الكتاب والآداب
الحمد لله أودع الكتاب صوت الماضي وروحه بعد أن فنيت مادته وانعدمت ذاته فأصبح كحلم مضى وعهد انقضى انظر كم يشيد البناؤون من المدن والدور والهياكل والقصور والقلاع والحصون والساحات والصحون وماذا يوسعون فيها ويفسحون ويعلون من ذراها ويشرفون فما مسير كل ذلك وأين يذهب يغوله صرف الزمان وبيده طارق الحدثان ويلتهمه من الوقت بحر شديد الصولة على الإنسان وآثاره يسطو بها فيفنيها أو يكاد الله إلا شيئًا واحدًا أعني الكتاب فإنه الخالد الباقي السالم على عواصف الدهر اللائح من خلال أمواج الزمن كخيال النجم في جوف المحيط.
أين أمة الأعراب - وصيدهم (ملوكهم) والقواد وأين أندلسهم وبغداد عصف الدهر بها إلا رسوما دارسات وطلولا داثرات ولكن أعمد إلى صحائفهم وافتح إحداها فهنالك العرب ومجدها والدولة وسؤددها تحي في تلك الصحف وتخفق وتتحرك وتكاد تنطق فلله من يرى شبرًا من الورق يضم أمة ورجالها ودولة وأعمالها ويستوعب آراءها وأفكارها ونتائجها وآثارها فما أصغر الكتاب وما أكبر وما أعظم وما أحقر وما أضعف وما أقوى وما أفقر وما أغنى.
ويعجبني ما قاله أحد الحكماء إن مخلفات الماضي ثلاث المدن والمزارع والكتب وليست الكتب كالمدائن لا يبرح الدهر ينال منها ويتخون ولكنها أشبه بالمزارع إلا أنها مزارع ذهنية أو ما ترى الكتاب كشجرة روحانية تنمو على الزمن أصولها وتسمو فروعها وتطلع كل عام أوراقها الجديدة من الشروح والحواشي والانتقادات والردود وما إلى ذلك - فيا أيها القادر على إظهار كتاب لا تحسد الملك بأني المدن ولا الفاتح الغازي مخربها فأنت كذلك فاتح منصور مظفر ولكنك منصور على الضلال هازم للشر والباطل وأنت كذلك رب بناء ولكنه بناء أبقى على الزمن من الصخر والحديد والمرمر - بناء العقل ومدينة العلم وكعبة اليقين التي يحج إليها بنو البشر وسكان الأرض كافة.
والكتاب أيدك الله أكبر قوة لترقية المدينة والأخذ بيدها لأنك تراه مصدرًا للعلم والعرفان ومنبعثًا لنور التقى والإيمان ولسانًا يذيع حجة الحق وسلاحًا ينتصف من القوي للضعيف فأما أنه مصدر العلم فذلك لأنه متى حذق الطالب أوليات فن من الفنون وبلغ شأوا يدرك معه كل ما كتب في ذلك الفن فأي حاجة هناك إلى المدارس والجامعات إنما أستاذه اذذاك
1 / 1