هذه رواية مدام دي جنليس، ولكنها على صراحتها وجلائها لم تكن كافية لقطع ألسنة المرجفين والنمامين. وكانت شدة مشابهة الفتاة لأترابها وعشيراتها تعين على التشكيك في صحة دعوى المربية. وقال أحد المؤرخين المعاصرين: «إن شدة مشابهة باميلي لأولاد الدوق كانت تحمل كل ناظر إليها على أن يظنها أختا لهم لولا وجود نبرة في كلامها.»
أما باميلي نفسها كانت خالية الذهن من جميع الريب والشكوك التي أثارها حولها أهل البلاط، فرتعت في ظلال الرخاء ورغد العيش تجر ذيول الغبطة والهناء، وتجري على مقتضى الأحوال مطبوعة بطابع النشوء في بحبوحة الترفه والترف، لابسة لبوسهما ، كأنها مولودة في مهدهما وسريرهما. وقد تعلقت بها قلوب أولاد الدوق وأحبوها محبة العابد لمعبوده، ونالت مكانة عالية من العطف والإعزاز عند دوق دي شارتر ومدام دي جنليس التي كتبت عنها في مذكراتها ما خلاصته: «كنت مولعة بحبها وكأني بها سحرت لبي وأخذت بمجامع قلبي، وعلى رغم ما كان يبدو منها من الرعونة والطيش، كانت فتنة لكل ناظر إليها؛ لرشاقة حركاتها وخفة روحها.»
وعلى توالي السنين كان غصن جمال باميلي يزداد نضارة وإيراقا، وبدر ملاحتها إنارة وإشراقا. ولما صارت ابنة ست عشرة وصفها بعض عارفيها فقال: «إنها مطبوعة على اختلاب العقول واجتذاب القلوب، فما من فتاة تباريها في سحر النفوس وامتلاك أزمة الخواطر، وجمالها آية في كماله. ومن يسعده الحظ بالظفر بها فقد نال السعادة بحذافيرها!»
وقد خطبها كثيرون من الكبراء والعظماء أصحاب الألقاب السامية والشرف الباذخ، فردتهم واحدا بعد الآخر مفضلة عيشة الحرية واللهو على قيود الحياة الزوجية ولو أنها من ذهب. ويقال إنه كان في وسعها لو أرادت أن تصير دوقة مونبنسيه وإحدى أميرات البلاط، ولكنها رفضت ذلك عندما عرض عليها.
وأخيرا لقيت من حن قلبها إليه وحام طائر حبها عليه، وهو اللورد إدورد فتزجرالد ابن دوق لينستر الأصغر. وكان هذا الشاب الإرلندي الكريم المحتد جميل الطلعة نبيل الشأن، وقد ذاعت شهرة ذكائه ونجابته، وبعد صيت بسالته وشدة بأسه. وقيل إنه هام بها لما شاهدها أول مرة في لوج دوق شارتر في أوبرى باريس، ثم لقيها مرة ثانية في أثناء زيارتها القصيرة للندن سنة 1793. ومنذ اجتمعا أحبا أحدهما الآخر، ولم يلبثا أن اقترنا في تورناي على رغم معارضة مدام جنليس.
وهاك وصفهما في عقد الزواج المحفوظ في تورناي: «إدورد فتزجرالد من لندن، ابن المرحوم دوق لينستر، عمره 29 سنة. وستيفاني كارولين إن سمس المعروفة باسم باميلي من لندن ابنة وليم باركلي وماري سمس.» وهذا العقد ممضى من إدورد فتزجرالد وباميلي سمس وبعض الشهود. ومنه يتضح أنها على رغم الأقاويل التي شاعت عن حقيقة أصلها تزوجت منتسبة إلى الاسم الذي كان لأرملة من همبشير قبل زواجها، وأبوها بركلي لاسيمور كما جاء في رواية مدام جنليس.
والوارد عن نسب باميلي في عقد الزواج يناقضه ما جاء عن نسبها في المجلة الماسونية. وقد ورد في جزئها الصادر في شهر يناير سنة 1794 بما ترجمته: «احتفل بعقد إكليل اللورد إدورد فتزجرالد على الآنسة باميلي كريمة سمو الدوق دي أورليان.» ويقول مور في كتابه: «حياة اللورد إدورد فتزجرالد» ما مترجمه «أن باميلي كانت ابنة مدام دي جنليس من دوق أورليان.»
وعاشت باميلي مع زوجها في إرلندة خمس سنوات في رغد وهناء وصفاء ورفاء، وكتبت يوما إلى مدام جنليس تقول: «إن حياتي هنا أشبه بحلم جميل. ونحن كلانا في سعادة لا توصف، ولأجلها ترينني بعض الأحيان أسائل نفسي بخوف قائلة هل تدوم هذه السعادة لنا؟» ويقول زوجها في رسائله إلى والدته: «تعودت أنا وزوجتي المحبوبة حياة البطالة والكسل. ففي كل يوم نبطئ في الاستيقاظ والنهوض، ونقضي الوقت في المنادمة والمحادثة حتى ينقضي النهار ونحن لا ندري. وقد أقيمت لنا في دبلن عدة احتفالات - ولائم ومراقص - حضرتها زوجتي كلها، وهي مولعة بالرقص. وأود لو أمكنك أن تشاهديها وهي ترقص فكنت تعجبين برقصها البديع الجميل. والجميع هنا يحبونها ويحترمونها.» ثم كتب إليها بعد شهر من بلاك روك قرب دبلن: «جئت أمس بزوجتي المحبوبة إلى هذا المكان، ونحن ناعمان فيه بظلال الراحة والمسرة نمتع عيوننا بمشاهدة كل ما شاق وراق من مناظر الطبيعة، وآذاننا بسماع تغاريد الطيور. وهذا كله يزيدنا بهجة وحبورا، وإن كان وجود زوجتي وحده كافيا ليجعل سعادتي منقطعة النظير.»
ولكن تلك الأيام السارة الجميلة لم يكتب لها البقاء والدوام، وتلك السعادة كانت كما خافت باميلي نفسها معرضة للزوال. فإن اللورد إدورد الذي كانت محبته لوطنه لا تقل كثيرا عن محبته لزوجته لم يعتم أن انساق إلى هجر السلام والراحة بجانب باميلي، واقتحام بحر السياسة العجاج المحفوف بالمغامر والمخاطر. وأصبح من أركان جمعية الإرلنديين المتحدين. واختير للسفر إلى فرنسا ليسعى في إعداد حملة فرنسوية لمهاجمة إرلندة. على أن هذا السعي اقترن بالخيبة والإخفاق. وفي أحد أيام مارس سنة 1798 قبضت الحكومة البريطانية على المتآمرين ما عدا اللورد إدورد، فإنه تمكن من الفرار والاختباء في مكان مخفي عن عيون الحكومة.
وفي أثناء ذلك أقامت باميلي في مسكن حقير في زقاق وراء ساحة مريون، وهي في أشد حالات القلق والاضطراب موجسة كل ساعة خوف سماعها لخبر اعتقال زوجها المحبوب. وكثيرا ما كان اللورد إدورد يخرج من مخبئه تحت ستار الظلام ويزورها ويخلس التمتع بمشاهدتها. وفي إحدى الليالي وصوصت جارية من ثقب مفتاح الغرفة فرأت الزوجين جالسين حول سرير ولدهما، ولشد ما توسلت باميلي إلى زوجها أن يكف عن هذه المغامرة مخافة أن تلحظه عيون الرقباء والجواسيس ويقبضوا عليه. وكان اثنان من سكان المنزل الذي هي فيه يعرفانه جيدا على رغم تنكره وتخفيه. وقال الخادم يوما لرب المنزل: «إني أعرف الرجل الذي يزور السيدة.» - هل تعرفه جيدا؟ - نعم، كما أعرفك، فقد أعطاني حذاءه لأصبغه، ووجدت اسمه مكتوبا عليه من الداخل. ولكن لا يخطرن ببالك أني أسلمه ولو بعشرة آلاف جنيه. وإني مستعد لأن أبذل حياتي فداء عنه وعن زوجته.
অজানা পৃষ্ঠা