قد نسيت كل شيء يا ماجدولين، فاختاري لنفسك في حياتك ما شئت وها هي ذي رسائلك عائدة إليك، فليس من الرأي بقاؤها عندي بعد اليوم، وإني أتقبل صداقتك بالصدر الرحب الذي تقبلت به حبك من قبل، أما النقمة فإني لا أنقم عليك ولا على خطيبك شيئا، بل أسأل الله لكما السعادة في حاضركما ومستقبلكما. (69) الزفاف
ازدحمت الكنيسة بسكان قرية «ولفاخ» رجالا ونساء وظلوا جميعا ينظرون إلى الباب بشوق وتلهف ينتظرون حضور العروسين، ثم ما لبثوا أن سمعوا صوت العجلات وهي مقبلة فنهضوا جميعا على أقدامهم واصطفوا صفوفا متتالية لاستقبال القادمين، ثم دخل «إدوار» آخذا بيد ماجدولين وهي لابسة ثوبا أبيضا ناصعا كأنما قد قد من جرم الزهرة وعلى رأسها إكليل من الزهر يتلألأ في شعرها الذهبي الجميل، ودخل وراءهما الشيخ «مولر» و«سوزان» وأبوها وزوجها، و«اشميد» ابن عمة ماجدولين، و«ألبرت» ابن عم «سوزان»، وكثير من أهله وأهلها، فرأى الناس أجمل فتاة رأوها في حياتهم، فدعوا لها ولزوجها بالسعادة والهناء وملئوا أرجاء المعبد هتافا بهما وثناء عليهما، ثم مشيا إلى المذبح وركعا بين يدي القسيس على وسادتين من القطيفة المزركشة فركع الناس بركوعهما، وركع «استيفن» معهم، وكان قد جاء إلى المعبد قبل حضور الناس واختبأ وراء سارية من سواريه فلم يشعر به أحد، وظل يقول في ركوعه بصوت ضعيف خافت لا يحسه أحد: «اللهم احرسها بعين عنايتك، وأسبل عليها ستر حمايتك، وامنحها السعادة والهناء في نفسها وفي عيشها، واكتب لها في صحيفة حياتها ما كنت أسألك أن تكتب لي في صحيفة حياتي.»
ثم بدأ القسيس يتلو صلاته وجاءت الساعة التي ينطق فيها بكلمته الأخيرة التي لا مرد لها ولا رجعة فيها، فشعر «استيفن» أن قلبه يخفق خفقانا شديدا ويضرب ضربا يعلو صوته على أصوات النواقيس، فأمسك بكفيه على أحشائه وأغمض عينيه وقبع في أعماق نفسه، واستلهم الله الصبر على نكبته، ثم غشيته غاشية لم يشعر بما كان فيها حتى استفاق بعد ساعة فإذا الكنيسة خالية مقفرة تعتلج الظلمة في أرجائها، وتضرب رياح الليل الباردة في نوافذها وكواها، فزفر زفرة حرى كادت تتساقط لها أضلاعه، وجعل يقول في نفسه: لقد قضي الأمر، وخرجت ماجدولين من يدي، وأصبحت كفي صفرا من جميع أماني وآمالي، فما العمل؟ وكيف أعيش؟ وأين أقضي بقية أيام حياتي؟ وأية غاية بقيت لي في هذا العالم أحيا من أجلها.
ثم خرج هائما على وجهه لا يعلم أي فج يسلك من فجاج الأرض، والأرض أضيق في عينيه من كفة الحابل، فإذا هو أمام بيت الشيخ «مولر»، فرأى المدعوين منصرفين من الحفلة زمرا زمرا، فسدك بركن مظلم، من أركان السور حتى انقطع خفق الأقدام، وعلم أن المكان قد خلا بأهله، فرمى البيت بنظرة شزراء ملتهبة لو اتصلت شرارة من شررها بسقف من سقوفه أو كوة من كواه لأتت عليه في لحظة واحدة، ثم ما لبث أن رأى النور قد انطفأ في جميع الغرف والقيعان إلا غرفة واحدة، فعلم أنها غرفة العروس، فلم يتمالك أن ثار من مكمنه ثورة الأسد المهتاج وأخذ يدور حول السور ذهابا وجيئة وهو لا يعلم لم يدور، وأين ينتهي؟ حتى وقع نظره على ثغرة مفتوحة فيه فوقف أمامها لحظة، حدثته نفسه باقتحامها فرأى حجرا ضخما معترضا في فجوتها، فما زال به حتى زحزحه عن مكانه، ثم انحدر إلى الحديقة غير خائف ولا وجل ولا مبال ما أقدم عليه، وأخذ سمته إلى سلم الدار حتى بلغه، فصعده يختلس الخطى اختلاسا حتى وصل إلى باب الغرفة المضيئة، فوقف به وأحس أصواتا من ورائه، فشعر برعدة تتمشى في جميع أعضائه، وخيل إليه أن قلبه ينحدر في هوة عميقة لا قرار لها، وأخذ يقول في نفسه: إنها الآن له وبين يديه لا يحول دونهما حائل، وكأني به وهو يضمها الآن إلى صدره ويلصق فمه بفمها، ويوسعها لثما وتقبيلا، فتعطيه من نفسها ما يعطيها من نفسه، ثم نظر من ثقب الباب فلم ير شيئا أمامه فوضع أذنه عليه وأصغى إلى حديثهما، فرنت في مسمعه أصوات الضحكات والقبلات، وسمعها تقول له فيما تناجيه به «أنت حياتي التي لا حياة لي بدونها.» فجن جنونه وحدثته نفسه أن يضرب الباب بقدمه ضربة هائلة تطير به ثم يقتحمه عليهما فيقتلهما ويخضب سرير العروس بدمهما، ثم يقتل نفسه على أثرهما، واستنصر قوته على ذلك فخذلته، فوقف بين الإقدام والإحجام يغلي دمه في عروقه غليان الماء في مرجله، ويمزق صدره بأظافره تمزيقا شديدا، حتى امتلأ قميصه دما، وتناثرت أفلاذ جلده بين أصابعه، وهو لا يشعر بألم، بل لا يعلم أنه يصنع من ذلك شيئا، حتى أعياه الجهد، فزلت به قدمه فانقلب إلى أسفل السلم، وهو بين الحياة والموت.
ولم يزل في سقطته تلك حتى استيقظت الخادم «جنفياف» مبكرة قبل أن يستيقظ أحد من أهل البيت وضيفانه فرأته صريعا في مكانه، فراعها أمره، وأدهشها وجوده في هذا المكان، ثم رأت الدم العالق بثوبه وأظافره فظنته قتيلا، فحاولت أن تصيح فخانها صوتها، فأكبت عليه لتعلم ما شأنه، فأحست رجع أنفاسه، فهدأت قليلا وعلمت أنه في غشية شديدة، فأشفقت عليه، وكانت تحبه وتكرمه، ولم تزل تنضح جبينه بالماء وتمسح صدره حتى استفاق، فدار بعينيه حول نفسه فذكر ما كان ورأى «جنفياف» بين يديه، فاحمر وجهه خجلا، وسألها: هل عرف شأنه أحد غيرها؟ قالت: لا، فاعترف لها بمجمل قصته، وناشدها الله والمودة أن تكتم عليه ما كان، فوعدته بذلك، فقام يتحامل على نفسه حتى خرج من المنزل، ومشى في طريق قريته. (70) الهذيان
قالت «جوزفين» زوج «فرتز» للطبيب - وكانت تتولى تمريض «استيفن»: لقد أصبحت أخشى على الرجل أن يصيبه شر عظيم، وأخوف ما أخاف عليه أن تنزل بعقله نازلة من نوازل الجنون، فقد أصبح لا ينطق إلا باسم تلك المرأة، ولا يفكر إلا فيها، ولا يرى في يقظته أو في منامه غيرها، فيتخيلها تارة مقبلة عليه فيبتسم لها ويتهلل ويفتح ذراعيه لاستقبالها، وأخرى منصرفة عنه فيضرع إليها ويستعطفها ويهتف باسمها هتافا عاليا، ويحاول النهوض من فراشه لإدراكها والتشبث بها، فهو إما ضاحك أو باك، أو هاتف أو ضارع أو مسترحم، ولئن دامت له حالته هذه بضعة أيام أخرى ذهبت النكبة بعقله أو بحياته، وما أحسب أن شيئا غير ظفره بتلك المرأة أو اتصاله بها يشفيه من دائه، فقال الطبيب: لقد خاطرت اليوم بآخر ما في كنانتي من الأسهم، فسافرت إلى قرية «ولفاخ» وقابلت ماجدولين على غير سابق معرفة لي بها، ووصفت لها حالة المريض في جنونه واستهتاره بها، وقيامه وقعوده بأمرها ليله ونهاره، وسألتها أن تزوره زورة واحدة عسى أن تنفعه وترفه عنه بعض ما به، فأبى زوجها عليها ذلك إباء شديدا، فلم أزل به أسترحمه وأستعطفه وأنشده الله والمروءة حتى أذعن بعد لأي، واشترط أن يصحبها في زيارتها، فقبلت ذلك منه على مضض، وقد تركتهما الآن يتهيآن للحضور على أثري.
ثم مشى إلى المريض وجس نبضه وأمر يده على رأسه وقال: يا للعجب! لقد فصدته ليلة أمس مرتين في ساعة واحدة فما أجدى ذلك عليه شيئا، ثم جلس بجانبه ينضح جبينه بالماء ويجرعه بضع قطرات من الدواء.
إنه لكذلك إذ قرع الباب قرعا خفيفا، ففتح، فدخلت ماجدولين ووراءها «إدوار»، فلم يشعر «استيفن» بهما عند دخولهما، ثم فتح عينيه بعد قليل ونظر إلى «جوزفين» وقال لها: أين ثيابي التي أمرتك بإحضارها، أما تعلمين أن اليوم يوم الأحد وهو موعد ذهابي إلى الكنيسة للاحتفال بعقد زواجي؟ فأطرقت المرأة واجمة، وأدارت ماجدولين وجهها لا يرى أحد اصفرارها، فتقدم نحوها الطبيب وسألها أن تدنو منه وتناديه باسمه لعله يعرفها، فدنت من سريره ووقفت أمام وجهه، فنظر إليها نظرة ذاهلة ثم أدار رأسه وأغمض عينيه، فعلمت أنه لم يعرفها، فنادته باسمه بذلك الصوت الرخيم العذب الذي طالما سمعه من قبل فملك عليه مداركه ومشاعره، فكأن موجة كهربائية اندفعت في جسمه دفعة واحدة، فانتفض من مكانه وفتح عينيه وتناهض مكتئبا على إحدى يديه، وظل يضرب بيديه على جبهته كأنما يستحيي في ذهنه ذكرى قديمة طال عليها العهد، ويدير رأسه يمنة ويسرة، ويقلب نظره في وجوه الجالسين حتى وقع على ماجدولين، فأخذ يحدق في وجهها تحديقا شديدا، ثم ابتسم ومد يده نحوها وقال لها: شكرا لك يا ماجدولين، فقد جشمت نفسك مشقة المجيء إلي وقد كنت على وشك أن أذهب إليك الساعة لولا أن النوم طرقني فغلبني على أمري، فهلمي بنا الآن فقد حان الوقت، وما أحسب إلا أن أصدقاءنا ينتظروننا الآن في الكنيسة، وكأنني أراهم وقد جلسوا في دهليزها صفوفا متتالية ينظرون إلى الباب بشوق وتلهف يترقبون حضورنا، وأرى القسيس يعد لنا وسادتين من القطيفة المزركشة لنركع عليهما أمام المذبح، وكأنني أشم رائحة البخور متصاعدة من المواقد، وأسمع أصوات النواقيس تقرع قرعا متتابعا، ثم صعد نظره فيها وصوبه وقال لها: ما أجملك يا ماجدولين! وما أجمل هذا الثوب الأبيض الذي ترتدينه! إنك لا ينقصك الآن غير إكليل الزهر، ثم مد يده إلى أزهار كانت بجانبه فأخذ يضفر منها إكليلا جميلا ويتأنق في تنسيقه وتنظيمه، ثم نظر إلى الطبيب وقد خيل إليه أنه الشيخ «مولر» فقال له: ائذن لي يا أبتاه أن أضع هذا الإكليل على رأس ابنتك، فنظر الطبيب إلى ماجدولين نظرة استعطاف يسألها فيها أن ترحمه وألا تنغص عليه هناءه الذي يتخيله.
فوضع «استيفن» الإكليل على رأسها وهي واجمة صفراء كأنما قد انتفضت من كفن، وقال لها: أتذكرين يا ماجدولين يوم وضعت على رأسك منذ عامين في ساعة من ساعات أنسنا ولهونا إكليلا مثل هذا الإكليل فتفاءلنا بذلك خيرا وقلنا ليس بكثير على الأيام أن يصبح جدا ما لهونا به، وحقيقة ما حسبناه خيالا؟ فها قد صدق اليوم فألنا، وصحت آمالنا وأحلامنا، فالحمد لله على ذلك، وله الشكر على آلائه ونعمائه، ثم نظر إلى «جوزفين» وقال لها: إني أشعر بضيق في صدري لا أعلم له سببا فافتحي هذه النافذة لأستنشق هواء هذا الصباح الجميل، ففعلت فأخذ يقلب وجهه في السماء ويقول: ها هي ذي الطبيعة تهدي إلينا في يوم عرسنا أجمل ذخائرها وأعلاقها: هواءها العيل، وشمسها الساطعة، وسماءها الصافية الجميلة، فشكرا لها على يدها عندنا، وشكرا للدهر الذي أنالني أمنيتي وأظفرني بها بعد أن كنت على وشك اليأس منها.
ثم التفت فوقع نظره على «إدوار»، فهش له وابتسم في وجهه وقال له: شكرا لك يا صديقي، ما أحسب إلا أنك الذي أشرت على ماجدولين بزيارتي في منزلي، ولولاك لحال بينها وبين ذلك الحياء الذي لا يفارقها في جميع آناء حياتها، فامدد إلي يدك وكن أول من يهنئني بسعادتي من بين أصدقائي، فأنت أكرمهم علي جميعا وآثرهم عندي، أتذكر يا «إدوار» أيام كنا نعيش في هذه الغرفة الصغيرة التي نحن فيها الآن عيش البؤس والشقاء، وكنا نتساقى من الود كئوسا مترعات تنسينا حلاوتها مرارة الحياة وآلامها، وكنت لا أجلس إليك مجلسا إلا قصصت عليك فيه شأني مع ماجدولين، وأبثثتك وجدي بها ورجائي فيها، وقلت لك كلما رأيتك تنظر إلي نظرات الهزء والسخرية: إنها قد أقسمت لي يمينا محرجة ألا يفرق بيني وبينها إلا الموت، وإنها لم تخس بعدها أبدا، وإن هذه السحابة السوداء التي تراها متلبدة في سماء حياتي لا تستطيع أن تثبت طويلا على أشعة الحب الحارة المتدفقة، والحب إله قادر لا يعجزه شأن في هذا العالم، ولا يثبت على قدرته شيء؟ فها أنت ذا ترى أنني لم أكن كاذبا في تصوراتي وأحلامي، وأن أماني وآمالي لم تكن كما كنت تظنها خيالات شاعر، ولا هواجس مجنون.
অজানা পৃষ্ঠা