في هذه الساعة اليتيمة الشريدة، التي لا تعد من الليل ولا من النهار، جلس الكاهن على صخرة بين الزيتونة والطريق.
كان والد الخوري يوسف يحدث عن والده، فيقول: «كثيرا ما كان والدي يروي من أخبار أخيه القسيس ونوادره. وكان ذاك القسيس عمي رجلا صالحا ورعا، يؤثر العمل على القول، وحتى على الصلاة.»
وقد كتب جد الخوري يوسف شيئا من أخبار أخيه في الكتاب المقدس؛ ذلك الإرث القديم في بيته، كما يكتب اللبنانيون فيه تواريخ الوفيات والولادات في عائلاتهم.
فذكر الكاهن، بعد أن قرأ تلك الكلمات من إنجيل متى، ما هو مخطوط على داخل جلد الكتاب عن نسيبه القسيس الورع الصالح. فعاد إليه، وقرأه بصوت مرتفع، هادئ، كما يقرأ الإنجيل في القداس:
خرج القسيس من البيت، صباح هذا اليوم يحمل كيسا فارغا، ليطوف في القرى مستجديا باسم السيد المسيح من أجل الفقراء. يوم كل أسبوع، يوم الشحاذة الذي وقفه القسيس على الفقراء المعاويز. وهو في اليوم التالي يطوف في البلدة، وفي القرى المجاورة لها، فيوزع على الفقراء ما يجمعه في اليوم السابق من الدراهم والخبز والدقيق ... والذي يأخذ هو مثل الذي يعطي ... والشحاذ المحب للخير، العامل خيرا لوجه الله، هو مساو بفضله لأكبر المحسنين.
عندما انتهى الخوري يوسف من تلاوة هذا الإنجيل الجديد، سأل نفسه قائلا: «ولماذا خط جدي هذه الكلمات على جلد هذا الكتاب؟ أليقرأها أولاده وأحفاده، ويقتدوا بنسيبهم القسيس الصالح؟ وهل فعل ذلك أحد منا، يا ترى؟ كلا. إذن نحن هالكون. أنا الخوري يوسف هالك لا محالة. وللمكاري الملكوت، للمكاري النعيم الأبدي؛ ولكن الفرصة أمامك. ما فات الوقت. وما زال في عروقك نبض ينبض، وما زال في رماد حياتك جمرة تشتعل، خذها وأضرم بها نارا جديدة. انبذ الماضي الذي فيه هلاكك - انبذه وانسه ... ابن لنفسك بيتا في السماء ... اترك منصبك، طلق مطامعك ... اقتل تنين الأنانية فيك ... فكر في أمر جارك وأخيك ولو يوما واحدا في حياتك ... اصخ إلى صوت المعلم له المجد، اسمعه يقول: «ولا تدعوا لكم أبا على الأرض؛ لأن أباكم واحد هو الذي في السماوات.» اسمعه يوبخك؛ قائلا: «صل في مخدعك، وليس كالمرائين ليراك الناس.» واذكر جدك الذي يحدثك عن أخيه القسيس - ذلك الشحاذ المحسن - واذكر أبا طنوس، أحد إخوانك الفقراء، الذي يتقبل الضربة منك، ويدير لك الخد الأيسر - ثم يكتب إليك ليسألك أن تصلي من أجله!»
لطم الكاهن خديه وهو يجهش ويهتف: «ارحمني، يا إلهي، ارحمني! ارحمني رحمتك للنبي داود!» قال هذا وطفق يتلو المزمور الواحد والخمسين، ثم قال وهو يلطم خديه ثانية: «أنا الخاطئ. أنا الأيتم. أنا المسيحي الكاذب، فهل أدرت مرة هذا الخد إلى المعتدي علي؟ هل عملت الخير مرة من أجل الله، وحبا بالإنسان؟ هل ذكرت مرة في صلواتي إلى القديسة تريزا أنها كانت تطلب من الله أن يطفئ نيران الجحيم، وأنوار السماء؛ لكيما تصنع الخير من أجل الخير فقط؟ وهل خالفت مرة أوامر أسقفي؛ رفقا بالمظلومين والمساكين؟ وهل أحببت مرة قريبي كنفسي؟ ولماذا ضربت المكاري عندما كان يسألني هذه السؤالات؟ ارحمني، يا رب، ارحمني. أنا الذي ما فكرت بغير نفسي، ومصلحتي، ومطامعي. أنا الذي بذلت جهدي كله في سبيل الجاه والمال والمجد الباطل. أنا الذي كنت أسعى لأن ألبس الأرجوان، وأحمل العصا المذهبة. ارحمني واغفر لي، يا من رحمت النبي داود، وغفرت له. وإني منذ الآن أوقف على البر، وعلى الحقيقة ما تبقى من أيامي. ضربت المكاري، فأدار لي الخد الأيسر ... إن في تلك الضربة خلاص نفسي - إن في تلك الضربة ونتيجتها أمثولة للخاطئ مثلي. نعم، سأسلك مسلكا جديدا ولو يوما واحدا في حياتي. سأحل قيودي ولو قبل موتي بيوم واحد. سأحرر نفسي، وأكون خادما لأخي الإنسان. ساعة في عمل الخير خير من سنين في سبيل المجد الباطل ... إلهي، سأصلي إليك وأنا في مخدعي. إلهي، سأنبذ الكهنوت واللاهوت، وأعود إلى أقوال المعلم، له المجد. وسأبذل في يوم واحد، من أجله، ما جمعته في ثلاثين سنة ... وسأشتري غدا ...»
وقف الخوري يوسف مطرقا، ثم قال: وماذا يقول المطران؟ وماذا يقول البطريرك؟ لا يهمني ما سيقال هنا وهناك. إلهي قبل أسقفي، وقبل بطريركي ... ولكن علي ألا أنسى ابني الذي يتعلم اليوم ليكون مثلي. علي أن أنقذه مما هو فيه. علي أن أنصحه في الأقل، وأحذره من المسلك الذي سلكته أنا وهو يرغب به، ويعمل الآن من أجله. نعم، نعم، سأكتب إليه.
قال هذا وجلس إلى منضدته، وكتب إلى ابنه في مدرسة «انتشار الإيمان» بروما هذا الكتاب:
ولدي العزيز، حرسه الله
অজানা পৃষ্ঠা