فإن قلت: إن العقل شهد على أن ليس فيها حكمة، فهذا من أكبر المحال، وأقبح ما نطق به من المقال، لأن كل حكمة موجودة ليس الأصل فيها إلا من الحيوان، وهو في نفسه وخلقه وعقله وتركيبه، أحكم من فعله وقوله، وإن رجعت إلى الحق فقلت: بل في الحيوانات من الحكمة ما لا (1) أن ينكره عاقل، ولا يكابر فيه عالم ولا جاهل، لم يخل العقل من أن يكون شاهدا على أن هذه الحكمة من صفة حكيم، أو شاهدا على أنها من صفة جاهل موات غير عليم (2)، أو شاهدا على أنها من صفة معدوم، فهذا محال، لأنك جعلت للعدم صفة وهي الحكمة، فجعلت العدم حكيما، فأثبت موجودا والعدم لا شيء، ولا شيء لا يوصف بالحكمة ولا بالجهل!! ولا يوصف بالتدبير ولا العقل!! وأيضا فقد أوجبت الحق بإثباتك الصفة (3) إذ لا تكون الصفة إلا لموصوف، ثم نقضت قولك بإثباتك للمعدوم والعدم ليس بمجهول ولا معروف.
وإن قلت: إن الحكمة من صفة موات جاهل، فهذا ما لا يقول به من الخلق عاقل، ولا يراه من الناس إلا غافل، لأن من صفة الموات الجهل، وبطلان الحكمة والعقل، وما كان من الأشياء جاهلا، وكان عن التدبير حائرا غافلا، لم يكن حكيما ولا عاقلا، وما كان بالموت والغفلة موصوفا، وكان بالعجز والجهل معروفا، فيستحيل أن يكون منه حكمة بالغة، ونعمة جليلة سابغة، لأن الحكمة هي الإحكام، والكرم والتفضل والإنعام، فإذا بطل أن يكون ذلك من العدم المعدوم، وبطل أن يكون من موات غير عليم، صح الوجه الثالث وهو الله العليم الحكيم.
ودليل آخر
إما أن تكون هذه الحكمة تولدت من طبائع قديمة حية مدبرة.
وإما أن تكون تولدت من طبائع محدثة مصنوعة مدبرة.
وإما أن تكون تولدت من العدم.
فإن قلت: إنها تولدت من العدم أوجبت أنها معدومة ونفيت وجودها، لأن العدم لا يوجب وجودا إذ هو غير موجود، ولا شيء سوى النفي مقصود.
পৃষ্ঠা ১৪৩