أمراء الحيرة والغساسنة
على حدود بادية الشام في الشرق والغرب نشأت إمارتان عربيتان، وقفت إحداهما من دولة الفرس موقف الثانية من دولة الروم؛ الفرس اتخذوا إمارة الحيرة عونا على حرب الروم، وسدا بين العراق وغارات الأعراب، وكذلك اتخذ الروم أمراء غسان أعوانا على الفرس، ووسيلة إلى إخضاع قبائل البادية.
إمارة الحيرة:
الحيرة مدينة كانت على ثلاثة أميال من الكوفة على بحيرة النجف، وعلى حدود البادية، وكانت في أرض خصبة، تسقيها فروع من نهر الفرات تسير إلى البحيرة، وكانت معروفة بجودة الهواء، وكان قصر الخورنق على نحو ميل منها إلى المشرق، والسدير في البادية مما يلي الشام.
وكان أهلها منذ القرن الثالث الميلادي ثلاثة أصناف: تنوخ، وهم العرب أصحاب المظال وبيوت الشعر، ينزلون غربي الفرات. والصنف الثاني العباد، هم الذين سكنوا المدنية وابتنوا فيها، وهم قبائل شتى. والثالث الأحلاف، وهم الذين نزلوا فيها من غير تنوخ والعباد، واسم المدينة يدل على أنها كانت مضارب خيام، فهو كلمة آرامية، معناها مضرب الخيم.
وكان للحيرة أثر في الجزيرة العربية، كان أهلها يجوبون الأقطار، يتاجرون ويعلمون القراءة والكتابة، ويدعون إلى النصرانية، وكان الشعراء يقصدون المناذرة بالمدائح، وكانت الحيرة كذلك واسطة للتقريب بين الفرس والعرب. وأما تاريخها فمضطرب الروايات؛ ويقال إنه توالى عليها 25 ملكا في 623 سنة، ولكن هذا غير صحيح، فإن الأمراء الذين يذكرون حكموا ما بين أوائل القرن الثالث الميلادي إلى الفتح الإسلامي، وذلك زهاء أربعمائة سنة.
وأول من تأمر في هذه النواحي مالك بن فهم الأزدي، وخلفه ابنه جذيمة الأبرش، صاحب القصة المعروفة مع الزباء ملكة الجزيرة، ولما قتل جذيمة خلفه ابن أخته عمرو بن عدي، وهو أول الأمراء اللخميين آل نصر، وأول من اتخذ الحيرة منزلا، وأول ملك يعده أهل الحيرة من ملوك العرب بالعراق، وقد دان لأردشير بن بابك مقيم الدولة الساسانية الفارسية (226-241م)، ثم توالى الأمراء من بعد عمرو، فكان خامسهم النعمان بن امرئ القيس.
وكان حكمه في أوائل القرن الخامس الميلادي، وهو النعمان الأعور السائح، باني الخورنق والسدير، وكان ملكا عظيما مهيبا شديد الوطأة على العرب، وكان من آثار قوته ومكانته أنه لما اضطرب أمر الفرس بعد موت يزدجرد الأول، واختلف أمرهم على الملك، تعصب النعمان لبهرام جور بن يزدجرد، حتى تسنى له الملك، وكان بهرام نشأ في كنف النعمان بالحيرة. ويظهر أن النعمان تنصر وتنسك في آخر عهده.
قال حمزة الأصفهاني في تاريخه: فلما أتى على الملك النعمان ثلاثون سنة، علا مجلسه على الخورنق، وأشرف منه على النجف وما يليه من النخل والبساتين والجنان والأنهار مما يلي المغرب، وعلى الفرات مما يلي المشرق، فأعجبه ما رأى في البر من الخضرة والنور والأنهار الجارية ولقاط الكمأة، ورعي الإبل، وصيد الظباء والأرانب، وفي الفرات من الملاحين والغواصين وصيادي السمك، وفي الحيرة من الأموال والخيول ومن يموج فيها من رعيته. ففكر وقال: أي درك في هذا الذي قد ملكته اليوم ويملكه غدا غيري؟ فبعث إلى حجابه، ونحاهم عن بابه، فلما جن عليه الليل التحف بكساء، وساح في الأرض، فلم يره أحد.
وفيه يقول عدي بن زيد يخاطب النعمان بن المنذر:
অজানা পৃষ্ঠা