ولما بلغ كاترينا نعيه أغمي عليها وتحول الدم إلى رأسها، فعالجوها بالفصد. ولما أفاقت لم تجد إلى العزاء سبيلا، فقضت أياما في خلوتها تأبى مقابلة أحد، وهي ممعنة في الحزن والاكتئاب والنوح والانتحاب.
ولكن بعد دفنه في كنيسة القديسة كاترين في خرصون، كتب عنه الكونت دستوبشين يقول: «إنه مذ الآن قد أدرج في طي النسيان، وعاد غير مذكور بلسان إنسان. ولن يذكر في الأجيال المقبلة بسوى اللوم والذم. وقد كانت أعماله كلها متناقضة متضاربة، فكان يمزج عمل الخير بفعل الشر، ويتبع الحسنات أضعافها من السيئات، ويأتي ما ينشئ الحقد والضغينة والمقت والكراهة في قلوب الذين سبق فغمرهم بفيض جوده وإحسانه. وأشهر مظاهر ضعفه أنه كان يعشق كل امرأة يراها، ثم لا يلبث أن يبدل بها سواها. وهذه الشهوة على فسادها وشدة سفالتها كثيرا ما اقترنت بالنجاح، فكنت ترى النساء يتسابقن إليه لمطارحة العشق والغرام تسابق الرجال للحصول على المناصب.»
وبعد سنوات أمر الإمبراطور بولس ابن الإمبراطورة كاترين الثانية عاشقة بتيومكين وحاميته، أن ينبش قبره ويذرى رفاته في الهواء.
تهور وصيفة
وصف أحد شعراء الإنكليز جمال فرانسز جننس الساحر وحسنها الفتان، فقال ما ترجمته: «سبكتها الطبيعة في قالب محاسن لا يمكن التعبير عنها بالكلام، وصقلتها بمصقل ملاحة خالبة العقول وسالبة القلوب. فإشراق محياها يمثل لعين الناظر إليه لمعان جبين الفجر وسناء وجنة الربيع.» هذا وصف وجيز للجمال الرائع الذي ازدانت به هذه الفتاة، وقد مثلت أهم فصل على مسرح العالم في أيام هنري الثامن ملك إنكلترة الملقب بالملك الطروب.
ولدت فرانسز جننس سنة 1648 في سندرج قرب سنت ألبان في إنكلترة، ولم يدر قط في خلد إنسان أنها ستنال شيئا مما أحرزته فيما بعد من علو المكانة عند الأمراء والعظماء، بل كان حينئذ ما بينها وبين ما صارت إليه أبعد مما بين الأرض والسماء. وكان أبوها رتشرد جننس من عامة رجال الأرياف. فلم يكن يتوقع لبناته سوى أن يجدن أكفاء لهن يقترن بهم ويقضين معهم أيامهن في تربية أولاد أصحاء أقوياء، ويعشن عيشة الزوجات الصالحات المشهورات بحسن تدبير البيوت، ولم يخطر بباله ارتقاء إحداهن إلى مصاف الأميرات ودخولها في قصر الملوك.
على أنهن نشأن في أسرة توارثت الحسن والجمال من عهد بعيد، وكان هذا الجمال الأصيل التليد يزداد على توالى الأجيال صفاء ونقاء ورونقا وبهاء، حتى بلغ في بنات رتشرد منتهاه، وأصبح جمالهن المنقطع النظير موضوع حديث أهل البلد، مع أنهن كن بعد طفلات. ولما فتحت أزرار حسنهن، ولاحت لعيون الناظرين أزهار محاسنهن، وهي في طور البلوغ فاح أريجها وذاع صيتها في إنكلترة، وبلغ قصر الملك. ولما عزمت دوقة أوف يورك (زوجة أخي ولي العهد) أن تكون وصيفاتها أجمل الوصيفات في قصور الملوك، لم يعجب الناس حين سمعوا بأنها دعت فرانسز أجمل بنات رتشرد جننس إلى قصرها لتكون فريدة في عقد نسائه الحسان. وعلى الفور نظرت فرانسز إلى نفسها، فإذا بها وهي بعد في السادسة عشرة من عمرها قد انتقلت من عيشة الخشونة في الريف؛ حيث هل هلال حسنها وفتحت زهرة جمالها، إلى عيشة الترف والرخاء والرغد والهناء في أعظم القصور. وهذا الانتقال الفجائي أدهشها إلى الغاية. وعند وصولها استقبلت كواحدة من أعضاء الأسرة المالكة. ولم تبطئ شهرة جمالها أن شاعت وذاعت، وأخذ الناس يتحدثون عنها، ويتسابقون إلى مشاهدتها عند مسيرها في الشوارع أو تمشيها في المتنزهات. ولما رآها دوق أوف يورك وأخوه الملك أعجبا بها كل الإعجاب، وكانا في مقدمة العانين لسلطان حسنها عليهم.
وكان الدوق على الخصوص أكبر مشغوف بحب وصيفة زوجته، فأخذ يتعرض لها في دخولها وخروجها، ويضايقها بالمداعبة والمغازلة ومطارحة أحاديث الوجد والغرام، وهي تنفر منه ولا تعيره أقل التفات. ولما خابت مساعيه بالكلام وعلى لسان الوسطاء، عمد إلى توسيط القلم واستخدام الرسائل؛ فكان كل يوم يلقي بطاقات شكوى الشوق ووصف تباريح الهيام في جيوبها أو فروة يديها. ولكنها كانت في كل مرة تبذل جهدها في أن تجعل الذين يشاهدون وضع هذه البطاقات يرون طرحها لها كما هي غير مفتوحة ولا مقروءة؛ إذ كانت بعدما يضع البطاقات في جيوبها أو في فروة يديها تنفض الفروة أو تفتح منديلها وتلقي البطاقات، فتسقط على الأرض على مرأى المارة ويلتقطها من يشاء.
وكثيرا ما شاهدت الدوقة هذه الحوادث، ولم تجد في نفسها ما يوجب توبيخها لوصيفتها على إعراضها عن زوجها وعدم احترامها له. وعلى هذا المنوال كان حديث جمال فرانسز وتمنعها ملء الألسنة والمسامع بين الكبراء والعظماء.
وكان مما صحت عزيمة فرانسز عليه أن تتخذ جمالها ذريعة لنيل ما طمحت نفسها إليه من الغنى ورفعة الشأن، ولكنها في الوقت نفسه ما كانت قط لتسمح بهذا الجمال النادر المثال لمن لا يدعوها زوجته. وبناء عليه أعرضت بوجه باسر عن جميع الأمراء الذين حاولوا التزلف إليها وردتهم واحدا بعد الآخر يتعثرون بأذيال اليأس والخيبة.
অজানা পৃষ্ঠা