وعلى كل حال فإن الدولة الفاطمية خلفت لنا كثيرا من مظاهر الحضارة العظيمة، يدل عليها الأزهر الذي لا يزال يدوي علمه إلى اليوم، وفن العمارة، بل صنع التماثيل وإن حرمها الإسلام، والزخارف الكثيرة. وكانت الحقبة الفاطمية التي مرت بها مصر ذات ميول شيعية.
ومع دعوتهم إلى الزهد والورع، فقد ذكروا أن الخليفة المستنصر الفاطمي كان في قصره ثلاثون ألف نفس منهم اثنا عشر ألف خادم وألف فارس وحارس، وقد ذكر الرحالة ناصر خسرو أنه رأى الخليفة على بغلة، وهو فتى وسيم الطلعة حليق الوجه، وقد وقف بجانبه حاجب يحمل مظلة مرصعة بالحجارة الكريمة، وذكر أن الخليفة كان يملك في العاصمة عشرين ألف بيت أكثرها مبني باللبن في كل بيت خمسة طوابق أو ستة، وفي أسفلها حوانيت يؤجر كل حانوت منها بما بين الدينارين والعشرة، وكان من عادته أن يركب على النجب مع النساء والحشم إلى موضع نزهة أنشأه، وربما خرج كما يخرج أغنياء الحجاج في يوم حجهم، وربما خرج ومعه الخمر في الروايا عوضا عن الماء يسقيه الناس كما يفعل بالماء في طريق مكة، وذكر المقريزي في خططه كشفا بأسماء كنوز المستنصر تستدعي العجب، وهكذا يفعل الأئمة المعصومون الزاهدون المتورعون الذين خلقت الناس لأجلهم، ولا يهتدي هاد إلا بهداهم!!
وكان من نفحات الفاطميين سيف الدولة الحمداني، فقد كان أيضا شيعيا، وقد اشتهر بنصرته للعلم والأدب وكان في بلاطه الفارابي الفيلسوف الكبير الذي اشتهر بالرياضيات والطب ولكن تآليفه فيهما تدل على أنه وصل فيهما إلى درجة متوسطة، وإنما كان ممتازا في علمي التنجيم والموسيقى، وقد ألف في الموسيقى هذه كتابين من كتبه، ثم كتب فيها أيضا ثلاثة كتب أخرى أهمها كتاب الموسيقى الكبير، وقد ذكر عنه أنه حضر مرة مجلس سيف الدولة، فأخرج عيدانا وقع عليها فضحك كل من كان في المجلس ثم وقع عليها لحنا آخر، فبكى كل منهم ثم غير ترتيبها ووقع عليها لحنا ثالثا، فناموا كلهم حتى البواب، ولا يزال بعض المولوية ينشدون بعض الألحان، المنسوبة إليه ويرى ابن خلكان أنه أكبر فلاسفة المسلمين، ولم يكن فيهم من بلغ رتبته في فنونه. والرئيس ابن سينا بكتبه تخرج وبكلامه انتفع وبهديه سار وصنف.
وكان خازن كتب سيف الدولة الخالديين وشاعره المتنبي، ويظهر أن المتنبي أيضا كان شيعيا، بل كان قرمطيا كما سيأتي، وكان نفوذ العلويين وتعاليمهم واسعا كبيرا ومن أثر هذا النفوذ ما كان من المناقشة والجدل بين داعي الدعاة الفاطمي وأبي العلاء المعري، مما يطول شرحه وقد سمى الغزالي مذهبهم «التعليمي»، وذكرهم عندما اضطر إلى معرفة الحق، هل هو عند الفقهاء أو الفلاسفة أو التعليميين، ويقصد بالتعليميين هؤلاء الشيعة ثم لم يعجبه شيء من ذلك، وأخيرا تصوف ورد على الشيعة، ومعنى التعليمية الذين يعتمدون اعتمادا مطلقا على سلطة الإمام، وأنه مصدر التعليم والإرشاد وهو المهدي.
على كل حال تأسست هذه الدولة اعتمادا على فكرة المهدية، وكانت بلادهم أقوى مركز للتشيع، وقد كان تشيعهم هذا أمتن رباط بينهم وبين الفرس أيدوهم بحكم تشيعهم أيضا؛ وأيدوهم لأنهم ينتسبون إلى فاطمة وإلى علي. فأما عطفهم على علي؛ فلأنه فيما يقول المؤرخون زوج ابنة الحسين من ابنة يزدجرد ملك الفرس، فبين أولاده وبينهم نسب مشيج فنصفهم فارسي. وأما رضاهم عن أولاد فاطمة؛ فلأنهم تعودوا من زمن الأكاسرة أن يؤمنوا بنظرية التفويض الإلهي، وأن الخلفاء فيهم قبس من الله ينتقل من أب إلى ابن، وهذا عكس الفكرة العربية التي تؤمن بالشورى وحكم أهل الحل والعقد، فيمن يتولى الخلافة حسب المصالح؛ لأنها فكرة تتفق وديمقراطية العرب.
ولم تقف فكرة المهدي عند هذا الحد، بل لعبت بعد ذلك أدوارا كثيرة فإن نحن قلنا: أن كل الحضارة الفاطمية والعلم الفاطمي والقاهرة الفاطمية نتاج غير مباشر لفكرة المهدي لم نبعد، وقد كان لنجاح الفاطميين تحقيق مادي لفكرة المهدي المعنوية أطمع غيرهم فيها، وكان أكثر الناس طمعا هم الشيعة.
وقد انتشرت على مر الزمان الأحاديث التي تؤيد فكرة المهدي، والتي تفيد أنه يملك الدنيا بأجمعها شرقها وغربها كما ملكها سليمان - عليه السلام - وذو القرنين، وأنه ينزل عيسى - عليه السلام - في مدة المهدي، ويقتدي عيسى به في صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح في بيت المقدس.
وقد أنشأ الشيعيون القصائد في مدح هذا المهدي، وسموه صاحب الزمان وكان ممن مدحه بهاء الدين العاملي، فقال فيه قصيدة مطلعها:
سرى البرق من نجد فجدد تذكاري
عهودا بحزوى والعذيب وذي قار
অজানা পৃষ্ঠা