Makarim al-Akhlaq by Ibn Uthaymeen
مكارم الأخلاق لابن عثيمين
প্রকাশক
دار الوطن
সংস্করণের সংখ্যা
الأولى
জনগুলি
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، بعثه الله تعالى بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، بعثه الله تعالى بين يدي الساعة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين، ووفق الله من شاء من عباده فاستجاب لدعوته، واهتدى بهديه، وخذل الله بحكمته من شاء من عباده، فاستكبر عن طاعته، وكذب خبره، وعاند أمره، فباء بالخسران والضلال البعيد.
أما بعد فبحثنا هذا يدور حول الحديث عن حسن الخلق ومكارم الأخلاق.
والخلق: هو السجيةُ والطبع١، وهو كما يقول أهل العلم: صورةُ الإنسان الباطنة، لأن الإنسان صورتين٢:
_________
١ قال ابن الأثير في النهاية ٢/٧٠ الخلق بضم اللام وسكونها: الدين والطبع والسجية. وحقيقة: أنه صورة الإنسان الباطنية وهي نفسه وأوصافه.
٢ قال القسطلاني: أعلم أن الأخلاق جمع خلق، بضم الخاء واللام ويجوز إسكانها [خلق] . قال الراغب: الخلق والخلق بالفتح وبالضم في الأصل بمعنى واحد كالشراب والشرب ولكن خص الخلق الذي يالفتح بالهيئات والصور المدركة بالبصرة. وخص الذي بالضم بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة. أ. هـ. شرح المواب اللدنية ٤/٢٤٣.
1 / 9
صورة ظاهرة: وهي شكل خلقته التي جعل الله البدن عليه، وهذه الصورة الظاهرة منها جميل حسن، ومنها ما هو قبيح سيئ، منها ما بين ذلك.
وصورة باطنة: وهي حال للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال من خير أو شر، من غير حاجة إلى فكر وروية.
وهذه الصورة أيضًا منها ما هو حسن إذا كان الصادر عنها خلقًا حسنًا، ومنها ما هو قبيح إذا كان الصادر عنها خلقًا سيئًا، وهذا ما يُعبر عنه بالخلق، فالخلق إذن هو الصورة الباطنة التي طبع الإنسان عليها.
والواجب على المسلم أن يتخلق بمكارم الأخلاق أي أطايبها، والكريم من كل شيء هو الطيب منه بحسب ذلك الشيء، ومنه قول الرسول ﷺ لمعاذ: "إياك وكرائم أموالهم" ١ حين أمره بأخذ بالزكاة من أهل اليمن.
فعلى الإنسان أن تكون سريرته كريمة، فيحب الكرم، والشجاعة، والحلم، والصبر،أن يلاقي الناس بوجه طلق، وصدر منشرح، ونفس مطمئنة، فكل هذه الخصال من مكارم الأخلاق.
وقد قال الني ﷺ: "أكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا" ٢، فينبغي أن يكون هذا الحديث دائمًا نصب عين المؤمن، لأن الإنسان إذا علم بأنه لن يكون كامل الإيمان إلا إذا أحسن خلقه كان ذلك دافعًا له على التخلق بمكارم الأخلاق ومعالي الصفات وترك سفا سفها ورديئها.
_________
١ أخرجه البخاري رقم ١٤٩٦كتاب الزكاة. ومسلم رقم ٢٩ كتاب الإيمان.
٢ أخرجه أبو داود رقم٤٦٨٢ كتاب السنة. والترمذي ١١٦٢ كتاب الرضاع وفيه زيادة: "خياركم خياركم لنسائهم" وأحمد في المسند ٢/٤٧٢ وهو في صحيح الجامع رقم١٢٣٠، ١٢٣٢
1 / 10
كمال الشريعة الإسلامية من ناحية الأخلاق
والنبي ﷺ أخبر أن من مقاصد بعثته إتمام محاسن الأخلاق، فقال ﵊: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" ١.
فالشرائع السابقة التي شرعها الله للعباد كلها تحث على الأخلاق الفاضلة، ولهذا ذكر أهل العلم أن الأخلاق الفاضلة مما طبقت الشرائع على طلبه، ولكن الشريعة الكاملة جاء النبي ﵊ فيها بتمام مكارم الأخلاق ومحاسن الخصال. ولنضرب مثلًا.
مسألة القصاص: ذكر أهل العلم في مسألة القصاص، أي: لو أن أحدًا جنى على أحد فهل يقتص منه أم لا؟ ذكروا أن القصاص في شريعة اليهود حتميٌّ ولابد منه، ولا خيار للمجني عليهم فيه، وأن الأمر في شريعة النصارى العكس، وهو وجوب العفو، لكن شريعتنا جاءت كاملة من الوجهين، ففيها القصاصُ وفيها العفو، لأن في أخذ الجاني بجنايته حزمًا وكفًا للشر، وفي العفو عنه إحسانًا وجميلًا، وبذل معروف فيمن عفوت عنه،
_________
١ أخرجه أحمد في المسند٢/٣٨١، والحاكم في المستدرك٢/٦١٣، وصححه على شرط مسلم ووافقه الذهبي. والبخاري في الأدب المفرد رقم ٢٧٣. والبيهقي ١٠/١٩٢ وابن أبي الدنيا في: مكارم الأخلاق رقم ١٣ وقال الهيثمي في مجمع الزوائد ٩/١٥: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح وصححه أيضا: الألباني في السلسلة الصحيحة رقم٤٥.
1 / 11
فجاءت شريعتنا والحمد لله مكملة، خيرت من له الحق بين العفو والأخذ، لأجل أن يعفو في مقام العفو، وأن يأخذ في مقام الأخذ. وهذا بلا شك أفضل من شريعة اليهود التي ضيعت حق المجني عليهم في العفو الذي يكون فيه مصلحة لهم، وأفضل من شريعة النصارى التي ضيعت حق المجني عليهم أيضًا فأوجبت عليهم العفو وقد تكون المصلحة في الأخذ وإنزال العقوبة.
1 / 12
الأخلاق بين الطبع والتطبع
وكما يكون الخُلقُ طبيعة، فإنه قد يكون كسبًا، بمعنى أن الإنسان كما يكون مطبوعًا على الخلق الحسن الجميل، فإنه أيضًا يمكن أن يتخلق بالأخلاق الحسنة عن طريق الكسب والمرونة.
ولذلك قال الني ﷺ لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم والأناة" قال يا رسول الله، أهما خلقان تخلقت بهما، أم جبلني الله عليهما، قال: "بل جبلك الله عليهما". فقال: "الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما ورسوله" ١.
فهذا دليل على أن الأخلاق الحميدة الفاضلة تكون طبعًا وتكون تطبعا، ولكن الطبع بلا شك أحسن من التطبع، لأن الخلق الحسن إذا كان طبيعيًا صار سجية للإنسان وطبيعة له، لا يحتاج في ممارسته إلى تكلف، ولا يحتاج في استدعائه إلى عناء ومشقة، ولكن هذا فضل الله يؤتيه من يشاء، ومن حُرم هذا – أي حُرم الخلق عن سبيل الطبع – فإنه يمكنه أن يناله
عن سبيل التطبع، وذلك بالمرونة، والممارسة كما سنذكر إن شاء الله تعالى فيما بعد.
_________
١ أخرجه أبو داود رقم ٥٢٢٥ كتاب الأدب. وأحمد ٤/٢٠٦ وأخرج مسلم شطره الأول رقم ٢٥، ٢٦ كتاب الإيمان. والترمذي رقم ٢٠١١ كتاب البر والصلة.
1 / 13
من الأفضل؟
وهنا مسألة وهي:
أيهما أفضل رجل جُبل على خلق حميد، ورجل يجاهد نفسه على التخلق به، فأيهما أعلى منزلة من الآخر؟
ونقول جوابًا على هذه المسألة: إنه لاشك أن الرجل الذي جُبل على الخلق الحسن أكمل من حيث تخلقه بذلك، أو من حيث وجود هذا الخلق الحسن فيه، لأنه لا يحتاج إلى عناء ولا إلى مشقة في استدعائه، ولا يفوته في بعض الأماكن والمواطن، إذ أن حسن الخلق فيه سجيه وطبع، ففي أي وقت تلقاه تجده حَسَن الخلق، وفي أي مكان تلقاه حَسَن الخلق، وعلى أي حالٍ تلقاه حَسَن الخلق، فهو من هذه الناحية أكمل بلا شك.
وأما الآخر الذي يجاهد نفسه ويروضها على حسن الخلق، فلا شك أنه يؤجر على ذلك من جهة مجاهدة نفسه، وهو أفضل من هذه الجهة، لكنه من حيث كمالُ الخلق أنقص بكثير من الرجل الأول.
فإذا رزق الإنسان الخلقين جميعًا، طبعًا وتطبعًا كان ذلك أكمل، الأقسام هي:
١ - من حرُم حسن الخلق طبعًا وتطبعًا
٢ – من حرمه طبعًا لا تطبعًا
٣ - من رُزقه طبعًا لا تطبعا
1 / 14
٤ - من رُزقه طبعًا لا تطبعًا
ولا شك أن القسم الثالث هو أفضل الأقسام لأنه مع بين الطبع والتطبع في حسن الخلق١.
_________
١ ويروي ابن القيم ﵀ أن جميع الأخلاق الفاضلة تنشأ عن أمرين:
الأول: الخشوع.
الثاني: علو الهمة.
قال ﵀ في كتاب الفوائد ص ٢١٠، ٢١١: "وأما الأخلاق الفاضلة كالصبر، والشجاعة، والعدل، والمروءة، والعفة، والصيانة، والجود، والحلم، والعفو، والصفح، والاحتمال، والإيثار، وعزة النفس عن الدناءات، والتواضع، والقناعة، والصدق، والإخلاص، والمكافأة على الإحسان بمثله أو أفضل والتغافل عن زلات الناس، وترك الاشتغال بما لا يعنيه، ولامة القلب من تلك الأخلاق المذمومة ونحو ذلك، فكلها ناشته عن الخشوع وعلو الهمة. والله سبحانه أخبر عن الأرض بأنها تكون خاشعة، ثم ينزل عليها الماء فتهتز، وتأخذ زينتها وبهجتها، فذلك المخلوق منها إذا أصابه حظه من التوفيق. أ.هـ.
1 / 15
مجالات حسن الخلق
إن كثيرًا من الناس يذهب فهمه إلى أن حسن الخلق خاص بمعاملة الخلق دون معاملة الخالق ولكن هذا الفهم قاصر، فإن حسن الخلق كما يكون في معاملة الخلق، يكون أيضًا في معاملة الخالق، فموضوع حسن الخلق إذن: معاملة الخالق جلا وعلا، ومعاملة الخلق أيضًا وهذه المسألة ينبغي أن يتنبه لها الجميع.
أولًا: حسن الخلق في معاملة الخالق:
حسنُ الخلق في معاملة الخالق يجمع ثلاثة أمور:
١ - تلقي أخبار الله بالتصديق.
٢ - وتلقي أحكامه بالتنفيذ والتطبيق.
٣ - وتلقي أقداره بالصبر والرضا.
هذه ثلاثة أشياء عليها مدار حسن الخلق مع الله تعالى.
أولًا - تلقي أخبار بالتصديق: بحيث لا يقع عند الإنسان شك، أو تردد في تصديق خبر الله ﵎، لأن خبر الله تعالى صادر عن علم، وهو سبحانه أصدق القائلين كمال قال تعالى عن نفسه: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا﴾ ١. ولازم تصديق أخبار الله أن يكون الإنسان
_________
١ سورة النساء، الآية: ٨٧.
1 / 16
واثقًا بها، مدافعًا عنها، ومجاهدًا بها وفي سبيلها، بحيث لا يداخله شك أو شبهة في أخبار الله ﷿ وأخبار رسوله ﷺ.
وإذا تخلق العبد بهذا الخلق أمكنه أن يدفع أي شبهة يوردها المغرضون على أخبار الله ورسوله ﷺ، سواء أكانوا من المسلمين الذين ابتدعوا في دين الله ما ليس منه، أم كانوا من غير المسلمين الذين يلقون الشبه في قلوب المسلمين بقصد فتنتهم وإضلالهم.
ولنضرب لذلك مثلًا [حديث الذباب]:
ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: "إذا وقع الذباب في شراب أحدكم فليغمسه ثم ليطرحه فإن في أحد جناحيه داء وفي الآخر شفاء" ١.
هذا خبر صادر عن رسول الله ﷺ وهو ﷺ في أمور الغيب لا ينطق عن الهوى، لا ينطق إلا بما أوحى الله تعالى إليه لأنه بشر، والبشر لا يعلم الغيب بل قد قال الله له: ﴿قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾ ٢.
وهذا الخبر يجب علينا أن نقابله بحسن الخلق وحسن الخلق نحو هذا الخبر يكون بأن نتلقاه بالقبول والانقياد، فنجزم بأن ما قاله النبي ﷺ في
_________
١ أخرجه البخاري رقم٥٧٨٢ كتاب الطب. وأبو داود بنحوه رقم ٣٨٤٤ كتاب الأطعمة. وأخرجه ابن ماجه رقم ٣٥٠٥ كتاب الطب. وأحمد في المسند ٢/٢٤٦، ٢٣٦، ٣٤٠، ٣٥٥.
٢ سورة الأنعام، الآية: ٥٠.
1 / 17
هذا الحديث فهو حق وصدق، وإن اعترض عليه من اعترض، ونعلم علم اليقين أن كل ما خالف ما صح عن رسول الله ﷺ فإنه باطل، لأن الله تعالى يقول: ﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ ١.
ومثال آخر [من أخبار يوم القيامة]:
أخبر النبي ﷺ: "أن الشمس تدنو من الخلائق يوم القيامة بقدر ميل" ٢. وسواء كان هذا الميل ميلَ المكحَلة أم كان ميل المسافة، فإن هذه المسافة بين الشمس ورءوس الخلائق قليلة ومع هذا فإن الناس لا يحترقون بحرها، مع أن الشمس لو تدنو الآن في الدنيا مقدار أنملة لاحترقت الأرض ومن عليها.
قد يقول قائل: كيف تدنو الشمس من رءوس الخلائق يوم القيامة بهذه المسافة، ثم يبقى الناسُ لحظةً واحدةً دون أن يحترقوا؟! نقول لهذا القائل: عليك أن تكون حسن الخلق نحو هذا الحديث.
وحسنُ الخلق نحو هذا الحديث الصحيح يكون أن نقبله ونصدق به، وأن لا يكون في صدورنا حرج منه ولا ضيق ولا تردد، وأن نعلم أن ما أخبر به النبي ﷺ في هذا فهو حق، ولكن هناك فارقًا عظيمًا بين أحوال الناس في الدنيا، وأحوالهم في الآخرة، بحيث لا يمكن أن نقيس أحوال
_________
١ سورة يونس، الآية: ٣٢.
٢ أخرجه مسلم رقم٦٢ كتاب الجنة ونعيمها. والترمذي رقم ٢٤٢١ كتاب الزهد.
1 / 18
الدنيا بأحوال الآخرة، لوجود هذا الفارق العظيم.
فنحن نعلم أن الناس يقفون يوم القيامة خمسين ألف سنة!! وعلى مقياس ما في الدنيا، فهل يمكن أن يقف أحدٌ من الناس خمسين ألف دقيقة؟ الجواب: لا يمكن ذلك، إذن الفارق عظيم، فإذا كان كذلك، فإن المؤمن يقبل مثل هذا الخبر بانشراح صدر وطمأنينة، ويتسع فهمه له، وينفتح قلبه لما دل عليه.
ثانيًا: ومن حسن الخلق مع الله ﷿، أن يتلقى الإنسان أحكام الله بالقبول والتنفيذ والتطبيق فلا يرد شيئًا من أحكام الله، فإذا رد شيئًا من أحكام الله فهذا سوء خلق مع الله ﷿، سواءٌ ردها منكرًا حكمها، أو ردها مستكبرًا عن العمل بها، أو ردها متهاونًا بالعمل بها، فإن ذلك كله منافٍ لحسن الخلق مع الله ﷿.
مثال على ذلك: [الصوم]
الصوم لا شك فيه أنه شاقٌ على النفوس، لأن الإنسان يترك فيه المألوف، من طعام وشراب، ونكاح، وهذا أمر شاق على الإنسان ولكن المؤمن حسن الخلق مع الله ﷿، يقبل هذا التكليف، أو بعبارة أخرى: يقبل هذا التشريف، فهذه نعمة من الله ﷿ في الحقيقة، فالمؤمن يقبل هذه النعمة التي في صورة تكليف بانشراح صدر وطمأنينة، وتتسع لها نفسه فتجده يصوم الأيام الطويلة في زمن الحر
1 / 19
الشديد، وهو بذلك راضٍ منشرح الصدر، لأنه يحسن الخلق مع ربه، لكن سيئ الخلق مع الله ﷿ يقابل مقل هذه العبادة بالضجر والكراهية، ولولا أنه يخشى من أمر لا تُحمد عقباه، لكان لا يلتزم بالصيام.
مثال آخر: [الصلاة]
فالصلاة لا شك أنها ثقيلة على بعض الناس، وهي ثقيلة على المنافقين، كمال قال النبي ﵊: "أثقل الصلاة على المنافقين: صلاة العشاء وصلاة الفجر" ١.
لكن الصلاة بالنسبة للمؤمن ليست ثقيلة قال تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ٢. فهي على هؤلاء غري كبيرة وإنما سهلة يسيرة، ولهذا قال النبي ﵊: "وجعلت قُرة عيني في الصلاة" ٣.
فالصلاة هي قرة عين المؤمن، وزاده اليومي الذي يتزود به للقاء الله تعالى، ولذلك فهو يعظم قدرها لها أعظم الاهتمام، لأنها عماد
_________
١ أخرجه البخاري رقم ٦٤٤ كتاب الأذان. مسلم رقم٢٥١، ٢٥٢، ٢٥٣ كتاب المساجد. والترمذي رقم ٢١٧ في أبواب الصلاة. وأبو داود رقم ٥٤٨ كتاب الصلاة. والنسائي رقم ٨٤٨ كتاب القبلة. وابن ماجه رقم ٧٩١ كتاب المساجد.
٢ سورة البقرة الآيتان: ٤٥، ٤٦.
٣ أخرجه النسائي رقم ٣٩٤٩، ٣٩٥٠ كتاب عشرة النساء. وأحمد في المسند ٣/١٢٨، ١٩٩، ٢٨٥ وهو في صحيح الجامع رقم ٣١٣٤.
1 / 20
الدين وأول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة.
فحسن الخلق مع الله ﷿ بالنسبة للصلاة أن تؤديها وقلبك منشرح مطمئن،وعينك قريرة تفرح إذا كنت متلبسًا بها، وتنتظرها إذا فات وقتها، فإذا صليت الظهر، كنت في شوق إلى الصلاة العصر، وإذا صليت المغرب كنت في شوق إلى صلاة العشاء، وإذا صليت العشاء كنت في شوق إلى صلاة الفجر. ولهذا كان النبي ﷺ يقول: "يا بلال أرحنا بالصلاة" ١. يقول: أرحنا بها، فإن فيها الراحة والطمأنينة والسكينة، لا كما يقول البعض: أرحنا بها، لأنها ثقيلة عليهم، وشاقة على نفوسهم. وهكذا دائمًا تجعل قلبك معلقًا بهذه الصلوات فهذا لا شك أنه من حسن الخلق مع الله تعالى.
مثال ثالث [تحريم الربا]
وهذا في المعاملات فقد حرم الله علينا الربا تحريمًا أكيدًا وأحل لنا البيع وقال في ذلك: ﴿الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ
_________
١ أخرجه أبو داود رقم ٤٩٨٥ كتاب الأدب. وأحمد في المسند ٥/٣٦٤ من طريق مسعر بن كدام عن عمرو بن مرة عن سالم بن الجعد، عن رجل من أسلم عن النبي ﷺ. والإسناد صحيح وجهالة الصحابي لا تضر. والحديث في صحيح الجامع للألباني رقم ٧٨٩٢.
1 / 21
وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ١. فتوعد من عاد إلى الربا بعد أن جاءته الموعظة، وعلم الحكم، توعد بالخلود في النار، والعياذ بالله، بل إنه توعده في الدنيا أيضًا بالحرب فقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مؤمنين، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ﴾ ٢. هذا يدل على عظم هذه الجريمة وأنها من كبائر الذنوب والموبقات.
فالمؤمن يقبل هذا الحكم بانشراح ورضا وتسليم، وأما غير المؤمن فإنه لا يقبله، ويضيق صدره به، وربما يتحيل عليه بأنواع الحيل، لأننا نعلم أن في الربا كسبًا متيقنًا وليس فيه أي مخاطرة، لكنه في الحقيقة كسب لشخص وظلك لآخر ’ ولهذا قال الله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ ٣.
ثالثًا: ومن حسن الخلق مع الله تعالى: تلقي أقدار الله تعالى بالرضا والصبر.
وكلنا نعلم أن أقدار الله ﷿ التي يجريها على خلقه ليست كلها كلائمة للخلق بمعنى أن منها ما يوافق رغبات الخلق ومنها ما لا يوافقهم.
فالمرض مثلًا: لا يلائم الإنسان، فكل إنسان يحب أن يكون صحيحًا معافى.
_________
١ سورة البقرة، الآية: ٢٧٥.
٢ سورة البقرة الآية: ٢٧٨، ٢٧٩.
٣ سورة البقرة الآية: ٢٧٩.
1 / 22
وكذلك الفقر: لا يلائم الإنسان، فالإنسان يحب أن يكون غنيًا.
وكذلك الجهل: لا يلائم الإنسان فالإنسان يحب أن يكون عالمًا. لكن أقدار الله ﷿ تتنوع لحكمة يعلمها الله ﷿، منها ما يلائم الإنسان ويستريح له بمقتضى طبيعته، ومنها ما لا يكون كذلك. فمت هو حسن الخلق مع الله ﷿ نحو أقدار الله؟
حسن الخلق مع الله نحو أقداره: أن ترضى بما قدر الله لك، وأن تطمئن إليه وتعلم أنه ﷾ ما قدره إلا لحكمة عظيمة وغاية محمودة يستحق عليها الحمد والشكر.
وعلى هذا فإن حسن الخلق مع الله نحو أقداره، هو أن يرض الإنسان ويستسلم ويطمئن، ولهذا امتدح الله الصابرين فقال: ﴿وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ ١.
ثانيًا: حسن الخلق في معاملة الخَلق:
أما حسن الخلق مع المخلوق فعرّفه بعضُهم بأنه كفُّ الأذى، وبذلُ النّدى، وطلاقة الوجه. ويذكر ذلك عن الحسن البصري رحمه الله٢.
_________
١ سورة البقرة الآية: ١٥٦.
٢ انظر الآداب الشرعية ٢/٢١٦. وهناك تعريفات أخرى لحسن الخلق منها: تعريف الواسطي قال: هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى. وقيل: هو التخلي من الرذائل والتحلي بالفضائل. وقيل: هو بذل الجميل وكف القبيح. وسئل سهل عنه فقل: أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه راجع في ذلك: مدارج السالكين لابن القيم ٢/٢٩٤ الإحياء لأبي حامد الغزالي ٣/٥٣ والآداب الشرعية٢/٢١٦.
1 / 23
أولًا: معنى كفى الأذى:
معنى كف الأذى أن يكف الإنسان أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض، فمن لم يكف أذاه عن غيره سواء كان هذا الأذى بالمال، أو يتعلق بالنفس، أو يتعلق بالعرض، فمن لم يكف أذاه عن الخلق فليس بحسن الخلق، بل هو سيئ الخلق.
وقد أعلن الرسول ﷺ حُرمة أذية المسلم بأي نوع من الإيذاء وذلك في أعظم مجمع اجتمع فيه بأمته حيث قال: "إن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا" ١.
إذا كان رجل يعتدي على الناس بأخذ المال، أو يعتدي على الناس بالغش، أو يعتدي على الناس بالخيانة، أو يعتدي على الناس بالضرب والجناية، أو يعتدي على الناس بالسبّ والغيبة والنميمة، لا يكون هذا حسنَ الخلق مع الناس، لأنه لم يكف أذاه، ويعظم إثم ذلك كلما كان موجهًا إلى من له حق عليك أكبر.
فالإساءة إلى الوالدين مثلًا أعظم من الإساءة إلى غيرهما، والإساءة إلى الأقارب أعظم من الإساءة إلى الأباعد، والإساءة إلى الجيران أعظم من الإساءة إلى من ليسوا جيرانًا لك. ولهذا قال النبي ﵊: "والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن" قالوا: من يا رسول الله؟ قال: "من لا يأمن جاره بوائقه" ٢.
_________
١ أخرجه البخاري رقم٦٧ كتاب العلم. ورقم ١٧٤١ كتاب الحج. ورقم ٤٤٠٦ كتاب المغازي. وأخرجه مسلم رقم ٢٩، ٣٠ كتاب القيامة.
٢ أخرجه البخاري رقم ٦٠٦١ كتاب الأدب. واللفظ له. ومسلم بنحوه رقم ٧٣ =
1 / 24
ثانيًا: معنى بذل الندي:
الندى هو الكرم والجود، يعني: أن تبذل الكرم والجود. والكرم ليس كما يظنه بعض الناس أنه بذل المال فقط، بل الكرم يكون في بذل النفس، وفي بذل الجاه، وفي بذل المال، وفي بذل العلم.
إذا رأينا شخصًا يقضي حوائج الناس، يساعدهم، يتوجه في شئونهم إلى من لا يستطيعون الوصول إليهم، ينشر علمه بين الناس، يبذل ماله بين الناس، هل نصفُ هذا بحس الخلق؟ نعم، نصفه بحسن الخلق، لأنه بذل الندى، ولهذا قال النبي ﷺ: "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحُها، وخالق الناس بخلق حسن" ١.
ومن مخالفة الناس بخلق حسن: أنك إذا ظُلمت أو أسيء إليك، فإنك تعفو وتصفح وقد امتدح الله العافين عن الناس، فقال في أهل الجنة: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ٢
وقال تعالى: ﴿وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ ٣
_________
= كتاب الإيمان ولفظه: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه" قال النووي: البوائق: جمع بائقة وهي الغائلة والداهية والفتك. انظر مسلم بشرح النووي ٢/٢٠٧.
١ أخرجه الترمذي رقم١٩٨٧ كتاب البر والصلة. وقال: حديث حسن صحيح. وأحمد في المسند ٤/١٥٣، ١٥٨، ٢٣٦ من حديث أبي ذر ومعاذ بن جبل ﵄. وهو في صحيح الجامع الصغير رقم ٩٧.
٢ سورة آل عمران الآية: ١٣٤.
٣ سورة البقرة الآية: ٢٣٧.
1 / 25
وقال تعالى: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا﴾ ١
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ ٢.
وكل إنسان يتصل بالناس، فلابد أن يجد من الناس شيئًا من الإساءة، فموقفه من هذه الإساءة أن يعفو ويصفح، وليعلم علم اليقين أنه يعفوه وصفحه ومجازاته بالحسنى، سوف تنقلب العداوة بينه وبين أخيه إلى ولاية، ومحبة، وصداقة، قال تعالى: ﴿وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ ٣.
وتأملوا أيها العارفون باللغة العربية كيف جاءت النتيجة بإذا الفُجائية، لأن إذا الفجائية تدل على الحدوث الفوري في نتيجتها: ﴿فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَميمٌ﴾ .، ولكن ليس كل أحد يوفق لذلك قال: ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ ٤.
هل نفهم من هذا أن العفو عن الجاني محمود مطلقًا ومأمور به؟ وقد يفهم البعض من الآية هذا الكلام، ولكن ليكن معلومًا أن العفو إنما يُحمد إذا كان العفو أحمد، فإن كان الأخذ أحمد فالأخذ أفضل. ولهذا قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا
_________
١ سورة النور الآية: ٢٢.
٢ سورة الشورى الآية: ٤٠.
٣ سورة فصلت الآية: ٣٤.
٤ سورة فصلت الآية: ٣٥.
1 / 26
يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ ١. فجعل العفو مقرونًا بالإصلاح.
فالعفو قد يمكن أن يكون غير إصلاح، فقد يكون هذا الذي جنى عليك واجترأ عليك رجلًا شريرًا معروفًا بالشر والفساد، فلو عفوت عنه لتمادى في شره وفساده فالأفضل في هذا المقام أن تأخذ هذا الرجل بجريرته، لأن في ذلك إصلاحا ً. قال شيخ الإسلام ابن تيميه: الإصلاح واجب، والعفو مندوب، فإذا كان في العفو فوات الإصلاح فمعنى ذلك أننا قدمنا مندوبًا على واجب، وهذا لا تأتي به الشريعة وصدق ﵀.
_________
١ سورة الشورى الآية: ٤٠.
1 / 27
تنبيه مهم
وإنني بهذه المناسبة أود أن أنبه على مسألة يفعلها كثير من الناس بقصد الإحسان، وهي أن تقع حادثه من شخص، فيهلك بسببها شخص آخر، فيأتي أولياء المقتول فيسقطون الدية عن هذا الجاني الذي فعل الحادث، فهل إسقاطهم للدية محمود ويعتبر من حسن الخلق؟ أم في ذلك تفصيل؟
في ذلك تفصيل، فلابد أن نتأمّل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث، هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول: أنا لا أبالي أن أدهس شخصًا لأن ديته في الدرج والعياذ بالله.
أم أنه رجل حصلت منه هذه الحادثة مع كمال التعقل وكمال الاتزان، ولكن الله تعالي قد جعل لكل شيئًا مقدارًا.
في ذلك تفصيل، فلابد أن نتأمّل ونفكر في حال هذا الجاني الذي وقع منه الحادث، هل هو من الناس المعروفين بالتهور وعدم المبالاة؟ هل هو من الطراز الذي يقول: أنا لا أبالي أن أدهس شخصًا لأن ديته في الدرج والعياذ بالله.
أم أنه رجل حصلت منه هذه الحادثة مع كمال التعقل وكمال الاتزان، ولكن الله تعالي قد جعل لكل شيئ مقدارًا.
إن كان من هذا الطراز الأخير فالعفو في حقه أولى، ولكن حتى وإن كان من هذا الطراز المتعقل المتزن، يجب قبل أن نعفو عنه أن ننظر: هل على الميت دين؟ فإذا كان على الميت دين، فإنه لا يمكن أن نعفو، ولو عفونا فإن عفونا لا يعتبر. وهذا مسألة ربما يغفل عنها كثير من الناس، ونحن نقول ذلك لأن الورثة يتلقون الاستحقاق لهذه الدية من الميت الذي أصيب بالحادث، ولا يردُ استحقاقهم إلا بعد قضاء الدين إن كان الميت مدينًا.
1 / 28