وكنت قد بحثت في طرف الجزيرة الذي أقيم فيه عن الماء العذب فلم أجد أيا منه. وكثيرا ما خطر لي أن أتخطى الحدود فأدخل جانب الغابة المخصص للعجوز، لكنني لم أجرؤ على ذلك. كنت في الغالب الأعم ألتزم بعدم الابتعاد عن مسالك الغابة.
لم يكن ما يمنعني من المغامرة بدخول جانب الغابة المخصص للرجل العجوز يقتصر على القوانين التي وضعها، ولا على عواء القردة - وهو ما انتهيت إلى إدراك أنه تحذير أو إنذار - بل كان يضم أيضا خوفي من السعلاة. كان ذلك القرد يبدو هادئا مسالما، ولكنني لم أكن أستطيع التنبؤ بما عساه أن يفعل هو وأصدقاؤه إذا وجدونا في منطقتهم. وكنت أتساءل في نفسي أيضا عما تخفيه الغابة عن عيني من مخلوقات أخرى، تتربص بي أو تكمن لي في الظلمة الرطبة داخل الغابة. فإذا كانت الأصوات الدائمة الصادرة من الغابة تصلح أساسا للحكم عليها، قلت إن ذلك المكان يزخر بشتى الأنواع الزاحفة من المخلوقات الرهيبة.
كان مجرد التفكير في السعلاة وأهوال مجاهل الغابة كافيا لردعي، وكافيا لوأد فضولي وشجاعتي. وهكذا التزمت في أغلب الأوقات بالبقاء على الشاطئ، وفي كهفي، وبطريق الغابة الموصل إلى قمة التل الخاص بي.
ومن موقعي المرتفع على ذلك التل كنت أستطيع أحيانا أن ألمح العجوز. كنت أراه كثيرا في الصباح وهو يصيد السمك برمحه في المياه الضحلة، وكان أحيانا وحده، وإن كان الأعم أن تصحبه مجموعة من السعالي، وكانت هذه القردة تجلس على الشاطئ ترقبه، وكان عددها يبلغ ذات يوم أربعة عشر أو خمسة عشر. وأحيانا كان يحمل أحد صغارها على ظهره، وكان حين يمشي وسطها، يبدو كأنما كان واحدا منها.
وحاولت مرارا أن أظل مستيقظا حتى يأتي العجوز ليلا بالطعام، لكنني لم أفلح قط. لم أستطع قط أن أسمعه على الإطلاق. ولكنني كنت أجد الماء كل صباح، والسمك (وكثيرا ما كان بطعم السمك المدخن هذه الأيام، وهو ما كنت أفضله). ولكن الفاكهة كانت تختلف من يوم ليوم. وكانت كثيرا ما تفوح برائحة غريبة لا تستهويني إطلاقا. لكنني كنت آكلها. فإلى جانب الموز وجوز الهند والنبق، كان يترك لي أحيانا فواكه تسمى «فاكهة الخبز» و«فاكهة البحارة» (وإن كنت آنذاك لا أدري، بطبيعة الحال، ما يمكن أن تكون). كنت آكل كل شيء، ولكن ليس بنفس النهم القديم، فكنت أحاول ادخار بعض الفواكه للعشاء، لكنني لم أكن قادرا قط على إجبار نفسي على ادخار الموز الأحمر، إذ كان مذاقه الرائع يرغمني على التهامه فورا.
كان كابوسي المتكرر هو البعوض ليلا، فمنذ أن يبدأ الغسق، يشرع في البحث عني، فيئز ويطن حولي، ويأكلني حيا. لم أكن أجد مهربا منه. كانت كل ليلة عذابا طويلا ممدودا، وكنت في الصباح أحك بشرتي ألما حتى أجرحها في عدة أماكن. وقد تورمت بعض اللدغات، وخصوصا في رجلي، فأصبحت دمامل حمراء لها رءوس صفراء، ولم أكن أجد الراحة من الألم إلا بغمر جسدي كثيرا في مياه البحر الباردة.
وحاولت الرقاد في كهف آخر، أعمق وأظلم، ولكن الرائحة كانت بشعة. وما إن اكتشفت أنه يزخر بالخفافيش، حتى تركته على الفور. وأينما رقدت كان البعوض لا يتأخر في اكتشاف مكاني. وساء الحال حتى أصبحت أخشى مقدم الليل كل يوم، وكنت أتوق إلى الصباح، إلى برودة البحر وبرد النسيم على قمة التل الذي يخصني.
وهناك كنت أقضي سحابة يومي، جالسا على القمة نفسها، أتطلع إلى البحر، وأنا أتمنى، وأحيانا أدعو الله أيضا، أن تظهر في الأفق سفينة. كنت أغمض عيني تماما وأدعو الله أطول مدة ممكنة ثم أفتحهما من جديد، وكنت أحس في كل مرة، بل أعتقد حقا، أن الله سوف يستجيب لدعواتي، وأنني حين أفتح عيني هذه المرة سوف أجد بيجي سو وهي تبحر عائدة لإنقاذي، ولكن المحيط الشاسع العظيم كان دائما خاويا، وخط الأفق مستمرا دون انقطاع. كنت دائما أحس بخيبة الأمل، بطبيعة الحال، وكثيرا ما يصيبني الاكتئاب، لكنني لم أكن أصل إلى الإحباط التام في تلك الأسابيع الأولى.
كنت أواجه مشكلات أخرى أيضا بسبب لفح الشمس الحارق. ولم أتعلم إلا بعد وقت طويل أن أظل مرتديا جميع ملابسي دائما. كنت صنعت لنفسي قبعة لحماية وجهي ورقبتي من الشمس. كانت القبعة عريضة جدا وتشبه القبعات الصينية، صنعتها من خوص النخيل، بعد تضفيره في بعضه البعض، وكنت سعيدا إلى حد كبير بما صنعته يداي.
واكتشفت أن لفح الشمس الحارق من المنغصات التي أستطيع تفاديها، وأن ماء البحر قادر على تلطيف معاناتي. فعند الظهيرة كنت أهبط من التل قاصدا الاحتماء في كهفي من لظى الهجير وقيظ شمس العصر، وبعدها أذهب للسباحة. وكانت هذه هي اللحظة التي تتوق إليها ستلا كل يوم. كنت أقضي ساعات طويلة أقذف لها فيها بالعصي حتى تحضرها. كانت تستمتع بذلك، والحق أنني كنت أيضا أستمتع به. كان ذلك يمثل ذروة نشاط اليوم. لم نكن نتوقف إلا عندما يهبط الظلام - وكان يهبط دائما بسرعة تدهشني - ويضطرنا إلى العودة من جديد إلى معركتي الليلية مع مصاصات الدماء التي تعذبني.
অজানা পৃষ্ঠা