وهنا تقدم منهم من هو أكثر خبرة من الجميع، وقال له: «يا سيدي الأمير، ورأس أبي سعدى «يقصد الأمير بشيرا» إن الغلام لم يسقط عن ظهر الجواد رغم إرادته، فإني أعرف دليل ثبوته، إذ يؤيد ذلك أن السرج لا يزال كما هو، والركاب لم يتزحزح من مكانه، فلو فرضنا سقوطه رغم إرادته، لما أمكنه إخراج رجله من الركاب، بل لبقي معلقا يجره الجواد لأن هذا النوع من الركاب يمسك الحذاء، والحقيقة لا يعلمها إلا الله. وأما مسيرنا إلى قبيلة بني واصل فلم يعد له لزوم إذ قد تحققنا أن الجواد لم يصل إلى هناك بعد؛ وبالتالي فإن غريبا لم يصل، والأصوب على ما أرى أن نعود من طريق غير الذي جئنا فيه، ونتفرس في أركان هذا الفضاء، ونسير سيرا بطيئا، وليتأمل كل منا طريقه، والأفضل أن نكثر من المشاعل، ونجعل بين كل اثنين منا مشعلا لكيلا يضل بعضنا عن بعض، ونواصل السير هكذا حتى نصل إلى محل الميدان.» فاستحسن الجميع هذا الرأي وساروا جميعا على هذا الترتيب، ولم يسمع وقع أقدام خيولهم لأن الأرض رملية هناك، وكل منهم ينظر أمامه يتأمل ما على الأرض لعله يرى شبحا أو أثرا يستدل منه على شيء، والركب صامتون، والطبيعة هادئة.
وبعد مسير ثلاث ساعات أجفلت خيولهم بغتة، وأخذت تصهل كأنها شاهدت أمرا مخيفا، فصاح الأمير أمين: «قفوا» فوقفوا إلا جوادا لم يهدأ مطلقا، وقد صاح راكبه: «إني أشاهد جثة ملقاة على الأرض.» فلما سمع الرجال ذلك اتجهوا جميعا نحوه، فإذا هم بجثة مضرجة بالدماء، وقد سمعوا منها أنينا خافتا، فخفقت قلوبهم ووجهوا المشاعل نحوها، وتقدم الأمير أمين وتأملها، فإذا هي جثة رجل أسمر اللون متوسط العمر عليه ثياب العربان، فخاطبه فلم يجبه ففحصوا جراحه، فإذا هو مضروب بسيف على عنقه، وقد كسرت الضربة العظم، فقال الخبير: «هذا الرجل من قبيلة بني واصل، وأنا أذكر أنه من قطاع الطرق، فما لنا وله، لنسر في طريقنا.» فتنهد الأمير أمين، وقال: «لا أستطيع أن أتركه ملقى على هذه الحال فإنه يمثل لي منظرا لا أرانيه الله. أما الآن وقد مات الرجل فلنحفر له حفرة نواريه فيها فذلك خير من أن تأكله الوحوش.» وأمر بعضا من رجاله بحفر حفرة.
وفي أثناء ذلك وقف الأمير أمين، يتأمل هذا الميت، ويتوسل إلى الله أن يقي أخاه من مثل ذلك وقد كاد قلبه ينفطر. وبعد قليل، تم حفر الحفرة وجاءوا ليحملوا الجثة، فحالما قلبوها شاهدوا في حجر الميت شيئا غير ثيابه فاستقدموا المشاعل، وتفرسوا في ذلك الشيء، فإذا هو كوفية من الحرير وعليها العقال، وفي الحال صاح الأمير أمين قائلا: «هذه كوفية غريب، تعالوا فتشوا هذا الميت لعلنا نقف منه على شيء.» فجاء أحدهم وفتش الجثة فوجد عقدا من الذهب، فأعطاه للأمير، فقال: «وهذا لغريب أيضا.» ولما لم يروا شيئا غير ذلك واروا الجثة، ومكثوا يفكرون في هذا الحادث، وقد ارتاعوا لذلك المنظر.
أما الأمير أمين، فإنه اشتم رائحة أخيه من ذلك العقال وذلك العقد، فاضطرم فؤاده، وحسب ألف حساب، فبعث رجاله يفتشون ذلك الجوار.
غريب
ووقف الأمير أمين منفطر القلب، وقد خيل له أنه سيرى أخاه مضرجا بدمائه مثل ذلك الأعرابي، فبهت مفكرا في ذلك الليل الدامس، وتصور والدة غريب وما يلم بها لو ظهر أن الغلام قد أصيب بسوء، فكانت عواطفه تتلاعب به تلاعب الريح باللهب، فيبدو مختلف المشاعر، كأنك تصب عليه ماء ساخنا تارة، وماء باردا تارة أخرى، ثم تذكر أنه كان السبب في مجيء غريب إلى تلك الأرض، فهب من ساعته مرتعدا وقد اتقدت في قلبه الحمية والشهامة. ثم آنس عن بعد ضوءا خفيفا فركب جواده وسار بغير مشعل قاصدا ذلك النور، وقد عزم أن يقوم بالبحث بنفسه، ولم يعد يخشى بأسا ولا يقدر عاقبة.
وبعد مسيرة برهة، تمثل له عن بعد شبح فارس واقف، وسمع صوتا يناديه: «ارجع من عندك يا كلب العرب، وإلا أفقدناك الحياة!» فصاح الأمير أمين: «من أنتم يا قوم؟ إننا لسنا من العرب، تمهلوا لنتقابل، فإن لي عندكم مسألة.»
فقاطعه ذلك الصوت قائلا: «تكلم من عندك ولا تقترب منا.»
فقال الأمير: «نحن عدة رجال، ولسنا من أهل هذه الأرض، وإنما ضاع لنا ضائع، ونحن ساعون في التفتيش عنه.»
ولم يتم كلامه حتى سمع صوت رجاله وراءه مغيرين على خيولهم نحو مكانه، فأوقفهم ليتم حديثه مع ذلك الفارس، فإذا هو قد تقدم إليه، وكانت المشاعل قد اقتربت فتفرس الأمير في ذلك الفارس فرآه ملثما بكوفية بيضاء، وقد التف ببرنس أبيض، وراكبا جوادا أزرق، فلما اقترب من الأمير أمين قال: «مرحبا بكم، لقد ظفرتم بضالتكم.»
অজানা পৃষ্ঠা