ولما كان الكردينال قد أصبح واثقا بحصوله على رضى المليكة ومحبتها، ذهب إلى القصر لتقر عيناه بمشاهدتها، فلم يلق إلا ما كان يلقاه سابقا من الصدود والإعراض والاحتقار والامتهان، ولكنه لشد غروره وغباوته سهل على نفسه تجرع كأس هذه الإهانة بقوله: «ألست واثقا بأني مالك قلبها؟ كفاني هذا. وليس ما لقيته من الصد والإعراض إلا من باب المواربة والتعمية، حتى لا يطلع الآخرون على ما بيننا من الغرام والهيام.» ثم عرض شيء آخر أوجب القلق والانزعاج. وهو أن الملكة شهدت غير واحد من الاحتفالات الرسمية، ولم تكن القلادة في عنقها. وهذه الحقيقة أثارت الريب والشكوك في قلب المسيو بومر. وقد زاد به القلق حتى إنه عندما بعث إلى جلالتها ببيان حساب بعض الأشياء التي ابتاعتها من عنده، انتهز هذه الفرصة وذكرها القلادة، وقال في ختام كلامه: «ويسرني كل السرور أن أرى أغلى قلادة في العالم يزدان بها جيد أجمل ملكة.» فلما قرأت الملكة هذه الكلمات ولم تفهم معناها قالت: «لعله مصاب بالجنون.»
ولكن يوم الحساب وكشف الحجاب كان قريبا، فإنه لما حان وقت دفع القسط الأول وقدره 400000 فرنك، انتظر الجوهري فلم يأخذ شيئا. وكانت قرينة دي لاموت قد أعطت الكردينال مبلغا زهيدا ليدفعه إلى الجوهري ويطلب إليه بالنيابة عن الملكة أن يمهلها في الباقي. وفي هذه الأثناء لاحظ باسنج شريك الجوهري بومر أن إمضاء الملكة على صك القلادة ليس فيه إلا مشابهة قليلة لخطها ... وهذا الشك تحول إلى حيرة وذعر، فذهب باسنج شريك بومر إلى الكونتس مستوضحا. فقالت له إن الإمضاء مزور، والملكة لا علم لها بالأمر، وعليه أن يقتضي المال من الكردينال!
ولما بلغ الملكة خبر هذه الخدعة، حمي وطيس حنقها وغضبها، وازدادت سخطا ومقتا للكردينال، وألحت في وجوب اعتقاله هو وجميع شركائه في هذه الجريمة الشنعاء لينالوا ما يستحقونه من العقاب. وبعد ساعة جيء بالأمير دي روان إلى حضرة الملك والملكة ليسأل عما فعل، فوقف أمامها وقفة ذل وعار حركت ساكن الشفقة عليه من قلوب المشاهدين. وقد استطاع تحمل نظرات الحنق المنصبة عليه من عيني الملك بشيء من التجلد. وأما نظرات الملكة التي لشدة غرامه بها أقدم على اقتراف هذا الإثم الشائن، فقد اخترقت أحشاءه وكادت تذيبه بنارها، فسأله الملك وشرر الغيظ يتطاير من كلماته: «من فوض إليك شراء القلادة لملكة فرنسا؟» فأجابه بلهجة الانسحاق والانكسار: «سيدة دي لاموت. وقد أعطتني كتابا من الملكة، فظننت أن بإطاعتي لأمر جلالتها أكون قد تشرفت بخدمتها.» فاعترضته الملكة بصوت يقذف بحمم السخط والغضب قائلة: «ظننت! ظننت أنك تخدمني! أنت الذي منذ جاء أول مرة إلى القصر لم أكلمه قط بكلمة، ولا وجهت إليه أقل التفاتة!» ولما عرض الصك الموقع بإمضاء الملكة إجابة لطلب الملك صاح: «ليس في هذا الإمضاء من المشابهة لخط الملكة أكثر مما فيه منها لخطي، وزد عليه أنك وأنت الأمير الكردينال تجهل أن الملكة لا تمضي اسمها ماري أنطوانيت فرنسا. فاذهب على الفور واكتب إلى الملكة معتذرا مستغفرا، ولا تنس أنك بأمر الحكومة موقوف رهن التحقيق.»
وبعدما كتب عريضة الاستغفار، أودع هو والكونتس دي لاموت وزوجها والفتاة التي مثلت الملكة سجن الباستيل.
لكن الفرنسويين على بكرة أبيهم شق عليهم أن يروا أحد أقطاب الكنيسة فريسة العار والشنار بيد الملكة التي كانوا يكرهونها، فأعلنوا مؤاساتهم له واستياءهم من تحقيره إلى هذا الحد. ولما جيء به للمحاكمة استقبلوه على جانبي الطرق كملك، وحين أعلنت براءته ثملت فرانسا كلها براح الحبور والابتهاج.
وكان دي لاموت قد تمكن من الفرار إلى إنكلترة، وأما قرينته فقد حوكمت وحكم عليها بأن تجلد متجردة، وتوسم في كتفها كمجرمة أثيمة، وتقضي حياتها كلها في السجن. فسيقت معولة مولولة مكمومة الفم وموثوقة اليدين والرجلين، ووسمت بميسم حام بالحرف
V - أول أحرف كلمة فالوي - في كتفها، وجلدت جلدا شديدا أمام جمهور غفير من المشاهدين، ثم ألقيت في مركبة بين حية وميتة، فسارت بها إلى السجن. ولما دخلته ورأت أنها سوف تقضي غابر حياتها مع أسفل طبقة من النساء المجرمات، استولى عليها الرعب واليأس، فاستخرطت في النوح والبكاء وذرف الدموع وهي تصيح: «يا لفالوي! يا لفالوي!»
وخلاصة ما يعرف عنها بعد ذلك أنها بمساعدة أصدقائها خارج فرنسا، ورشوة بعض الموكلين بحراسة السجن، تمكنت من الهرب متنكرة إلى إنكلترة حيث لقيت زوجها، ولما تراكمت عليها الديون وكثرت الدعاوى توسلت أن تعيش بما توجر عليه من نشر مذكرات مفعمة بالفضائح والمخازي عن ماري أنطوانيت، بحيث كانت تضطرها أن تقطع لسانها وتشتري سكوتها عنها بمبلغ من المال مرة بعد مرة. وكانت كل مرة تقضي المبلغ المتفق عليه واعدة بالكف والسكوت، ثم تنكث الوعد وتستأنف هتك الأستار عن الأسرار ونشر الأخبار، وزوجها يلذ وينعم بإنفاق ما كانت تناله من المال.
ولما تمادت في نكث مواعيدها للويس السادس عشر، على الوجه السابق بيانه، بلغ الغيظ من رسل الدوق دورليان في لندن مبلغا يفوق الاحتمال، وكانوا قد ابتاعوا منها مذكراتها، فتآمروا على الانتقام منها، وزوروا أمرا بالقبض عليها، وذهبوا إلى بيتها قاصدين اختطافها وأخذها إلى فرنسا؛ حيث يذيقونها غصص النكال. ولكنها بعدما دخلوا غرفتها احتالت عليهم بالخروج لقضاء حاجة، وأقفلت عليهم الباب ، وفرت ملتجئة إلى الطبقة العليا من أحد البيوت المجاورة. على أن أعداءها عالجوا الباب بالخلع والكسر، واندفعوا يفتشون عنها ومراجل الغيظ تغلي في قلوبهم، وما لبثوا أن عثروا على ملجئها، فقرعوا الباب طالبين فتحه وإلا كسروه.
وإذ ذاك أيقنت أنه لا وسيلة للهرب إلا من النافذة، ولم يخف عليها أن مصير فرارها منها إلى الموت. ولكنها لشدة هلعها أقدمت عليه وألقت بنفسها من النافذة، فسقطت في الشارع محطمة الجسم مهشمة الأعضاء. وبعد أيام ماتت، وكان ذلك في اليوم السادس والعشرين من شهر أغسطس سنة 1791، وبهذه الفاجعة انتهت حياة جان دي فالوي سليلة الملوك، وختمت حوادث لم يدون التاريخ أشد منها مغامرة واقتحاما.
অজানা পৃষ্ঠা