وكأنما كانت هذه الكلمة جذوة نار ألقاها الإنسان في تلك الغاب، فقد أحدث فيها ما يحدثه الحريق من الهياج والاضطراب، فأخذتهم سورة الوحشية؛ وهجم بعضهم على الإنسان فذادهم بعضهم عنه، وهو واقف بينهم نادما على تلك الكلمة، ولو أمعن في قلبه لوجد فيه بعض السرور من تلك النكسة التي كادت تفقدهم المنطق العارية الذي سمحت لهم به الحياة فضارعوه فترة من الزمان.
وبينما هم كذلك إذ ارتفعت من نواحي الأفق قطعة سحاب كطلائع الخيل، ما زالت تكبر وتنتشر حتى سدت الآفاق وأطبقت الأرض والسماء، فاربد الجو، وقصفت الرعود، وانقضت الصواعق، وانهمرت الأمطار، وظل جمع الغاب في عمياء من أمرهم لا يعرفون قبيلا من دبير، وقد شغلهم هول ما هم فيه عن التفكير في المصير، ثم سمعوا مناديا يناديهم بصوت كأن هزيم الرعود معه أخفت من دبيب النمال وأهدأ من نسيم الشمال، قائلا: اخشعوا للطبيعة يا أبناء الحياة الغرور! أنصتوا للدوام يا أسراء الفناء والدثور!
فخشعوا واجفة قلوبهم، راجفة من الهلع فرائصهم، ثم التفتوا فانقشعت هذه الغمة عن شخص رأسه فوق النجوم ، وقدماه تحت الثرى، مهيب ولكنه مودود، وعجيب ولكنه معهود، وهو من ثم قطوب كالجبل الأغبر، ومن ثم بشوش كالربيع الأخضر، فألهموا أنه روح الطبيعة، وكان في تلك اللحظة يهدر بصوت لم تستقل بسماعه الآذان دون سائر جوارح الأبدان.
خطاب الطبيعة
أيها الأحياء،
لا أطلب إليكم أن تصيخوا إلي في كل دقيقة من دقائق أجسامكم أذنا تتسمعني في كل حين، غير أنها قد تغفل عني أحيانا فيبلغها صوتي منحرفا عن الحقيقة، مزيفا بضلال الصناعة، فالآن أنفي عن آذانكم كلها هذا الوسواس لتسمعوني حق السماع، وتنبذوا ما سمعتم من سواي كل النبذ.
أنت أيتها الحياة! تمخضت عنك وما تركتك لنفسك لمحة عين، فما زلت عمياء حتى في طلب الخلاص من الموت، ولأنت أقرب ما تكونين إليه حين تفكرين في الخلاص منه، ولقد ظننت أنك أعرف مني بما يسعدك وما يشقيك، فعكفت على الصخب، ودأبت في الهرب! وعكست الأمر فأشقيت نفسك من حيث تلتمسين السعادة، وجاءتك السعادة من حيث تخافين الشقاوة، ولا أذكرك إلا بأنك وليدتي وأنني أنا أمك. أعلم من شأنك ما لا تعلمين، وقد كنت ولم تكوني، وأكون حيث لا تكونين، وأنا أحرص عليك منك، وإن زعمت أنك أخبر بنفسك، فما من صلبك ولدت أنا الوالدة، وما من جسدك تأكلين، ولكني أنا المأكولة والآكلة. أنا التي أصوغ من الصعيد الخانق والماء الجاري، ومن الهواء الخافق والضياء الساري، عجينا منه تنشئين، ثم منه تستمدين، تتناولينه جمادا جاسيا ثم تجرينه في باطنك إحساسا مدركا واعيا، ولو سألت كل ذرة فيك أن ترجع إلى موضعها مني لما بقي فيك إلا مكانك، ولضاع منك إحساسك وعلمك وبيانك، فمن جسدي كيانك، ومن جسدي قوامك، وإلى جسدي مرجعك ومآبك، فكيف إذن تختارين لنفسك ما لست أختاره لك، ومن لك بمحاربة الموت وهو قضاء حتم عليك؟
اعلمي يا حياة أنك لا تخافين الموت إلا لأنك تمشين في أنفاقه معصوبة العينين، ولو كان لك اطمئنان الوليدة إلى أمها لتأكدت أنك ناجية ما دمت في يدي. ألما تعلمي أنني أمر بك من أنفاق الموت إلى ضياء أسطع من الضياء الذي كنت فيه؟ فانظري أين أمسك من يومك، وأين الجسم السوي من المضغة القذرة؟
تشفقين يا حياة أن يلم الموت بمضغة ترمزين فيها لمحة من الوقت، ولو أنها نقطة من تلك النقاط الزلالية التي لا يميزها الناظر من نقاط الماء، وجهلت أننا لو جاريناك على هذا الإشفاق لكانت تلك النقاط عليا ما تسنمته من درجات التكوين، ولخسرت الوجود برمته وأنت تتمسكين بالوجود، فكانت كواكب السماوات وكنوز الأرضين وأسرار الخليقة وودائع المعرفة كأنها لم تخلق، وكأنه لم ينشق عنها العدم المطلق، وهي هي التي تجلسين اليوم في سويدائها، ويمر بك الموت في سراديبه إلى دارة دارة من سبحات أضوائها.
انظري آلاء الموت عليك.
অজানা পৃষ্ঠা