ثم تقدم «روبير» جهة القناطر التي تدخل منها المياه، وتنصب داخل المدينة، وبحث فيها جيدا من جهة عمقها وعرضها، ورجع إلى مولاه، وقال له: إن اتساع المجرى كاف لأن يدخل منه فارسان معا.
قال: امض إلى العسكر، وائتني بالمهندسين والعمال. وحالا ابتدئوا بالعمل، وحفروا الخنادق، وحولوا ماء النهر، وبعد انقطاع الماء أمر «كورش» جنوده بالعبور إليها، فدخلوا وهو في مقدمتهم يكاد أن يقتلع تلك الأسوار. وقد نجح في ذلك نجاحا تاما، ودخل تلك العاصمة العظيمة، وأهلها مقيمون بين طرب وخمر، وهم يسكرون ويمرحون، وملكها بين أعيانه يترنح بين خمر الدنان وخمر الغرام، ويعد نفسه من يوم لآخر بقرب الوصال، فلم ينتبهوا إلا وعساكر الفرس قد امتلكت المدينة والقلاع والحصون، وأحاطوا بقصر الملك وأوثقوه كتافا، وأخذوه أسيرا، وهو لا يعي من السكر، ودخل «كورش» إلى قصر الحرم، وهو شاهر حسامه و«روبير» أمامه.
فلما دخل وجد القصر جنة فوق أديم الأرض؛ لما فيه من الزخارف والأواني الذهبية والفضية والنمارق الثمينة ما يعجز عن وصفها اللسان ، وكانت النساء يصلحن من أمر «شاهزنان» لأجل زفافها على الملك، وهي تبكي وتنتحب، وتتضرع إلى الله أن يصرف عنها هذا البلاء. وإذا بها تسمع ضجة عظيمة في أنحاء القصر فخفق فؤادها، وظنت أن الملك داخل عليها، وكان في صدرها مدية قد استحضرتها معها لتطعن نفسها حين دخول الملك عليها فشهرتها في يدها، ونظرت إلى الباب، وكان النساء اشتغلن عنها، وتشتتن في أنحاء القصر خوفا ووجلا من تلك الضجة، وبعد لحظة دخل «كورش» ومعه قواد قومه إلى ساحة القصر الداخلي، وكان «روبير» قد سبق القوم ليبحث عن محل «شاهزنان»، وقد دخل فوجدها شاهرة بيدها تلك المدية، وتريد أن تطعن نفسها، فاختطفها من يدها، وبعد ما استفهم عن اسمها وعرف أنها هي بشرها بخلاصها ودخول حبيبها وامتلاكه المدينة.
ورجع إلى مولاه ليخبره، وإذا به داخل أمام الباب الذي هم فيه فأرشده «روبير» إليها، ولما رأته صرخت بصوت الفرح، وخرت مغشيا عليها، فدخل «كورش»، وانكب عليها وانتشلها بين أحضانه، ووضعها فوق سريرها، واجتهد في استفاقتها، ولما أفاقت نظرت إليه، وبكت حتى بلت الأرض، فقال لها «كورش»: قد زال الخطر يا قرة العيون، ومنتهى الشجون، فلا فراق بعد الآن إلا بالموت فطيبي نفسا، وقري عينا، واعلمي أن هذا القصر، وما فيه تحت تصرفك، وسيقام زفافنا فيه عما قريب - إن شاء الله تعالى.
ففرحت «شاهزنان»، وحمدت الله الذي من عليها، وأخرجها من الضيق إلى الفرج حيث إن كل ما يلزم للزفاف كان حاضرا، وكانت على وشك زفافها لرجل تفضل الموت على النظر إلى وجهه، فبدله الله لها بمن تحب.
ثم قالت له: أين أبي أيها الملك؟ فإني ما رأيته منذ دخولي هذا المكان الذي كنت أحسبه قبل دخولك إليه نار السعير، وكنت أحس أن ثقل تلك الأسوار كلها فوق صدري.
فقال: يا شقيقة الروح! هو موجود الآن في القصر الخارجي، وقد أخرج من السجن، ووضع مكانه الملك «أفراسياب».
قالت: أريد أن أراه الآن لأجل أن أروي صدى شوقي منه.
قال: سمعا وطاعة.
ثم أمر «روبير » أن يستحضره مع «أرباسيس» و«فانيس»، فذهب «روبير» وأحضر الجميع، ولما دخل عليها والدها انكبت على أقدامه تقبلهما، وتزرف الدمع السخين فانهضها بين يديه، وضمها إلى صدره، وبكى بكاء مرا. وحالما نظر الملك إلى هذا الموقف المحزن، اجتهد في تسكين روعهما وتسليتهما، وقال لهما: إني أرسلت أحد قوادي لتخليص «نينوى» عاصمة مملكتك، ولا بد أن يكون الآن قد فرغ من فتحها. وبينما هم في تلك المذاكرة، وإذا بالحاجب في يده كتاب، فناوله للملك ففتحه وتلاه، وإذا هو من «بركزاس» يخبره فيه أنه فتح «نينوى» عاصمة مملكة «أشور»، فناوله إلى «فانيس» فتلاه جهارا، ولما سمع الملك «أكيا كسار» فرح فرحا شديدا.
অজানা পৃষ্ঠা