قالت: بالضرورة، فإنه كان في رفقتك.
قال: كان برفقتي إلى الساعة التاسعة من الليل، وأكل الطعام، ثم خرج مع سعيد بن غانم، فلم أعلم إلى أين، وخرجت أنا مع غانم.
قالت: أين صرف وقته؟ فقد - والله - أشغلت بالي، فإنه أتى إلى البيت بعد نصف الليل بساعة، وخرج في هذا اليوم باكرا على خلاف عادته، بعد أن كان يقضي صباحه بالمطالعة والتصوير، فلم يطالع اليوم ولم يصور.
قال: دخل ابنك في طور جديد، وتحققت أفكاري، فاعلمي أن الذي دفعه إلى ذلك هو شدة تضييقك عليه، فقد صح قول القائل:
كثر التناهي غلط
خير الأمور الوسط
ثم إنه جعل يكلمها على الفضيلة بقوله: إنها ما كانت وسطا بين طرفي التفريط والإفراط، فهي إن زادت عن قدرها أو نقصت عنه أصبحت رذيلة، فأنت قد ربيت غلامك تربية تليق بأهل النسك والزهد والعبادة، وهو بالفطرة بعيد عن ذلك، فلا تعجبي إن نبذ أقوالك ظهريا، فلقد نبهتك فلم تذعني لقولي، ولم تنتبهي.
قالت: ما العمل إذن؟
قال: كان من الواجب عليك أن تبعديه عن التشبع وشدة التمسك في الدين، وترشديه إلى ما فيه خيره وصلاحه ودفع الضرر عنه، وأن تطلقي له شيئا من الحرية ليتصرف حسب طبيعته، فتلك هي الدرجة الوسطى، وهي الفضيلة اللازمة. أما كثرة التشديد على الأولاد وحجز حريتهم تماما فأدعى إلى الضرر ولا يجدي الوالدين نفعا، ومن المعلوم أن الأبناء يتلقون الآداب والأخلاق عن آبائهم وأمهاتهم، فإن رأوا في سيرتهم الصلاح كانوا صلاحا، ولم يخش عليهم بأس من إطلاق الحرية لهم، فإن المثال الحسن يؤثر على ضميرهم، فيصبحون قادرين على كف شهواتهم، ويجدون في أنفسهم زاجرا عن الشرور، أما التضييق عليهم فقد يكون سببا لخروجهم عن الصراط المستقيم، وداعيا لهلاكهم كمثل الآلة البخارية يشتد عليها ضغط البخار فتنسحق.
قالت: لله درك، ما أبرعك في التمثيل والتشبيه! شبهت في الحين فؤادا بعيار ناري ثم بآلة بخارية، فبماذا تمثله أيضا؟
অজানা পৃষ্ঠা