعلاقات بين الناس.. وهكذا.
ومن الضروري أن يفهم الإنسان "المتعلم" مجموعة القيم الأساسية التي يقوم عليها نظام الحياة الإنسانية الراقية، فالعلم واستخدامه في إعمار الحياة وترقيتها "لا في خرابها"، الإحسان والدقة في العمل، والنظام، والنظافة، وصدق الشعور في القول والعمل، كل هذه قيم ثابتة، لا يمكن أن يقوم نظام إنساني راق -في أي وقت- على وجه الأرض بدونها.
الخاصية الثالثة: هي أن منهج التربية يعتمد أيضا على الخبرة، فالخبرة هي أساس بناء الإنسان وبناء المجتمع، والخبرة تقتضي من الفرد نشاطا ووعيا بأبعاد الموقف التعليمي وتفاعلا معه، والأصل هنا أن منهج التربية لا يعتمد في طرائقه وأساليبه على التلقين وحده، بل يهتم -بالدرجة الأولى- بالتعلم عن طريق الأحداث، وعن طريق الممارسة والعمل، وعن طريق الثواب والعقاب، وعن طريق القصة، وضرب المثل، والتجسيم والتصوير، والقدوة، وعن طريق استخدام قوى الإدراك الظاهرة والباطنة التي زود الله بها الإنسان، ليستخدمها إلى أقصى طاقاتها: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨] . ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: ٢٩] .
إن مجرد المعرفة النظرية، أو العلم الذي لا يؤثر في سلوك الإنسان وفي واقع حياته لا قيمة لهما ولا يعتد بهما منهج التربية، إن ذلك العلم خاو من المعنى ولا قيمة له، وتلك المعرفة سطحية ولا قيمة لها أيضا، لأنها مجرد معرفة "ذهنية"، لا تؤثر في سلوك الإنسان، ولا تغير شيئا في واقع حياته على الأرض. إن تلك المعرفة وذلك العلم -باختصار- لا يعينان الإنسان على أداء وظيفته في عمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، ولهذا كان الوحي قاطعا في رده على المنافقين: إن كنتم مؤمنين حقا فآية
1 / 16
إيمانكم هي تنفيذ أحكام الله: ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: ٦٥] .
الخاصية الرابعة: أن منهج التربية هذا منهج إيجابي، وواقعي، فهو "تصميم" لواقع مطلوب إنشاؤه على أساس هذا التصميم١ لإعداد الإنسان القادر على القيام بواجبات الخلافة في الأرض، فالإنسان هو المكلف بتنفيذ هذا "التصميم" عن طريق التفكر والتدبر والنشاط بإيجابية وفاعلية.
وينسحب هذا -بطبيعة الحال- على الموقف التعليمي، فمجرد تقديم الخبرة للمتعلم لا يعني -بالضرورة- تعلمه، وتعديل سلوكه في الاتجاه المطلوب، فلا بد من أن ينشط الإنسان ويتفاعل مع الموقف التعليمي، بل ولا بد أن ينعكس أثر ذلك الموقف على سلوك الإنسان بعد ذلك.
والأصل في هذا، أن التعلم لا يحدث وفقا لتصور منهج التربية الإسلامية إلا بعد تعلم خمس خطوات مرتبة ترتيبا سببيا، كما يلي:
١- وجود دافع فطري، أو حاجة من حاجات النفس الغريزية أو المكتسبة.
٢- أن يحس الإنسان أو المتعلم بحاجته إلى الاستعانة بهدى الله، وهذه هي الخطوة الثانية.
٣- فإذا كان لديه هذا الاتجاه وهذا الشعور، فإنه يدفعه إلى النشاط وإلى التفاعل والأخذ بكل الأسباب من أجل التعرف على تفاصيل ما يريد أن يعرف، وهذه هي الخطوة الثالثة.
٤- ونتيجة للاستعانة بهدى الله، والأخذ بكل الأسباب الممكنة، يحدث الفهم، ويتم التحصيل، وهذه هي الخطوة الرابعة.
٥- فإذا جاء السلوك بعد ذلك موافقا للفهم والإدراك والتحصيل -وهذه هي الخطوة الخامسة- فإن التعلم يكون قد تم.
إن هذا ما نراه واضحا جليا في قوله تعالى: ﴿وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ٢٨٢] . ﴿الم، ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [البقرة: ١-٣]، وهكذا، فما لم يتكون الشعور والاتجاه، ويتم النشاط، ويحصل
_________
١ المرجع السابق، ص١٥٧.
1 / 17
الإدراك والفهم، ويتحول ذلك إلى سلوك عملي في واقع الأرض، إذن، فالتعلم لم يقع.
الخاصية الخامسة: التي تميز منهج التربية، هي خاصية الشمول والتكامل لكل من المتعلم والمنهج، فالمنهج هو الجانب التطبيقي للأصول التربوية، وبذلك فهو ليس غاية في ذاته، ولكنه وسيلة لتحقيق غاية، وهي تنمية شخصية الإنسان كله وإيصاله إلى درجة كماله التي هيأه الله لها، وهذا يقتضي أن يكون المنهج المعد لهذا الغرض شاملا متكاملا في حقائقه وفي خبراته وجميع أوجه مناشطه.
ولا يعني ما سبق أن الجوانب المعرفية والوجدانية والحركية في الخبرة الإنسانية منفصلة بعضها عن بعض، فحقيقة الأمر أن كل فعل حلال يقوم الإنسان به في الأرض لا يخلو من الجوانب الثلاثة السابقة: فيه جانب الجسم، وجانب العقل، وجانب الوجدان، فالتحدث باللغة مثلا -وهو نشاط حركي- يستخدم فيه الإنسان عقله، وينفعل به أيضا، والرياضة البدنية يبدؤها الإنسان باسم الله، وينفعل بها، ويستخدم في أدائه لها عقله وجسمه، وكذلك القراءة والكتابة، وإجراء التجارب.. إلى آخره، فكل عمل تتوافر فيه العناصر الثلاثة، لكن مع الاختلاف في النسبة.
وتكامل جوانب الخبرة الإنسانية في منهج التربية يتفق مع فكرة الإسلام عن الكون والحياة والإنسان، فالوجود كله صادر عن الإرادة المباشرة لله. ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: ٨٢] . وهذا الوجود الصادر عن الإرادة المطلقة، وحدة متكاملة، كل جزء فيه متناسق ومتكامل مع بقية الأجزاء.. ﴿وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا﴾ [الفرقان: ٢] . ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ﴾ [القمر: ٤٩]، ﴿وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [الحج: ٦٥] . ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ [يس: ٤٠] . ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ، ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ [الملك: ٣، ٤] .
وهكذا، فتكامل جوانب الخبرة الإنسانية في منهج التربية يجب أن يتماشى مع تصور الإسلام لوحدة الوجود، وتكامل أجزائه، لكونه صادرا عن الإرادة المباشرة للواحد المطلق وهو الله.
1 / 18
وتكامل جوانب الشخصية الإنسانية في مفهوم منهج التربية يجب أن يتفق أيضا مع تصور الإسلام لوحدة الإنسان الفرد، ووحدة الإنسانية جمعاء، فالإنسان الفرد وحدة متكاملة، وقواه المختلفة موحدة الاتجاه، فهو ليس جسما مستقلا بذاته عن الروح والعقل، وليس عقلا منفصلا لا علاقة له بالجسم والروح، وليس روحا هائمة بلا رابط من عقل وجسم. بل هو كيان واحد متكامل الأجزاء.
ويتفق هذا أيضا مع فكرة الإسلام عن وحدة الإنسانية وتكاملها، "فلأن الوجود الموحد صادر من إرادة واحدة، ولأن الناس جزء من الكون متعاون متناسق مع سائر أجزائه، ولأن أفراد الإنسان خلايا متعاونة متناسقة فيما بينها، لذلك كان تصور الإسلام أن الإنسانية وحدة تفترق أجزاؤها لتجتمع، وتختلف لتتسق، وتذهب شتى المذاهب للتتعاون في النهاية بعضها مع بعض، كي تصبح صالحة للتعاون مع الوجود الموحد"١: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ [الحجرات: ١٣] .
إذن، فهناك حكمة من وراء هذا الاختلاف والتجزؤ وهو التعاون والتكامل، وإلا فلو شاء الله لجعل الناس جميعا أمة واحدة: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [المائدة: ٤٨] . ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٣] . وهكذا خلق الله الناس أمما وشعوبا مختلفة لا ليتصارعوا ويختلفوا، ولكن ليتعارفوا ويتكاملوا.
ولكن الله لم يأخذ الناس قسرا إلى هذه الغاية، ولكنه جعل لكل منهم طريقا ومنهجا، وخلق لكل منهم استعدادا، ولكل منهم مشربا، لقد خلق الله الناس باستعدادات متفاوتة، نسخا غير مكررة ولا معادة، ثم أنزل لهم نواميس الهدى والضلال، تمضي لها مشيئته في الناس، وتركهم يستبقون، وجعل هذا ابتلاء لهم يقوم عليه جزاؤهم يوم يرجعون إليه، وهم إليه راجعون٢.
إذن، فالأصل في الوجود الوحدة والتعاون والتناسق في حدود منهج الله وشريعته، ومن شذ عن هذه السنة من المؤمنين فليرد إليها بكل وسيلة؛ لأن سنة الله في الكون أولى بالاتباع من أهواء الأفراد والجماعات: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ
_________
١ سيد قطب: العدالة الاجتماعية في الإسلام، بيروت، دار الشروق، ١٤٠٣هـ-١٩٨٣، ص٢٣.
٢ سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، جـ٦، ص٩٠٣، وجـ١٤، ص٢١٩.
1 / 19
فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: ٩] . إن من الأمور الواردة أن تتقاتل طائفتان من المؤمنين، وأن تبغي إحداهما على الأخرى، لكن الكارثة تحل لا محالة إذا غابت الطائفة الثالثة المؤمنة القادرة على إيقاف الباغي، ووضع الحق في نصابه.
وهكذا تتفق وحدة الشخصية الإنسانية، ووحدة تكامل الخبرة الإنسانية في منهج التربية مع الأصل في الإسلام، وهو أنه دين التوحيد ودين الوحدة والتكامل بين القوى الكونية جميعا.
الخاصية السادسة: أن منهج التربية هو منهج تربية "الإنسان"، الإنسان الصالح الذي يستطيع أن يعيش في كل مكان. وليس فقط "المواطن" المحصور في حدود المواطنة الضيقة، وتربية الإنسان ليس فيها بالطبع إغفال لتربية المواطن، ولكنها أشمل وأكمل، فالحقيقة أنه لا خوف أبدا على المواطن من الإنسان، ولكن الخوف كل الخوف على الإنسان من المواطن الذي انحصر فكره وانتماؤه وسلوكه داخل الحدود الجغرافية لوطنه.
إننا في أمس الحاجة إلى تنمية النظرة "الإنسانية العالمية الشاملة" في التعليم، وتطوير المفهوم "الإنساني" في التربية، وهذا المفهوم لا تستطيع "فلسفة" أو "أيديولوجية" مرتبطة بمكان وزمان معينين تنميته وتطويره.
إن منهج التربية في التصور الإسلامي دون مناهج الأرض كلها، هو الذي يستطيع تحقيق مفهوم "الإنسانية" في نفوس الناشئة، فتحقيق إنسانية الإنسان يتمشى مع إنسانية المنهج الإسلامي، وعالميته التي تقررت في القرآن في سورة هي من أوائل السور المكية، وهي سورة التكوير في قوله تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾، وتقررت في خطاب الله -سبحانه- لنبيه ﷺ في قوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: ١٠٧] .
لقد جنت الإنسانية ثمار التأكيد على "المواطنة الضيقة" في صورة صراعات دولية، وحروب عالمية وإقليمية، واستعمار واحتلال لأراضي الآخرين، واغتصاب لحقوقهم، وتسخير لجهودهم في خدمة غيرهم، وإذلال لآدميتهم وإنسانيتهم.. إلخ.
إننا نعيش في عصر جديد تماما، عصر سبقت قوة الإنسان يقظة ضميره، عصر لا يملك الإنسان فيه القدرة على إدارة الصراعات والحروب العالمية أو الإقليمية، دون أن يمتد خطرها ودمارها إلى ما حولها، نحن -إذن- في عصر نحتاج
1 / 20
فيه إلى تنمية وتطوير مفهوم "الإنسانية" بمعناه العالمي الشامل، لا إلى تنمية مفهوم "المواطنة" بمعناه الضيق المحدود بحدود المكان والزمان.
فالوطنية الضيقة، وتربية المواطن المحدود في قيمه وولائه بين حدود دولته أثمر كثيرا من الشرور التي نعاني منها الآن، فمشكلة الحرب والسلام التي يتوقف عليها مصير البشرية كله، تشتد وطأتها، ويزداد غليانها كل يوم، حتى وصلت إلى مرحلة تنذر بالخطر الحقيقي، وما ذلك إلا لأنها تدار بيد "مواطنين" يريدون تسخير خيرات العالم كله لصالح شخصياتهم أو مواطنيهم على حساب الآخرين.
وحتى بعد أن ظهرت نظرية استحالة الحروب النووية الساحقة الماحقة لكل شيء على وجه الأرض فقد بدأ الصراع يتحول من الحرب والقتال إلى صراع النظم والنماذج الاجتماعية والاقتصادية والعقائدية، وبمعنى آخر، فالصراع قد تحول من ميادين القتال إلى بيوت الناس، ومدارسهم وعقولهم.
ولا نتجاوز إذا قلنا إنه لا عاصم لنا اليوم في عصر العولمة والكوكبة و"الكنتكة" و"المكدنة" إلا بالتمسك بالمنهج الذي كرم الإنسان، وحفظ له شخصيته المستقلة حين قال ﷺ: "لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تظلموا".
إن الولاء للمواطن والوطنية الضيقة وليس "للإنسان" في كل مكان، هو الذي يعرض "السفينة العالمية" -إذا جاز هذا التشبيه- للخطر، فبعد ثورة الاتصالات وما ترتب عليها من تفجر معرفي أصبحت الكرة الأرضية كسفينة واحدة تتعرض لمخاطر جسيمة في عرض البحر. فيها من يشكو من التخمة، وفيها من يشكو من الجوع إلى حد الهلاك.
فيها من يعانون وفرة الإنتاج. فماذا يصنعون وكيف يختزنون الفائض الهائل من الحبوب واللحوم والزبد والجبن والخضر؟! وفيها المحاصرون الذين يموتون جوعا، ويرجون فتوى تجيز لهم أكل الميتة ولحوم البشر!
فيها الأغنياء الدائنون الذين يفرضون شروطهم، ويشرعون سياطهم، وفيها الفقراء المدينون الذين يخضعون لكل عمليات الابتزاز والاستغلال والظلم، فيها من يصنع سلاح الدمار ويبيعه ليزداد ثراء، وفيها من يشتري هذا السلاح ليقاتل به حتى الموت.
وهكذا.. تحدق الأخطار "بالسفينة العالمية" من كل جانب، بسبب الأنانية، والشره والظلم، والطائفية، والعنصرية، والاستغلال، بسبب الحضور القوي "للمواطن" والغياب المستمر "للإنسان".
1 / 21
إن منهج التربية في التصور الإسلامي هو وحده بين كل مناهج الأرض الذي لا يفرق بين البشر على أساس طبقي أو عنصري أو طائفي، وإنما يتوجه إلى قلوبهم وضمائرهم مباشرة، حيث يكمن "الإنسان"، الجوهر الفذ، الذي تتكون منه الإنسانية. وهو بذلك الملجأ الوحيد الباقي لإنقاذ البشرية من الهول الرهيب المحدق بها.
بناء على ما سبق، فإننا -فيما أرى- لا نحتاج إلى تربية "المواطن الصالح"، "فالمواطن الصالح" عادل، مجد، أمين، متواضع، قانع. في موطنه، لكنه عادة ما يتحول إلى ظالم، مستبد، غاصب، شره، في غير موطنه، وقد رأينا صور ذلك، وما زلنا نراها كل يوم.
وخلاصة القول: إن المدرسة الإنسانية في التربية قديمة قدم الإسلام، فبينما كل مناهج الأرض تلتقي على أن هدف التربية هو إعداد "المواطن الصالح" نجد أن منهج التربية في التصور الإسلامي يسعى لتحقيق هدف أشمل وأعمق وهو إعداد "الإنسان الصالح"، "الإنسان على إطلاقه، بمعناه الإنساني الشامل، الإنسان بجوهره الكامن في أعماقه، الإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث هو مواطن في هذه البقعة من الأرض أو من ذلك المكان"١.
والإنسان الذي يهدف منهج التربية إلى بنائه هو الإنسان الذي يستمد منهج حياته وشعوره وسلوكه من منهج الله، وهو بالجملة الإنسان الذي يفي بشروط الخلافة التي فضله بها خالقه على كثير ممن خلق، فينشط في عمارة الأرض، وفق منهج الله، مستغلا كل الطاقات وقوى الإدراك الممنوحة له.
مفهوما "المنهج" و"البرنامج":
مما سبق يتضح أن مفهوم "المنهج" يتضمن الجانبين: النظري والتطبيقي، أو الأسس والمكونات فالمدرسة الإنسانية التي تستخدم مفهوم "المنهج أو المنهاج" تؤمن بأن وراء كل سلوك فكرة أو نظرية تحركه بشكل معين وفي اتجاه معين، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨]، فالمنهج أو المنهاج مفهوم ذو شقين: شق فلسفي اعتقادي، وشق اجتماعي تطبيقي، وبناء على ذلك فعندما نقول: "منهج" فهذا يعني الانطلاق من الأسس والمصادر الفلسفية والإنسانية والاجتماعية التي تنعكس على المكونات التطبيقية للمنهج ابتداء بالأهداف، فالمحتوى فطرائق وأساليب التدريس والتقويم والتطوير.
أما مفهوم "برنامج" فقد شاع على يد أنصار مدرسة علم النفس السلوكي، وأصحاب المدرسة المادية السلوكية، مثل واطسون واسكنر، وجثري وغيرهم ممن
_________
١ محمد قطب: منهج التربية الإسلامية، الجزء الأول، بيروت، دار الشروق، الطبعة السادسة، ١٤٠٢هـ-١٩٨٢م، ص١٣.
1 / 22
لا يؤمنون بإمكانية الضبط الداخلي للسلوك الخارجي، ولا يؤمنون بالفلسفة أو الأفكار النظرية التي تحكم السلوك العملي، ويعتبرون أن مسائل مثل: حرية الإرادة، والحرية النفسية، ويقظة الضمير ذات إيحاءات دينية، وهي مسائل صوفية وغير علمية١، وعلى ذلك فالبرنامج عندهم ليست له أطر أو مرجعيات فلسفية أو أسس يستند إليها، وإنما هو يبدأ مباشرة بتحديد الأهداف، فالمحتوى، فطرائق وأساليب التدريس والتقويم، وأبرز أمثلة على ذلك هي التعليم المبرمج وأساليب البرمجة التي شاع استخدامها في النصف الثاني من القرن العشرين، وعلى ذلك فلينظر المنهجون أي مفهوم يستخدمون؟
_________
١ جيمس ديز: أزمة علم النفس المعاصر، ترجمة وتقديم وتعليق الدكتور سيد أحمد عثمان، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، ١٤١٦هـ ١٩٩٥م، ص١٦٧.
مفهوم الدين وعلاقته بمناهج التربية: ما المقصود بالدين؟ وما علاقة الدين بمناهج التربية والتعليم؟ الدين هو المنهج أو النظام الذي يحكم حركة الكون والإنسان والحياة، ويحكم العلاقات والارتباطات بين كلياتها وجزئياتها في تكامل واتساق، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ ١. وبناء على ذلك ينبغي أن نعلم أبناءنا في بيوتنا وفي مدارسنا أن "الدين" هو منهج الحياة، ونظام لتوجيه النشاط الإنساني في الحياة الدنيا، ولمجازاة الإنسان على عمله في الحياة الآخرة، وأن كل "دين" هو "منهج حياة"، وكل "منهج للحياة" هو "دين". وعليه فدين الجماعة من البشر هو المنهج أو النظام الذي يصرف حياة هذه الجماعة، فإن كان "الدين" أو "المنهج" الذي يصرف حياة الجماعة عبارة عن فلسفة من صنع البشر أو تصور من صنع القبيلة أو الحاكم، فهذه الجماعة تتبع غير دين الله. هذا التصور للدين وعلاقته بالكون والإنسان والحياة يجب أن تؤكده مناهج التربية الدينية، ومناهج العلوم الطبيعية، ومناهج العلوم الإنسانية كل حسب طبيعته. والدين باعتباره منهجا للحياة ذو شقين: الشق الأول هو العقيدة أو التصور الاعتقادي، والشق الثاني هو التصور الاجتماعي النابع من الشق الأول، فعقيدة الإنسان هي التي توجه سلوكه الاجتماعي ونشاطه في الحياة كلها، وبذلك فإن الدين الإسلامي بتصوره الشامل للألوهية والكون والإنسان والحياة هو الإطار المرجعي للإنسان المسلم وللحياة الإسلامية. يجب أن نؤكد لأبنائنا في مناهج التربية أن تعبير "لا إله إلا الله" إنما يعني أن الله المعبود وحده دون سواه، وأنه أنزل للخلق منهجا ونظاما، أي: دينا يسيرون _________ ١ انظر: أبو الأعلى المودودي: معنى كلمة "دين" في كتاب "المصطلحات الأربعة"، وانظر أيضا سيد قطب: "المستقبل لهذا الدين"، دار الشروق، تحت عنوان: كل دين منهج حياة، ص١٢-١٥.
مفهوم الدين وعلاقته بمناهج التربية: ما المقصود بالدين؟ وما علاقة الدين بمناهج التربية والتعليم؟ الدين هو المنهج أو النظام الذي يحكم حركة الكون والإنسان والحياة، ويحكم العلاقات والارتباطات بين كلياتها وجزئياتها في تكامل واتساق، قال تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ ١. وبناء على ذلك ينبغي أن نعلم أبناءنا في بيوتنا وفي مدارسنا أن "الدين" هو منهج الحياة، ونظام لتوجيه النشاط الإنساني في الحياة الدنيا، ولمجازاة الإنسان على عمله في الحياة الآخرة، وأن كل "دين" هو "منهج حياة"، وكل "منهج للحياة" هو "دين". وعليه فدين الجماعة من البشر هو المنهج أو النظام الذي يصرف حياة هذه الجماعة، فإن كان "الدين" أو "المنهج" الذي يصرف حياة الجماعة عبارة عن فلسفة من صنع البشر أو تصور من صنع القبيلة أو الحاكم، فهذه الجماعة تتبع غير دين الله. هذا التصور للدين وعلاقته بالكون والإنسان والحياة يجب أن تؤكده مناهج التربية الدينية، ومناهج العلوم الطبيعية، ومناهج العلوم الإنسانية كل حسب طبيعته. والدين باعتباره منهجا للحياة ذو شقين: الشق الأول هو العقيدة أو التصور الاعتقادي، والشق الثاني هو التصور الاجتماعي النابع من الشق الأول، فعقيدة الإنسان هي التي توجه سلوكه الاجتماعي ونشاطه في الحياة كلها، وبذلك فإن الدين الإسلامي بتصوره الشامل للألوهية والكون والإنسان والحياة هو الإطار المرجعي للإنسان المسلم وللحياة الإسلامية. يجب أن نؤكد لأبنائنا في مناهج التربية أن تعبير "لا إله إلا الله" إنما يعني أن الله المعبود وحده دون سواه، وأنه أنزل للخلق منهجا ونظاما، أي: دينا يسيرون _________ ١ انظر: أبو الأعلى المودودي: معنى كلمة "دين" في كتاب "المصطلحات الأربعة"، وانظر أيضا سيد قطب: "المستقبل لهذا الدين"، دار الشروق، تحت عنوان: كل دين منهج حياة، ص١٢-١٥.
1 / 23
عليه في الحياة، وأن هذا النظام أو المنهج موجود في مواد العلوم الشرعية عموما، وفي القرآن والسنة على وجه الخصوص، وأنه موجود في مناهج العلوم الكونية أيضا مثل الطبيعة والكيمياء والأحياء، وخاصة أنه ينبغي أن ندرس الكون على أنه مخلوق من مخلوقات الله، وأن مهمة المناهج هي أن يقف التلاميذ على قوانين الله في الكون حتى يستطيعوا بعد ذلك تسخيرها وتطبيقها في إعمار الحياة. إن هذه المناهج عندما تفعل ذلك فهي تعلم "الدين" بأيسر أسلوب وبأجمل طريقة.
إذا كان الدين قد أنزله الله لتنظيم حياة الإنسان، فما حقيقة الإنسان؟ لا بد أن توضح مناهج التربية للصغار والكبار أن الإنسان عبد الله، سيد الكون، وأن الله خلقه من طين الأرض، ثم نفخ فيه من روحه، فهو جسم وروح ممتزجان متكاملان، وأن الله قد خلقه ليفعل ذلك بإرادته الحرة، وأنه عائد إلى الله ليجازيه على قدر قيامه بالمهمة التي خلق من أجلها.
إن الدين ينظم حركة الإنسان مع حركة الكون، ومهمة المناهج التربوية أن تعد الإنسان القادر على التعامل الحسن مع الكون الرحيب الذي صممه الله لخدمته، وسخره ليكون متناسقا مع حركته المستقيمة مع منهج الله، فإذا انحرفت حركة الإنسان عن استقامة فطرة الله فيه، اختلت حركة الكون من حوله، وحدث الجفاء بينه وبين النظام الكوني المصمم أصلا لخدمته.
إن الإنسان يتعامل على سبيل المثال، مع الكون المشهود بهوائه ومائه، وبحاره، وأنهاره، وأرضه وسمائه، وجماده ونباته، ويتعامل مع الكون المغيب بروحه وملائكته وجنه وشياطينه. فإن تعامل مع كل هذا وفق ما أمر الله ونهى، دانت له كل مفردات الكون بالطاعة، وإن تعامل معها بما يخالف منهج الله حدث الخلل والاضطراب، وتحولت مظاهر الكون إلى أعداء للإنسان، وتحول الكون المسخر للإنسان إلى عدو لدود، ومن أمثلة ذلك خرق طبقة الأوزون، وتلوث الماء، وتلوث الهواء.. إلخ.
إن الدين ينظم -أيضا- حركة الحياة الاجتماعية فالدين له نظام للسياسة، ونظام للاقتصاد، ونظام للعلاقات الاجتماعية، ونظام للتربية، ونظام للثقافة والحضارة، ونظام للأسرة، ونظام للفنون والآداب، ونظام للإعلام والإعلان، إلخ. فإذا تعامل الإنسان مع نظم الحياة بما يتسق مع دين الله ونظامه عمرت الحياة، وازدانت الأرض بالخير والنماء، وإذا انحرف في تعامله مع مفردات الحياة ونظمها عن منهج الله، سادت الفوضى، وعم الظلم والاستبداد والخراب والدمار.
1 / 24
إن هذا يعني أن مناهج العلوم الشرعية ومناهج العلوم الاجتماعية ومناهج اللغات والفنون والآداب يجب أن تتعاون في إيضاح نظم الحياة السابقة بما يتفق مع دين الله ومنهجه للحياة. إن إهمال ذلك في مناهج التربية والتعليم إما أن يؤدى إلى الغلو في الدين واتهامه بما ليس فيه، وإما إلى الابتعاد عن دين الله وعبادة الشيطان.
يجب علينا جميعا -آباء ومعلمين ومربين- أن نعلم أبناءنا أن الله إنما خلقهم لإعمار الدنيا وترقية الحياة. فلا معنى للعمل للآخرة ونسيان الدنيا، ولا معنى للاستغراق في الدنيا ونسيان الآخرة. فالحياة الدنيا ليست بديلا ولا نقيضا للحياة الآخرة، فمن حسنت دنياه حسنت آخرته، ومن ساءت دنياه ساءت آخرته. قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص: ٧٧] .
إن منهج تربية المسلم المعاصر لا بد وأن يأخذ في اعتباره عند تخطيطه، وتنفيذه، وتطويره، أن الإسلام هو الإطار المرجعي لهذه الأمة، وأنه وحده هو الكفيل بالحيلولة دون انسحاقها أو تبعيتها.
مفهوم العبادة وعلاقته بمناهج التربية: تصور الإنسان للعبادة قد لازمه في تاريخه كله، منذ خلق الله آدم حتى الآن، فالعبادة عاطفة فطرية مركوزة في النفس الإنسانية بحكم فطرتها، فهي حاجة نفسية ضرورية كحاجة النفس إلى إشباع دوافع الجوع والعطش، والأمن والاطمئنان، والراحة، والجنس ... إلخ، إذن، العبادة عاطفة فطرية، مغروزة في الإنسان تدفعه إلى تلمس إله للعبادة، وإلى هذا الحد فالعبادة عاطفة فطرية لا يختلف حالها في نفوس البشر عن سائر العواطف الإنسانية الأخرى. لكن إشباع هذه الحاجة أو العاطفة الفطرية المغروزة في خلق الإنسان من يوم أن خلقه الله، تختلف باختلاف مراحل التاريخ الإنساني، وباختلاف الجماعات الإنسانية، وباختلاف الأفراد، فكما يختلف الناس في أساليب إشباعهم لحاجات الطعام والشراب واللباس والجنس.. إلخ، فكذلك يختلفون في تصوراتهم لعباداتهم ومعبوداتهم وآلهتهم.
مفهوم العبادة وعلاقته بمناهج التربية: تصور الإنسان للعبادة قد لازمه في تاريخه كله، منذ خلق الله آدم حتى الآن، فالعبادة عاطفة فطرية مركوزة في النفس الإنسانية بحكم فطرتها، فهي حاجة نفسية ضرورية كحاجة النفس إلى إشباع دوافع الجوع والعطش، والأمن والاطمئنان، والراحة، والجنس ... إلخ، إذن، العبادة عاطفة فطرية، مغروزة في الإنسان تدفعه إلى تلمس إله للعبادة، وإلى هذا الحد فالعبادة عاطفة فطرية لا يختلف حالها في نفوس البشر عن سائر العواطف الإنسانية الأخرى. لكن إشباع هذه الحاجة أو العاطفة الفطرية المغروزة في خلق الإنسان من يوم أن خلقه الله، تختلف باختلاف مراحل التاريخ الإنساني، وباختلاف الجماعات الإنسانية، وباختلاف الأفراد، فكما يختلف الناس في أساليب إشباعهم لحاجات الطعام والشراب واللباس والجنس.. إلخ، فكذلك يختلفون في تصوراتهم لعباداتهم ومعبوداتهم وآلهتهم.
1 / 25
العبادة تشمل كل نشاط الحياة:
من أهم خواص منهج التربية أنه منهج عبادة لله، إن العبادة هي العبودية لله وحده، والتلقي من الله وحده، في كل أمور الدنيا والآخرة.. إنها الصلة الدائمة بالله في جميع الأحوال.
والعبادة -على هذا النحو- تتمثل في أمرين:
الأمر الأول: هو الاعتراف بوجود الله الواحد الأحد، الذي لا شيء غيره معه، وليس كمثله شيء، ولا حقيقة لوجود إلا وجوده، ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته، ولا أثر لإرادة إلا إرادته، ولا توجه حقيقي في الرغبة والرهبة، في السراء والضراء، في النعماء والبأساء إلا إليه.
الأمر الثاني: هو الأخذ بالسنن الإلهية، التي يسير الكون بموجبها، فالله ﷾ جعل الإنسان خليفته في الأرض ليعمرها، ويرقى الحياة على ظهرها، ومقتضى العبادة أن يأخذ المؤمن بالأسباب التي تعينه على عمارة الأرض واستغلال ما أودع فيها من كنوز وثروات وطاقات١، على أن يستقر في عقله وقلبه في جميع الأحوال نفي فاعلية الأسباب الظاهرة، ورد كل شيء وكل حدث، وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت، وبه تأثرت، وقد عنى القرآن عناية كبيرة بتقرير هذه الحقيقة في التصور الإيماني، ولذلك فهو دائما ينحي الظاهرة، ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧]، ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ [الأنفال: ١٠]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ﴾ [التكوير: ٢٩]، وهكذا.
والإسلام يوسع مفهوم العبادة لتشمل كل الحياة، ليس حياة الإنسان فقط، بل حياة كل المخلوقات: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾ [الإسراء: ٤٤] .
والإسلام بهذا المفهوم للعبادة لا يقصر العبادة التي يقوم بها الإنسان على لحظات المناسك القصيرة للصلاة والصيام والزكاة والحج، فهذه ليست إلا لحظات قصيرة عابرة في صفحة النفس وفي صفحة الكون، وقيمتها تكمن في آثارها على السلوك النفسي في كل وقت على طول الحياة، لكن "الإسلام يوسع مفهوم العبادة حتى تشمل كل الحياة، فكل عمل يتوجه به الإنسان إلى الله فهو عبادة، وكل عمل
_________
١ سيد قطب: في ظلال القرآن، مرجع سابق، ص٥٨٩-٥٩١.
1 / 26
يتركه الإنسان تقربا لله واحتسابا فهو عبادة، وكل شعور نظيف في باطن النفس فهو عبادة، وكل امتناع عن شعور هابط من أجل مرضاة الله فهو عبادة، وكل ذكر لله في الليل والنهار فهو عبادة، ومن ثم تشمل العبادة الحياة، ويصبح الإنسان عابدا لله حيثما توجه إلى الله"١.
وهكذا ... تصبح العبادة من مظاهر التجمع والتوجه في الكينونة الإنسانية، حيث يصبح النشاط الإنساني كله حركة واحدة متجهة إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني وهي العبادة.
مكافأة العبودية:
والله -سبحانه- يكافئ كل خلقه على عبوديتهم له:
﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾ [هود: ٦] . فالإنسان كما يساوي غير من الموجودات في هذا الكون في عبادة الله، يساويها كذلك في نيل المكافأة، وكل ما يرى من فروق في أشكال المكافأة التي ينالها الإنسان وتنالها الموجودات إنما ترجع إلى الفروق بينهما في القابلية والحاجات. فالفروق هنا من ناحية شكل المكافأة، لا أصل المكافأة.
وينال المؤمن والكافر مكافأة العبودية لله إذا أخذ بالسنن الكونية، والمقصود بالعبودية هنا عبودية الفطرة التي فطر الله الناس عليها، التي عبر عنها ابن تيمية بـ"توحيد الربوبية"، وعبر عنها المودودي بـ"العبادة الفطرية"، لكن المكافأة لغير المؤمن هنا مقصودة على الحياة الدنيا فقط، على حين أنها تكون للمؤمن في الدنيا والآخرة.
بل إن الكافر إذا فاق المؤمن في الأخذ بقانون الفطرة، كأن يكون أمهر منه في العمل، أو أكثر منه جدية فيه، أو أفضل منه أخذا بالأسباب، فإنه ينال مكافأته على تلك "العبادة" بأحسن مما يناله المؤمن٢؛ لأنه أخذ بالسنن الإلهية التي يسير الكون بموجبها. لكن هذه المكافأة لا تعدو أن تكون في حقيقتها متاع الغرور؛ لأن غير المؤمنين ينسبون آثار الأعمال للأسباب الظاهرة، بينما المؤمن ينحي الأسباب الظاهرة، ويرد كل شيء إلى الله.
إن المؤمن الذي يأخذ بالأسباب، بكل الدقة والمهارة المطلوبة للعمل، وهو في نفس الوقت يراقب الله في العمل، أو يحس بأن الله يراه، هذا المؤمن له متاع الحياة الدنيا خيرا، ونصرا، وقوة، وتمكينا في الأرض، وقيادة لها، وله في الآخرة جنات
_________
١ محمد قطب: منهج الفن الإسلامي، بيروت دار الشروق، ١٤٠٣هـ-١٩٨٣م، ص٦٧.
٢ أبو الأعلى المودودي: مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة، الدار السعودية للنشر والتوزيع، جدة، ١٤٠٥هـ-١٩٨٥م، ص٧-١٤.
1 / 27