قال غريب: «والآن ماذا نفعل؟» فقال الأغا: «أنا أتعهد لك بالخروج من هذا السجن في هذا الليل بكل أمان إلى معسكر أبيك، ولكني أريد منك أن تؤمنني على حياتي أمام إبراهيم باشا، ولا بد لي قبل كل شيء من أن تعاهدني على الصداقة فنكون أخوين متحالفين، فأنا أتعهد بإخراجك من هذا السجن، وأنت تتعهد بحفظ حياتي عند وصولنا إلى معسكركم بكل أمان، والآن سأخرج من هذا السجن لأهيئ ما يلزم وسآتيك بعد الغروب.»
قال: «حسنا» فخرج الأغا، وبقي غريب وحده يفكر في ذلك الرجل، وهو لا يزال في ريب مما قاله، ثم نظر إلى ذلك السجن المخيف، وترقب بلهفة ساعة عودة الأغا، فلما رجع رأى غريبا في انتظاره بفارغ الصبر، فقال له: «ها أنا ذا قد أعددت كل ما يلزم، فهل أنت مستعد للفرار؟» فقال: «يسوءني، وأيم الحق، أن أخرج من هذا المكان فرارا ولكن، ما الحيلة؟»
سار الأغا ممسكا بيد غريب متلمسا طريقه في ذلك الظلام، حتى وصل إلى باب مقفل ففتحه ودخل به إلى حجرة داخلية، في أعلى جدار من جدرانها طاقة عليها شباك من الحديد، فقال سالم أغا لغريب: «قف عندك قليلا» وجاء بسلم من إحدى زوايا الغرفة وصعد به إلى تلك النافذة، وما زال يعالج الحديد بأداة في يده حتى قطعه وسحب قضيبين من قضبانه، فصار في الإمكان خروج الإنسان منها، وثبت بالحديد الباقي حبلين وأرخاهما إلى الخارج.
انتهى سالم أغا من ذلك، ثم قال: «تفضل واصعد يا سيدي هذا السلم!» فصعد وأطل من الطاقة فإذا هو عند البحر، والأمواج تلطم جدار السجن، وتدوي في هدوء ذلك الليل، فقال سالم: «لا تضع الوقت، أنزل رجليك من النافذة أولا، ومتى أنزلت يديك أمسك بالحبل، ولا تخف، فإن قاربا ينتظرنا هناك ليتلقاك البحارة بسلام.» فأخرج غريب نفسه من النافذة مبتدئا برجليه جاعلا صدره إلى جهة الحائط، فلما قرب من إنزال يديه فطن إلى الخطر المحدق به، فيما لو انقطع به الحبل وسقط في الماء؛ لأنه لا يحسن السباحة، ولكنه تجلد وتشجع، فلما صار جسمه كله خارجا أمسك بالحبلين معا، ونظر إلى أسفل الحائط فإذا هو بقارب فيه اثنان من البحارة، وقد رأى في خلال ذلك الظلام إشارتهما إليه بالنزول، فأخذ يمسك بهذا الحبل ويترك ذاك، وهكذا حتى قرب من القارب. وبعد قليل رأى سالما نازلا، فلما صار الاثنان في القارب أخذ البحارة يجدفون بسرعة مع مراعاة الهدوء بقدر الإمكان، حتى داروا من وراء سور المدينة وبعدوا عن الخطر، فدنوا من الشاطئ ونزلوا، وإذا هما بجوادين ينتظرانهما كانا قد أعدهما سالم أغا فركبا، وما زالا سائرين حتى بلغا معسكر إبراهيم باشا.
سالم أغا
أما ما كان من أمر الأمير بشير، فإنه لم يكن يعلم بخروج غريب في ذلك الصباح، ولكنه حين حل وقت الغداء ولم يحضر، سأل عنه، فقيل له: «إن بعض الجند رآه راكبا جواده في الصباح الباكر.» فكرر الأمير السؤال عنه، ولما لم يقف له على أثر بث رجاله يفتشون عنه في تلك الصحراء، فعادوا دون أن يعلموا عنه شيئا، فغضب الأمير غضبا شديدا، وأصبح النور في عينيه ظلاما، ولم يعد يستطيع صبرا، فركب جواده وركب معه بعض رجاله، وساروا يفتشون عن غريب في جهات الجنوب ظنا منهم أنه توجه للنزهة في نواحي حيفا وجبل الكرمل، فقضوا هناك بضع ساعات يبحثون بغير جدوى، فعادوا إلى المعسكر، وإذا هم بغريب قد عاد ومعه سالم أغا وجلسا في خيمة الأمير، ودخل الأمير فسلم غريب عليه، فسأله عن سبب غيابه فأخبره بما جرى وعرفه بسالم أغا، وطلب إليه أن يذكر معروفه لأنه أنقذه من الموت.
فقال الأمير لسالم أغا: «لقد غمرتنا بفضلك، ولا بد من مكافأتك فاطلب ما تشاء.»
فوقف الأغا وتقدم يريد تقبيل يد الأمير فأمسكه، فقال: «يا سيدي أسألك أن تتوسط لي عند إبراهيم باشا ليقبلني في جيشه؛ لأني كنت فيما سبق من جنده وخرجت بغير إذن منه.» فوعده بذلك، وأكرمه غاية الإكرام، على أن يأخذه في صباح الغد إلى خيمة إبراهيم باشا من أجل ذلك.
ثم باتوا تلك الليلة، وفي صباح اليوم التالي سار الأمير بشير وولده غريب وسالم أغا إلى خيمة الباشا، فدخل - أولا - الأمير وولده، ثم استأذنا لسالم أغا فأذن له فدخل، فلما شاهده إبراهيم باشا عرفه وسأله قائلا: «ألست سالم أغا؟»
قال: «بلى يا سيدي، إني عبدك سالم.»
অজানা পৃষ্ঠা