وفيما هو خارج من دار الحريم، حانت منه التفاتة فسمع حرس قاعة مجلس الأمير يناديه قائلا: «إن الأمير بشير يدعوك إليه.» فصعد السلم حتى دخل القاعة فرأى الأمير وحده فتعجب لأن ذلك قلما يتفق للأمير بشير، فلما دخل وحيا رد عليه الأمير السلام وقبل يده، فتوسم في وجه الأمير بعض ملامح الكدر والارتباك، فجلس الرئيس وقد انشغل باله فابتدره الأمير بالخطاب قائلا: «يسرني أن أراك مشرفا هنا في هذا الصباح، يا سعادة الرئيس، وقد طال زمن غيابك.»
فقال الرئيس: «أنت تعلم يا سيدنا الأمير أننا من حشم سيادتك، وليس لنا راحة إلا برضاك، وقد تشرفنا بزيارتك والسلام عليك يوم مجيئك من الديار المصرية، ثم رأيت كثرة الشواغل التي تتجاذبك، فقللت من التردد، لئلا أكون شاغلا لك عن مهامك.»
فقال الأمير: «إذن، فيم شرفتنا في هذا الصباح الباكر؟ لعله خير إن شاء الله!» ففكر الرئيس في هذا السؤال الذي لم يكن ينتظره من الأمير، ولكنه تجاهل وأجابه قائلا: «إني أتيت في هذا الصباح لزيارة صديقتي القديمة السيدة أم غريب.»
فقال الرئيس: أنت تعلم يا سيدنا الأمير أننا من حشم سيادتك، وليس لنا راحة إلا برضاك، وقد تشرفنا بزيارتك والسلام عليك يوم مجيئك من الديار المصرية.
فقاطعه الأمير مازحا: «أدام الله هذه الصداقة بينكما، ولكني لا أظن مجيئك مبكرا في هذا الصباح كان من تلقاء نفسك!» فتأكد الرئيس أن الأمير يريد أن يتبين سبب مجيئه، فتقدم نحوه باهتمام وقال: «إن حقيقة الأمر أيها الأمير الجليل أني جئت بدعوة من السيدة جميلة لتشكو لي ما ألم بها أمس، من الأحداث التي كادت تقضي عليها، وقد أفهمتني أمورا قصدت كتمانها عن سيادتكم خوفا من غضبكم لأن حكايتها أغرب من حكاية السيدة سلمى التي أشرتم إليها مساء أمس.» فضحك الأمير قائلا: «إن قصة السيدة أم غريب ليست غريبة عن الأمير بشير، وإن كانت غريبة عن قدسك فإن الذي علم بمجيئها إلى هذه القرية ساعة وصولها، لا تخفى عليه حكايتها، وإن حاولت هي إخفاءها.
أتظن أني لم أقرأ حكايتها أمس في وجهها مكتوبة بيراع عواطفها، فلا حاجة إلى التستر فيما بعد، ولولا خوفي عليها أمس أن تذهب فريسة الخوف والوجل لصرحت لها بذلك، ولكنني تجاهلت وأمرتها أن تذهب إلى مخدعها تلافيا للأمر، وقد كان في نيتي أن أستدعيك في هذا النهار لأجعلك واسطة للتفاهم بيننا؛ لأني أعلم أنها ربما لشدة تأثرها تصاب بسوء، وقد أوصيت الحراس أن لا يأذنوا لأحد بالدخول علي، لكنني أخبرك أنني عفوت عن زوجها يوم حدثني بحديثه على أثر إنقاذه غريبا من مخالب الموت، وهب أنني لم أعف عنه فإني أضن بهذه المرأة لأن مثيلاتها قليلات.
وأحب الآن أن آتي بها إلى هنا، وأطلعها على حكاية زوجها، ولكن لا يحسن أن أبعث وراءها إذ أخشى أن تشتبه في مقصدي فترتعب، فالأفضل أن تذهب سيادتك إليها، وتشرح لها كل ما قلته لك، ثم تأتي بها إلى هنا، بعد أن تتأكد من اطمئنان قلبها.»
ذهب الرئيس إلى جميلة فوجدها لا تزال تحدث سعيدا بتلك القصة، فلما رأته تغير لونها وخشيت أن يكون لذلك سبب يدعو إلى الخوف، فابتدرها هو بالكلام قائلا: «تعالوا نشكر الله تعالى الذي وفقنا في سعينا!» فاستبشرت جميلة وشكرت الله وأطلعها الرئيس على كل ما سمعه من الأمير فانشرح صدرها، ولكنها ظلت تخشى مقابلة الأمير، فأخذها ورافقهما سعيد حتى وصلوا إلى حيث الأمير، فدخل الرئيس أولا وأمسك بيد جميلة وأدخلها، أما هي فكانت مطرقة برأسها إلى الأرض، فلما وقفت بين يدي الأمير ارتمت على قدميه باكية وقبلتهما قائلة: «اصفح أيها الأمير عن هذه الشقية المخطئة العاقة، أو اقتلها فإنها تستحق القتل!» فأمسك الأمير بيدها وأنهضها قائلا: «أهلا ومرحبا بابنة عمي سلمى، لقد صفحت عنك يا عزيزتي، والله غفار الذنوب، تعالي واجلسي إلي ودعي عنك الخوف!» ثم بعث إلى زوجته فلما حضرت أطلعها على حقيقة الأمر، وأخذ يقص عليهم حكاية أمين بك، وقد ذهل الجميع واستولى الصمت عليهم كأن على رءوسهم الطير، وهم ينتظرون ما سيكون من تتمة هذا الحديث. أما جميلة فكانت تنتظر ختامه بفروغ صبر لأنها كانت عالمة ببدئه، فلما وصل الأمير إلى وداع أمين بك له ولأولاده وذهابه، قالت جميلة: «إلى أين توجه؟» قال الأمير: «لا أعلم يا عزيزتي ولو عرفت أنه ذاهب ما سمحت بذهابه مهما كلفني منعه، كما أنه لو علم أن زوجته عندي ما سمح لنفسه بفراقي، ولكن ما العمل فهذه إرادة الله!»
فتقدم سعيد واستأذن الأمير في الكلام فأذن له، فقال: «ما الفائدة يا سيدي وقد سمعنا بوجود سيدي أمين ولم نره؟ يجب علينا بعد أمر سيادتكم أن ندبر وسيلة نصل بها إليه.»
فقال الأمير: «لا بد لنا من إرسال رجل خبير بأحوال الطريق يتوجه إلى مصر بكتاب إلى العزيز، أطلب إليه فيه أن يساعده على لقاء ذلك الرجل.»
অজানা পৃষ্ঠা