أما «استيفن» فقضى ليله جالسا إلى نافذة غرفته يقلب وجهه في السماء كأنما هو يساهر كواكبها ونجومها، ويفضي إليها بما ألم بنفسه في تلك الساعة من سرور وغبطة، وما كان سروره إلا لأنه أصبح يشعر في نفسه ببرد الراحة من البحث عن ضالة غرام ظل ينشدها ويتعلق بآثارها عهدا طويلا حتى وجدها، وأن نفسه التي كانت حبيسة بين جنبيه قد أشرقت عليها شمس الحب فانتعشت ورفرفت بجناحيها في الفضاء، فأنشأ يحدث نفسه ويقول: أحمدك اللهم، فقد ظفرت بالحياة التي كنت أقدرها لنفسي، ووجدت المرأة التي كنت أصورها في مخيلتي. وما المرأة إلا الأفق الذي تشرق منه شمس السعادة على هذا الكون فتنير ظلمته، والبريد الذي يحمل على يده نعمة الخالق إلى المخلوق، والهواء المتردد الذي يهب الإنسان حياته وقوته، والمعراج الذي تعرج عليه النفوس من الملأ الأدنى إلى الملأ الأعلى، والرسول الإلهي الذي يطالع المؤمن في وجهه جمال الله وجلاله، ففي وجه هذه الفتاة التي عثر بها اليوم قد عثرت بحياتي وسعادتي، ويقيني وإيماني.
وكان يخيل إليه وهو يحدث نفسه بهذا الحديث أن الحب الذي ملأ قلبه قد فاض عنه إلى جميع الكائنات التي يراها بين يديه، فكان يرى في صفحة السماء صورة الحب، ويسمع في حفيف الأشجار صوت الحب، ويستروح في النسيم المترقرق رائحة الحب، ويرى في كل ذرة ثغرا باسما، وفي كل نأمة عودا ناغما.
ولم يزل يهتف بهذه التصورات حتى انحدر برقع الليل عن وجه الصباح فهجع في مرقده قليلا، ثم قام فنزل إلى الحديقة يترقب نزول ماجدولين إلى متنزهها، فلم تنزل حتى أخذت الشمس مكانها من كبد السماء، فرابه من أمرها ما رابه، فلم ير بدا من زيارة «مولر»، فمشى إلى المنزل بقدم مضطربة وقلب خفاق حتى بلغ الباب، فقرعه، ثم شعر أن شعبة من شعب قلبه قد سقطت بين أضلاعه، وأن لسانه قد التوى عليه فأصبح لا ينطق ولا يبين، فندم على أن لم يكن قد سلك سبيلا غير تلك السبيل، وتمنى لو فترت الخادم قليلا في خطواتها إليه حتى يستجمع رويته وأناته، ويسترد إليه ما تفرق من شمله، فكان له ما تمناه، ولم تفتح «جنفياف» الباب إلا بعد فراغها من شأن كان لها، فسألها: أين «مولر»؟ فمشت أمامه إلى قاعة الأضياف ثم تركته وذهبت لتخبر سيدها بمكانه، وكان يقرأ في قاعة الكتب، فلما خلا «استيفن» بنفسه أخذ يدور بعينيه في جوانب الغرفة، فرأى على مقربة منه بابا مفتوحا يلوح من ورائه سرير قائم، فعلم أنه مخدع «ماجدولين»، فتسمع فلم ير أحدا، فهاجه الشوق إلى اقتحامه فاقتحمه، وهو يعلم أنها المخاطرة بعينها، ولكنه كان على حال لا ينتفع فيها بما يعلم، فدخل واقترب من السرير فوجد الفراش لا يزال مشعثا، ومكان رأس «ماجدولين» من الوسادة لا يزال منخفضا، ورأى بين يدي السرير حوضا مملوء ماء وإلى جانبه كرسي قد انتشر فوقه رداء مبتل، ثم نظر إلى الأرض فرأى بللا بمثل أقداما صغيرة، فعلم أن في هذا السرير كانت ماجدولين نائمة، وفي هذا الماء كانت تتبرد، وبهذا الرداء كانت تتمسح، وعلى هذه الأرض كانت تتنقل، فجمد في مكانه جمود الصنم في هيكله، وأخذ يقول في نفسه: لقد سعد السرير الذي لامسها، والرداء الذي ضمها، والأرض التي لثمت أقدامها، والماء الذي انحدر على جسمها.
ثم مشى إلى الرداء المنتشر فأخذ يلثمه كما يلثم العابد المتشدد ستائر معبده، وتهافت على الأرض يقبل آثار تلك الأقدام، ثم خيل إليه أنه يسمع من ورائه صوتا، فرجع إلى نفسه وعاد منفتلا إلى مكانه الأول، فما لبث إلا قليلا حتى دخل عليه «مولر» فحياه وقال له: عفوا يا «استيفن» فقد شغلني عنك أني كنت أفتش في قواميس اللغة عن أصول أعلام نباتية ما زلت معنيا بأمرها منذ اليوم، فهل لك أن تكون عونا لي عليها - على شرط ألا تفارق منزلي قبل الغداء، فابتسم «استيفن» ابتسامة الرضا والقبول؛ لأنه علم أنه سيقضي وقتا طويلا في منزل ماجدولين.
ثم ذهبا معا إلى قاعة الكتب فلما أخذا مكانهما منها أنشأ «مولر» يسرد على صاحبه تلك الأعلام التي يقول إنها تشغله، ويشرح له مدلولاتها، وما رآه علماء النبات في مصادر اشتقاقها، وما بدا له من المآخذ عليهم، فإذا ورد في كلامه اسم كتاب قام إلى خزانة الكتب واستخرجه وتصفح أوراقه حتى يجد الكلمة التي يريدها فيتلوها بنغمة الهازئ الساخر، ويقول: هكذا يرى الأستاذ فلان! أما أنا فأرى غير ما يراه، وماذا علي إن بدا لي غير ما بدا له؟ فالعلم ليس وقفا على المؤلفين والمدونين وإنما هو قرع الحجة، ودفع الرأي بالرأي.
وما زال يهدر في حديثه هدير الجمل المخشوش، و«استيفن» لاه يردد النظر إلى باب القاعة من حين إلى حين عله يرى ماجدولين داخلة، فقال له «مولر»: أراك تنظر إلى الباب كثيرا كأنك تخاف أن يلج علينا الغرفة والج فيكدر علينا خلوتنا، فاعلم أنه ما من أحد من هذا المنزل يستطيع أن يخالف أمري ويقتحم علي باب قاعتي من غير إذن، وهنا صاحت الخادم تدعوه إلى الغداء، فلم يقطع حديثه، فصاحت به مرة أخرى، فنهض متثاقلا ومشى متباطئا لا يقطع حديثه حتى وصلا إلى غرفة الطعام، فراع «استيفن» أنه لم ير حول المائدة غير مقعدين، فعلم أن أحدهما له، وأن الآخر لا يمكن أن يكون لأحد غير «مولر»، فوجم وجوم الحزين المكتئب، واستمر يأكل صامتا لا يتحدث ولا يصغي إلى حديث حتى فرغا، فقال له «مولر»: لقد أراد الله بي خيرا إذ أرسلك إلي في هذا اليوم، فقد كدت لا أجد لي في هذه الوحدة مؤنسا، ولا على هذه المائدة رفيقا، فإن ابنتي سافرت منذ الصباح لزيارة إحدى صواحبها، ولا أحسبها راجعة قبل المساء، فهل لك أن تنزل الحديقة لنرتاض فيها قليلا؟ فنزلا، فما أمعنا فيها إلا قليلا حتى سمع «مولر» صوت الخادم تصيح به من النافذة أن قد عادت سيدتها، فمد يده إلى «استيفن» مودعا، وتركه مكانه حائرا مشدوها، وليس وراء ما به من الهم غاية. (9) الحيرة
كان من أمر استيفن بعد ذلك أنه كلما رأى ماجدولين في الحديقة فر من وجهها وسلك طريقا غير طريقه، ليخلو بنفسه لحظة يصور فيها الموقف الذي يقفه بين يديها، والتحية التي يجمل به أن يحييها بها، فلا يصل إلى ما يريد من ذلك حتى يراها راجعة أدراجها إلى المنزل، فكان يحمل في سبيل ذلك من الهم ما يقلق مضجعه، ويطيل سهده ويحول بينه وبين قراره، فلا يرى بدا من الفرار بنفسه إلى الغابات والأجمات، والهيام على وجهه في قمم الجبال وعلى ضفاف الأنهار ليروح عن نفسه بعض ما ألم بها، واستمر على ذلك أياما طوالا لا يمشي في الحديقة، ولا يرى ماجدولين ولا يزور «مولر» حتى تلفت نفسه، وذهب به اليأس كل مذهب، فعاد يوما من بعض مذاهبه محموما لا يكاد يتماسك ضعفا واضطرابا، فلزم غرفته أياما يعالج من داء قلبه وداء جسمه ما لا طاقة له باحتماله، وكأن «جنفياف» قد ألمت بجملة حاله فكاشفت بها سيدها، فصعد إلى غرفته ليعوده فرآه مستفيقا بعض الاستفاقة، فسأله عما به فانتحل له عذرا، فجلس إليه يحادثه ساعة، فلما أراد القيام مد «استيفن» يده إلى طاقة بنفسج كانت في آنية إلى جانب وسادته وقال له: إني جمعت هذه الطاقة لماجدولين؛ لأني أعلم ولعها بالغريب المستطرف من الزهر، فلعلك تنوب عني في تقديمها إليها، فأخذها «مولر» شاكرا وانصرف.
ومرت بعد ذلك أيام كان فيها «استيفن» بين يأس الحياة ورجائها حتى أدركته رحمة الله فأبل من مرضه، فنزل إلى الحديقة وقد استقر في نفسه العزم على ألا يفر من وجه ماجدولين إذا رآها، وأن يتقدم نحوها فيحييها ويحادثها، وينفض لها جملة حاله، ولم ينشب أن رآها مقبلة عليه وجها لوجه، فلم ير سبيلا للفرار من بين يديها، فحياها فحيته، ثم أغضى فأغضت، فلم ير بدا من المخاطرة بكلمة يخرج بها من هذا الصمت المعيب، فاستنصر قوته وتجمع تجمع من يريد الوثوب فوق هوة عميقة، وأراد أن يقول شيئا فسمعها تتكلم، فاستفاق وحمد الله على أن كفاه تلك المئونة، فقالت: أراك يا سيدي شاحب اللون، خائر النفس، فلعلك عالجت من مرضك هذا عناء كبيرا، قال: نعم، قالت: أشكر لك يا سيدي هديتك الثمينة التي بعثت بها إلي، ولقد أعجبني منها أن تلك الزهرة هي أحب الزهور إلي، فكأنما ألهمت ما في نفسي، وإني أعجب لشعرائنا في إغفالهم ذكر هذه الزهرة في أشعارهم كما ذكروا غيرها مما لا يقوم مقامها، ولا يكافئها في حسنها وروائها، ولا أذكر أني قرأت لأحد منهم شعرا فيها إلا قطعة صغيرة لشاعرنا «جيتي»، وهنا وجد «استيفن» متسعا في الحديث عن الشعر والشعراء، والنبات والزهر، فاستمر يحادثها ساعة حتى حان وقت رجوعها، فودعته وانصرفت، فصعد إلى غرفته وقد عزم أن يراسلها فيما عجز عن مفاتحتها فيه. (10) من سوزان إلى ماجدولين
كنا على أن نزورك في قريتك يا ماجدولين أنا ووالدي فحدث حادث حال بيننا وبين ذلك: دعانا أحد الأصدقاء لزيارته في بلدته - وهي على بعد ثلاثة فراسخ من قريتنا ولا تبعد عن قريتك إلا قليلا - فذهبنا إليه صبيحة يوم وقضينا في منزله عدة ساعات حتى إذا زلفت الشمس عن كبد السماء خرج القوم إلى الخلاء للتنزه في غاباته وأجماته، وأنت تعلمين فيما تعلمين من أمري أنني لا أجد في نفسي تلك اللذة التي يجدها الشعراء المتخيلون في جمال الطبيعة وحسنها، وبهجتها وروائها، ولا أغتبط بما يغتبطون به من منظر الغابات والأحراش والجبال والآكام، ولا أطرب لخرير الماء، ودوي الريح، وهزيم الرعد، وحرارة الشمس ، ووعث الطريق، وخشونة الأرض، واقتحام الصخور، والتعثر بين أغوار الفلاة وأنجادها، كما يطربون، ولكنني لم أر بدا من مصانعتهم ومجاملتهم، فمشيت صامتة ومشوا يتحدثون بجمال الحياة القروية، ويتمدحون بعيش العزلة بين سكون الطبيعة وهدوئها، وجمال الكائنات وجلالها، والله يعلم أنه ما من أحد منهم يعلم من نفسه أنه صادق فيما يقول، أو أنه يتمنى لنفسه ذلك الشقاء الذي يحسد الأشقياء عليه، فكان مثلهم في ذلك كمثل أولئك الكتاب المرائين الذين يكتبون الفصول الطوال في مدح الفلاح والتنويه بذكره، والثناء على يده البيضاء في خدمة المجتمع الإنساني، حتى إذا مر ذلك المسكين بأحدهم وأراد أن يمد يده لمصافحته تراجع وكفكف يده ضنا بها أن تلوثها بأقذارها تلك اليد السوداء.
وما زلنا كذلك حتى بلغنا شاطئ النهر فراعنا أنا رأينا هناك جمعا عظيما من الناس يندفع فوق الشاطئ الآخر تدفع الموج المتراكب، ويشير إلى الماء بأصابعه وينادي: الغريق الغريق، والنجدة النجدة! فالتفتنا حيث أشاروا، فإذا رجل بين معترك الأمواج يصارع الموت والموت يصرعه، ويغالب القضاء والقضاء يغلبه، يطفو تارة فيمد يده إلى الناس فلا يجد يدا تمتد إليه، ويرسب أخرى حتى تنبسط فوقه صفحة النهر فتحسبه من الهالكين، وما زال يتخبط ويتشبث، ويظهر ثم يختفي، ويتحرك ثم يسكن، حتى كل ساعده، ووهت قوته، وابيضت عيناه، واستحال أديمه، ولم يبق أمام أعيننا منه إلا رأس يضطرب، ويد تختلج، فبكى الباكون، وأعول المعولون، ونظر الناس بعضهم إلى بعض كأنما يتساءلون عن رجل رحيم، أو شهم كريم، وإنهم لكذلك إذا رجل عار يدفع الجمع بمنكبيه، وينزلق بين الناس انزلاق السهم إلى الرمية، حتى ألقى بنفسه في النهر وسبح حيث هبط الغريق فهبط وراءه، وما هي إلا نظرة والتفاتة أن انفرج الماء عنهما فإذا هما صاعدان، وقد أمسك الرجل بذراع الغريق، فكبر الناس إعجابا بهمة المخلص، وفرحا بنجاة المسكين.
অজানা পৃষ্ঠা