مقدمة
تمهيد
اسم زحلة وموقعها
تربتها وصخورها
نباتاتها وحيواناتها
ماؤها وهواؤها
قدمها وآثارها
حوادث زحلة القديمة
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن التاسع عشر إلى يومنا
زحلة بعد سنة 1860
استدراكات
كلمة الختام
مقدمة
تمهيد
اسم زحلة وموقعها
تربتها وصخورها
نباتاتها وحيواناتها
ماؤها وهواؤها
قدمها وآثارها
حوادث زحلة القديمة
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن التاسع عشر إلى يومنا
زحلة بعد سنة 1860
استدراكات
كلمة الختام
مدينة زحلة
مدينة زحلة
تأليف
عيسى إسكندر المعلوف
مقدمة
لما كنت مولعا بإحياء آثار مسقط رأسي «زحلة» المحبوبة منذ الصغر، كنت أنتهز الفرصة لجمع كل ما يتعلق بآثارها وأخبارها، حتى توفقت إلى أخذ امتياز «جريدة زحلة الفتاة» في ك1 سنة 1910، ولم أشأ أن ينشر العدد الأول منها إلا مزدانا «بتاريخ هذه المدينة»، فسعيت في ابتياعه من حضرة مؤلفه ونشره على صفحات الجريدة، ثم جمعه بكتاب على حدة يبقى أثرا مذكورا لوطني ومواطني. فأرجو بعد كل هذا أن تحوز خدمتي القبول لدى المواطنين الكرام، الذين أهدي إليهم هذا التاريخ في أول السنة الحالية (سنة 1911)، وحسبي فخرا خدمة وطني بإخلاص.
إبراهيم نقولا الراعي
زحلة في 1 ك2 سنة 1911
تمهيد
وضع كثير من المتقدمين تواريخ عامة، وجرد الآخرون تواريخ خاصة للناس والمدن ونحوها، فحفظوا بذلك ذكر من تقدمهم، إلى أن كان عصر انحطاط بلادنا منذ بضعة قرون؛ فقلت العناية بهذا الفن الذي هو من أنفع الفنون وأجزلها فائدة للآتين. حتى لقد كادت معرفة التواريخ تتلاشى ذكرا وتعفو أثرا من بيننا. فتنبهت منذ أميطت عني التمائم إلى ضرورة وضع تواريخ لكثير من مدننا التي أوشكت أن تطمس أخبارها، ولأسرنا (عيالنا) التي قلما يوثق بأخبارها، فوقفت كثيرا من أوقاتي وأرصدت ما يلزم من الأوراق القديمة والمخطوطات للبحث والتنقيب، غير مدخر وسعا في هذا السبيل، ولا متوان ضجرا من سؤال الشيوخ والحفظة والمراجعة. وقلما وقفت على مخطوطة أو ورقة إلا وراجعتها بتدقيق، مستنسخا كل ما له علاقة منها بموضوعي. فاجتمع لدي تعاليق كثيرة في تضاعيف مجلدات وافرة، ولن أزال متحديا هذه الخطة إلى هذه الساعة، فوجدت أمامي مادة غزيرة. وكثيرا ما كنت أعارض الأقوال والمخطوطات، وأمحصها على قدر الطاقة تبسطا في البحث وتحقيقا في العمل. وهذه خطة من كان في عصر مثل عصرنا الحاضر، قد انقطعت فيه أسباب العناية بأسلافنا وبلداننا، وانصرفت فيه أفكارنا إلى استقراء ما عند الإفرنج من التواريخ والأنباء التي لا علاقة لها بموطننا ولا بقومنا، حتى إذا رأى أحدنا كتابا لأحد المستشرقين من الفرنجة يبحث عنا أعرض عن مطالعته ونبذه ظهريا؛ لفشو مرض استضعاف أنفسنا بيننا، واحتقار بلادنا ونحو ذلك مما يعد عيبا فينا وعارا علينا:
وماذا الذي تدريه عند أجانب
إذا كنت في أحوال دارك جاهلا
هذا ولما جئت زحلة واتخذتها لي موطنا منذ بضع عشرة سنة، شرعت أبحث عن تأريخها وشئون سكانها وقدم عمرانها، فراجعت ما وصلت إليه يدي من الأوراق القديمة والسجلات والمخطوطات التي أشارت إليها، مثل تاريخ القس روفائيل كرامة الحمصي، والقس حنانيا المنير الزوقي، وهما من الرهبنة الحناوية الشهيرة، وتاريخهما في حوادث القرن الثامن عشر للميلاد، وتعاليق بعض أساقفة مدينة زحلة في يومياتهم الخاصة، وكذلك بعض الكهنة الذين ولعوا بكتابة ما يجري أمامهم من الحوادث. أخصهم الطيبو الذكر الأسقفان باسيليوس شاهيات وأغناطيوس ملوك والخوري فيلبس النمير؛ فضلا عن التواريخ الأخر المطبوعة أو المخطوطة، مثل تاريخ الأمير حيدر الشهابي الشملاني وطنوس الشدياق الحدثي وتشرشل بك الإنكليزي والكردينال لاڤيجري الفرنسي، وبعض كتب رحالة الفرنجة في القرنين الماضيين، ونكبات الشام وملاحم جبل لبنان لإسكندر بك أبكاريوس الأرمني، وتاريخ إبراهيم باشا له وحوادث سنة 1841م فصاعدا للخوري أرسانيوس الفاخوري، ونحو ذلك من المراجع الكثيرة التي جمعت منها ما جمعت، إلى أن ذكر لي أحد أصدقائي «تاريخ زحلة» للطيب الذكر وطنينا المطران غريغوريوس عطا الزحلي. فبادرت إلى طلبه من مؤلفه لما كان حيا، فتكرم علي بنسخة مختصرة منه بخط الخوري روفائيل أبي مراد
1
نسيبه وكاتبه إذ ذاك. فجمعت هذه المراجع ووضعت «تاريخ زحلة» مستعينا على تفصيل بعض الحوادث بأحاديث بعض الشيوخ المعروفين بصحة محفوظهم وتحقيق رواياتهم، فجاء التأريخ مطولا:
أيا وطني إن فاتني بك فائت
من العيش فلينعم لساكنك البال
ولكي لا يكون هذا التاريخ ناقصا؛ قدمت الكلام على مدينة زحلة وحالتها الجغرافية وموقعها ووصفها قبل أن أسترسل إلى ذكر وقائعها وشئونها، وما تقلب عليها من الحوادث الخطيرة، وذكر مشاهيرها وأسرها ونحو ذلك من المباحث اللذيذة.
ولما كنت قد بدأت بنشر هذا التاريخ في السنة الأولى من جريدة المهذب، التي توليت إنشاءها منذ كانت صغيرة مدرسية إلى أن صارت كبيرة عمومية، وكتبت شيئا مقتطفا من هذا التاريخ في كتابي «دواني القطوف» من صفحة 116-125؛ لم أجد بدا من الإشارة إلى ذلك هنا إحاطة بأطراف الموضوع، وحفظا لحقوق طبع هذا الكتاب الذي أنفقت وقتا وعناء في ترتيبه وتنسيقه على أسلوب عصري.
ولما كان جناب إبراهيم أفندي نقولا الراعي صاحب امتياز «جريدة زحلة الفتاة» يحب إحياء هذا الأثر الوطني قياما بالواجب؛ فاوضني بشأن طبع هذا التاريخ، فاتفقت معه على ذلك لقاء قيمة معلومة بشروط مسجلة، بحيث تكون حقوق إعادة طبعه محفوظة لإدارة جريدة زحلة الفتاة فقط.
فإلى كرام الزحليين مواطني أزف الآن هذا التاريخ الوطني، آملا ممن يرى فيه خللا أو زللا أن يرشدني إليه لأصلحه في الطبعات الآتية، وما العصمة إلا لله الذي هو خير من يعتصم به في افتتاح كل عمل لتحسن خواتمه. جعل الله افتتاح هذا العمل مدرجة لخير الختام بمنه وكرمه.
عيسى إسكندر المعلوف
هوامش
اسم زحلة وموقعها
أرى أن اسم زحلة مأخوذ من زحل الرجل عن مكانه إذا تنحى وتباعد، ومنه المزحل اسم مكان للموضع يزحل إليه، أو مصدر ميمي على حد قول الشاعر:
ويركب حد السيف من أن تضيمه
إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل
ومما يؤيد هذه التسمية، أن الجهة الشرقية من القسم الجنوبي من المدينة عند محلة البيادر حذاء سراي الحكومة لن تزال معرضة للزحول في كل سنة؛ لعدم تماسك تربتها بشيء من الصخور أو الأشجار، وكذلك بعض أنحاء المدينة معرضة لهذا الخطر. وهناك موقع سيدة الزلزلة الأرثوذكسية التي أقيم معبدها تذكارا لزلزلة حدثت، فخسفت الأرض حولها، كما يظهر للرائي الآن. وفي لبنان قرية عين زحلتا بهذا المعنى.
وربما سميت المدينة بهذا الاسم منسوبة إلى هيكل أقيم فيها لزحل المعبود القديم، وإذا صح هذا الرأي فالأولى أن يكون هيكل هذا الإله الوثني على تلة المشيرفة الغربية الواقعة على الجانب الجنوبي من المدينة مقابل قرية وادي العرايش، وهي في قضاء المتن الأعلى من لبنان، وسيأتي ذكرها في آثار المدينة.
أما ادعاء العامة أن زحلة سميت باسم الملك الزحلان من بني هلال،
1
وأن التلة الشرقية على الجهة الجنوبية مسماة باسم ابنته شيحا، فهو من المزالق التاريخية المبنية على الوهم والتخرص، وذلك كثير في بلادنا ينكره التاريخ الصحيح.
وموقع المدينة اللبنانية الحالي في حضيض جبل الكنيسة،
2
وهذا الجبل من لبنان الغربي من قضاء المتن، وهو دون جبل صنين الذي يقابله ارتفاعا يشرف على سهلي بعلبك والبقاع والجهات الأخر، وفي سفوحه كثير من القرى.
وبناء مدينة زحلة الحالي يمتد في واد منفرج على ضفتي نهر البردوني، وموقعها بديع يأخذ بمجامع القلوب حسنا، ويتخلل المدينة هذا النهر مترقرقا على الحصى، ومنه تفرعت مجار على الجانبين لإدارة الطواحين المائية.
3
وهي على علو ألف متر ونيف عن سطح البحر في أسفلها، ونحو ألف ومائتي متر
4
في أعلاها. وتملأ أبنية المدينة فسحة الوادي الواقع بين منعطف جبلين من سلسلة لبنان الغربي، منفرجين في وسطهما وضيقين في الجانبين الشرقي والغربي. فالمضيق الغربي هو تحت قرية وادي العرايش التابعة لمديرية بسكنتا من أعمال المتن في لبنان، وهناك تنحدر ذراعان من سلسلة الجبلين المتقابلين، حتى تكادا تتماسان أمام نزل - لوكندة - الصحة القائم على الجانب الشمالي من المدينة، ومن هناك إلى قاع الريم واد عميق جدا ينفرج مرة ويضيق أخرى، فيمثل أبدع المناظر الطبيعية التي تملأ العين حسنا، وفيه كثير من أشجار الحور والصفصاف والتوت والكروم وغيرها. وهناك قريتا وادي العرايش وقاع الريم (قاع فرين) التابعتان لبسكنتا في العدوة الشمالية من الوادي ومقابلهما في العدوة الجنوبية قرية حزرتا، وسكانها من الشيعيين (المتاولة)، وهي تابعة لمديرية المتن الأعلى من لبنان.
والمضيق الشرقي موقعه بين تلة شيحا، المار ذكرها، وتلة أخرى تقابلها على الجانب الشمالي تعرف بتلة الحمار؛ لاحمرار تربتها (ومعظم تربة زحلة بيضاء)، وهي فوق قصبة المعلقة وأطراف حوش الزراعنة التابع لزحلة.
ومن نظر إلى هذا المنفرج بمضيقيه، رآه أشبه بحنجرة يحدق بها مضيقا الفم والمريء (الزلعوم)؛ فيجري البردوني من فم الوادي الغربي وينساب إلى الفم الشرقي، ثم يتخلل السهل إلى أن يصب في نهر الليطاني. فالمدينة غورية جبلية وأبنيتها منضدة بعضها فوق بعض، كأنها سلالم على سفوح وأسناد الوادي.
وذكر أحد سياح الإفرنج أن زحلة أشبه بالرمانة المفلوقة، وهذا التشبيه هو اليوم أصح منه في الأمس لكثرة مسنمات الآجر (القرميد)، التي تمثل حب الرمان الأحمر. وذكر المرحوم الدكتور پوست الأميركاني: إن قرية بيلان في شمالي سورية هي أشبه بمدينة زحلة؛ لأنها مبنية على عدوتي واد عميق، ومنظر بيوتها أشبه بزحلة وكذلك تلولها. فإن ترابها أبيض وفيها وحولها كروم كثيرة، ويشرف عليها جبال شامخة وموقعها حصين.
والبردوني يقسم المدينة إلى قسمين، القسم الجنوبي منهما أكثر عمرانا من الشمالي، ولكن هذا أحدث أبنية من ذاك، وعلى ضفتيه الأشجار المتمايلة بقدودها الممشوقة التي معظمها من الحور، وفي غربيها متنزهات الصفة، وهي من أبدع المواقع الطبيعية يختلف إليها الناس صيفا، فيروحون النفس بنسماتها البليلة، وحول هذه الحدائق النضرة والرياض الغناء طريق عربات يحدق بها، ويتصل بجسور هي أشبه بالأسورة لمعاصم المجاري المائية، يمثل أشكالا هندسية تخلب محاسنها القلوب وتملأ العين جمالا. وفي أعالي المدينة دوالي الكروم اللذيذة العنب، كأنها أصابع تشير إلى جماله، أو تعاويذ من الزمرد ترد عنه عين حاسده منشدة بلسان الشاعر:
فتح عيونك في سواي فإنما
عندي قبالة كل عين إصبع
وعلى الجملة فإن وادي البردوني الجميل جامع لمحاسن الطبيعة، من خضرة النباتات وزرقة المياه وصفائها وجمال الأبنية ولطف السكان.
ومما يحسن ذكره أن المغفور له الأمير بشير الشهابي الكبير لما جاء زحلة سنة 1814م، ورأى معظم أبنيتها في الجانب الجنوبي وليس في الشمالي (القاطع)، إلا ثلاثة بيوت قرب الماء؛ تأسف لذلك وقال: إن البناء سيتكاثر في هذه الجهة الشمالية وترتفع أثمان الأرض. فحققت الأيام صدق قوله هذا ولا سيما اليوم.
وفي أسفل المدينة على جانبي النهر طريق للعربات، كأنه المنطقة المستديرة بخصر المدينة، وهو يتصل مرارا بجسور متقنة قائمة على النهر، فيمثل دوائر مختلفة الأشكال. وهناك المتنزهات التي تصف فيها الكراسي والمناضد، ويختلف الناس إليها على اختلاف أجناسهم ولا سيما بعد العصر، يروحون النفس بتجاذب الأحاديث وبقبقة النارجيلات، ويقتلون الهموم بطلعة الكئوس المقتولة بماء البردوني كأنها الشموس،
5
وأوراق الأدواح تحدق بهم كأنها المراوح المتحركة تلطف حرارة الهواء، وتنعش الأفئدة بنفحاتها المبردة. وخرير المياه يشنف الآذان بحسن إيقاعه. وبعض الشلالات تنحدر من الأقنية المرتفعة، كأنها الأفاعي الهاربة أو البلور المتكسر على الصخور. والفوارات (النوافر) تنطاد في الجو، كأنها ترشقه بمثل ما رشقها به من حب الغمام (البرد) في الشتاء. والأزهار مرصعة بها بسط الخضرة الزمردية، كأنها النجوم في القبة الخضراء وقد وصفت هذه المناظر سنة 1898م بقولي:
إلى متنزهات النهر بادر
وسرح في مشاهدها النواظر
فبرذوني زحلة في صفاه
تكور حول مفتر الأزاهر
ومن أعطاف «قاع الريم» يجري
لقاع ظبي الأوانس وهو حائر
فطورا مثل نصل السيف يبدو
عليه فرنده يتلو البشائر
وطورا في تحويه تراه
حكى دور المناطق بالخواصر
يصفق بالخرير على حصاه
ليرقص عطف أغصان نواضر
تدغدغه النسائم في مزاح
فيضحك عن حباب كالجواهر
تخالسه لحاظ الشمس هزءا
وتغمزه بأحداق فواتر
فيشكر فضلها طورا ويشكو
فوا عجبا لشاك وهو شاكر
مطاحنها لطحن الهم تجري
بماء والفراش عليه دائر
ويسعى الماء في فصل الأراضي
وفي وصل قد افتتنت قناطر
رعاه الله من فصل ووصل
بمنعطفاتها يسبي الخواطر
تخلل جنة تملا عيونا
محاسنها فيا نعم المناظر
فثغر الزهر يضحك طي كم
ولطف نسيمها بالذيل عاثر
وعند «الصفة» اصطفت كراسي
وكل للعشير غدا مسامر
مراكزها أحاط بها خطوط
يمثل شكلها شبه الدوائر
طريق المركبات بها أحاطت
ودارت كالخواتم بالخناصر
فبعض الناس يعلو مركبات
تسير برهطهم مثل البواخر
ومنهم راجل يسعى حثيثا
ومنهم فارس للخيل زاجر
ومنهم راكب الدراج يعدو
على عجل فينظر مثل طائر
فقبعة تمايل فوق رأس
كميل مظلة عند الهواجر
وأزياء يحسنها مشد
بضغط قلوب أهل الود جائر
بها المتفرجون قد استداروا
كما دارت بمعصمها الأساور
فيا لله من أدب وظرف
تعزز فيهما تلك المظاهر
ترى السكان في طرب ولهو
يؤلف جمعهم طيب العناصر
كذا الغرباء في أمن وصفو
وتكريم به أمنوا المعاثر
معدات السرور لهم تدانت
وكم للصحب قد كشفوا السرائر
ويا حسن المناضد إذ تجلت
عليها أنجم الراح الزواهر
تحول همهم حالا سرورا
فتحسب أنها إكسير جابر
وبعد مغيب شمس الأفق ذرت
مصابيح بها اندحرت دياجر
ولما تأخذ النفس انبساطا
يعود الجمع بالأفراح خاطر
وينثر عقد ذاك النظم حالا
فما أحلى انتظاما غير ناثر
وعلى الجملة فإن المدينة تسر النفس بحسن مرآها، وأبنيتها الجميلة، وأنزالها الفسيحة، وأسواقها ومياهها، ورياضها ولطف سكانها، وتستقدم إليها المصطافين؛ للتمتع بما حباها الله به من الامتيازات الطبيعية والتسهيلات النقلية. ويكفينا الآن في وصفها ما كتبه إبراهيم أفندي الحوراني لما زارها سنة 1902 في الجزء 1915 من النشرة الأسبوعية الغراء، قال: «من المدن التي تقدمت في سورية تقدما يذكر مدينة زحلة فكل بيوتها إلا القليل منها يضاهي أحسن بيوت بيروت، وفيها كثير من المدارس والمعلمين والخطباء والشعراء والأطباء والفقهاء ...» ثم أطال في وصف الكلية الشرقية.
ومن أفضل التسهيلات فيها؛ أنها في متوسط تشعبات السكة الحديدية، فمنها إلى دمشق نحو خمس ساعات وكذلك إلى بيروت وحماة، وإلى حلب نهار كامل. وكانت الأسفار قبلا إلى هذه المدن شاقة خطرة فأصبحت اليوم سهلة كل السهولة؛ فضلا عن أن طريق العربات يمتد منها إلى دمشق فبيروت فبعلبك فكثير من المدن والقرى.
وعلى الجملة فهي أكبر مدينة لبنانية شهيرة قائمة في شرقي لبنان، متجهة إلى سهلي بعلبك والبقاع؛ بل هي قضاء برأسها من الأقضية السبعة كما سترى.
هوامش
تربتها وصخورها
إن تربة زحلة وما يجاورها معظمها بيضاء كلسية أشبه بالطباشير ؛ ولذلك سمي البقاع الغربي الذي كانت المدينة قاعدته (قبل تنظيم متصرفية لبنان) بإقليم البياض.
1
وهي خصيبة فيها كثير من الهوالك الحيوانية والمندثرات النباتية، وخاصتها أنها تصلح لغراس الزيتون والكروم ونحوهما. وأما تربة المدينة فخفيفة لكثرة انحدارها، إلا في المحلات الكثيرة الأشجار فإنها أصون لحفظ التربة، ولا سيما حيث تنبسط الأرض وتستوي طبقاتها، مثل البساتين ومرج عرجموش المعروف بالفيضة ونحو ذلك. فهناك تجد التربة حمراء والأرض تصلح للزرع والغرس فتثمر ثمرا طيبا. وفي المدينة ومشارفها آثار خزف وفخار كثيرة، تدل على أنها ربما اتخذت من تربتها، ولا أثر لهذه الصناعة فيها اليوم. ومن خواص هذه التربة أنها لزجة إذا مستها رطوبة؛ ولذلك تكثر الوحول في بعض الطرق التي لم تحصب ولم ترصف. ولقد لاحظ ذلك الأقدمون، فرصفوا أكثر الطرق والشوارع بالحصى المدملك الذي يكثر في مجرى النهر؛ فحبذا لو تنبه المفوض البلدي إلى ذلك في عهدنا.
أما صخورها ففيها انقلاب جيولوجي وتزحزح في طبقاتها وتشويش في تنضيدها، مما يدل على المؤثرات الطبيعية كالأمطار والرياح والمجاري المائية والزلازل والبراكين، التي غيرت ترتيبها وأحدثت هذا الانقلاب العجيب. وفي قمم الروابي والجبال المحدقة بالمدينة فوهات البراكين التي اشتعلت في أحد الأدوار وخمدت الآن، وهناك كثير من المصهورات البركانية، كالصوان والحمة (الحجارة السوداء) والألماس الكاذب «وتسميه العامة في لبنان ملح القاق»، أما في أعلى جبل صنين فطبقات الصخور على القمة أفقية الوضع وعلى المحيط تنكسر نحو المنحدر إلى الجهات الأربع.
وعلى الجملة فإن صخور زحلة سريعة التفتت رخوة، وذلك من تأثير امتصاص المطر للحامض الفحمي «الكربوني» من الهواء، وتشرب الأرض إياه فيتخللها ويفتتها. ولقد تناوب لبنان الفاعلان المهمان المائي الذي يمهد ما ارتفع من الأرض ويعلي ما انخفض منها. والفاعل الناري الذي يسعى بعكس ذلك، فيجعل السطح غير مستو. فكثرت فيه الأودية والمنخفضات والروابي والمرتفعات والسهول والمستويات، كما ترى في وادي البردوني.
ولما كانت صخور زحلة لا تصلح للبناء؛ اتخذ اللبن المجفف بالشمس لبناء بيوتها القديمة، وهو متين يصبر على الفواعل الطبيعية، ويتماسك الجدار المبني به حتى يصير كأنه قطعة واحدة صبت في قالب واحد. أما الأبنية الحديثة ولا سيما منذ بضع عشرة سنة، فمعظمها من الحجارة التي تقطع من مشارف المدينة على بعد أكثر من ساعة في غربيها، وتنقل على ظهور البغال، فهي كثيرة النفقات لصعوبة النقل من المقاطع (المقالع) البعيدة. وهناك حجر أشبه بالحجر السماقي، كأنه مرصع بفصوص بيضاء وحمراء يقبل الصقل فيصير لماعا جميلا، تسميه العامة «شحم بلحم»، تتخذ منه الأجران للمدققة (الكبة) والأحواض والبوابات ونحوها.
ومن أكبر الصخور في المدينة الذراعان الممتدتان في فم الوادي الغربي عند نزل (لوكندة) الصحة من الجنوب والشمال، ولكنهما لا يستخرج منهما حجر صالح للبناء، حتى إنهم عند تشييد ذلك النزل في آخر الذراع الشمالية لم يقطع منها حجر نافع؛ بل احتاج بانيها إلى تفتيت الصخور وإبعادها ليفسح للبناء محلا، واستقدم الحجارة من المقاطع البعيدة. وفي كثير من سفوح وأسناد وادي البردوني على ضفتي النهر طبقات صخرية حصوية مدملكة متراصة تدل على فعل المياه الجارية.
وفي مشارف المدينة كثير من المستحجرات الحيوانية، ولا سيما عند عين حزير وعين السواعير وغيرهما مثل الحلزون (البزاق) والتوتيا والمحار (صدف الدر) وبعض الأسماك، ومن أعجبها حيوان مائي بحجم الفرنك أو أكبر مستطيل الشكل، له على ظهره نقش بديع كأنه منبت شعر أو ريش، ومن ذلك حجارة صدفية مركبة من مسحوقات الصدف المتراصة، وغير ذلك مما يوجد بعضه في متحفي الكليتين الأميركانية واليسوعية في بيروت.
هوامش
نباتاتها وحيواناتها
كانت المدينة قديما كثيرة الغابات المشتبكة والأدغال، تنبت فيها أشجار السنديان السوري والعفص والبطم والسماق والدردار (بمعنى الشائك) والرمان والجوز والدلب، وغير ذلك من نباتات المنطقة الجبلية. وفي أعاليها ينبت البقل الذي هو من خصائص جبال الألب في أوروبة، وكانت مشارفها تظللها الأشجار الغبياء والمتعرشات الغناء، حتى لا يكاد المار يقطعها بدون أن يقطع بعضها شأن لبنان وسورية في الأيام القديمة؛ أيام كانت يد الإنسان لا تتحامل على الطبيعة بفئوسها، ولا تصليها نارا آكلة. فكان الداخل في هذه المدينة لا يكاد يرى للشمس أثرا إلا من خلال الأوراق، ولا يعرف للماء منسابا إلا من خريرها الذي هو أشبه بأنة الجريح من الحصى البلورية. وقد تصورت هذا المشهد الفتان الطبيعي، فقلت فيه مشطرا أبياتا للإمام ابن الوردي الشاعر المشهور وهي: «فيه دوح يحجب الشمس إذا»
نظرت فيه ويخشى من رقب
أوقف الإنسان حينا بعد ما «قال للنسمة جوزي بأدب» «طيره معربة عن لحنها»
إذ تربت في مغان للعرب
وقعت بالعود أنغاما بها «تطرب الحي كما تحيي الطرب» «مرجه مبتسم مما بكت»
عين مزن تشتكي مر الوصب
زهره قد فاح لما جررت «سحب في ذيلها الطيب انسحب» «فيه روضات أنا صب بها»
وهي ترنو لمناجاتي كصب
أصبح العيش لديها رغدا «مثلما أصبح فيها الماء صب» «نهره إن قابل الشمس ترى»
ومض برق لاح حالا وذهب
ولمن يدنو بدت صورته «فضة بيضاء في نهر ذهب»
وقد أحرقت هذه الغابات مرارا، ولا سيما لما هاجم الأكراد زحلة في سنتي 1777 و1793م كما سيجيئ، وفي منتصف القسم الأول من القرن التاسع عشر الماضي لم يبق لها من أثر، ولا سيما بعد أن ولع الناس بغرس التوت والكروم ونحوها.
وأشجارها اليوم معظمها الحور،
1
وهو على جانبي النهر وفي الأماكن الرطبة، فإذا كثر والتف سمي مجموعه غيضة وجمعها غياض، وخشبه يتخذ للجوائز (الجسور) والروافد (ما يوضع فوق الجسور في السقف) ونحوهما، وهو ممشوق قوي على حمل الأثقال والرطوبة، ومن خواصه أنه لا ينحني ولا ينقصم بسرعة مثل الصنوبر وغيره، وتجارته مهمة كما سترى.
وفيها بقايا الزيتون القديم، وكان كثيرا في بلاد البقاع وبعلبك التي سماها الأقدمون أهراء (حواصل) رومية، ولا سيما بستان قرب دير القديس إلياس الطوق، وفي بعض جهات من المدينة.
وفيها التوت ويكثر في البساتين فوق مرج عرجموش (الفيضة)، وعلى ورقه يربى دود الحرير، وقد يكون حسن النتاج في بعض السنين، وأما ما يربى منه في المدينة ففيالجه (شرانقه) أفضل مما يربى في البساتين لجودة الهواء وجفافه.
وفيها يكثر الزيزفون، وهو عطري الرائحة يتخذ زهره لمداواة السعال ونحوه. أما الفواكه فكثيرة أهمها التين والخوخ والمشمش والرمان والتفاح والإجاص والجوز واللوز وأفضلها العنب، وهو مشهور معروف يحمل إلى جميع الجهات وألذ أنواعه التفيفيحي، وهو أشبه بالتفاح منظرا وطعما، ويكون أبيض وأحمر يدوم طول السنة إذا وقي من الثلج والجمد (الجليد)، وأكثره من المتعرشات التي تغرس في الدور والفسحات. وأما النوع العبيدي فكثير لذيذ يصلح للعصر وللزبيب، ومثله الصوري في الكثرة والدربلي والجبيلي والمقصاص «وهو الذي يسمى في غير زحلة بالمرويح». ومن أنواعه الجيدة الزيني وعنب المير «الأمير» والقاري وقرن الوعل وبيض الحمام ومخ البغل والعاصمي وخدود البنات، ومعظمه من المتعرشات. أما الأسود اللون منه فأجوده المريمي والصبيغ إلى غير ذلك، وجميعه لذيذ الطعم جميل المنظر يصدق عليه قول الشيخ أحمد البربير: «زحلة حازت» عنبا
يضرب فيه المثل
كأنه لآليء
يصان فيها العسل
ويباع هذا العنب للأكل ويصنع منه الزبيب ولا سيما من الدربلي، ويعصر الخمر ويستقطر الكحول (العرق) من الأنواع الأخر.
أما بقولها ونباتاتها فكثيرة، ومن الأولى الكرنب والملفوف والخيار والقثاء والباذنجان واللفت والخس والرشاد والفجل والبنجر (الشوندر) والجزر والقرة والجرجير وغيرها. ومن الثانية الزوفي والخطمية وحي العالم اللاكوني والكثروم الخطي الورق والسميرنيوبسس السوري، كما في نبات سورية وفلسطين للدكتور پوست الأميركي. ومن رياحينها الورد وهو كثير عطري يستقطر ماؤه والبنفسج والبابونج والنرجس والإقاح والزعفران وشقائق النعمان وغيرها، وبعد جر المياه إليها كثرت الأزهار والنباتات والأشجار الإفرنجية.
ويزرع فيها من الحبوب الحنطة والشعير والرطبة (الفصفصة أي الفصة) والقطاني، وفي القديم كان يزرع حب الدخن. ولن تزال عين الدخن قرب سراي الحكومة دليلا على ذلك. وكذلك كانت تزرع الحشيشة (القنب الهندي) التي تستعمل في مصر للسكر والتنباك والتبغ وغيرها. وعلى الجملة فإنك تجد فيها نباتات السهل والوادي والجبل، وأنت لا تشعر أنك انتقلت من منطقة إلى أخرى بتغيير في الإقليم.
وكان فيها قديما أيام كانت الغابات تظللها والحراج تشتبك في واديها وسفوحه وأسناده ومشارفه؛ كثير من السبع والنمر والضبع والفهد والعقاب والنسر والحدأة (الشوحة) والبازي والصقر، فانقرضت بانقراضها وبقي الدب والخنزير البري والغزال. ثم قل اليوم وجودها، أما الذئب وابن آوى والنمس والقنفذ والخرز (الأرنب البري) والغرير فكثيرة.
وقد اشتهرت قديما بتربية الخيول وتأصيلها وترويضها، ولكنها اليوم لا عناية لأهلها بذلك إلا نفر منهم. ويكثر الجاموس والبقر الضخم الجثة في بساتينها، وكذلك البغال والجمال والحمير، وهي قوية الأبدان. ويربى فيها الغنم والماعز وغيرهما من الدواجن. ومن الطيور التي تقتنص في ضواحيها الحجال والسماني والزرزور واليمام (الترغل) والحمام والوروار والقطا، ويكثر فيها الدوري والسنونو معششا في الطنوف (السفارات) والصفارية أو التبشر، وتسميها العامة «الصفراية» والصفرد (أبو الحن) وغيرها. ويوجد فيها قليل من النحل، وأفضله عسلا ما تربى في أعالي المدينة إلى جهة الجبل وكذلك دود القز. ويوجد في غياضها دجاج الأرض (الشكب) والفري وبعض الطيور المائية، كالأوز والبط وغيرها مثل الغرغر (ديك الحبش) والدجاج الأهلي والكركي «الرهو» والبجع «العراق»، وغير ذلك من الطيور القواطع والأوابد. وفي ضواحيها القبرة والثليجي (سن المنجل) والهدهد، ومن الصوادح الحسون «الشويكي الجوي» والشويكي البري والخضيري، وهي ممتازة برخامة ألحانها، وفيها حيات وضباب (حراذين) وسام أبرص (أبو بريص)، ولكن العقارب لا أثر لها فيها.
هوامش
ماؤها وهواؤها
إن ماء زحلة هو من نهر البردوني «البارد» الذي ينفجر من مغارة إلى غربي قرية قاع الريم في السفح الشرقي من جبل صنين، وتلك المغارة طبيعية بديعة المنظر تتدلى من سقوفها وجدرانها حليمات من المتجمدات المائية والرواسب الكلسية، فتكون فيها مشجرات حجرية أشبه بأشجار المرجان في البحر، إلا أنها بيضاء وتنضب بعد أن تذوب الثلوج، وذلك في تموز أو بعده بقليل. ولا يخفى أن خزانات الماء في الجبال العالية هي من الثلوج التي تملأ النخاريب والأخاديد والمغاور، وتنساب في الشقوق الصخرية متخللة الأتربة إلى أن تصادف منفذا لها، فتنفجر منه أنهارا وينابيع ومترشحات.
على أن مياه البردوني ليست جميعها من تلك المغارة، ولكن في عقيق «مجرى» النهر كثيرا من الينابيع والمترشحات التي تنصب فيه، فتبقى مياهه جارية بعد ذوبان الثلوج عن القمم العالية في صنين . وكذلك على عدوتي النهر مثل ذلك، وجميعه يترشح إليه فيكون جدولا صيفيا لا تنضب مياهه إلا نادرا في سني الجفاف الشديد وقلة الأمطار والثلوج. ولا تزال مثل هذه الينابيع تمده بمائها إلى أن يصب في نهر الليطاني
1
قرب مرج عرجموش (الفيضة)، ومسافة ما بين مخرجه ومصبه نحو أربعة وعشرين كيلومترا. والمشهور أن مياه هذا النهر كانت موزعة على المدينة القديمة «التي يترجح أنها كانت في محلة البساتين»، وعلى ضواحيها مثل الكرك وتل شيحا وعلين وغيرها، لما ظهر من القساطل الخزفية العظيمة المتينة والأقنية المتوزعة في أنحاء الوادي في سفوحه وأسناده ومرتفعاته وليس ذلك بغريب؛ لأن الأقدمين كانوا يبنون مدنهم قرب المياه، وينتفعون بها لإنماء الزروع والغراس، وهم أشد حرصا منا اليوم على الزراعة واستثمار الأرض. وقد جرت منذ القديم قناتان على ضفتي النهر يسميهما العامة «السكر» وذلك للاستقاء منهما، ولإدارة الطواحين المشيدة على الجانبين. وقلما دخلت مياه النهر بيتا ووزعت عليه.
ولو كانت هذه المياه في أوروبة أو أميركة، لكان دخان المعامل التي تديرها يحجب نور الشمس والشلالات الطبيعية التي تتخذها الصناعة لتوليد الكهربائية ونحوها تملأ العين جمالا، وتستقدم السياح
2
من أطراف المعمور للتمتع بجمالها الطبيعي. والحدائق التي تنبت على مجاري المياه من أجمل متنزهات الدنيا، ولكن الطبيعة هي العامل في بلادنا، أما يد الصناعة فلن تزال مغلولة. على أن نيل الامتياز الوطني بتوليد الكهربائية من هذا النهر للتنوير وتسيير القطارات، هو من تباشير الآمال حققها الله بالأعمال.
ومما لا يجب على المؤرخ أن ينساه، هو تهافت الناس على الاستقاء من المياه الجارية، مع كثرة ما يرمى فيها من القمامات (الكناسات)، ويغسل فيها من الثياب الملوثة بالأمراض العضالة ونحو ذلك، اعتقادا أن المياه الجارية لا تحمل أقذارا، فتفشت الحميات وبعض الأمراض، وانتقلت بالعدوى لوجود جراثيمها في مياه الشرب. ولولا ما في هواء المدينة من المناعة؛ لكانت موباة يتجافى الناس عن النزول في ربوعها.
على أن هذا الخطر قد زال والحمد لله منذ أخذت شركة المياه
3
بجر نبع الزويتينة الواقع قرب قرية حزرته على العدوة الجنوبية، في متوسط ما بين وادي العرايش وقاع الريم المقابلتين لها، وهو ينبجس من سفح الوادي على علو ثلاثين مترا عن مجرى النهر. وقد قدر ذلك الينبوع الغزير بنحو أربعين ألف متر، حصر معظمها في نفق (تونل) طوله أربعة أمتار ببناء متين وخزان منيع، وبدئ بعمله في صيف سنة 1907، وجرت المياه من الينبوع الأصلي إلى الخزان الكبير الواقع على رابية فوق دير النبي إلياس (الطوق) على بعد 1800 متر بقساطل حديدية ضخمة. وقد كان تدشين هذا الخزان في أول آب سنة 1907، وتم توزيع المياه على جانبي المدينة وحوش الزراعنة في شهر تشرين الأول سنة 1909م، وهذه المياه ممتازة بصفائها وعذوبتها وبرودتها. ولكن لن يزال بعض الخلل في قساطلها وخزانها؛ إذ تنقطع في أيام المطر الكثير ويتعكر صفاؤها. ولعل المفوض البلدي يتوفق إلى تمهيد هذه العوائق. وقد بلغ ما وزع من هذه المياه على المدينة نحو ألف متر حتى الآن (أول سنة 1911).
أما ينابيعها المنفردة عن النهر والتي في ضواحيها ومشارفها فأشهرها بل أنفعها للصحة عين الدوق، وموقعها على تلة في غربي المدينة على العدوة الشمالية حيث مزرعة عين الدوق، وتوصف مياهها للضعفاء لجودتها. وتحتها على ضفة النهر الشمالية عين الدويليبي، نسبة إلى أسرة الدويليبي الموجودة إلى الآن في المدينة، وهي تجري بميزابين غزيرين متقنة البناء، فخربها سيل خريف سنة 1909. ثم عين البخاش نسبة إلى أسرة موجودة فيها إلى عهدنا، وهي على ضفة النهر الجنوبية فوق نزل الصحة. ثم عين القرداحي (وتسميها العامة عين القرداح)، وهي في أعلى الكروم فوق دير القديس إلياس (الطوق) على طريق المتن العمومية. وتحتها عين أخرى قد جر بعضها إلى الدير المذكور وإلى الكلية الشرقية.
ثم عين المزرعة في الكروم، وعين البقر، وعين علين وهي قديمة على تلة المدينة الجنوبية فوق سراي الحكومة قرب أطلال علين، ثم عين الدخن فوق السراي في سفح التلة، ومن تلك الجهة استنبطت عين وجرت إلى باحة السراي. وتحت البيادر فوق النهر عين القسيس، ومقابلها في حوش الزراعنة عين الغصين نسبة إلى أسرة فيها، وفوقها عين مقصود نسبة إلى أسرة فيها، وموقعها في منخفض تلة الحمار الغربي. وعلى تلة فوقها إلى غربيها عين الفلفلة ووراءها بئر هاشم،
4
وهي نبع صيفي قد احتفرت قديما. ذلك عدا ينابيع أخر في أنحاء المدينة، مثل فوار شبوع نسبة إلى أسرة باقية فيها الآن، وهو في خندق أبي كحيل الذي يفصل حارة الراسية عن حارة المعالفة أو سيدة النجاة على الطريق العام. وعين المعراوي نسبة إلى أسرة في المدينة، وقد جرت إلى دير الآباء اليسوعيين. وكلها عذبة باردة هاضمة؛ فضلا عن بعض ينابيع لا تصلح للشرب، مثل عين الصنان بدار المرحوم عبد الله مسلم في الحارة السفلى (التحتا)، وهي معدنية المياه فيها محلول الكبريت. وعين الفيكاني في محلة جعيران فوق الجسر القديم وغيرها، ومن يحفر في المدينة إلى عمق عشرة أمتار يستخرج المياه. وفيها آثار آبار قديمة كثيرة فضلا عن الحديثة.
وفي محلة البيادر قرب سراي الحكومة غدير تجمع فيه مياه المطر، فتبقى إلى منتصف الصيف أو آخره، فيمثل بركة بديعة المنظر كأنها المرآة أو صفحة البلور النقية تنبسط حولها البيادر، التي هي أشبه بمرج مرصع بالنبات والأزهار. وفي هذه البقعة يتنزه الزحليون في الشتاء وأول الربيع، إلى أن يشتد الحر فيتحولون إلى الصفة في غربي المدينة. وفي هذه الجهة يضرب السياح سرادقاتهم (صواوينهم)، ومن هنا تنجلي المدينة للناظر بأجمل مشهد طبيعي يملأ العين، فتنبسط له النفس فضلا عن جمال هذه البركة التي ترى فيها المدينة وجهها، فهي لها كالمرآة أو كما قال ابن تميم:
لقد قابلتنا بالعجائب بحرة
مكملة الأوصاف والطول والعرض
كأن الذي يرنو إليها بطرفه
يرى نفسه فوق السماء وهو في الأرض
ولما كان موقع لبنان بين الدرجتين 33 و35 من العرض كان أشبه بالبلاد المعتدلة الحارة،
5
ولكن الأمكنة التي تقرب من الجبل تلطف الثلوج حرارة صيفها ويرطب سدى (ندى) الليل جوها، وهكذا موقع مدينة زحلة، فإنها بين اللبنانين الشرقي والغربي منحرفة إلى هذا، فلما تشتعل رءوسهما شيبا وتتعمم قممهما بياضا يتلطف جو ما يجاورهما ولا سيما هذه المدينة، فيصير هواءها جافا كثيرا؛ ولذلك توجد في إقليمها (مناخها) مناعة ضد الأوبئة والأمراض العضالة، ولو اعتنى الأهلون بقوانين الصحة؛ لكانت أفضل موافقة للأجسام منها الآن.
ومن المقرر أن هواء المدن النقي هو ما كان على ارتفاع 25 قدما عن أسواقها المزدحمة بالسكان، وزحلة ترتفع عن النهر نحو مائة متر، ويعلو معظم بيوتها عن الأسواق نحو سبعين قدما، وهي منضدة بعضها فوق بعض، بحيث تنكشف للشمس وينفسح فيها مجرى الهواء؛ فلذلك ترى الصحة فيها جيدة جدا، وهي أشبه بدمشق والقاهرة بجفاف هوائها، ولكنها تفضلهما بتوسطها بين جبلي صنين والكنيسة المتعميين بالثلج في أكثر أيام السنة، ومقابلتها للبنان الشرقي (أنتيلبنان) المكلل ببياض المشيب.
فالخريف فيها جيد في بعض السنين، حتى يكاد يضاهي الربيع بطيب هوائه واعتدال مطره، ولكنه قد يكون طورا رطبا فتكثر الحميات، وتارة جافا فتكثر النزلات الصدرية كجفافه في العام الماضي سنة 1910م، ورطوبته في السنة التي قبلها سنة 1909م، حتى إن السيول خربت كثيرا من المدينة على جانبي النهر فاستنهر، وقد تنقطع السيول كما جرى في خريف السنة الماضية 1910، ولم يتساقط المطر والثلج إلا في منتصف كانون الثاني من السنة الحالية 1911.
وصيفها جميل، لكن الشمس في أثناء النهار ترسل أشعتها عموديا على هذا الوادي المسور بالتلال إلا من شرقيه، فتنحصر حرارتها فيه كأنها في محترق عدسية (زجاجة محرقة)؛ فضلا عن أن الشمس تنعكس عن مشارف المدينة البيضاء التربة (التي ليس فيها ظل يلطف الحر. أما الكروم فلا ساق لها منتصبة لترمي ظلا)، فتشتد فيها حمارة القيظ حتى تصهر الأدمغة، ولما تميل الشمس إلى المغيب يكون الأصيل فيها لطيفا والنسيم بليلا، فيخرج الناس زرافات ووحدانا إلى المتنزهات مزدحمين في طرقها حتى بعض ساعات من الليل الذي يكون في الغالب رطبا بليلا.
وشتاؤها قد يكون باردا كثير الثلوج قارص الهواء جدا، كما كان قبلا منذ سنين، وكما هو في هذه السنة. وقد يكون معتدلا كما في غيرها. وقد تكتسي مشارف المدينة حلة بيضاء ترسل أهدابها إلى حضيض الوادي، فتطول إقامة الثلج ولا سيما في الضفة الجنوبية، فيحفظها الجمد (الجليد). وقد تمزق الشمس ذلك الرداء الأبيض، ويساعدها المطر فتتعرى المدينة وضواحيها منه، ولكن يبقى مطلا عليها من بعيد كالرقيب الخائف والمحب المكروه. على أن الهواء الشمالي لا يكثر هبوبه فيها، لما حصنتها به الطبيعة من التلال والآكام التي تسورها، وفي هذا تلطيف لبردها الشديد في بعض السنين. ولكن كثرة الحطب والفحم الخشبي في الأيام القديمة، مما كان في المدينة أو جلبه البعلبكيون والبقاعيون ليباع في أسواقها، كان يخفف قرص البرد بوقيده، فلما قل في أيامنا الحاضرة استبدل بالفحم الحجري وفحم كوك واستعيض عن المواقد (الكوانين) بالمصطليات (الوجاقات).
ومع كل ما ذكرنا، فقلما تصل درجة الميزان المئوي (السنتغراد) إلى ما تحت الصفر بكثير في الشتاء، وقلما ترتفع إلى ما فوق 30 درجة في إبان اشتداد الحر، فمعدل درجة البرد 8 والحر 20 في الظل. وتعصف في المدينة أحيانا الزوابع وتثور الأعاصير منتهية إليها من السهل، فتندفع عليها بقوتها وتصدم منفرجها إلى أن تنتهي إلى مآخير الوادي ومنقطعه، فتدور في أنحائها وتثير الغبار، ولكنها لا تدوم طويلا. ومما تمتاز به زحلة أنه لا يتراكم فيها الضباب في أثناء السنة، مثلما يحدث في مشارف لبنان الساحلية التي تطل على البحر.
ولو كانت روابيها ومشارفها مشجرة؛ لكانت ظلال أشجارها تلطف حرارة الصيف وتحسن الهواء وتجمل مناظر الربيع وتعدل الأمطار والثلوج، فلا تنصب عليها السيول الجارفة ناقلة الأتربة والصخور حتى تخر منها مرافض الأودية وتتخرب البيوت والعقارات؛ بل كانت التربة تتشرب الأمطار شيئا فشيئا وتنفذ في جذور الأشجار، فتخزنها في حياضها الطبيعية وتتوازعها الأرض مستفيدة منها خصبا وافرا. وقد عرف بالتعديل أن المطر الذي يجود الغابات لا يسيل منه إلا ستة أعشاره، والأربعة الباقية تخزن إلى حين الحاجة، فضلا عن أن الأهلين يستفيدون من الأشجار ماديا، فيكثر لديهم الحطب ويتوفر الوقيد وتكثر الأخشاب والألواح للنجارة ونحوها.
أما الربيع فقد يكون في بعض السنين باردا لكثرة الثلوج والأمطار، ولكنه في الغالب بديع لكثرة المياه والمتنزهات، مع جفاف في الهواء يبعث في الجسوم نشاطا، وهو يتميز تميزا ظاهرا ويقوي الأبدان؛ فلذلك تجد الزحليين أقوياء البنية صحيحي الأجسام مفتولي العضلات، تترقرق على وجوههم مياه العافية، وتشف وجناتهم عن قوة الدم في أبدانهم.
ومن غريب ما يؤثر من جودة الإقليم في زحلة صفاء الجو ليلا، حتى إنك ترى السماء عريانة معظم السنة، والكواكب نيرة متوقدة وصورها ماثلة بأحسن مظاهرها الفتانة، حتى إن مذنب هلي الذي ظهر في الصيف الماضي كان بديع الطلعة فيها؛ ولذلك اتخذ الآباء اليسوعيون مرصدا في سفح تلة كساره الواقعة على المنقلب الجنوبي من تلة المدينة الجنوبية بإدارة الأب برلوتي الفلكي الفرنسي المشهور منذ ثلاثة سنوات، وهو مبني بأمكنة متفرقة على آخر طرز حديث، مجهز بالآلات اللازمة، وذلك لأن الرصد في هذه الجهة يكون على أتم وضوحه؛ لقلة الأبخرة التي تعكر صفاء الجو، ولجفاف الهواء الذي لا تحول رطوبته بين المراقب (التليسكوبات) والكواكب المرصودة، ولهذا وصفت هذا الجو الجميل بقولي في ليلة صافية الأديم:
يا حسنها من ليلة لما انجلت
كسي المحاسن جوها العريان
فالكائنات تنام في مهد الدجى
ورقيبها هو كوكب يقظان
ولقد حسن هواء المدينة الآن اتخاذ القنوات لفضلات أقذارها، وتجفيف غاب عميق وقلة مستنقعاته، واعتناء الأهلين بالكنس والرش. ولم تكن هكذا في القديم حتى دهمها الطاعون مرارا وأفنى كثيرا من سكانها، وكان آخر عهدها به سنة 1828م، ولما حدث أول هواء الأصفر في دمشق هرب سكانها إلى زحلة في صيف سنة 1848م؛ فأصيب من الزحليين ثلاثة، ونقلت إليهم العدوى في 26 آب ومات منهم اثنان. وفي اعتقاد سكانها ومجاوريهم أن الهواء الأصفر لا يتفشى فيها؛ ولذلك كثر المختلفون إليها في كل وباء يجتاح سورية ومصر.
ومن محسناتها أن الخطاف (السنونو) يأتيها في الربيع والصيف، فيلتهم البعوض الذي يكثر في جوار النهر ويكف أذاه. وعلى الجملة فالمدينة صحية طيبة الهواء لذيذة الماء، فيها مناعة ضد الأمراض حتى لا يؤثر فيها أشدها فتكا تأثيره في غيرها.
هوامش
قدمها وآثارها
إذا لم يكن في زحلة من الآثار القديمة الضخمة مثلما يوجد في جوارها، ككرك نوح ونيحا وغيرهما، فليس ذلك بناف عنها أنها مدينة قديمة عاصرت العبادات الوثنية الأولية، وشاهدت الأساطير الخرافية. أما آثارها فإنها درست لأسباب، أهمها قلة الحجارة في هذا الوادي ومشارفه السفلى، فاتخذت حجارة تلك الأبنية للبيوت الحديثة، وهكذا طمرت المدينة القديمة بزحل الأرض عليها من الأسناد والروابي ونحو ذلك من الفواعل الطبيعية، ولا سيما الزلازل التي خربت بلادنا مرارا حتى في الأيام الأخيرة، ولا يزال اسم سيدة الزلزلة في زحلة شاهدا على هذه المؤثرات، وكذلك اسم «زحلة»، فضلا عن اجتياح الغزاة لهذه البقعة وتخريب هياكلها.
وإذا رجعنا إلى التواريخ القديمة واستقرينا أساطيرها وتقصينا في البحث عن العبادات، نستشف من ورائها ما يدل على أن زحلة كانت من المدن التي احتفلت احتفالات وثنية، وضجت للمعبودات الخرافية؛ لوقوعها في سورية المجوفة (كيلوسيري) ولوجود نهر غزير المياه فيها، والهياكل كانت تبنى على ضفاف الأنهار وقرب الينابيع، كما هو الحال في معظمها إن لم نقل في كلها بلا استثناء. وكثرة كرومها التي اتخذت خمورها لاحتفالات ديونيس أو باخوس كما سيأتي.
ولقد اعتقد كثير من المؤرخين القدماء أن إحدى الجنان الأرضية في هذا السهل الأفيح بين الجبلين لبنان الغربي والشرقي (أنتيلبنان)؛ ولذلك كثرت فيه مدافن الأجداد الأولين، مثل نوح وشيت وهابيل وقايين ويوشع وإيليا وغيرهم من الأولياء والأنبياء. وتابعهم في هذا الرأي مؤرخو العرب من مسلمين ومسيحيين، حتى إن الدويهي كبير مؤرخي الطائفة المارونية قال في تاريخه المطبوع في بيروت صفحة 116 ما نصه: «ولما طرد من الفردوس آدم سكن جبل حرمون (الشيخ)، وسكن أولاده شرقي الفردوس في البقعة، وبنوا قلعة بعلبك واستنبطوا الطبول والزمور وكانوا قوما جبابرة. وتدل على ذلك مدافن هابيل وقايين وشيت التي هي بالقرب منها.»
وروى الأب بطرس مرتين اليسوعي في تاريخ لبنان، الذي عرب قسم منه وطبع في بيروت صفحة 135ما يؤيد هذا الرأي، إذ قال: إن الأب بلنشه اليسوعي سمع السيد أغناطيوس العجوري مطران زحلة الكاثوليكي يقول: «إن إبرشية زحلة تسمى بإبرشية الفردوس؛ لأن بعض التقليدات القديمة تعين الفردوس الأرضي في هذه الأمكنة.» وذكر بعض علماء الإنكليز ما يؤيد بناء بعلبك قبل الطوفان بقوله: «إن البهموت - وهو حيوان أضخم من الفيل انقرض بالطوفان - هو الذي نقل حجارتها الضخمة على ظهره لما بناها قايين معقلا يتحصن به من أعدائه.» وقال آخرون: إن بردى محرف الفردوس، وكذلك الفرزل
1
في ضواحي زحلة. ويقال: إن قبر جدنا آدم في قرية تسمى الزبداني،
2
وقبر قايين في قرية تسمى قطنا
3
قرب دمشق. وقبر هابيل فوق قرية سوق وادي بردى
4
المعروفة قبلا باسم آبل إلى هابيل. وقبر نمرود جبار الصيد في قرية كفر حوار
5
في ضواحي دمشق. وقبر شيت في قرية النبي شيت
6
في بعلبك. وقالوا إن دمشق
7
معناها شارب الدم؛ لأن قايين قتل فيها أو في ضواحيها أخاه هابيل. وأن بيت لهيا
8
كانت منزلا لحواء وآدم جدينا الأولين. وأن حرمون
9 «جبل الشيخ» معناه اللعنة. وكذلك الليطاني نهر سورية المجوفة بمعنى الحرم؛ إشارة إلى لعنة قايين الذي كان أول جان في العالم، وذلك عندهم سبب قحط الجبل الشرقي، حيث اقترف فيه أول قتل عمدي طمعا في الدنيا وحسدا.
ولم يقف الزاعمون عند هذا الحد؛ بل تجاوزوه إلى ما بعد ذلك العهد العريق في القدم. فقالوا: إن الطوفان حدث في هذه البقعة؛ ولذلك ترى تأثيره الهائل في ما يحدق بها من الأودية الغائرة والجبال الناشزة والمستحجرات الحيوانية المائية في الأسناد والمشارف والقمم إلى غير ذلك. وإن نوحا بنى سفينته في الجبل الشرقي من الأرز الذي كان يظلل قمم لبنان وأسناده وسفوحه. ومن زيتون هذه الجهة الكثير منذ القديم، أخذت الحمامة التي أطلقها غصنا علامة غيض المياه. وأنه امتطى غارب السفينة من عين الجر
10 «عنجر»، وإن السفينة استقرت على جبل سنير أو القلمون
11 «بلاد الشرق»، واستقرارها كان قرب الزبداني. وإن قبر نوح هو في الكرك
12
بضواحي زحلة. وقال ابن حوقل - من مؤرخي المسلمين: إن قبر حبلة ابنة نوح على مقربة من قرية عرجموش
13 (قرب الفيضة). وقال الدمشقي: إنه يوجد قرب كرك نوح ينبوع يسمى «تنور الطوفان»؛ لأن مياهه تخرج من الأرض صعدا، وقرب العين شجرة دلب ذات جذع وأغصان شامخة كبيرة إلى غير ذلك من المزاعم التي دعم بها القائلون آراءهم.
وفوق كل ذلك تطرقوا إلى القول بأن نوحا أول ما غرس الكرمة في قرية صيدنايا؛ ولذلك كثرت الكروم في سفوح الجبلين الشرقي والغربي. ومن أدلتهم على الطوفان في هذه الجهة أن البقاع ومعظم بلاد بعلبك مستنقعات، عرفت قديما باسم عميق لكثرة سباخها، وسماها أبو الفداء بحيرة عميق. ولن يزال هذا الاسم في بقعة خاصة جففت مؤخرا باسم عميق.
14
واستطرد إلى أن قلعة بعلبك هي برج بابل، وأن فيها مقام إبراهيم الخليل ودير إلياس النبي، وأنه في هذه الجهة ذبح كهنة البعل.
15
وأن اسم الشام نسبة إلى سام بن نوح، وكذلك قرية حام
16
منسوبة إلى ابنه حام. وأن التلال التي في هذا السهل كانت لبناء القرى عليها بعد حدوث الطوفان؛ تخلصا من أبخرة المستنقعات وغمق المياه. وأن عين البقر
17
فوق زحلة في الكروم تذكار البقر التي كان آدم يحرث عليها، وكانت تربى فيها إلى غير ذلك من التخرصات والأوهام.
ولا خفاء أن أقدم من سكن هذه الجهات هم الآراميون المنتسبون إلى آرام بن سام بن نوح، وبقيت سلائلهم ردحا طويلا مستعمرة هذه السهول الخصيبة، قاطنة سفوحها الكثيرة ورباها البديعة وجبالها الظليلة، فنشروا فيها عباداتهم الوثنية التي عمت جميع أقطار سورية ومصر وما يجاورهما. ويقال إن أول معبود وثني أقامه الأشوريون تمثال الجبار نمرود على الأرجح، وكان اسمه الباعل أو البعل أو البعليم ومعناه الرب أو المتسلط، وعرف باسم المشتري «جوبيتر» والشمس، فشاعت عبادته وأقيم له أعظم هيكل في مدينة بعلبك، لن تزال أطلاله أفخم الآثار القديمة وأضخمها وأتقنها صنعة وأدقها نقشا، وكان ذلك بعد الطوفان بنحو ثلاثمائة سنة. ومصغرات ذلك الهيكل هي في جوار زحلة في قرية حوشبيه
18
ونيحا،
19
فلا يبعد إذن أنه كان في زحلة أو مشارفها هيكل قديم لهذا المعبود. وكلمة «علين» التي هي إحدى مشارف المدينة في جنوبيها فوق كساره، نفس كلمة «بعليم» التي رأيتها في بعض الأوراق القديمة «بعلين» منذ قرن ونصف، وفيها آثار تدل على قدمها وأطلال نقلت حجارتها، وهناك أطلال دير القديس موسى لا يزال المسيحيون يزورونه، وهو بلا مراء بقية دير قديم محول عن معبد وثني، كما هو الحال في كثير من معابد بلادنا. ومن معبودات الأقدمين «نابو» أو عطارد، وله هيكل في قرية قصر نبا
20
التي هي في منعطف المنقلب الشرقي من جبل لبنان الغربي، على مقربة من زحلة. و«شيما» المعبودة اللبنانية في القرن الثاني والثالث للميلاد، ولها هيكل في قرية بيت شاما
21
قرب زحلة أيضا. و«هدرناس» الإله الآرامي، وهيكله في قرية نيحا المذكورة قد عبثت به الزلازل، فبعثرت حجارته الضخمة؛ فضلا عن الهياكل الكثيرة المحدقة بهذا السهل الأفيح لكثير من الآلهة الوثنية، من مثل هيكل قرية ماسة
22
المشيد لزحل «ساترن» وهيكل عين الجر.
وفي بقايا أسماء القرى في هذه النواحي آثار المعبودات. فإن عيتنيت
23
إحدى قرى البقاع، مركبة من كلمتي «عنت وتنيت»، وهما اسم واحد لآلهة أشورية سموها سميرام أيضا، عبدت في عسقلان وأنحاء سورية، أو أنها مركبة من كلمتي عنت الأشورية، وتنيت الآلهة الفينيقية؛ لامتزاج العبادتين معا في هيكل عفت آثاره اليوم. وعيثا
24
الفخار ربما كانت تحريف عنت هذه. ومثلها عيناتا قرب اليمونة
25
مقابل بعلبك. وجب جنين
26
يترجح أنها مركبة من كلمتي «جب» بمعنى بئر و«جينون»، وهي اسم معبود مصري كان من بنيها المريخ (مارس) إله الحرب. ويونين
27
من بعلبك مركبة من كلمتي «يو» الإله الكلداني، ومعناه الفينيقي نور، قيل إنها أخت البعل، وكان لها هيكل على شاطئ بحيرة اليمونة. وأونين ومعناه أبو البعل أو أنها محرفة عن هذه فقط، فقالوا في «أونين» يونين، إلى غير ذلك من الأدلة. وحبذا لو قام بين ظهرانينا من المؤرخين المحققين الواسعي الاطلاع على اللغات القديمة، من يمحص أسماء المدن والقرى ويحلل معانيها، فإنها كالطبقات الصخرية في علم الجيولوجية، ترشد إلى حقائق راهنة، وتؤيد العلم الصحيح.
وإن شئت أن ترى في أصل كلمة «علين»
28
رأيا آخر أدل على أن المدينة سميت باسم هيكل زحل، فراجع العبادات القديمة، تجد كلمة «عليون» أي أيل، والعلي من معبودات الآراميين والفينيقيين، ويسمى أيضا بعل وكرون وأدونيس وتموز. وهو أبو السماء والأرض وخليفة أيون الأشوري، هلك في محاربة الوحوش الضارية، وشاعت عبادته عند المصريين واليونانيين والرومانيين، ولا سيما في مدينة جبيل ومشارفها في لبنان، حتى سمي نهر إبراهيم باسم «أدونيس». وتحريف عليون إلى كلمة علين جاء عن تقديم الواو على الياء في لهجة العامة، فقالوا «علوين»، ثم أدغموا تخفيفا في اللفظ على عادتهم، فصارت الكلمة علين. ومما يؤيد هذا الرأي أن من سلالة عليون هذا «داجون» المعبود الفلسطيني (قضاة 16 : 23)، المسمى أيضا سيتون مخترع استعمال القمح، وهذا الاسم ظاهر تحريفه في عين الدوق
29
التي هي أحد أحياء المدينة اليوم، واقعة على رابية في الضفة الشمالية إلى الجهة الغربية، مشهورة بطيب هوائها وعذوبة مائها، حتى توصف سكناها للمرضى. ومن أظهر كل ذلك أن الرومان يسمون عليون ساترن؛ أي زحل، فلعلهم شيدوا له معبدا في علين هذه، وسميت المدينة باسمه. وقبالة زحلة إلى الشرق في مدخل وادي يحفوفه، بعد أن يترك القطار موقف (محطة) رياق قرية ماسة، إلى يمين الداخل على تلة، وهناك هيكل لزحل كما مر آنفا؛ فضلا عن أن لأيل - أحد أولاد عليون - بنتين عنت وتنيت، وهي عشتروت؛ أي الزهرة، ومنها أخذ اسم عيتنيت في آخر منعطف البقاع كما مر، إلى غير ذلك مما يملأ تفصيله كتابا برمته.
هذا ما رأيته في تسمية المدينة وأرباضها، مما يدل على قدمها، بقي أن ما فيها من المغاور في الصخور قرب نزل (لوكندة) الصحة إلى غربيها، التي يسميها العامة الطوق، وبها سمي دير النبي إلياس يدل على سكن الإنسان قديما فيها، في طور الظران؛ أي الطور الحجري؛ لأن لبنان كان فيها أناس يسكنون مغاوره الكثيرة الطبيعية، وذكر يشوع بن نون (13 : 4) مغاور الصيدونيين، والمراد بها مغاور نيحا «من الشوف في لبنان الآن» وعدلون. وكذلك اسم الصفه ربما كان عبرانيا؛ لأن «صفه» العبرانية بمعنى استشرف ونظر، فلعل هذا الاسم كان لمحل على رابية عالية كثيرة الأحادير على ضفة النهر الجنوبية تسمى الآن سور المشيرفة (تصغير المشرفة)، وصفا سميم وبعل شميم بمعنى عبدة السماء ورب السماء، من العبادات الفينيقية، وهو زفس عند اليونان، فعرب بالمشيرفة وبقي اسمه القديم لحضيضه، وهناك قبالة نزل الصحة غرفة منقورة في الصخر مربعة تدل على أنها كانت هيكلا صغيرا ونحوه. وفوقها مغاور قديمة منحوتة في الصخور، كانت مدافن للموتى ذات حنايا وأضرحة منقورة في الصخر، وهي مقابل المغاور المسماة بالطوق. وفي المدينة كثير منها ولا سيما في صخر، هو كالنطاق لتلة المشيرفة التي هي أكمة خرماء «لها جانب لا يمكن الصعود فيه»، وقد ظهرت مؤخرا فيه مغارة قديمة شاهدتها، ووصفتها في جريدة المهذب وهاك الآن ما عرفته عنها بالتفصيل: إن في ذلك النطاق الصخري في سفح المشيرفة مغاور كثيرة قريبا بعضها من بعض، كما يظهر للمتأمل على علو أكثر من ألف وأربعمائة متر عن البحر، وعلى بعد نصف ساعة عن المدينة، ولم يحتفر منها إلا مغارة اهتدى محتفرها إلى معرفتها بكثرة الأرانب التي كانت قد اتخذتها مخزة «المخزة بيت الأرنب»، فانتبه بعد مراقبتها مرارا إلى أن ثم مغارة اتخذتها الأرانب مأوى لها، فاحتفر الفتحة الصخرية التي تبلغ نحو ثلاثة أمتار، وهي مدخل إلى باب المغارة الحجري وغلقه أيضا من حجر، وطوله نحو ثمانين سنتيمترا بعرض سبعين، والغلق الحجري مركز على نجرانين؛ أي محورين حديديين في أعلاه وأسفله لفتحه وإغلاقه بسهولة، وهو ضخم أبيض اللون قد نزع من محله، وفيه ثقب مستطيل يدل على أنه اتخذ لوضع شيء فيه، إحكاما لسده وتوثيقا لإغلاقه، وفي جانب الباب المقابل لمحل المحورين ثقب يقابله. وفي داخل المغارة ثمانية نواويس منقورة في أرض المغارة الصخرية، اثنان منها على جانبي الداخل وخمسة في وسطها متناسبة الوضع وناووس في أقصاها. وهناك نواتئ صخرية تمثل رفوفا وجدت عليها سرج من فخار منقوش، مستديرة أو بيضية الشكل مستطيلته، ولكل منها ثقبان؛ أحدهما في مستدق طرفه، والثاني في وسطه . وقياس كل قبر منها نحو ثمانية أشبار طولا وأكثر من اثنين عرضا ونحو شبرين عمقا. وعلو سمك (سقف) المغارة عن سطح النواويس نحو ثمانين سنتيمترا فقط، بحيث لا يستطيع الداخل أن ينتصب. وطول هذه المغارة من الشرق إلى الغرب نحو عشرين شبرا في عرض مثلها، وهي منحوتة في صخر أبيض رخو، يعرف بالحجر السكري، ولها حنايا (قناطر) فوق القبور كلها منحوتة، ووجد في هذه النواويس عظام نخرة بعضها كبير والآخر صغير، وفوق الباب وجدت كوة غير نافذة. ولو تقصى الباحثون في حفر هذا النطاق وغيره، لعثروا على أشياء كثيرة ترشد المؤرخ إلى حالة المدينة القديمة.
وإذا صعدت من هذا النطاق إلى علو خمسين مترا، وعلى بعد ربع ساعة، وصلت إلى تلة المشيرفة،
30
وهي تصغير المشرفة بمعنى المطلة على ما حولها، وفي طلع هذه الأكمة (المكان الذي يشرف منها على ما حولها)، التي تعلو ألف وخمسمائة متر عن سطح البحر، ونحو خمسمائة عن حضيض وادي البردوني آثار أبنية قديمة ضخمة الحجارة، كما يروي المعمرون من سكان زحلة، وكانت مضفورة؛ أي مبنية بحجارة بلا كلس ولا طين، فهدمت أطلالها ودحرجت حجارتها إلى الوادي، واتخذت لبعض الأبنية منذ القديم. ولعل من بقاياها تاجي عمودين منقوشين أمام دير الطوق حتى الآن. وكانت هناك نواويس منفردة على شكل أجران مستطيلة، ولها أغطية مسنمة «بشكل جملون». وهناك آبار مستديرة منقورة في الصخور، ولها محل منقور حول فوهاتها لوضع أغطيتها، وبالحقيقة أن تسمية هذه الرابية بالمشيرفة جاءت اسما على مسمى؛ لأن الواقف على طلعها يشرف على جبل صنين والكنيسة، وجبل الشوف المتصل بجبل عامل (بلاد بشارة)، وجبل الشيخ «حرمون»، والجبل الشرقي «أنتيلبنان»، إلى أن يستشرف أطلال بعلبك الشهيرة، وينتقل إلى جبل المنيطرة حتى ينتهي النظر في صنين حيث ابتدأ، فكأن الواقف عليها هو في مركز دائرة والأفق حوله كالحلقة المفرغة، لا يدري أين طرفاها، فضلا عما يراه من القرى في سفوح هذه الجبال، وفي سهل البقاعين وبعلبك ووادي التيم، وقلما يجد الرائي مثل هذه المناظر الجامعة بين السهول والجبال والأودية والتلال والمنبسطات والرعان والأنهر والينابيع، والخضرة التي لا تخلو منها السهول . فهل نسلم أن هذا المحل مع مناعته ووقوعه في مدخل البقاع بين جبلي صنين والكنيسة كان خلوا من هيكل قديم حول معقلا حربيا قوضت أركانه؟ كلا لا يقتنع العقل بخلوه من بناء عظيم لحسن موقعه وحصانته.
فما هو هذا البناء يا ترى؟ وأي متى شيد؟ ومن رفع دعائمه؟ وكيف أصبح أطلالا دارسة؟ إن من راجع التاريخ بتبصر وترو علم أن الفاتحين من فراعنة مصر، والغزاة من الفرس والرومان والأمم القديمة التي اجتاحت سورية من جهات مختلفة، كانوا لا يستغنون عن الدخول في المضايق المحصنة المحدقة بلبنان وسهوله أو الخروج منها. وأهم هذه المضايق المطروقة هي مضيق جبل المنيطرة، قرب بحيرة اليمونة مقابل بعلبك، حيث هناك آثار طرق رومانية مرصفة بالحجارة، تؤدي من نهر الكلب إلى بعلبك على طريق العاقورة قرب مغارة أفقا، حيث يخرج نهر إبراهيم أو أدونيس (تموز) المشهور في التأريخ، وسمي ذلك الجبل بالمنيطرة لكونه كان محرسا ومرتقبا. والمدخل الثاني هو بين جبلي صنين والكنيسة. والثالث هو قرب المريجات عن طريق بيروت إلى دمشق. وهناك معابر أخرى من جهة وادي التيم إلى البقاع، ومن جهة حمص إلى سهل بعلبك وغيرها، مثل مضيق وادي القرن إلى دمشق، ومدخل وادي يحفوفه إليها أيضا. ولما كان كلامنا منحصرا الآن في تأريخ زحلة، نخص بالذكر من هذه المضايق ما بين صنين والكنيسة، وهو الذي اجتازه بومبي القائد الروماني الشهير، لما اجتاح سورية في القرن الأول للميلاد، كما ذكر اسطرابون الجغرافي الشهير، وقوض في غزوته بعض المعاقل منها قلعة «سنان»، ومن رأي الأب هنري لامنس اليسوعي في «تسريح الأبصار 1 : 34»، أن هذه القلعة لم تكن في مشارف صنين العليا لكثرة الثلوج وقرس البرد، وإنما كانت على منعطف رباه، وإذا بحثنا في جوار صنين الذي سمي باسم هذه القلعة «سنان»، لا نجد أفضل من هذا الموقع المتوسط بين السهل والجبل، لهذا المعقل فنرجح إذن أن قلعة «سنان» كانت في محلة المشيرفة ، فهدمها بومبي ودكها برمتها إلى الأرض، لما غزا الأيطوريين (الجبليين) الذين مدوا سلطتهم من حوران إلى بطاح سورية المجوفة، وأعالي لبنان الغربي، وسفوحه حتى شاطئ البحر المتوسط، ولا سيما في مدينتي طرابلس وجبيل. ثم أخنت الأيام عليها، فضعضعت أركانها ونسفت أبنيتها ومحت آثار عظمتها، فنقل سكان زحلة القدماء ومجاوروهم حجارتها الضخمة، وصغروها ليستعينوا بها في أبنيتهم لقلة الحجر في المشارف السفلى. ولا خفاء أن هذا المعقل كان في الأصل معبدا وثنيا حول إلى حصن.
والمروي على ألسنة الشيوخ إلى عهدنا، أن تحت معقل المشيرفة نفقا (سردابا) على مسافة ميل، يصل إلى مياه البردوني كان المحاصرون يستقون منه في أيام الحروب. ويسمون هذه الأطلال «سور المشيرفة»؛ لأن زحلة لما جدد بناؤها كانت آثار السور باقية فنسبوها إليه. وإلى غربي هذه الأكمة الشمالي على مقربة منها مغارة الراهب. وهي فتحة في صخر ناتئ، لها باب مربع يتجه إلى أعلى التلة، وفي داخلها ثلاثة نواويس محفورة في الأرض الصخرية وناووس رابع في أقصاها، منقورة جميعها في صخر صلد، ولها كوة نافذة من سطحها، وهي تمثل غرفة بديعة الوضع.
يقال إن أحد الرهبان تنسك فيها فنسبت إليه. ولها حنية فوق النواويس الثلاثة، وأما فوق الرابع فالسمك (السقف) مسطح وارتفاعها متوسط، بحيث لا يمكن للداخل إليها أن ينتصب، وقربها بعض المغاور نظيرها. وقد وجدت هناك قطع نقود قديمة رأيت بعضها، وعليها النسر الروماني الذي هو شارتهم، وعلى وجه آخر صورة واسم أدريانوس أوغسطوس الذي ولد سنة 76م، وتبوأ العرش الروماني من سنة 117-138م، ويقال: إنه هو الذي ابتنى قلعة نيحا وبعض هياكل في بعلبك وغيرهما، فلعله جدد قلعة المشيرفة أيضا. وكذلك في بدء السنة الحالية (1911م)، كان بعض الفعلة يحفرون في حضيض هذه التلة الشرقي، وراء دير النبي إلياس (الطوق)، فوجدوا آثار معاصر زيت ومعصارا «مكبسا» حجريا أبيض كبيرا. وبينما أحدهم يقلب حجرا من الأرض التي كان ينقبها، وجد تحته أكثر من ستمائة قطعة من النقود الشبهية (البرونزية) توازعها الفعلة، فرأيت بعضها وعليها اسم قسطنطين ، أول ملك مسيحي من الرومانيين، تبوأ العرش من سنة 306-337م، ومن سنة 313م نادى في مملكته شرقا وغربا بحرية الديانة المسيحية، وشيد كثيرا من الكنائس والمعابد، معظمها حوله من الهياكل الوثنية ولن يزال إلى يومنا، ولعله بنى في زحلة معبدا باسم النبي إلياس المشهور في هذه الجهة، ومما يدل عليه بر إلياس وقب إلياس والنبي إيلا (إيليا أي إلياس)، وفي نواحي المعلقة قرب بساتينها قطعة أرض باسم كروم (دير لباس)، ويروي الشيوخ أنها محرف دير النبي إلياس، وروى الأب جوليان اليسوعي أن كساره تحريف قيصرية، ولعلها كانت مستعمرة لأحد القياصرة الرومانيين، وقيل: إن اسم كساره آرامي بمعنى الخصب والريع. أما الكتابة على هذه النقود فهي باللغة اللاتينية
Imprator Constantin ، ومعناها الإمبراطور قسطنطين، مما يدل على أنه هو الذي صكها وصورته واضحة على كل منها، ومع أن حجمها لا يتجاوز حجم المتليك من نقودنا الحاضرة، فهي أسمك منه، تجد على وجهها الثاني صورة قائد قد رفع على ذراعيه ولدا بيده زهرة، هي علامة الانتصار وتحته طير. وليست هذه الصورة متماثلة في ما رأيناه منها؛ لأن العادة المعروفة في التاريخ إذ ذاك أن كل قائد ينتصر تنقش صورته على النقود تخليدا لذكره، فلذلك اختلفت الصور باختلاف المنتصرين من قواد الجحفل أو الفيلق الذي كان عدده في ذلك العهد ستة آلاف وستمائة جندي. وظهرت فيها نقود عربية فضية من صدر الإسلام، وقد رأيت مصكوكات قديمة وجدت في عنجر (عين الجر أو خلقيس أو كلشيس)، عليها رسم واسم هذا الملك أيضا، وكل ذلك يدل صريحا على قدم المدينة، وأنها كانت مأهولة في الأزمنة القديمة.
ومن الآثار التي ظهرت في الوادي والبساتين وتل شيحا وعلين نواويس رصاصية على أغطيتها صور أشخاص بديعة ونواويس حجرية مفردة مسنمة الأغطية، على بعضها نقوش بسيطة، وفوق قصر (سراي) الحكومة في محلة البيادر على مشارف التلة الجنوبية، وجد كثير منها قريب بعضه من بعض يدل على أنه كان مقبرة، ولن يزال أحدها على طريق العربات تحت ميزاب «عين السراي» النافذة مياهه هناك أمام قصر الحكومة. ووجد في بعض هذه النواويس رمم هياكل بشرية، وعلى بعضها رق ذهبي يغطي الوجه، وشنف أي حلقة من حجر بديعة الصنع رماها أحد الفعلة فانكسرت، ومما يؤسف له أن الذي ظهرت له هذه النواويس لم يحافظ عليها، بل كسرها وباعها حجارة والرصاصية أذابها، فهكذا تلفت آثار المدينة القديمة، حتى كاد تأريخها يطمس ذكرا.
وإذا راجعنا أقوال الأثريين في مثل هذه المدافن، نجدهم قد قسموها إلى أربعة أشكال: أولها القبور الغائرة، وهي المنقورة في الصخور كالأضرحة الحديثة والمسدودة بالحجارة، وثانيها القبور النفقية (الدهليزية) وهي ذوات فتحات من خمس إلى ست أقدام طولا، ونحو قدم ونصف عرضا، تكون في الغالب محفورة في الصخر أفقيا، وفيها ضريح لطمر الجثة. وثالثها القبور الرفية وهي ذوات رفوف أو مقاعد لاستقبال الجثة تعلو نحو قدمين عن الأرض، وتكون في الغالب مقببة، ورابعها القبور ذوات الكوة الغير النافذة وهي منحوتة غالبا في وجه الصخر.
أما غرف القبور فهي ثلاثة أنواع: أولها القبور المفتوحة ولها أضرحة غائرة في أرضها. وثانيها القبور ذوات الرفوف أو المقاعد الحجرية الممتدة حول الجدران المتخذة كرفوف للقبور. أو القبور ذوات الضرائح التي كالجسور المحفورة في الجدران فوقها. ومدخلها مغلق بصفيح حجري أو باب حجري صغير. وثالثها مجموع غرف ذوات باب له أسكفة (العتبة العليا) تؤدي إلى مدخل فيه أبواب صغيرة مفتوحة لغرف مختلفة. ونقوشها تكون في الغالب أضاميم من ورق أو زهر. على أن القبور الحجرية المفردة لم يكن يستعملها إلا الأغنياء، وقد اقتبسها الفينيقيون والعبرانيون عن المصريين، وربما كانت هذه القبور الحوضية زوجا ولها غطاء واحد. وكثير منها ينظر الآن في سورية أجرانا للينابيع تستقي منها المواشي.
أما عادة النقش على النواويس، فكانت أقل شيوعا بين العبرانيين والفينيقيين القدماء، تابعة لذوقهم وحبهم للتاريخ منها بين الأشوريين والمصريين الذين نقل الأولون عنهم. ثم أخذ عنهم الرومان واليونان والمسيحيون في أول عهدهم.
فمن كل ما ذكر نستنتج أن هذه المدافن التي وجدت في مدينة زحلة ومشارفها وأرباضها، هي من عهد العبرانيين أو الرومانيين إن لم تكن أقدم، لما في وضعها من المناسبة لمدافنهم. وقد وجدت مدافن محفورة في الأرض مبنية بالحجارة في أنحاء المدينة، منها ضريح عليه قبرية (بلاطة يكتب عليها اسم الميت وتاريخ وفاته) بتاريخ سنة 200ه/815م، وفي الضيعة؛ أي حارة دير النبي إلياس للرهبنة المخلصية في وسط المدينة قرب قصر الحكومة، توجد مقابر تحت البيوت الحالية، وقد ظهر على أحدها قبرية كتب عليها: «توفي في شهر ذي الحجة من شهور سنة 732ه/1331م رحمه الله.» وقد وجد قرب دير النبي إلياس للرهبنة الحناوية في غربي المدينة حجارة منحوتة اتخذت لبناء الدير منذ القديم. وظهرت في أنحاء المدينة آثار حرائق ومخازن في بعضها آثار صياغة، وأبنية نقشت بالفسيفساء. وقنوات للمياه ذات أنابيب (قساطل) خزفية متينة ضخمة، تدل على توزيع المياه في المدينة القديمة. وحنايا تحت الأرض أو أقبية، منها سرب في بيت يوسف حجي متجه إلى الغرب، يستطيع الإنسان أن يدخله منتصبا ولا آخر له ولا منفذ. ووجد في القديم تمثال حجري لأحد الأصنام، وربما كان لزحل. وظهر في تل شيحا تمثال خروف من خزف وآنية خزفية بديعة. وفي حضيض وادي البردوني الجنوبي قرب عين البخاش، ومقابل محلة الطوق سرب يسمى مغارة الرصد، يتجه إلى الشرق حتى يقابل دير النبي إلياس الطوق ولا منفذ له. وكذلك في علين وتل شيحا آثار خزف قديمة وآبار وأساسات متينة الحجارة وخزف بديع، وفي المشيرفة آثار خزف منقوش بديع الألوان متقن الصقل. وظهرت آثار آبار قديمة بعضها مربع والآخر مستدير، وهي من القصرمل؛ أي الرمل والحصى والكلس. وكذلك خواتم من حجر المرمر عليها نقوش أشخاص بديعة.
وكان فيها جسر عظيم الحجارة متين البناء، ربما كان رومانيا أو من زمن الصليبيين محل الجسر الكبير الآن قرب الحارة السفلى (التحتا)، فهدمته السيول سنة 1815م، وجدد بناؤه بقنطرة واطئة فهدم ثانية وتجدد سنة 1822م، وكان هذا الجسر أشبه بجسر المعلقة القديم، كأنهما أخوان شق الأبلمة. وعند محلة (الصفة) في منقطع الوادي، كان جسر قديم مثله يعبر عليه إلى قرية عين الدوق، فهدمته سيول عظيمة وجدد بناؤه بزمن نعوم باشا سنة 1897م. ولعله كان من بناء الصليبيين أو أقدم منهم.
فكل هذه الآثار لا يصح أن تبقي تاريخ المدينة حديثا، بل هي أدلة على أنها كانت معاصرة لما يجاورها من القرى التي فيها آثار لم تعبث فيها يد التخريب والتشويه إلى يومنا.
وإذا أرسلنا نظرة أخرى إلى جهة ثانية من التاريخ القديم، نجد أن عبادة ديونيس إله الخمر كانت منتشرة في دمشق وضواحي سورية المجوفة، حتى كثرت الهياكل لهذا الإله الخمري، وتغالى السكان بغرس الكرمة
31
احتفاء به، فكان لزحلة وضواحيها نصيب كبير من هذه الحفلات الشائعة بلا ريب. وكان ديونيس الفينيقي قاهر أرنط الجبار الهندي أو الأثيوبي في نهر العاصي المنسوب إلى أرنط، والمعروف أيضا بالمقلوب، فصار ديونيس في آخر عهد الوثنية بمنزلة زفس أو المشتري بطل الأساطير في سورية المجوفة، وتمكنت عبادته في دمشق حتى سمت ملكها أنطيوخوس الثاني عشر ديونيس الجديد، كما كانت تسمى بذلك سابقا ملوكها بني هدد. وانتشرت انتشارا عظيما في سورية المجوفة، وأقيمت له الحفلات الخلاعية ردحا من الزمان، وشيد لديونيس في سورية المجوفة قصر تحدق به جفان الكرم التي كانت شارته الخاصة فعمت زراعة الكرمة في هذه الضواحي. ولن يزال عنبها وخمرها من أفخر ما يوجد منها حتى الآن، ولا سيما في زحلة وضواحيها فلا يبعد أن قصره كان فيها. وإذا حللنا بعض أسماء القرى في هذه البطاح يتجلى لنا أن دورس التي فيها القبة القديمة الشهيرة بجوار بعلبك، ربما كانت محرفة عن ديونيس فقالوا ديوريس ثم دورس. ومما يدل بصراحة على هذا البطل الخرافي أن في أطراف البقاع على تخوم وادي التيم قرية كفردينس، وهي بلا شك نفس كلمة ديونيس خففها العامة على عادتهم. ولعل اسم قرية كفردان قرب حدث بعلبك بقية اسم ديونيس، فحرف إلى دان، والله أعلم.
ففي الصفة أو المشيرفة وعين الدوق وعلين وكرك نوح وعرجموش وترحين وبحوشه وقمل وبلوده وكساره والتويته والرمثانية وبوارش أدلة واضحة على قدم زحلة ومعاصرتها لما يجاورها من الأماكن القديمة، مثل عين الجروماسة ونيحا وقصرنبا والفرزل وجديتا وقب إلياس ومندرة اليونانية الاسم وغيرها.
وحبذا لو تفرغ فريق من العلماء لدرس آثارنا، وكشف القناع عن محيا قدمها. وقد اكتشف في الفرزل أثر يمثل صورة إله غريب الشكل ممتط جوادا، ولابس لبس الأسويين، وهو معبود شمسي اتخذه الشرقيون، كما اتخذ اليونانيون عبادة الشمس باسم هليوس، ومنها اسم هليوبوليس لبعلبك ومعناها مدينة الشمس (مجلة المشرق 8 : 270). واكتشف في تل شيحا من زحلة تمثال لهذه العبادة. وفوق قصرنبا صورة المشتري منقوشة على صخر كبير. وكذلك قرب قب إلياس نقوش معبودات يونانية وغيرها على صخور كبيرة، وفي مشارف صنين والكنيسة فوق زحلة نقوش وكتابات.
وبقي اسم نهر البردوني، فربما كان تصغير بردى
32
على القاعدة السريانية مثل اليموني تصغير اليم بمعنى البحر، ومعنى بردى البارد أو الفردوس. وفي هذا الاسم دليل على قدم المدينة أيضا وشئونها التاريخية. وفي سهل بعلبك مقابل المدينة قريتان؛ إحداهما تسمى حوش الذهب والثانية حوش بردى، وهما من أسماء نهر بردى الدمشقي الذي يسمى مجرى الذهب. ولعل في هذه التسمية سرا يكشفه البحث أو هي من الكلمة الفارسية «بردن» بمعنى الاشتداد في العدو وفيه إشارة إلى سرعة جري النهر لانحدار مجراه ولا سيما قبل وصوله إلى زحلة.
هوامش
حوادث زحلة القديمة
لا خفاء أن زحلة موقعها في غربي البقاع متجهة إليه وشئونها القديمة متعلقة بتأريخه. فلهذا أفردت هذه المقالة لسهل البقاع، مسترسلا فيها إلى سهل بعلبك عند مسيس الحاجة والعلاقة، وذلك تمهيدا لوصف حوادث زحلة قبل تدميرها، ثم تجديدها في أوائل القرن الثامن عشر للميلاد.
موقع سهل البقاع بين الدرجة 33 والدقيقة 20 والدرجة 54 والدقيقة 40 من العرض. سماه العبرانيون باسم عميق
1
والمصريون باسم رتنو، ودعي آرام صوبة وبقعة آون وبقعة لبنان ومملكة رحوب ووادي لبنان وفينيقية لبنان، وسماه اليونان سورية المجوفة
Coele-Syria
ومرسياس أو ماسياس،
2
والرومان دعوه أهراء رومية؛ لأنهم ملئوا مخازنهم من غلالة الخصيبة الوافرة، وذكره بعض مؤرخي العرب باسم مرج الروم وسهل نوح. وهو منفرج بين جبلي لبنان الشرقي والغربي، وإلى شماليه سهل بعلبك. والمرجح أن هذا الانفراج نجم عن حادث جيولوجي قديم، فصل الجبلين المذكورين الشرقي والغربي بعد أن كانا جبلا واحدا، فكون ذلك الانفصال حوضا بينهما هو الغور السهلي الذي ملأته السيول أتربة مجروفة من القمم والمشارف والأسناد، فصار سهلا خصيبا فسيحا. ولن تزال الأمطار تحمل إليه الأتربة. وموقعه في سورية المتوسطة التي تبتدئ من مدخل حماه شمالا، وتنتهي في جنوبي مدينة صور جنوبا. ومن أمهات مدنها الداخلية، حمص وتدمر ودمشق وبعلبك وخلقيس (عنجر). ومن أهم مدنها الساحلية طرابلس والبترون وجبيل وبيروت وصيداء وصور.
هذا في تقسيم سورية الطبيعي. أما في التقسيم الإداري فإن هذا السهل اليوم هو من ولاية سورية، يحدق به لبنان الشرقي والمنخفض السلسلة القليل العمران والسكان والخصب في غربيه؛ لكثرة انحداره وأقصى علوه في طرفه الجنوبي، حيث يرتفع جبل الشيخ 2800 متر عن سطح البحر. ويتصل بلبنان الغربي الذي هو أكثر ارتفاعا من الشرقي، وأوفر عمرانا وخصبا وسكانا ولا سيما في غربيه، فهو يخالف شقيقه بعض المخالفة. وأعلى رءوسه المشرفة على هذا السهل جبل المنيطرة فوق اليمونة، الذي يعلو 9500 قدم، وجبل الكنيسة فوق جديتا وبوارش المرتفع نحو 6650 قدما، وجبل الباروك فوق عميق المرتفع نحو ذلك. وفي سهل البقاع نحو سبعين قرية، منها بضع عشرة مرزعة صغيرة، وسكانه نحو خمسة عشر ألف ذكر. ومجموعهم نحو ثلاثين ألفا ونيف معظمهم من المسلمين، فالمسيحيين وبينهم بعض الشيعيين (المتاولة) في مشغره وضواحيها، ومساحة أرضه نحو أربع مائة ألف فدان (والفدان ألف وستمائة ذراع مربعة)، وأكثره سباخ ولا سيما في السنين الماطرة.
وتزرع فيه جميع أنواع الحبوب، حتى تقدر حاصلاتها السنوية بمليون مد ونصف مليون تقريبا على اختلاف أجناسها، كالبقاعي الأحمر والسلموني الأحمر والدوشاني والحوراني، والقطاني كالعدس والحمص والبيقة (الباقية) والكرسنة ونحوها، وأشهر عدسه ما زرع في سحمر ويحمر المشهورتين أيضا بالعنب الفاخر، الذي هو من حاصلاته الوافرة بعد الحبوب. وأهم معامل النبيذ في شتوره ودير كساره للآباء اليسوعيين، وفيهما العنب الجيد. أما تربية دود القز فأهمها في مشغره وسغبين والخربة وقب إلياس والمعلقة، ومجموع أعشاره السنوية نحو عشرة آلاف ليرة عثمانية. وقد جرب فيه القطن فلم تنجح زراعته، وكان فيه قبلا التبغ (الدخان) الجيد، ولكنه اليوم قليل.
ومن سهل البقاع وبعلبك وجبليهما يخرج نهر العاصي الذي يروي سوريا الشمالية. والليطاني الذي يجري إلى الجنوب، ونهر بردى الجاري إلى الشرق، ونهر إبراهيم الجاري إلى الغرب من بحيرة اليمونة، ونهر الغزير الخارج من قرب عين الجر. وجدول الخريزات من قرب خربة قنافار، ونهر عميق ونهر الشتا الخارج من قرب مشغره، ونهر البردوني من قاع الريم ونهر يحفوفه.
وشكله مستطيل واللبنانان له كالسور، وتشرف عليه القرى الكثيرة القائمة في سفوحهما وأسنادهما، فضلا عن كثير من القرى المتفرقة في بطحائه، وهو ينخفض إلى عمق ستمائة متر وينبسط إلى مسافة نحو مائة كيلومتر من الشمال إلى الجنوب، ونحو تسعة إلى ثلاثة عشر كيلومترا من الشرق إلى الغرب. ومعدل ارتفاعه عن سطح البحر تسعمائة متر، وارتفاع تربته من ثمانية أمتار إلى عشرة، وفيه تلال قائمة في وسطه معظمها على محاذاة الجبلين، ولكن ما في البقاع الشرقي منها أكثر مما في الغربي، وعلى بعضها بنيت القرى العامرة الآن والخربة، كأنها جزيرة في بحر خضرته، وبين كل منها مسافة ساعة إلى ساعتين قيل إنها كانت مواقف لحمام الزاجل (الرسائل) ممتدة إلى حلب ودمشق وما إليهما، وقيل إنها اتخذت للبناء عليها تخلصا من الرطوبة، لكثرة مستنقعات هذا السهل الذي يقال إنه كان مغمورا معظمه بالمياه، حتى كان السكان يضطرون إلى اتخاذ القوارب للعبور من قرية إلى أخرى؛ ولذلك ذكر في بعض التواريخ باسم البحيرة ولن تزال عميق وغابها شاهدا على صحة هذا. فجفف بفتح الكوة قرب سحمر وفوقها جسر طبيعي من صخرين متساندين، تتسرب تحتهما مياه الليطاني على انخفاض نحو مائة قدم، يسمى إلى عهدنا بجسر الكوة.
3
وآخر هذه التلال من الجنوب تل جب جنين، ثم تل سعد قرب مشغره وتل عريض الراس قرب عتينيت، وتل دنوب وعليه قرية باسمه، وتل النبي زعور قرب قرية بر إلياس، وتل الأخضر وعليه قرية باسمه، وتل السرحون بحدود أرض معلقة زحلة، وتل الدلهمية وعليه قرية باسمه، وكذلك تل تربل وعليه قرية باسمه أيضا ، وتل عمارة وعليه قرية باسمه إلى غيرها مثل تل نمرا وتل رياق حيث القرية وموقف السكة الحديدية الكبير، ومن هناك إلى حلب تلال كثيرة.
4
وفي هذه البقعة ينابيع غزيرة، أهمها مياه شتوره وقب إلياس والفالوج قرب كامد، ثم عين الجر وعين زبدة، وينبوع مركبة بين قرية ميدونة وعين التينة، ونبع مشغره وهي والأنهر المار ذكرها آنفا تصب جميعها في نهر الليطاني. أما بحيراتها فبحيرة عميق في الغرب وقد جففت الآن، وبحيرة اليمونة في الشمال وبركة الزينية في المنحدر الشرقي للجبل الغربي، وبركة قطينة في الشمال قرب حمص، وهي بحيرة قدس المشهورة في التواريخ القديمة، ومن ينابيعها الدورية مياه عميق، ونبع عين الجر الذي يقال إنه هو ونبع بردى قرب الزبداني من أصل واحد، ونبع الأربعين في اليمونة الذي منه تتكون بحيرتها وتجري مياهه إلى أفقا فتكون نهر إبراهيم إلى غير ذلك، وفي البقاع شلال كهف الحمام فوق جسر الكوة.
ويفصل قضاء بعلبك اليوم عن البقاع خط، أوله نيحا في سفح الجبل الغربي، فأبلح أمامها في السهل ممتد إلى الدلهمية فتربل فحوش حالا، وهذه القرى جميعها من البقاع، ثم يتصل بعلي النهري قرب رياق وبيحفوفه التابعتين لقضاء الزبداني. فما إلى شمالي هذا الخط هو قضاء بعلبك، وما إلى جنوبيه هو البقاع ما عدا القرى الواقعة وراء تربل في الأكمة الصغيرة المنفصلة عن الجبل الشرقي، فإنها وإن كانت داخلة في البقاع بموقعها الطبيعي، فإنها من أعمال بعلبك. ويكون حده الشرقي منقلب الماء من الجبل الشرقي، ومعظمه في قضاء الزبداني. والجنوبي وادي التيم وجزين. والغربي المنقلب الشرقي للبنان الغربي من الشوف والمتن فقضاء زحلة. وفي القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد، غلب على هذا السهل الغربي اسم البقاع فدعاه ياقوت الحموي بقاع كلب؛ نسبة إلى قبيلة بني كلب التي كانت فيه، وعرف أيضا ببقاع العزيز نسبة إلى الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين الأيوبي الشهير؛ لأنه اعتنى بتجفيف أرضه وزراعته.
وفي القرن السابع عشر للميلاد كان يطلق اسم البقاع على معظم سهلي بعلبك والبقاع، إذ ذكر المحبي في خلاصة الأثر في أعيان القرن الحادي عشر (1 : 177) أن البقاع العزيزي مقر ولايته كرك نوح، والبقاع البعلبكي المنسوب إلى بعلبك لقربه منها ليس له مقر ولاية، وأن هاتين الولايتين منفصلتان عن بعلبك لحاكم غير حاكمهما؛ ولذلك كان يقال لمجمل السهل سهل البقاعين وبعلبك، كما قرأنا ذلك في القرن الثالث عشر للميلاد.
ولقد اختلف تقسيم البقاع بحسب الحكام والزمان، فكان قسم من البقاع الغربي قديما تابعا للبنان. وكانت عيتنيت في القرن السابع عشر للميلاد تابعة لشوف الحراذين. وبعض قراه اليوم تابعة وادي التيم، مثل خربة روحا وغيرها. والبعض الآخر يتبع الأقضية المجاورة. وفي أثناء القرن التاسع عشر كان البقاع الغربي جميعه يسمى إقليم البياض، وقاعدته مدينة زحلة (راجع أخبار الأعيان لطنوس الشدياق صفحة 32)، ويسمى أيضا الشوف البياضي؛ لبياض تربته وصخوره في أكثر محلاته ولا سيما في قاعدته زحلة، وبقي تابعا للبنان إلى أواخر حكم داود باشا الأرمني أول متصرف عليه.
وقد قال الأب مرتين في تاريخه (1 : 66) إنه يسمى بشوف البيادر، وهو تحريف كلمة البياض بالإفرنجية كما لا يخفى، وحدده بأنه المنحدر الشرقي من لبنان (أي لبنان الغربي). وهو الآن قائمية مقام تابعة لولاية سورية التي مقرها دمشق، وقاعدة هذا القضاء معلقة زحلة وعدد سكانها أربعة آلاف. وقد انسلخت عن لبنان هي ومعظم هذا القضاء نحو سنة 1868م، بآخر مدة داود باشا متصرفه كما مر آنفا، وفيه 76 قرية ومزرعة. وسنة 1884م سلخت ست قرى عن قائمية مقام بعلبك بزمن قائم مقامها مصطفى حكمت القنواتي، وألحقت بقضاء البقاع أهمها نيحا، وفي البقاع مديرية جب جنين تتبعها إحدى عشرة قرية وهي: كامد اللوز والسلطان يعقوب وغزة وحمارة وعيتا ومدوخا وعين عرب وكفر دينس والمحيته ورفيد وبيره، ومزرعة واحدة وهي جرن النحاس.
أما قرى البقاع التابعة لقائمية المقام رأسا فثمان وأربعون قرية، وهي: نيحا، والفرزل ، وأبلح وحوش حالا، ورياق، وتربل، والدلهمية، والحواش، وسعد نايل، وثعلبايا، وتعنايل، وجديتا، وبوارش، ومكسة وقب إلياس، وتل الأخضر، وعميق، ودير طحنيش، والمنصورة، وخيارة، وحوش حريمة، والدكوة، والإصطبل، والمرج ، وبر إلياس، وعنجر، والسويرة، ومجدل عنجر، وكفريا، والخربة، وعين زبده، وسغبين، وباب مارع، وعيتنيت، ومشغره، وعين التينة، وميدون، ولوسيا، وقليا، وزلايا، ويحمر، وسحمر، ولبايا، وتلثاثا، ومجدل، بلهيص، والقرعون، وبعلول، ولالا. وخمس عشرة مزرعة وهي: شتوره، وزبدل، ومندرة، وتل عمارة، والناصرية، والبيضا، وعانا، وتل دنوب (تل ذي النون)، والجزيرة، وحليمة الصغرى، ووقف، ودير عين الجوزة، وعين فجور، والشميسة، وبجعة. وأقربها إلى المعلقة مقر قائم المقام الحواش، وهي على بعد ربع ساعة، وأبعدها لوسيا وقليا وكل منهما على بعد اثنتي عشرة ساعة عنها، وأكبرها مشغره فقب إلياس فجب جنين فسغبين إلخ.
وأهم أدياره العامرة الآن دير تعنايل للآباء اليسوعيين، وفيه ميتم ودير كساره لهم أيضا، ودير عين الجوزة للرهبنة المخلصية.
ومن مراقده النبي نوح في الكرك، وابنته حبلة في عرجموش، والنبي عزير (زعور) بين عنجر وبر إلياس، والنبي إلياس في بعض نواحيه، والنبي الصفي في مزرعة تلثاثا، والشيخ مسافر في خربة قنافار. والسلطان يعقوب في القرية المنسوبة إليه، وقد أنكر ذلك المقري في نفح الطيب،
5
وأثبته ابن بطوطة في رحلته،
6
والنبي يوشع في مشغره. والشيخ إبراهيم والشيخ محمد في جب جنين، والخضر في عين عرب، والشيخ الرمثاني في الرمثانية
7
فوق زحلة وغيرها.
وفي أسماء القرى بقايا أديار قديمة، فمنها عامر وقد ذكرناه، والآخر خرب مثل قرية دير الغزال ولا دير قديم فيها اليوم، وقرية دير طحنيش ودير لباس في أرض الكرك؛ أي دير النبي إلياس كما مر. وفي مشغره اسم دير صالح ودير مري (مريم)، ودير زينون وعليه جسر بين عنجر وبر إلياس، ودير مار موسى علين قرب زحلة.
ومن آثاره القديمة حصن الكرك، وحصنا نيحا وقلعة المشيرفة فوق زحلة، وقصر الكنيسة على قمة جبل الكنيسة أو بوارش، وقلعة الرمثانية الضخمة الأطلال المشرفة على البقاع، وآثار في بلودة والتويتة منها حمامات. وهيكل جديتا الذي ظهر منذ سنوات، وهيكل الفرزل ومغاورها ومسلتها المصرية. وقلعة قب إلياس وهيكل عين الجر وسورها وأقنيتها وهيكل ماسة. وتمثال عين أبلج ونواويس كثيرة ومغاور بديعة الشكل، وفي جديتا نواويس على بعضها كتابات مهشمة يرجح أنها يونانية، ويوجد سرب تحت الأرض من عين الجر إلى قرية الإصطبل، قرب قب إلياس ولا منفذ له. وقرب قب إلياس صخور على أحدها صورة آلهة على زي المعبودات اليونانية، وعلى الثاني صورة ثور على ظهره أسد وعلى جانبه عجلتان. وكذلك صورة في الفرزل تمثل إلها غريب الشكل، ممتطيا جوادا ولابسا لبس الأسويين لعبادة الشمس.
ونقود كثيرة منها ما ظهر مؤخرا في تل زينة فوق الكرك، وهو قطع فضية عليها صورة خلفاء الإسكندر على وجه، وعلى الآخر نسر كبير وكتابة يونانية تدل على أنها صكت في صور. وفي مشغره مغاور أصلها مدافن قديمة على أبوابها نقوش زهور، وفي هذه القصبة آثار دير صالح وآثار وادي الحمام وقلعة عمارة والخرائب، وفيها آثار قساطل قديمة لجر المياه وحمامات وبلاط. وقلعة النمر، ومن المروي على الألسنة أنه كان لمشغره في القديم بوابتان تقفلان ليلا. وفي سحمر مغاور أشبه بمغاور مشغره وآثار دير عين الجوزة ومغاوره قديمة، ومغارة زلايا وهي ذات طبقتين كان يحاصر فيها المحاربون ولا سيما المعنيون، وهي في البقاع الشرقي في آخرها وبعدها إليا. وزلاية قرية بين يحمر وإليا. وفي مغارتها نبع قديم له صهريج ومنفذ، فلذلك لا تزيد مياهه ولا تنقص. وآثار عريض الرأس الممثلة قصرا قرب عيتنيت، وآثار عين التينة، ومغاور الخربة وآثار بحوشة فوق كرك نوح، وآثار دير النبي إلياس في السهل، وهناك أطلال أبنية قديمة ضخمة الحجارة وأساسات دير وقبرية على أسطوانة مستطيلة عليها كتابة بحروف رومانية،
8
وأجران حجرية مستديرة من جهة واحدة وحجارة منقوشة، ومغاور جب جنين وجبها القديم وكامد، وآثار السلطان يعقوب، وقصر الدكوة قرب عنجر، وقصر السويرة وباب مارع وعين زبدة. ومصنع قرية عرعان أو عرعار في البقاع الغربي على بعد ثلاث ساعات عن القرعون إلى الشرق الشمالي، وعلى بعد نصف ساعة عن قرية البيرة إلى الجنوبي الغربي، وهي اليوم خربة ومصنعها كبير معروف بالمقطع منقور في رابية من الصخر الأبيض، بطول نحو ثلاثين ذراعا وعرض 20 وعمق نحو15 ذراعا ، ومدخله منقور في الصخر اتخذ خزانا لجمع مياه الشتاء ولا تنفذ مياهه، فيسقي الرعاة منه ماشيتهم ويستقي منه أهل القرية لما كانت عامرة.
وللبقاع مداخل تمثل مضايق عسرة المرور، وكان مدخله العظيم الخطير درب المغيثة من قمة الجبل من المديرج
9
إلى خان مراد،
10
وكان فيه خفراء يدفع المارة لهم خفارة، ليؤمنوهم في الطريق ويقوهم من عيث قطاعه، وبقيت هذه الخفارة زمنا طويلا إلى سنة 1812م، فأبطلها الأمير بشير الشهابي الكبير وأذن للقوافل أن تسير بأمان دون تغريم، فسهل سبل المواصلات. ومن الجنوب كانت مداخله من صيدا ونيحا في الوادي بين تومات نيحا، وهناك درجة فرحات. وعلى كل من التومتين برج ومنارة وكان البرجان لحماية الوادي من دخول الأعداء في أيام الحروب. ومن جهة جزين في وادي السنديان قرب مشغره، ومن جهة بلاد بشارة (أو جبل عامل) في واد عميق من جسر برغز على الليطاني، ومدخل عريض الرأس قرب عيتنيت في واد، ومدخل وادي القرن من الشرق. ومدخل يحفوفه والزبداني، ومدخل سهل بعلبك من الشمال وكان يسمى قديما مدخل حماة، ثم مدخل جبل المنيطرة من جهة العاقورة، ومدخل زحلة بين صنين والكنيسة وغيرها. وكلها كانت محصنة بقلاع قديمة هدمت.
ولقد كانت الجبال المحدقة بسهل البقاع وبعلبك مكسوة بالأشجار على قممها وأسنادها وسفوحها حتى السهل، فأصبحت اليوم جرداء صلعاء وذلك للنوائب التي اجتاحتها، مثل مصادرة الحكام بإحراق الحراج والغابات للاقتصاص من المجرمين، واتخاذها للوقود والفحم الحطبي وتذويب الحديد وطبخ الكلس الحجري. وقد اكتشفت كتابة في أحد سفوحها الشرقية تذكر أن نبوخذ ناصر ملك بابل قطع الخشب من هناك لهياكله، وفي الصرود (الجرود) كتابات كثيرة تدل على حفظ الغابات وتحديدها، ومن أهم الغابات الباقية الآن حراج لوسا قرب الليطاني في آخر البقاع مقابل قضاء حاصبيا، وفيها النمر إلى يومنا وغاب ميدون في تلك الجهة ، وبعض بقايا غابات قديمة في بعض الضواحي منها غاب عميق وغيره، وحبذا لو أعيد غرس الغابات لاستفادت منها البلاد وتعدلت الأمطار.
ومن المعادن القديمة فيه الحديد في وادي السنديان قرب مشغره، والحمر في سحمر بالجبل الشرقي، وميدون بالجبل الغربي على حدود لوسا قرب حاصبيا، واستخرج في القديم النحاس من كلشيس (عين الجر)، ومعنى اسمها اليوناني النحاس. ومن بريتان أيضا. ولن تزال مزرعة جرن النحاس إلى يومنا دليل ذلك. والفرزل كلمة فينيقية أو سريانية بمعنى الحديد تدل على استخراجه منها قديما. وكان للبنانيين اليد الطولى في سبك الحديد وتطريقه وصنعه أدوات مختلفة إلى نحو منتصف القرن التاسع عشر الماضي، فصار الحديد السويدسي من أسوج وغيرها شائعا لرخصه، وبطلت صناعة استخراجه عندنا.
ومن صناعات هذا القضاء القديمة صناعة ضفر الحصر، لكثرة الأقصاب والسعد (نوع من القش) ونحوها في غاب عميق وما يجاوره؛ ولذلك اشتغل فيها معظم السكان. وقد روى أبو الفداء الحموي المؤرخ وابن بطوطة الرحالة وغيرهما أن البقاعيين أتقنوا هذه الصناعة، وأن السلطان يعقوب المغربي بعد أن ترك عرش الملك زهدا وجاء البقاع تزهد واشتغل بضفر الحصر، وأنكر ذلك المقري، وأشهر محل فيه لهذه الصناعة الآن خيارة فالسلطان يعقوب.
ومن ذلك عمل الفخار في قرية عيتا المشهورة بعيتا الفخار، وتربتها تصلح لكل أنواع الخزف المتينة ومنها تتخذ المواعين والأواني المختلفة الأشكال، كالجرار والخوابي ونحوهما. ولقد عمل من تربتها الآجر (القرميد) في فرنسة، فكان أمتن ما عرف من نوعه. ومن المريجات تربة صالحة لمثل ذلك.
وفيها منذ القديم صناعة الخمور والدبس والزبيب، ولن يزال اسم حمارة السريانية بمعنى المخمرة يدل على ذلك. وعرفوا أيضا بناء السفن؛ لأن بلادهم بقيت بحرة مدة طويلة.
واشتهر كثير من سكان هذه البقعة بصنعة البناء، ولا سيما عمل الجسور في الأنهر الجارية، وتجفيف الأرض لتعودهم ذلك، وقد اشتهر ابن بصيص البعلبكي باني جسري نهر الكلب والدامور وغيرهما في القرن الرابع عشر للميلاد، ولو لم يكن في بلادهم إلا قلعة بعلبك وبعض أطلال الهياكل الأخرى، لكفاهم فخرا بهذه الصناعة منذ القديم.
وعرفت فيه صناعة الغزل والنسج مثل نسج الخام وتطريزه، وكانت لالا والقرعون مشهورتين بنسج البسط الصوفية (الواديات) والشعرية (البلس).
واشتهرت الفرزل بعمل الملبن المسمى بجلد الفرس وهو من خصائصها، وكذلك الزبيب الجوزاني.
واشتهرت مشغره بعمل البارود، ولن تزال صناعته فيها وفي عيتنيت.
ومن بقايا صناعات البقاع الدباغة في مشغره، وهي متقنة كل الإتقان أشبه بدباغة زحلة، وصنع الخمور في كساره وشتوره، وفيهما معامل مشهورة في أوروبة ومعمل الخواجة سليم بولاد في شتوره أسس سنة 1878، وبعده معمل للمسيو برون الفرنسوي. وكذلك ضفر الأطباق (الصواني) وفيه مقاطع حجرية من المرمر
11 (شحم بلحم) أهمها في مشارف زحلة الشمالية وفي لالا، وأما في مشارف زحلة الجنوبية وجديتا فيوجد الأعبل أو الحجر السماقي، وهو أشبه بحجر كفر زبد، فلو اعتني بها لكان دخلها وافرا.
وروى المسيو مسبرو الفرنسي مدير المتحف المصري: أن قوما من سودان الصعيد جاءوا سورية. وكانوا يقطعون سبل المجتازين من بيروت إلى دمشق في مضايق المديرج وغربي البقاع والجهات الأخرى، وهم الذين أشار إليهم أبو الطيب المتنبئ في قصيدته بقوله:
إليك فإني لست ممن إذا اتقى
عضاض الأفاعي نام فوق العقارب
أتاني وعيد الأدعياء وإنهم
أعدوا لي السودان في كفر عاقب
ولو صدقوا في جدهم لحذرتهم
فهل في وحدي قولهم غير كاذب
وكفر عاقب قرية بفلسطين.
ولا غرو أن وادي القرن ووادي بكة ووادي فعره ووادي يحفوفه كانت مكمنهم ومكمن غيرهم من اللصوص، مثل الأيطوريين الذين استعمروا هذه البقعة مدة طويلة، وذكر ڤلاف يوسف واسترابون وغيرهما من المؤرخين: أن عساكر برمتها كانت تختبئ في المغاور المتسعة في اللبنانين، متخذة إياها كالحصون، وكان لبنان الغربي حاجزا بينهم وبين قرصان البحر الذين كانوا يهاجمون ثغور سورية البحرية، ويأسرون أرباب السفن وينهبون ما فيها.
وفي أيام الصليبيين أقيمت المراقب في هذا السهل على مشارف جباله وتلال سهوله، كما كانت بزمن الرومانيين وغيرهم لمنع الاعتداء.
وبعد الصليبيين كثرت المخافر في هذه الجهات مثل غيرها؛ منعا لدخول الإفرنج إلى البلاد ثانية، وفي أوائل القرن الرابع عشر للميلاد كان بريد خيل من بيروت إلى خان الحصين قرب بحمدون، ومنه إلى قرية زبدل فحان ميسنون فدمشق لنقل الأخبار، وكان حمام الزاجل (الرسائل) يطير بين بيروت ودمشق وغيرهما للمفاوضات، فهو تلغرافهم النهاري. أما تلغرافهم الليلي فالنيران موقدة على قمم الجبال، كما مر آنفا، وهو من بيروت إلى بيت مري فالكنيسة (بوارج) فجبل يبوس أو جبل الشيخ بقربة فجبل قاسيون (الصالحية) فوق دمشق فقلعة دمشق، وهكذا كان هذا السهل وصلة بين السواحل والمدن الداخلية.
وفيه مر كثير من التجار الأقدمين ناقلين تجاراتهم من جهة صور وصيداء وبيروت وطرابلس إلى دمشق وتدمر وحمص وحماه وحلب فبغداد وما وراءها. وكان أحد فروع تجارة فينيقية الشهيرة إلى بابل ونينوى يمر من صور إلى البقاع أو دمشق، وكان هذا السهل مخيم الفاتحين والغزاة في كل عصر، فنزل في مشارفه وسفوحه الأشوريون والكلدان والحثيون والفرس والمصريون واليونان والأيطوريون والرومان والسكيثيون والعرب والصليبيون والتتر والترك، وفيه مر عبدة الأوثان لزيارة عاصمتهم بعلبك، وفيه جرت الاحتفالات الكثيرة والأساطير الوثنية والمواقع الحربية. وبعض الأقاصيص القديمة ولا سيما ما تعلق منها بالآباء الأولين كما مر.
وفي هذا السهل نقلت أعمدة الحجر المانع أو الرخام المحبب أو أبي حبة
Granit
من معادنها في أصوان إلى هياكل سورية كبعلبك وتدمر، أما من طريق العاقورة على اليمونة أو من مضيق البقاع الجنوبي، ومن هذه الجهة كان النقل أسهل لاستواء الأرض وقلة ارتفاعها، وبعضهم يسمي هذا الحجر بالصواني وهو تحريف الأسواني. وكانت أهم مدن هذه البقعة بعلبك وخلقيس (عين الجر) وأبيلية (سوق وادي بردى)، حتى إنها كانت ممالك صغيرة آرامية قديمة جدا. أما بعلبك فكانت أزهر مدن البقاع؛ لوقوعها على طريق القوافل بين صور وتدمر تجاريا، ولكونها عاصمة الوثنية دينيا، ففي هياكلها جميع عباداتها على اختلاف أنواعها. وكانت دمشق مدة طويلة عاصمة سورية المجوفة، ولا سيما بزمن الآراميين أقدم سكان هذه الجهة، وعلى الجملة فإن سورية المجوفة أو وادي البقاع أشبه في آثارها القديمة بوادي الفرات في آسيا الصغرى وبوادي النيل في القطر المصري.
هوامش
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن الثامن عشر
روى بعضهم أن زحلة هي أبلية ليسانيوس، وقد مر تفنيد هذا الزعم. والصحيح أن أبلية هي سوق وادي بردى. وقال آخرون : إنها سلفكية (سلوقية). والصحيح أن سلوقية هي السويدية على مصب العاصي. كان فيها كرسي أسقفية فلما دخل العرب الشام نقل الروم مقر هذه الأسقفية إلى قرية معلولا، وبقي اسمها سلفكية
1
وأضافها الأرثوذكس إلى زحلة. وظن غيرهم أنها كلشيس أو خلقيس والصحيح أن هذه عنجر (عين الجر)، ولهذا لا نستطيع أن نعلم اسم مدينة زحلة القديم قبل خرابها إلا إذا كانت مسماة باسم هيكل زحل فيها،
2
وقد أشرنا إلى أنه كان مشيدا في علين. وإذا لم تصح جميع هذه الآراء، فالأولى أن تكون المدينة قد اشتهرت بعد خرابها بزحل أرضها وطمر آثارها القديمة، فتغلب عليها هذا الاسم وبقيت مدة لم تتجدد أبنيتها خشية أن تصاب بما أصيبت به قبلا، وفي لبنان أسماء قرى بهذا المعنى مثل عين زحلتا وبزحل وغيرهما.
أما موقع المدينة القديم، فربما كان في الوادي القائمة فيه الآن، ثم زحلت الأرض من الجانبين فطمرتها. أو أنها كانت في مشارفها الدنيا ممثلة مستعمرات صغيرة مثل المشيرفة وعلين وعين الدوق وكساره (قيصرية) وتل زينة. أو أنها كانت في محلة البساتين مثل دمشق؛ لأن فيها أطلال أبنية كثيرة تحت الأرض ولا سيما عرجموش وترحين. فكان البردوني يتخللها كما يتخلل بردى تلك، ويتوزع في أحيائها. وهكذا بنى الأقدمون مدنهم المجاورة للمياه مثل طرابلس الشام وجبيل وغيرهما.
وكانت أواخر القرن السابع عشر وأوائل الثامن عشر للميلاد معترك التحزب بين القيسيين واليمنيين،
3
ففي سنة 1693م عزل علي باشا عن أيالة طرابلس الشام وصار وزير الصدارة، ولما كان قد رأى في مقاطعة طرابلس عيث المشايخ الحماديين وفسادهم في البلاد؛ أرسل وهو على طريقه إلى الأستانة رسولا من حلب إلى الأمير أحمد المعني، يعرض عليه ولاية مقاطعة الحماديين في جبيل والبترون، والضرب على أيديهم ومنع شرهم عن مقاطعة طرابلس التي خلفه في حكمها أرسلان باشا المطرجي، فلم يقبل بذلك الأمير المعني، فأوغر صدر الوزير عليه وولى واليين من غير الحمادية على مقاطعاتهم، ففر الحمادية إلى الشوف، وصاروا يعيثون في البلاد ودهموا مدبر أرسلان باشا حاكم طرابلس، وقتلوا كثيرا من رجاله وابن الأمير موسى علم الدين اليمني، فرفع الشكوى أرسلان باشا إلى السلطان أحمد العثماني، وأخبره أن الأمير المعني هو الذي يساعد الحماديين على العيث في البلاد، وقد اعتصموا بمقاطعاته فأمر السلطان في هذه السنة بكف يد الأمير أحمد المعني القيسي، وإسناد الولاية إلى الأمير موسى علم الدين اليمني على مقاطعاته السبع؛ وهي الشوف والجرد والمتن والغرب وكسروان وإقليم جزين وإقليم الخروب. ثم أصدر أوامره السلطانية إلى الوزراء في سورية أن يجتمعوا بعساكرهم، ويقتصوا من الأمير المعني ومشايعيه لكثرة عيثهم.
فاجتمع الوزراء وخيموا في مرج عرجموش
4
قرب زحلة في محلة الفيضة الآن، وكانوا درسن باشا التفكجي والي حلب رئيس العساكر، وإسماعيل باشا والي دمشق، ومصطفى باشا والي صيداء، وأحمد باشا والي غزة، وأرسلان باشا المطرجي والي طرابلس، وعسكرهم ثلاثة عشر ألفا، فانضم إليهم جماعة اليمنيين وأحزابهم وبعض القيسيين مثل المشايخ النكديين، ومشايخ بني العيد والشيخ سيد أحمد أبي عذرا اليزبكي والشيخ حصن الخازن وغيرهم من مشايعيهم.
5
ففر الأمير المعني لترك معظم أصحابه إياه، والتجأ إلى الأمير نجم الشهابي في وادي التيم وبقي نحو سنة، فخربوا بلاده وصادروا قومه ولما لم يهتدوا إلى مخبأه انفض جمعهم كل إلى ولايته. وثبتت الولاية للأمير موسى اليمني، واعتز به اليمنيون فحرك ذلك دفين حقد القيسيين.
وسنة 1694 لما سكن الاضطراب، ظهر الأمير أحمد المعني واجتمع إليه القيسيون، فنهض بهم من وادي التيم إلى الشوف ومعه الأميران نجم وبشير الشهابيان برجالهما. فلما وصل الشوف ذهب الأمير موسى الحاكم من دير القمر إلى صيداء ملتجئا إلى واليها مصطفى باشا، فأعيد الحكم للأمير أحمد بعد استرضاء الدولة عليه.
ولما استلم الأمير أحمد المعني الولاية، سعى بالأمير اليمني خصمه لدى والي صيداء المذكور، فأرسل إليه هدية فاخرة وكتب إليه «أنه يخشى أن يخدعه الأمير اليمني ، كما خدع أبوه الأمير علي والي دمشق بشيرا باشا في واقعة وادي القرن.»
6
ولما كان الوزير قد رأى تقلب الأمير اليمني بآرائه وعدم ثباته على عهده، صدق قول الأمير المعني، فطرد الأمير اليمني ومال إلى الأمير المعني وأحبه وكتب إلى السلطان مصطفى الجديد يلتمس له منه العفو وتقرير الولاية، وأرسل له مائة ألف غرش، فقرر المعني على الولاية وحسنت حاله، وسنة 1696 فرض المعني مال (المسعدة) على الشوف، ولكنه دهمته المنية في 15 أيلول سنة 1697 بلا عقب وانقطعت سلالته من الذكور.
ولما كانت أخت الأمير أحمد المعني، متزوجة بالأمير حسين الشهابي أمير راشيا، وكان لها منه ولد اسمه الأمير بشير، اتفق أعيان البلاد جميعا على توليته حكم المعنيين خلفا لهم.
وسنة 1697 قدم اللبنانيون بالأمير بشير حسين الشهابي من راشيا إلى دير القمر، وبايعوه فيها الولاية بحفلة حافلة فكان أول الأمراء الشهابيين حكام لبنان، فتحولت إليه مقاطعات المعنيين ومتخلفاتهم ورتبت عليه الأموال لأيالة صيداء حسب العادة. واستأذنوا السلطان مصطفى العثماني بذلك، فأمر بتقرير ولاية لبنان بواسطة الأمير حسين ابن الأمير فخر الدين المعني نزيل الأستانة على الأمير حيدر موسى الشهابي؛ لأنه ابن بنت الأمير أحمد المعني، فهو أحق من ذاك بالولاية. ولما ورد الأمر بتقرير الولاية للأمير حيدر توسط الأمير بشير الأمر مع أرسلان باشا والي صيداء أن يعرض للسلطان أن الأمير حيدر قاصر؛ لأنه ابن اثنتي عشرة سنة وأن عمه الأمير بشير كفء للنيابة عنه إلى أن يبلغ ذاك أشده، وهكذا كان. أما اليمنيون فاعترضوا على ذلك، ولما لم يجب طلبهم فر أمراؤهم آل علم الدين إلى دمشق وسكنوا في غوطتها، فاستفحلت الشحناء بين القيسيين واليمنيين على حد قول المتنبئ بهذا المعنى:
برغم شبيب فارق السيف كفه
وكانا على العلات يصطحبان
كأن رقاب الناس قالت لسيفه
رفيقك قيسي وأنت يماني
والأجدر أن يقال الآن:
إن عصرا نهجه حب الوطن
عصر نور قد محا ليل الفتن
كلنا يا صاح فيه أخوة
ليس فرق بين قيس ويمن
وما ثبتت ولاية لبنان للأمراء الشهابيين أخلاف المعنيين، حتى خرج عليهم الشيعيون (المتاولة) في جبل عامل، والحرفوشيون في البقاع وبعلبك، والحماديون في بلاد جبيل، وغيرهم في غيرها؛ وذلك لأن الشهابيين من القيسيين وهؤلاء من اليمنيين.
ففي سنة 1700م، خرج الشيخ مشرف بن علي الصغير
7
المتوالي اليمني صاحب مقاطعة بلاد بشارة عن طاعة أرسلان باشا المطرجي والي صيداء، وقتل بعض غلمانه، فاستنجد الوزير الأمير بشيرا الأول الشهابي لقتاله، وأطلق له ولاية صفد مع مقاطعات جبل عامل الثلاث وهي: مقاطعة بلاد بشارة وكانت لبني علي الصغير، ومقاطعة إقليمي الشمار أو الشومر والتفاح وكانتا لبني منكر، ومقاطعة الشقيف وكانت لبني صعب. فجمع الأمير بشير من رجاله القيسيين ثمانية آلاف مقاتل، وزحف بهم إلى قتال المتاولة، فقابلهم في قرية المزيرعة من بلاد بشارة، وانتصر عليهم وقبض على مشرف بن علي المذكور وشقيقه الحاج محمد ومدبرهما الحاج حسين المرجي، وأرسلهم إلى أرسلان باشا فقتل الحاج حسينا وسجن مشرفا وأخاه، وامتدت ولاية الأمير من صفد إلى جسر المعاملتين. ووقعت العداوة في البلاد بين المتاولة وغيرهم من سكانها. ولما مات الأمير بشير سنة 1707م وخلفه الأمير حيدر وعزل أرسلان باشا وخلفه أخوه بشير باشا، عاد بنو علي الصغير إلى العيث في مقاطعاتهم، وانضم إليهم المناكرة والصعبية؛ لأن بشير باشا أعاد لهم مقاطعاتهم، فجمع الأمير عسكرا وسار إليها للاستيلاء عليها ولقتال المتاولة المذكورين، فبلغ قرية النبطية فالتقاه المتاولة خارجها فتصادموا وكسرهم وقتل كثيرا منهم، فالتجأ بعضهم إلى القرية وتحصنوا فيها، فأغار عليهم وأعمل فيهم السيف حتى مزق شملهم وقتل معظمهم، فجلا بنو علي الصغير عن بلاد بشارة واستولى عليها الأمير، ووضع محمودا أبا هرموش الدرزي نائبا عنه ليجبي الأموال الأميرية، وعاد إلى دير القمر وكان ذلك سنة 1708م.
أما محمود أبو هرموش فظلم الناس، وأخذ أموالا زائدة عن المرتبات المعينة، فنمى ذلك إلى الأمير حيدر فاستقدمه للمحاسبة نحو سنة 1710م، ففر إلى صيداء والتجأ إلى واليها بشير باشا، وكان يحبه لكثرة هداياه له فحماه مدة. وأرسل فأثار بعض الأمراء والأعيان اليمنيين في الغرب والجرد بمساعدة الأمير يوسف أرسلان حاكم الغربين الأعلى والأدنى (في الشوف). وانحاز أبو هرموش من الحزب القيسي إلى اليمني، وصار من زعمائه وتبعه بعض القيسيين، فصاروا يمنيين فتقوى اليمنيون في الشوف واستولى كبيرهم الأمير يوسف علم الدين مع محمود أبي هرموش على لبنان، فترك الأمير حيدر دير القمر بولديه الأمير ملحم والأمير أحمد وتبعه من أعيان البلاد الشيخ قبلان القاضي وولده الشيخ أمين والشيخ علي النكدي والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخان محمد تلحوق وولده شاهين. وبقي له في البلاد حزب آخر مثل الأمراء اللمعيين مقدمي المتن وغيرهم من الأعيان.
فسار الأمير حيدر بمن تبعه إلى غزير وأرسل عياله إلى مقاطعة الفتوح إلى المشايخ الخازنيين. فما وصل محمود أبو هرموش إلى دير القمر حتى استقدم إليه الأمراء آل علم الدين من دمشق؛ إذ كانوا قد فروا إليها كما مر، وأرسل عسكرا إلى غزير لقتال الأمير حيدر الذي أنجده المشايخ الحبيشيون، وانتشب بينهم القتال من الفجر إلى المساء. فاندحر عسكر أبي هرموش إلى جهة البحر متقهقرا. وفر الأمير حيدر بأعوانه، واختبأ في مغارة فاطمة أو مغارة عزرائيل في سفح جبل الهرمل، وفر الغزيريون إلى جهات طرابلس.
ولما خلت غزير من القيسيين أغار عليها اليمنيون سحرا، فنهبوها وأحرقوها حتى تركوها قاعا صفصفا وقيل في تأريخها: «ندمت غزير 1711».
8
وعاد عسكر أبي هرموش إلى دير القمر، وقد كثر قتلاه وجرحاه، فتحامل على القيسيين وصادرهم ورفع منزلة اليمنيين، وتزوج ابنه من أمراء آل علم الدين، وصار مدبرا لشئون حاكمي لبنان منهم وهما الأمير يوسف وشقيقه الأمير منصور، فصار زمام الولاية بيده، فحصر المقاطعات باليمنيين وضرب على أيدي القيسيين، ولم يبق لهم حرمة ولا حفظ لهم عهدا، فأضمر القيسيون له ولأعوانه السوء وسعوا في جمع كلمتهم والتئام شملهم واستعادة سلطتهم. وهكذا حمي وطيس التحزب في أنحاء لبنان وضواحيه بسبب هذه العصبية، واضطرب حبل الأمن وانتشرت القلاقل، فصارت البلاد ميدانا للمشاحنات والتعصبات ومثارا لعواصف الفتنة، ومهبا لزعازع المخاصمات في جميع المقاطعات.
ولما كان حكام صيداء وعكاء ودمشق وطرابلس يرون سلطة الإقطاعيين وسطوتهم واعتزازهم بالمال والرجال، سعوا بخضد شوكتهم وتفريق كلمتهم، فكانوا يثيرون فيهم العصبيتين القيسية واليمنية وينحازون إلى أحد الحزبين لإضعاف الآخر، فأوقظوا بذلك طرف الفتنة وكثرت الدسائس، وانتشر الخداع بين القوم فأخذوا يتطاحنون ويتنابذون. وكانت قرية عين دارة إذ ذاك قد اعتصم بها اليمنيون وتقووا وبنوا لهم فيها حصونا منيعة، ووقفوا في طريق المارة من القيسيين في أعلى الجبل، وكان أكثر مقدمي المتن والجرد وشيوخهما يمنيين وعين دارة نقطة اجتماعهم، وهي من العرقوب في الشوف.
وسنة 1711م عقد القيسيون اجتماعات كثيرة قرروا فيها الضرب على أيدي اليمنيين، فأرسلوا يستقدمون إليهم زعيمهم الأمير حيدر الشهابي بواسطة المشايخ الخازنيين، وكان هذا لن يزال مختبئا في الهرمل ومعه بعض أعوانه، فقدم إليهم برجاله المذكورين، وسار إلى قرية رأس المتن ونزل عند المقدم حسين بن عبد الله بن قيدبيه بن محمد اللمعي زعيم أحزابه، وراسل مشايعيه القيسيين في الشوف وغيرها واستقدمهم إليه، فاجتمع عنده المقدم مراد ابن المقدم محمد والمقدم عبد الله اللمعيان برجال المتن، والشيخ سيد أحمد أبو عذرا والشيخ سرحال العماديان برجال الباروك وما يليها، والشيخ خازن الخازن برجال كسروان، والشيخ علي أبو نكد برجال المناصف، والشيخ محمد تلحوق برجال الغرب، والشيخ جنبلاط عبد الملك والشيخ قبلان القاضي وغيرهم.
فلما علم محمود أبو هرموش بذلك، بعث إلى أنسبائه الأمراء السبعة من آل علم الدين الفارين كما مر قبلا، فحضروا إليه من غوطة دمشق بتسعمائة من أعوانهم، وانضم إليه جميع الأحزاب اليمنية من الجرد والمتن والغرب وغيرهم، فاشتد بهم أزره، وكتب إلى حليفيه بشير باشا والي صيداء ونصوح باشا والي دمشق يستصرخهما، فجاء والي صيداء المذكور برجاله إلى حرش بيروت، ثم إلى بيت مري في المتن، ووالي دمشق الموما إليه إلى قب إلياس في البقاع، ثم إلى المغيثة فوق حمانا في الجبل حسب طلب أبي هرموش، الذي نهض بعسكره إلى عين دارة ليجتمع بأعوانه، ويزحف على الأمير حيدر بيوم واحد.
أما الأمير حيدر، فلما علم بوصول محمود باشا إلى عين دارة، قصدها برجاله الذين اجتمعوا عنده في عين زحلتا، وقسم عسكره إلى ثلاثة أقسام وفاجأوا عين دارة. وكان أسرع من زحف إليها اللمعيون؛ لأنهم ساروا في وادي قطليج عند جسر شمليخ، فوصلوا إلى رأس القرية قبل غيرهم.
فدخل إليها أولا المقدم عبد الله وولده المقدم حسين برجالهما المتنيين الأشداء، واضطرمت نار الحرب وأبلوا بلاء حسنا. فدخل عسكر الأمير حيدر القرية عنوة، واشتبك القتال بين الحزبين حتى كثر عدد القتلى، وكان كل من له عدو يفتك به، فقتل المقدم حسين اللمعي الأمير محمدا الصواف عدوه صاحب المتن اليمني واثنين من آل علم الدين. وما تكبدت الشمس السماء حتى عقد لواء النصر للقيسيين، واستظهروا على اليمنيين الذين تمزق شملهم كل ممزق. وقبضوا على محمود أبي هرموش وأربعة من الأمراء اليمنيين وهم الأمراء يوسف وعلي ومنصور وأحمد من آل علم الدين الذين قتلهم الأمير، فظن المؤرخون أن سلالتهم انقطعت؛ لأنهم كانوا سبعة، فقتلوا منهم أربعة بعد أسرهم وفي الموقعة ثلاثة، ولكن فر أحدهم من تحت السيف إلى دمشق
9
فأحيا سلالتهم.
ولما فاز الأمير في هذه الموقعة، أقطع أعوانه القطائع وأعاد إلى مقدمي آل اللمع إمارتهم،
10
وكتب إلى الباقين الأخ العزيز، فصاروا من طبقة المشايخ ولهم امتيازاتهم الخاصة،
11
وتزوج من الأمراء اللمعيين وزوجهم، فتوثقت بين الأسرتين الشهابية واللمعية علائق المودة. وأكثر الأمير حيدر قطائعهم وصفت له كأس الراحة.
فبعد موقعة عين دارة هذه، أطلق لقب الإمارة على اللمعيين،
12
ونالوا الحظوة عند الأمراء الشهابيين، فنفذت كلمتهم عندهم وتزوج الأمير حيدر رأس الشهابيين وحاكم لبنان بالأميرة طفلا ابنة الأمير حسين اللمعي،
13
وزوج أخته الأميرة غضية بالأمير عبد الله اللمعي،
14
وأقطعه قاطع بيت شباب، وأعطى الأمير مرادا بن المقدم محمد اللمعي نصف حكم المتن وبسكنتا،
15
وتزوج بوالدته أم محمد
16
التي كانت مترملة إذ ذاك وأحبه كثيرا ووسع إقطاعه مكافأة على بسالته وإكراما لزوجته، وهكذا دخلت زحلة في إقطاع اللمعيين، وصارت من أملاكهم فبدءوا منذ الآن يستعمرونها.
وكانت زحلة في القديم تابعة للبقاع، وبعلبك تحت حكم الشام، لاتجاهها إلى السهل واتصالها به، ولا سيما أن لبنان الغربي بقي مدة يحده منقلب الماء الشرقي من الجبل. ثم قسمت معاملة لبنان إلى اثنتين؛ إحداهما معاملة صيداء، والثانية معاملة طرابلس. فالأولى كانت من جسر المعاملتين تحت غزير في كسروان المسمى بالمعاملتين؛ لأنه تخمهما إلى نهر الأولى عند صيداء. ومعاملة صيداء هذه صارت سنة 1660 وزارة، وصار حاكمها يلقب بالباشا، وأول من استمد لها ذلك أحمد باشا الكبرلي والي دمشق، فولى عليها علي باشا الدفتردار واستوزره، وتوالى عليها الوزراء. وكان يتبعها من المقاطعات الشوف والجرد والمتن والغرب وكسروان وإقليم جزين وإقليم الخروب. وبزمن الشهابيين سنة 1700 امتدت ولايتها من جسر المعاملتين إلى صفد.
وأما معاملة طرابلس الشام، فقد جعلتها الدولة سنة 1579 وزارة لكسر شوكة الأمير منصور العسافي، الذي امتد ملكه سنة 1572 من جسر المعاملتين إلى حماة، وكان أول وزير تولاها يوسف باشا سيفا الكردي، ومن مقاطعاتها بلاد جبيل والبترون وجبة بشري والكورة والزاوية والضنية وعكار والحصن وصافيتا.
وكانت ولاية لبنان بزمن الأمير فخر الدين المعني الشهير قد امتدت من حدود حلب إلى تخوم القدس، وسمي سلطان البر وذلك سنة 1624م، واشتهر بحروبه مع بني سيفا والحرفوشيين وغيرهم من المجاورين، على أن لبنان كان يتسع ويضيق بحسب نفوذ حكامه وسطوتهم، حتى اتصل بعجلون وحوران وغيرهما.
أما مدينة كرك نوح القديمة التي كانت زحلة إحدى مستعمراتها، فكان الأمراء الحرافشة قد بنوا فيها وفي قب إلياس وسرعين ومشغره دورهم، واتخذوها بعد بعلبك حواضر لولايتهم البعلبكية. فلما اعتدى الأمير يونس الحرفوشي على الشوفيين «نسبة إلى جبل الشوف في لبنان»، الذين كانوا يزرعون في البقاع أراضي اشتروها من زمن الأمير منصور فروخ
17
ومنعهم من زراعتها، وضبط للأمير علي المعني تل النمورة عند قب إلياس وكان مختصا به. استاء المعنيون من الحرفوشيين، وطردهم الأمير فخر الدين المعني من كرك نوح سنة 1621م، وسنة 1622 تحصن الأمير يونس الحرفوشي في قبر نوح بالكرك، ومعه نحو مائة من سكانه، فحاصرهم الأمير فخر الدين، وقتل من الحرفوشيين نحو 40 ومن رجاله خمسة، واستولى على الكرك. وأحرقها في اليوم الثاني حتى لم يبق فيها بيت، فخربت من ذلك الحين، وصارت هي وزحلة وضواحيهما مغارس للكروم، ثم سكنها بعض الشيعيين هي ومشارف زحلة، ولكنها لم تكن إذ ذاك إلا مزارع صغيرة لا شأن لها، وكانت زحلة غابات غبياء على ضفتي النهر تسمى بوادي النمورة؛ لكثرة النمر فيها. وكثيرا ما كان يقصدها أمراء لبنان وبعلبك ووادي التيم للصيد والتنزه.
فلم يتنفس صبح العقد الأول من القرن الثامن عشر، حتى كانت زحلة بيد الأمراء اللمعيين الذين مر ذكرهم. وكان اللمعيون إذ ذاك من الطائفة الدرزية كما مر، فقويت شوكة الدروز فيها وفي البقاع، وكثر فيها أهل المتن من مقاطعة اللمعيين من دروز ومسيحيين. وكان في زحلة لكل أمير منهم حوش
18
يسمى باسمه وهي ثلاثة أحواش إذ ذاك؛ حوش الأمير مراد من أمراء قرنايل، وفالوغا وموقعه محل دار المرحوم يوسف حجي الآن، قرب كنيسة سيدة الزلزلة الأرثوذكسية، وحوش الأمير يوسف قرب كنيسة القديس إلياس «للمخلصيين» غربي حوش الأمير مراد، وشماليه حوش الحواطمة،
19
فكان الأرثوذكس قد بنوا كنيسة سيدة الزلزلة قرب محلة البيادر؛ لإقامة فروضهم الدينية، فهذه حالة زحلة في آخر الربع الأول من القرن الثامن عشر.
وكان سكان زحلة الأولون من اللبنانيين، ومن الفرزل وأبلح ممن حدثت بينهم وبين الأمراء الحرفوشيين الشيعيين موقعة قتل فيها أمير منهم، فتحاملوا عليهم، فجاء المتهمون إلى الأمراء اللمعيين وسكنوا في مقاطعاتهم بزحلة، فرفعوا عنهم تعديات الحرفوشيين. وكانت أسرة الحاج شاهين المعروفة بسلالة إبراهيم الحنا النصراني قد تبعت السلطان سليم العثماني فاتح سورية سنة 1517م من مسقط رأسها كفربهم قرب حماه إلى سورية المجوفة (البقاع وبعلبك)، فأقطعها قرية ترحين قرب عرجموش، وترك لها الأموال الأميرية ببراءة كانت في أيدي أبنائها سلموها إلى حكومة دمشق، وحدث في تلك الأثناء بينها وبين السياد في بر إلياس خصام استفحل أمره، فتركوا ترحين وجاءوا زحلة واستوطنوها. وكان بنو شحادة الخوري صعب من بعلبك وغيرهم من البعلبكيين قد تركوا بعلبك؛ لجور الحرفوشيين وسكنوا زحلة، فاجتمع من هؤلاء مستعمرة صغيرة مسيحية في إقطاع الأمراء اللمعيين مع المتنيين، فضلا عمن كان في البلدة من الدروز كالحواطمة وبني القنطار وبني حسان. ومن المسلمين كبني الطرابلسي الذين سكنوا إذ ذاك في حي مارتقلا «الآن»، ثم انتقلوا إلى دمشق بعد ذلك ولم يبق منهم أحد في زحلة . فهكذا بدأت زحلة الحديثة تعمر وتنمو.
وكان إذا أراد أحد من المهاجرين أن يقطن زحلة يستأذن الأمير الذي يريد أن يحل في حارته أو حوشه، فيعطيه محل البيت وجائزا (جسرا) من الصنوبر وروافد (ما يوضع على الجسور لسقف البيت)، فيصير هو وعيلته خاصا بالأمير ومن عهدته، فيأخذ منه كل سنة أربع مصاري
20
مال عنقه. وكانوا يقطعون الأشجار القديمة؛ ليعمروا محلها لكثرة الأدغال والحراج.
وكان الأمير يرسل من قبله وكيلا أو دهقانا (خوليا) يدير حوشه، ويقضي حاجات عهدته، وكثيرا ما يزور زحلة ترويحا للنفس ومشارفة لأعمال وكلائه. ويصطاد في المدينة الكثيرة الأطيار والوحوش. وقد جاء مرة الأمير مراد بن شديد اللمعي ليصطاد ويستثمر غلة زروعه؛ لأن الزرع كان في السهل والجبل والدياسة على البيادر، التي هي باقية إلى اليوم بجوار السراي. وكان عنده باز مولع به كثيرا يستخدمه للصيد. فوقع مرة في جداد (هيش) قرب الأنزال (اللوكندات) الحديثة حذاء عين الدويليبي اليوم. ولحب الأمير إياه وحرصه عليه أمر أن تقطع مشتبكات النباتات، حيث سقط ويفتش عليه، فوجد ذلك البازي في قنطرة طاحون قديمة سالما، فأخرج وانتبه الأمير إلى إقامة طاحون على أنقاض القديمة، فبناها وسميت باسمه؛ أي طاحون مراد وهي إلى اليوم، فكانت أول طاحون شيدت في هذا القرن بعد استعمار زحلة الأخير.
وسنة 1720 نقل المطران أفتيموس فاضل المعلولي الكاثوليكي داره الأسقفية من الفرزل إلى زحلة، وابتنى له فيها دارا صغيرة. وفي هذه الأثناء بني رهبان مار يوحنا الشوير دير مار إلياس بقلب البلدة، وهو الذي أعطوه للمخلصية بعد ذلك.
21
وسنة 1740 بنيت كنيسة للكهنة غير الرهبان قرب تلك الأحواش باسم القديس جاورجيوس، التي هي الآن بيد الرهبان الحلبيين الكاثوليكيين، ووسعت سيدة الزلزلة للروم الأرثوذكس.
وسنة 1741 حدثت موقعة بين الأمير ملحم الشهابي حاكم لبنان وأسعد باشا العظم والي دمشق في البقاع، فانهزم عسكر دمشق فتأثره عسكر الأمير إليها، ثم رجع فأحرق قرى البقاع، وكان في عسكره بعض الزحليين.
وسنة 1743 حصل اختلاف بين الأمير ملحم والأمراء اللمعيين، ثم تصالحوا بعد أن لحق الزحليين خسائر.
وسنة 1744 عصى متاولة جنوبي لبنان على حاكمه الأمير ملحم الشهابي، فجرد عسكرا من مقاطعاته كان بينه بعض الزحليين وهاجم المتاولة إلى قرية أنصار، فاستظهر عليهم وعرف اللبنانيون ببسالتهم من ذلك العهد.
22
وسنة 1747 جاء البقاع أسعد باشا العظم حاكم الشام لمحاربة الأمير ملحم حاكم لبنان، فالتقاه هذا بعسكره اللبناني الباسل، وفيه الزحليون إلى بر إلياس، فظفر به وبعسكره وهزمه إلى دمشق، فطار صيت اللبنانيين ببسالتهم وثباتهم في مواقف القتال.
وسنة 1748 حدث بينهما اقتتال في صحراء بر إلياس، وظفر الأمير وأحرق قرى البقاع، وسباها وصار غلاء شديد.
وفي تلك الأثناء كان أمراء صليما اللمعيون قد ابتنوا حوشا في ساحة القمح العتيقة،
23
وأمراء المتين اتخذوا حوشا وراء دير القديس أنطونيوس للرهبنة اللبنانية البلدية المارونية،
24
وهنا كان سكن بعض بني القنطار الدروز.
وكان للأمراء اللمعيين في تلك الأيام فريضة على سكان زحلة ثلاثة غروش على كل مكلف، ومال أميري حدا على الكروم. وامتدت سطوتهم في زحلة والبقاع وبعلبك، وكل أمير يحمي سكان حارته الذين من عهدته ويدافع عنهم بقوته. ولم يكن لحاكم لبنان العام الشهابي مال معين على السكان؛ بل كان يصادرهم (يبلصهم) بما يريد من الأموال وما يضرب من الضرائب، وهكذا كان الحال في زحلة. ولما اشتهرت برواج أعمالها بعد ذلك العهد، انصبت إليها صادرات البلاد المجاورة لها، فرتب الأمراء فيها حسبة على المد والقبان، واحتكروا هم بأنفسهم دخلها كما سيأتي.
وفي تلك الأثناء كان الرهبان الشويريون الذين ابتنوا كنيسة النبي إلياس في قلب البلدة، قد سلموها للرهبنة المخلصية
25
وهي صغيرة جدا وابتنوا عوضها كنيسة القديس ميخائيل؛ لأن البناء كان قد تكاثر حولها؛ لازدياد المهاجرين من لبنان وبعلبك.
وفي سنة 1750م جاء كثير من اللبنانيين زحلة والبقاع وبعلبك وتوطنوها وبينهم بنو المعلوف ، فابتنى هؤلاء لهم بيوتا حول الدار الأسقفية، فسميت الحارة باسمهم؛ أي حارة المعالفة.
26
وفي هذه السنة تطاول المشايخ المناكرة على إقليم جزين وقتلوا اثنين من خدام الشيخ علي جنبلاط، فشق ذلك على حاكم لبنان الأمير ملحم الشهابي، فجمع عسكرا من لبنان بينه الزحليون وسار بهم إلى جباع الحلاوة، فهرب المتاولة من وجهه، فاستظهر عليهم وأحرق كثيرا من قرى جبل عامل وقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقطع أشجارهم وأحرق بلاد الشقيف وبلاد بشارة، وفر بعضهم إلى مزار تحصنوا به فوجه إليهم كتيبة من الجيش بقيادة الأمير مراد اللمعي بعسكر المتن وزحلة والشيخ ميلان الخازن بعسكر كسروان، فظفروا بهم وأهلكوهم جميعا. ولما عاد إلى دير القمر منصورا، وزع غرامة على أهل بلاده تعويضا عما دفعه من الأموال السلطانية على كل رجل غرشا، فأبى الإقطاعيون ذلك فعدل عن مطلوبه مكرها، وأخذ يلقي الدسائس والفتن بينهم، ولا سيما بين الأمراء اللمعيين والمشايخ النكديين حتى تغلب عليهم لانقسام كلمتهم.
وفي تلك الأثناء ظلم الشيخ شاهين تلحوق في البقاع وقطع الطريق على المسافرين. فوجه سليمان باشا حاكم دمشق نائبه بعسكر لمناصبته ورفع تعديه. فدهم الشيخ شاهين في قرية تعنايل، فهرب وقتل من حاشيته ثلاثة رجال. فجمع الأمير ملحم عسكره وبينهم الزحليون ودهم النائب، فهزمه إلى دمشق وقتل عددا من عسكره. فأوغر ذلك صدر سليمان باشا، وتأهب للخروج إلى بلاد الشوف بعساكره اقتصاصا من الأمير ملحم، فتوسط الأمر مصطفى القواس والي صيداء، وجاء البقاع وأصلح بين الحاكمين ذات البين، على شرط أن يدفع ملحم لسليمان باشا خمسة وسبعين ألف غرش بدل نفقة عسكره، وأرسل الأمير ملحم أخاه الأمير عليا رهنا إلى مدينة صيداء، فوضع في خان الإفرنج خمسة أشهر، فوزع الأمير ملحم المال السلطاني على بلاده مضاعفا، وفك أخاه من الرهن فلحق الزحليين خسائر كثيرة.
وفيها صار ثلج عظيم كان في زحلة كثير الارتفاع، فسد طرقاتها واتصل إلى ساحل بيروت، حتى كان على المراكب ثلاثة أشبار وعقبه ضيق وجوع وغلاء.
وسنة 1751 كثر الخصام بين الأمير ملحم الشهابي حاكم لبنان والمشايخ النكديين، وتوسط أمرهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبيا، فعادوا إلى المناصف بعد أن نزحوا من دير القمر إلى وادي التيم، وكان في البلاد قلق شديد اتصل بزحلة وضواحيها.
وسنة 1753م قتل الأمير إسماعيل اللمعي ابن عمه الأمير أسعد، فركب الأمير منصور الشهابي الحاكم إلى المتن وزحلة، وصادر القاتل وأتلف أبنيته وأغراسه، وضبط ما بقي من أملاكه، وبعد ذلك رضي عنه وأخذ منه عشرين ألف غرش وزعها على مقاطعته، فلحق زحلة قسم منها.
وسنة 1754م/1168ه ابتاع الرهبان الشويريون من الأمراء فارس وأحمد ومنصور مراد اللمعيين من الشبانية محلة الطوق
27
التابعة لحزرته،
28
وهي من خندق الجحش فوق القطين مقابل وادي العرايش إلى وادي أبي كحيل في حدود كرم البالوع
29
بثمن سبعمائة وثمانية وسبعين غرشا، يدفعون لهم عنها المال الأميري في السنة أربعين غرشا، ومن سكن في هذا الموضع يجب أن يدفع للأمراء ثلاثة غروش إلا ربعا، ويعفى من ذلك الأجير والمكاري. والوثيقة (الحجة) كتبت باسم رهبان مار يوحنا الطبشي
30
الحلبيين الخوري نقولا الصائغ الرئيس العام، والقس أغناطيوس جربوع والقس يعقوب الصاجاتي والقس بولس كسار والقس بوخوميوس. واستأذن هؤلاء الرهبان المطران أفتيموس فاضل المعلولي مطران الفرزل وزحلة ببناء دير النبي إلياس الطوق، المسمى باسم القطعة المشتراة المشتهرة باسم الطوق، فشرعوا في بناء هذا الدير سنة 1755م، وبنوا الطبقة السفلى منه وراء محله الحالي الآن لجهة الغرب.
أما محلة عين الدوق على عدوة وادي البردوني الشمالية، فأخذوها باسم راهبات دير البشارة في الزوق (كسروان) وبنوا كنيستها القديمة محل المأوى «الأنطوش» الآن، وبعد قسمة الرهبانية إلى حلبية وبلدية خصصت بدير زرعايا
31
في لبنان.
ونحو سنة 1756م ضرب الأمير حسين الحرفوش ضريبة فادحة على سكان قرية راس بعلبك، فعجزوا عن دفعها فحاربهم وصادرهم، فهجروا بلادهم وجاءوا زحلة ملتجئين إلى الأمراء اللمعيين. فأرسلوا وفدا منهم إليهم في الشبانية يستأذنونهم في النزول بزحلة والسكنى فيها، فأذنوا لهم بالإقامة فيها واستعمار جهتها الغربية، فبنوا حارة الراسية المنتسبة إليهم حتى الآن. وكانت الرهبانية تتساهل مع سكان هذه الحارة ، وتسهل لهم أسباب الإقامة، فتعطيهم محل البيت وتساعدهم بعماره وتقطع لهم من غاباتها الخشب لسقفه، فتكاثروا فيها وصاروا شركاء الدير، وبينهم المكارون فعمرت الجهة الغربية من زحلة.
وعلى الجملة فكان الذين من خاصة الأمراء اللمعيين يتبعون الرهبنة المخلصية، والذين من خاصة آل قيدبيه يتبعون الرهبنة الشويرية . وكانت حارة المعالفة مختصة بأمراء صليما من بني قيدبيه؛ لأنهم كانوا من عهدتهم قبل مجيئهم من كفر عقاب وكفر تيه في قضاء متن لبنان.
وسنة 1757م في شهر حزيران مات الأمير فارس اللمعي حاكم الشبانية في لبنان، فأقيم له مأتم حافل حسب عادة تلك الأيام حضره اللبنانيون وبينهم الزحليون، وكانت مناحته عظيمة عند هؤلاء؛ لأنه سعى بعمران زحلة وأحب سكانها، فحزنوا عليه كثيرا وخلفه ابنه الأمير سلمان الذي أحبهم مثل أبيه.
وسنة 1758م ارتفعت أسعار الحنطة في زحلة، وحصل ضيق شديد على سكانها، وامتد الغلاء في جميع سورية، ومات كثيرون جوعا ولا سيما في حلب.
وسنة 1759م في 19 تشرين الأول حدثت زلزلة (هزة) في الصباح، وقتل فيها كثيرون وخربت كنيسة السيدة الأرثوذكسية، فسميت بعد تجديدها بسيدة الزلزلة. وأعادت الكرة في نصف تشرين الثاني من تلك السنة بعد غياب الشمس، فأخربت بلاد بعلبك ونواحيها وجهات الشام، وقتل نحو ثلاث مائة نفس، فأضرت بأبنية زحلة مع حقارتها إذ ذاك، وهدمت كثيرا منها وقتلت بعض سكانها. وبعد أن انقطعت معاودتها رممت أبنيتها وكنائسها بمساعدة الأمراء.
وسنة 1760م تفشى طاعون جارف عم بلاد الشرق، وأفنى كثيرين في مدنها ولا سيما حلب ودمشق، وامتد إلى زحلة ولبنان، فأمات كثيرين في زحلة وفر الناس إلى الأديار والجبال العالية مذعورين، وبقوا مدة طويلة إلى أن تقلص ظله.
وسنة 1761م في 17 نيسان عادت الزلزلة في الساعة الثانية ليلا، وهدمت رأس بعلبك برمتها ودير السيدة فيها، وقتلت خلقا كثيرا بأنقاض المهدومات منها، وبينهم أربعون امرأة كن في محضن (مدخن) القز وأصاب زحلة بعض الضرر، ولجأ إليها كثير من الراسيين، فسكنوا بين مواطنيهم في حارة الراسية وغيرها.
وفيها وقع الخلاف بين الأمير قاسم ملحم الشهابي وعميه الأميرين أحمد ومنصور على الحكم، وذلك على أثر وفاة أبيه، فجاء الأمير قاسم زحلة والبقاع، ثم ذهب إلى عين دارة التي من أقطاعه وصالح عميه، وبهذه الأثناء تنصر الأمراء الشهابيون، وأول من قبل ذلك منهم الأمير عمر جد الأمير بشير الشهابي الكبير لأبيه.
وسنة 1766م جاء زحلة السيد أغناطيوس جوهر بطريرك الروم الكاثوليك، ونزل ضيفا على المطران أفتيموس فاضل المعلولي في الدار الأسقفية، وكان قاصدا زيارة بعلبك بصفة بطريركية، فلم يتمكن من ذلك؛ لأن الأمير حيدر الحرفوشي حاكمها كان قد أخبره المطران فيلبس أسقف بعلبك أنه ليس ببطريرك فعدل عن ذلك.
وفيها توفي القس بروكوبيوس الحكيم الراهب الشويري في صليما يوم عيد ميلاد العذراء في 14 أيلول، وكان كثيرا ما يطبب بزحلة وغيرها بارعا بصناعته، وكان فن الطب إذ ذاك منحصرا بالرهبان وببعض الخاصة.
وسنة 1767م ضبط الأمير حيدر الحرفوشي دير السيدة في رأس بعلبك وضايق بعض رهبانه، ففروا إلى دير النبي إلياس الطوق في زحلة، وأخبروا بما حدث لهم، فذهب بعض رهبان زحلة إلى الأمير بشير اللمعي في برمانا وكان هذا الأمير مشهورا بسطوته ونفوذ كلمته، فأرسل معتمده إلى الأمير الحرفوشي المذكور في بعلبك، فأصلح ذات البين وعادت مياه الراحة إلى مجاريها، ورجع بعض الرهبان إلى دير سيدة الراس.
وفي هذه السنة توفي المطران أفتيموس المذكور، مطران الفرزل وزحلة في قرية القريعة من البقاع، ودفن في دير المخلص، وهو أول أسقف سكن زحلة، ومنه ابتدأت سلسلة أساقفتها وبقي على كرسيها أربعا وأربعين سنة أسقفا؛ لأنه سيم عليها سنة 1724م، وكان من كهنة البطريرك كيرللس طاناس أقام أولا في الفرزل، ثم نقل إلى زحلة سنة 1727م كما مر آنفا. وهو من بني إسكندر في معلولا من جبل القلمون، فحضر إليه أخوه إلى زحلة وبقيت سلالته فيها، وهم إلى الآن بقرب دير الآباء اليسوعيين يلقبون ببني المطران (راجع «دواني القطوف») وحضر هذا الأسقف سنة 1736م مجمع دير المخلص الذي عقده البطريرك كيرللس المشار إليه، لاتحاد الرهبانيتين الشويرية
32
والمخلصية.
33
وكان عدد الأساقفة فيه عشرة مع رئيسي الرهبانيتين العامين، ولكنه لم يتوفق إلى اتحادهما، وكان هذا الأسقف من حزب السيد أغناطيوس جوهر، ثم خضع في هذه السنة للسيد ثاودوسيوس الدهان.
وسنة 1769 في شهر تموز جاء زحلة البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي، قادما إليها من بيروت، وحل في دير النبي إلياس نحو أربعة أشهر. ففض بعض مشاكل الرهبان ورتب لهم نظاما جديدا. وسر بعمران زحلة وترقيها، وفيها حضر من حلب جبرائيل بن الغضبان شقيق إلياس الغضبان، فمكث مدة في دير النبي أشعيا للرهبنة الحناوية، ثم جاء زحلة فقضى مدة طويلة في دير النبي إلياس.
وفيها أسست الرهبنة البلدية المارونية
34
مأوى (أنطوش) دير القديس أنطونيوس في محله الحاضر الآن مع كنيسة صغيرة،
35
وصار لها فيه رئيس ينوب عن أسقف صور وصيداء،
36
الذي كانت زحلة تابعة له إذ ذاك.
وسنة 1770م ثار متاولة جبل عامل، وناهضوا درويش باشا والي صيداء، الذي سلم ولاية لبنان إلى الأمير يوسف الشهابي بدلا من حليفهم عمه الأمير منصور، في شهر آب من تلك السنة. فانحازوا إلى الشيخ ظاهر العمر الزيداني، وشرعوا يزرعون الفتن ويقلقون الراحة حتى اتصلوا بحاصبيا، وكان أشدهم تحمسا وعيثا الصغيرية والصعبية. فأوغر تعديهم صدر الأمير يوسف ونوى التنكيل بهم، فنهض من دير القمر في أول تشرين الأول بزهاء عشرين ألف مقاتل بين فرسان ومشاة، وقيل: كان عددهم ثلاثين ألفا وبينهم الزحليون، فاحتدم القتال بينهم وبين المتاولة في نواحي جبل عامل، ولما كاد اللبنانيون ينالون النصر ويستظهرون على الأعداء، ارتد بعض الجنبلاطيين والأمراء على أعقابهم في إبان العراك، فأضعف ذلك قلوب اللبنانيين، وانهزموا فطمع بهم المتاولة، ولا سيما بعد أن وصلت نجدة لهم من ظاهر العمر، فتأثروا اللبنانيون وأصلوهم نارا حامية وأعملوا السلاح في أقفيتهم، حتى قتلوا منهم نحو ألف وخمسمائة قتيل من دروز ونصارى. وكان بينهم بشير بن صعب كساب كاخية الأمير عساف اللمعي من أمراء صليما. والمتناقل على ألسنة الشيوخ، أنه قتل في هذه الموقعة مائتا زوج أخوة من لبنان، ومن عسكر اللمعيين ستة عشر زوج أخوة معظمهم من المعلوفيين من كفر عقاب وزحلة. وفي هذه الأثناء كان قد وصل عسكر الأمير إسماعيل الشهابي حاكم حاصبيا وخال الأمير يوسف لنجدته، إذ كان قد استصرخه قبل زحفه وهو كثير بقيادة الأمير إسماعيل، فاشتد أزر اللبنانيين ولكنهم كانوا قد بعدوا عن المتاولة، فدخلوا لبنان مدحورين، واستثأر المتاولة منهم لقاء ما فعل بهم سلفه الأمير ملحم سنة 1734 كما مر.
وقد اشتهر بهذه الموقعة مخايل عيد المعلوف ببسالته وطنوس أبو عقل المعلوف، وهما من فرع أبي مدلج، فهذا خلص العلم (البيرق) عند انكسار اللبنانيين ولم يقو الأعداء على أخذه. ويقال: إنه لم يسلم سواه فشكره الأمير ولقبه بالكحيل، واشتهر فرعه بهذا اللقب (راجع «دواني القطوف» صفحة 207). وعرفت هذه الموقعة بحادثة الجرمق أو الزهراني، حيث حدثت في بلاد الشقيف في وادي الجرمق وقرب نهر الزهراني. ولم يذق اللبنانيون فشلا مثل هذا في مواقعهم؛ لأن بعض المشايخ خانوا الأمير يوسف وأرادوا خذلانه انتصارا للأمير منصور، وكان الأمير يوسف في بدء هذه المعركة منتصرا؛ لأنه لما وصل إلى جباع الحلاوة أول بلاد المتاولة هاجم الشيخ حيدر الفارس زعيمهم المقيم هناك، فهزمه ودخل الأمير القرية وأحرقها، ثم انتقل إلى النبطية. فورد إليه كتاب من الشيخ ظاهر العمر يسأله أن يكف عن القتال بثلاثة شروط؛ أولها: إنه يرسل إليه شيوخ المتاولة ليقدموا له الطاعة، وثانيها: إنهم يقدمون له دراهم نفقة عساكره، وثالثها: إنه يعطيه مدينة صيداء فيتولى شئونها. وكانت هذه الشروط على يد الشيخ علي جنبلاط فلم يقبل الأمير يوسف بها. فتراجع عنه الجنبلاطيون بإشارة زعيمهم الشيخ علي. وكذلك مال عنه كل من الشيخين عبد السلام العماد وكليب نكد خدمة للأمير منصور الذي كان يحركهما سرا ضد الأمير يوسف، وهما اللذان أقنعاه بعدم قبول شروط الشيخ ظاهر الآنفة الذكر. وكانا يراسلان مشايخ المتاولة سرا، وأنهما سيغدران بالأمير خدمة لهم، فتشدد المتاولة وهجم نحو مائة فارس منهم على عسكر الأمير يوسف فانهزم زعماؤه من أمامهم إنجازا لوعدهم، وتمت المكيدة وتمزق شمل اللبنانيين وعم العويل والنحيب في جميع لبنان وما يجاوره، حتى كانت النساء في كل مكان كالأغربة حدادا على القتلى، وتمرد المتاولة كما فصل ذلك القس حنانيا المنير في تاريخه الدر المرصوف، في تاريخ الشوف وغيره من المؤرخين.
وسنة 1772م طلب الأمير يوسف حاكم لبنان من عثمان باشا المصري والي الشام ولاية البقاع لأخيه الأمير سيد أحمد، فألقى إليه مقاليد أمورها، فجاء الأمير سيد أحمد، وتوطن قلعة قب إلياس التي كانت الزلازل قد هدمتها، ورممها وجهزها بالمدافع والرجال وصار يمخرق في البقاع، فنهب قافلة لتجار دمشق كانت مارة في طريق البقاع، فكتب عثمان باشا إلى الأمير أن يردع أخاه عن العيث في البلاد وأن يرد ما سلبه، فكتب الأمير إلى أخيه فلم يرعو، فاعتذر الأمير يوسف للوزير فرأى اعتذاره غير واقع في محله.
وسنة 1773م خرج الوزير مع بعض الباشوات بعساكر جرارة أكثر من خمسة عشر ألفا، فنزلوا في صحراء بر إلياس، وضربوا فيها خيامهم وارتجت البلاد لقدومهم، وكانوا يحبون الاقتصاص من الأمير سيد أحمد الذي لم يترك المخرقة في البقاع ولا رد مال القافلة الذي سلبه. فلما بلغ الأمير يوسف قدوم عساكر دمشق جمع رجاله وسار إلى المغيثة. ثم انتقل إلى زحلة فانضم إليه رجالها الأشداء، فحارب عسكر دمشق مرارا، فلم يظفر بهم ولا ظفروا به، وذلك لخيانة الأمراء والمشايخ الذين كان الجزار قد رشاهم بالمال الذي قبضه من مركب فرنسي جاء بيروت حاملا الدراهم لتجارها، وقيمتها أربعمائة كيس في أثناء محاصرة الجزار إياها. فاستصرخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني، فأرسل إليه عسكرا وافرا بقيادة ولده الشيخ علي والشيخ ناصيف النصار زعيم المتاولة، فلما وصلوا إلى القرعون في أول البقاع من جهة الجنوب علم بهم عثمان باشا وأعوانه، فأركنوا إلى الفرار بعساكرهم وتركوا خيامهم وذخائرهم وعددهم ومدافعهم وساروا إلى دمشق، فغنم كل ذلك عسكر الأمير وجهزوا بالمدافع قلعة قب إلياس وحصنوها، وتجددت المودة بينهم وبين الشيخ ناصيف النصار ورجاله، وأذهبت الحفائظ أحقادهم القديمة. فعاد عسكر الشيخ ظاهر ظافرا مشكورا من الأمير الذي عاد إلى دير القمر . وجدد المواثيق بينه وبين المشايخ آل ظاهر العمر وآل علي الصغير وغيرهم.
وفي هذه السنة شيد الرهبان الشويريون كنيسة دير النبي إلياس الطوق؛ لأنهم كانوا قبل ذلك قد بنوا الأقبية والممشى الشمالي فقط، وكانوا يقيمون الصلاة بغرفة صغيرة.
وسنة 1774 كان الأمير أحمد قد قويت شوكته في البقاع، وحصن قلعة قب إلياس بالمدافع كما مر، فعصى على أخيه الأمير يوسف وسولت له نفسه محاربته، فانحاز إلى الذين أبعدهم أخوه من اليزبكية مثل الشيخ عبد السلام العماد والشيخ حسين تلحوق وغيرهما، وكان عنده في القلعة الأمير فارس يونس، فاستمال إليه الأمير منصورا صاحب راشية، وانضم إليه كثير من مناوئي أخيه، فثقل على قرى الشيخ علي جنبلاط في البقاع، فحنق عليه أخوه الأمير يوسف وزحف بعساكره لقتاله، وحاصر قلعة قب إلياس نحو شهر فلم يظفر منها بطائل، فانفض أكثر عسكره ضجرا بدسيسة الشيخ عبد السلام المذكور. فاستقدم إليه عسكر المغاربة من دمشق، وأقامهم على حصارها حتى استنفد ما فيها من الماء والزاد فضويق الأمير سيد أحمد، وكتب إلى الشيخ علي جنبلاط والشيخ كليب النكدي أنه يريد التسليم لأخيه على أيديهما. فتوسط الأمر فقبل الأمير يوسف بذلك. فخرج أخوه الأمير سيد أحمد من القلعة بمن معه، وسلمها لأخيه وسار إلى حارة حدث بيروت، وتوطنها مع بعض مريديه الذين كانوا محاصرين معه. فاستولى الأمير يوسف على القلعة، وأراد تقويض دعائمها فلم يستطع الفعلة الكثيرون إلا هدم بعض جدارها لمناعتها.
ثم كتب الأمير يوسف إلى محمد باشا العظم خلف عثمان باشا المصري في ولاية دمشق أن يسند إليه إدارة ولاية البقاع، فأرسل إليه الخلعة بذلك، وطلب منه أن يعيد لتجار دمشق ما كان سلبه منهم أخوه الأمير سيد أحمد من قافلتهم ففعل، وكان ذلك اقتصاصا من الأمراء اللمعيين؛ لأن الأمير شديدا منهم قتل دهقانه، فنهض الأمير يوسف من غزير إلى الرمتانية لقصاصهم، فوضع يده على أملاكهم ورجع إلى غزير، وأقام أخاه الأمير قاسما وكيلا عنه في ولاية البقاع، فأخذ من أخيه مال التجار وأرجعه إلى أصحابه ، وعوض عليه مالا من عنده.
وسنة 1775م في أواخرها سقف البطريرك ثاودوسيوس الدهان الكاثوليكي في دير القديس أنطونيوس القرقفة في كفر شيما (لبنان) القس يوسف فرحات الراهب المخلصي على ضيعة الفرزل باسمه، وشرع ببناء كنيسة حذاء داره الأسقفية في زحلة، وكان يلقب بأسقف الفرزل، فزاد على لقبه لفظة البقاع؛ أي أسقف الفرزل والبقاع، وكان قد تكاثر مجيء سكان بعلبك إلى زحلة واستعمارها تخلصا من ظلم الأمراء الحرفوشيين، فكثر البناء فيها وبنى المطران بعض غرف في الدار الأسقفية، وهو أول من طاف بالقربان المقدس في زحلة، إذ كان قد أدخل عيد الجسد الإلهي البطريرك مكسيموس الحكيم الكاثوليكي، فكان كثير من السكان والمجاورين يقصدون زحلة للاحتفال بذلك، ولن تزال هذه العادة جارية إلى عهدنا.
وسنة 1776م في 16 نيسان صار ثلج وبرد كثير، حتى اتصل الثلج بحدود الساحل، وكان في زحلة وما يجاورها كثيرا، فحصل ضيق للسكان والمواشي.
وفيها في أول تموز جاء عسكر من دمشق إلى بعلبك، فعزلوا الأمير مصطفى الحرفوشي حاكمها وولوا عوضه أخاه محمدا، فهرب الأمير مصطفى إلى زحلة ودخل في حماية الأمراء اللمعيين، ولبث فيها مدة وتمكنت المودة بينه وبين الزحليين، (راجع تفصيل ذلك في «دواني القطوف»).
وفيها صار أحمد باشا الجزار واليا على صيداء، وعزل عنها محمد باشا الذي كان قد وضعه حسن باشا القبطان فيها. ولما بلغ الأمير يوسف قدومه اضطرب، لما كان بينهما من الضغينة عند حصار بيروت، ولكنه رأى من المناسب أن يتظاهر بالسرور، فأرسل يهنئه وبعث إليه هدايا من الخيول المطهمة ونحوها، فأجابه الجزار شاكرا صداقته. ومالأ الأمير يوسف حسن باشا اقتصاصا من الجزار منتهزا الفرصة لذلك، وأراد خدمته بتقديم المال المرتب عليه، فاستشار مريديه وأعوانه فقر رأيهم على أن يضع الأمير يوسف يده على عقارات الأمراء الشهابيين أنسبائه ويدفع المال من ريعها ففعل. وأغضب بذلك الأمراء، فنهضوا إلى البقاع وعاثوا فيه وكدروا مياه الأمن، وأثاروا القلق وسلبوا ما لأهل البلاد هنالك. فسار الأمير بعسكره إلى قب إلياس لردعهم؛ ففروا إلى إقليم البلان ومنه إلى الحولانية، فتوسط أمرهم نسيبهم الأمير إسماعيل حاكم حاصبية. فقبل الأمير يوسف وساطته، وتعهد لهم بإرجاع ما تناوله من ريع عقاراتهم ورجع كل إلى وطنه، ما عدا شقيقيه الأميرين سيد أحمد وأفندي، فبقيا يناوئانه بالانحياز إلى ناصيف النصار زعيم المتاولة، فاسترضاهما وأعادهما إلى البلاد، وعاد هو إلى دير القمر فجمع المال الذي تعهد به إلى حسن باشا ودفعه له، فأعطاه البراءة والخلعة بحكم جبل الشوف وملحقاته وبيروت وجبيل والبقاع. وكتب له ميثاقا بأن والي صيداء لا يطالبه إلا بالمال الأميري، وسار إلى الأستانة فانتهز الجزار الفرصة وحرك دفين حقده على الأمير يوسف، وجاء بيروت وملكها ورفع يد الأمير يوسف عنها، وضبط ما فيها من عقارات وأبنية للشهابيين، وكتب إلى الأمير يوسف يطلب منه الأموال السلطانية عن السنوات الثلاث الماضية وألحف في الطلب، فخشي الأمير غدره وكتب إلى حسن باشا يستصرخه، فأدركه الرسول في جزيرة قبرس، فعاد ببعض السفن إلى بيروت وأخرج الجزار منها، ووعد الأمير أنه سيعزل الجزار عن الولاية واستأنف السفر إلى الأستانة. وكان عسكر الجزار الذي جاء به بيروت ستمائة فارس من اللاوند الشجعان، فساروا إلى صيداء برا فأرسل لهم الأمير المشايخ النكدية، فكمنوا لهم في أرض السعديات قرب الدامور، وكان معهم مائتا رجل والتقيا في الصباح، فاستظهر عليهم اللاوند وجندلوا زعيمهم الشيخ أبا فاعور، وأمسكوا ولده الشيخ محمودا والشيخ واكدا، وجرح أخوه الشيخ بشير فساروا بالأسيرين إلى الجزار غانمين الأسلاب فحبسهما في القلعة. ثم فكهما الأمير يوسف معتذرا إلى الجزار أن ذلك جرى دون علمه؛ ولذلك اضطر الأمير يوسف أن يوزع فدية الأسيرين، وهي مائة ألف غرش على البلاد، فعصى عليه الأمراء اللمعيون وأبوا دفع تلك الضريبة وأثاروا الخواطر ضده، فأوغر ذلك صدر الأمير والجزار معا فأرسل هذا مصطفى أغا قراملا (أي القارئ الأسود) قائد عسكره بجماعة إلى بيروت، ومنها إلى مقاطعة اللمعيين في المتن وزحلة والبقاع، فأحرقوا قرى المكلس والدكوانة والجديدة وقتلوا جماعة من أعوانهم، وساروا إلى البقاع فاستولوا على ما للأمراء الشهابيين واللمعيين فيه من العقارات والقرى. فانحاز الأمير يوسف إلى اللمعيين، وجمع عسكرا من البلاد كان بينه الزحليون وزحف به إلى المغيثة.
وفي آخر شهر نيسان من سنة 1777 كان قراملا مع عسكره الأكراد قد مروا بقلعة قب إلياس، فعلم محافظ القلعة بقدومهم فحصنها، حتى امتنعت عليهم وردهم عنها بقنابل المدافع، فساروا إلى بعلبك وعاثوا فيها كل العيث وأمسكوا زعماء الشيعيين فيها، وصادروهم بأموال كثيرة وحبسوا الأمير محمدا الحرفوشي وضبطوا أمواله، وكان في بعلبك القس أكلمينضوس الراهب الحناوي بارعا في الطب فطبب ذات يوم قراملا وشفاه، فصار له عليه دالة، فاستأمنه على المسيحيين فأمنهم وجمعهم في الدار الأسقفية في بعلبك، وأقام عليهم محافظين فلم يمسوا بسوء.
وكان الجزار قد استصرخ حاكم الشام وولده حاكم طرابلس ليساعداه على محاربة جبل لبنان، فامتنعا حفظا لعهدهم مع الأمير حاكمه.
فجاء عسكر قراملا وخيموا في البقاع، وقطعوا الطريق على المارة، ونازلوا قرية سعد نايل في جوار زحلة ونهبوا مواشيها وقتلوا بعض سكانها وذلك في شهر حزيران، وأرادوا الهجوم على زحلة فمنعهم المطر الكثير الذي انهمر في تلك الأثناء.
وفي 19 تموز هاجموا زحلة ودير مار إلياس الطوق في غربيها، فهرب الرهبان إلى القلعة فوق الدير. فدخلوه ونهبوا ما فيه من الحرير والأمتعة، فجمع الزحليون رجالهم بقيادة بعض الأمراء اللمعيين ونازلوهم قرب الدير المذكور وحمي وطيس القتال، فظفر الزحليون بهم وقتلوا منهم خمسين رجلا، ولم يقتل من الزحليين سوى ستة رجال. واستعادوا جميع ما نهب من الدير سوى بعض الحرير الذي لم يجدوه بين المسلوبات. وقد اشتهر بهذه الموقعة من الزحليين نجم أبو ضاهر المعلوف جد المرحوم نعمان المعلوف لأبيه مع أخوته وغيرهم، وهو الذي حاصر في بيته وحماه من الحريق مع ما حوله، فترك الأكراد زحلة مدحورين وعادوا إلى مخيمهم في البقاع. ولما ذاع خبر مهاجمتهم لزحلة جاء بعض المشايخ والأمراء من لبنان لمعاضدة الزحليين بعساكرهم.
ولما استعاد الأكراد قوتهم وجمعوا شملهم؛ أعادوا الكرة على زحلة في السابع من شهر آب، ولما بدأ القتال فر المشايخ بعسكر الدروز وبعض الأمراء اللمعيين، فتبدد شملهم وضعف عزائم الزحليين لهذه الخيانة. فقتل منهم الأكراد أكثر مما قتل من عسكرهم، وأحرقوا القرية ودير مار إلياس الطوق وغابات المدينة المشتبكة. ولولا معاضدة الأمير مصطفى الحرفوشي للزحليين ووقوفه برجاله في وجه الأكراد، لما أبقوا أحدا من السكان الذين فروا إلى الجبال العالية في لبنان، وقتلوا الشيخ سيد أحمد العماد من الباروك ونحو ثلاثين من غير الزحليين. أما رهبان دير مار إلياس الطوق، فغادروه فارغا وحملوا أمتعتهم وذهبوا إلى قرية بر إلياس ونزلوها مدة، واشتهرت هذه الموقعة في زحلة باسم موقعة قراملا إلى يومنا.
وفي 12 آب نزل قراملا بعسكره من زحلة إلى جهات ثعلبايا وقلعة قب إلياس، فالتقاه العسكر اللبناني، فاستظهر عليهم وقتل منهم نحو مائة بينهم زين الدين مزهر مقدم حمانا، والشيخ ظاهر عبد الملك من الجرد في الشوف من الدروز، ورحال بن شبلي كساب من مسيحيي صليما، وقتل من الأكراد نحو أربعين شخصا، وفر عسكر لبنان. فأحرق الأكراد كثيرا من قرى البقاع وما يجاورها، وهاجموا قرية سغبين مرتين؛ فعادوا عنها مدحورين لصعوبة مسالكها، وقتل منهم نحو مائتين. ثم استقدمهم إليه الجزار فجأة، فرحلوا عن البقاع تاركين فيها آثارا سيئة.
وأما الأمير يوسف فأوغر صدره ما فعله هؤلاء في بلاده، فجمع عسكرا كان فيهم الأمراء اللمعيون برجالهم وبينهم الزحليون، وانضم إليه الحرفوشيون حكام بعلبك برجالهم، وبينهم المعلوفيون فواقعوا الجزار وهزموا عساكره وشفوا غليلهم منه.
وفي هذه السنة كثر الجراد في الجروم (السواحل) فأضر بها كثيرا، واتصل إلى الصرود (الجرود) فكان فيها قليل الضرر.
وفي هذه الأثناء كان الأمير يوسف قد وزع مالا على البلاد، فدفع الشيخ علي جنبلاط ما خصه هو وأعوانه، فخشي الأمير زعامته ونفوذه، فألقى زوان الفتنة بينه وبين الشيخ عبد السلام العماد، فتجاذبا كلاهما أهداب الزعامة، وأراد كل منهما أن يحتكرها لنفسه. فنشأ في البلاد حزب جديد خلف القيسي واليمني، وهو الحزب المعروف باليزبكي والجنبلاطي، فعم الانقسام الشهابيين واللمعيين والنصارى اللبنانيين إلا المشايخ النكديين، فإنهم كانوا على الحيادة؛ فصار حزب يزبك يطلق على المشايخ آل العماد وآل تلحوق وآل عبد الملك ومواليهم وزعماؤه آل العماد الذين كان بينهم اسم يزبك، فنسبت العصبية إليه، والباقون من الإقطاعيين والعشائر كانوا جنبلاطيين وزعماؤهم آل جنبلاط.
وسنة 1778م حدث غلاء فاحش عم جميع أنحاء سورية، فكان ثمن كيل الحنطة البيروتي اثني عشر غرشا، وثمن قفة الأرز عشرين غرشا؛ ونال زحلة من ذلك ضيق شديد.
وفيها قتل الأمير شديد مراد اللمعي دهقانه (خوليه)، فلم يتمكن الأميران سيد أحمد وأفندي حاكما لبنان من الاقتصاص منه. وكان أخوهما الأمير يوسف في غزير، فكتب إلى محمد باشا العظم والي دمشق يطلب منه حكم البقاع، فولاه إياه فقام من غزير إلى قرية الرمتانية فوق زحلة للاقتصاص من الأمراء اللمعيين، وكان قد انضم إليه بعض أعيان البلاد والأميران إسماعيل وبشير الأخوان حاكما حاصبية، فتقوى بهم وضبط أملاك الأمراء اللمعيين، وألحق بالزحليين الخسائر وعاد إلى غزير ثم أصلح ذات البين بينه وبين أخويه، ولم يطل العهد حتى أعيدت له الولاية وصالح أخويه واستتب له الحكم.
وسنة 1779م في آذار توفي الأمير حسين أبو إسماعيل جد الأمير حيدر إسماعيل الشهير حاكم صليمة لأبيه، وفي 11 تشرين الثاني توفي الأمير أحمد حاكم بسكنته، فأقيم لهما مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون الذين من عهدتهما، ولبست مقاطعة المتن وزحلة عليهما الحداد.
وفيها صار ثلج تعاظم جدا جدا وبقي أياما طويلة متجمدا، وضويق الناس. وفي الثامن من شهر أيار أمطرت السماء مطرا خرت منه مرافض الأودية، وجرت السيول الطامية وسقط في قرية رأس بعلبك ونواحي مدينة حمص برد كان حجمه يتراوح بين حجم الخوخة وبيضة الدجاجة، فسبب أضرارا كثيرة وخسائر فادحة في الأشجار. وفي ذلك اليوم نزل شهاب ناري من السماء منقضا على ثلاثة رءوس خيل في تلك الجهات فقتلها لساعته. وفي 13 من شهر تشرين الثاني خسف القمر خسوفا كاملا طالت مدته.
وسنة 1780 في ليلة الحادي عشر من كانون الثاني بعد غياب الشمس بساعتين ونصف حدثت زلزلة (هزة) خفيفة، لم ينجم عنها أضرار واشتد هبوب الرياح فاقتلع الأشجار . وفي آخر شهر نيسان سقط ثلج وبرد عظيم الواحدة بقدر الجوزة وأتلفت أشجارا كثيرة. وفي أيار انهملت الأمطار العظيمة، وفاضت الأنهار وتجاوزت حدودها وطغى نهر الكلب في كسروان، فحمل أخشابا ضخمة صدمت في جريها الجسر فانهدم، وكان جسرا قديما عظيما من أيام الرومانيين فصاروا يقطعون النهر بالقوارب إلى أن رمموا الجسر ولحق زحلة المطر والثلج وما سببا من الأضرار. وفيها ضرب الأمير يوسف ضريبة على التوت، فأصاب أوقية بزر الحرير خمسة غروش، وتضايق الناس لأن هذا كان مالا ثانيا على البلاد فأصاب زحلة منه قسم وافر.
وسنة 1781م جاء راهبان من دير مار يوحنا الصابغ في الخنشارة بأمر رئيسهما القس أكاكيوس ابن بولس الحكيم الشابوري إلى دير النبي إلياس الطوق في زحلة، وأخذا معهما راهبا من دير النبي إلياس، وقصدوا سهل البقاع ليصطادوا السمك من نهر الليطاني، وكان حاكم البقاع محمد أغا العبد، فقبض عليهم ووضع الحديد في أعناقهم وتهددهم بالقتل، فبلغ الخبر رهبان دير الطوق، فقدموا له خمسة أرطال قهوة وقفتي أرز فأطلق سراحهم، وكان بينهم القس حنانيا المنير المؤرخ صاحب «تاريخ الرهبنات»، و«الدر المرصوف» و«مجموع الأمثال العامية» وغيرها.
وفي تلك الأثناء حدثت نزغة بين الأميرين محمد الحرفوشي وشقيقه مصطفى، فلجأ هذا إلى زحلة لما كان بينه وبين سكانها من المودة، ولا سيما المعلوفيون أنسباء آل شبلي المعلوف الذين كانت لهم منزلة كبيرة عند الحرفوشيين في بعلبك؛ لأنهم كانوا مستشاريهم. فرفع عليه أخوه الشكوى إلى حاكم دمشق، فأرسل هذا عسكرا إلى زحلة لإلقاء القبض عليه في شهر آذار، ففر منها وخشي الزحليون فتك الحاكم وغدره، فتركوا بلدتهم وساروا إلى لبنان بأمتعتهم، أما غلالهم فكانت على البيادر فاستولى عليها عسكر دمشق ونهب أمتعة دير النبي إلياس الطوق وتركوه قاعا صفصفا، فكان ما فقد منه يقدر بثلاثة آلاف غرش.
وإذ ذاك جاء زحلة الأمير سيد أحمد الشهابي فارا من وجه أخيه الأمير يوسف؛ لأنه كان قد سعى مع أخيه الأمير أفندي بقتله فقتل الأمير أفندي، وجرح الأمير سيد أحمد وذلك بالاتفاق مع المشايخ الجنبلاطيين ضد المشايخ اليزبكيين، وكان هذا الحزب في معظم شدته. فطلب الأمير سيد أحمد من حاكم الشام الذي كان في دير النبي إلياس الطوق أن يوليه حكم البقاع ويسلمه قلعة قب إلياس، فسلمه مقاليد حكم البقاع، واتفق مع الوزير أن يغرم أهل زحلة بعشرة أكياس لحمايتهم الأمير مصطفى الحرفوشي ويرفع عنهم العسكر؛ فقبل، فاستقدمهم الأمير سيد أحمد من لبنان، ودفعوا ما تعهد به وعادوا إلى بلدتهم، وعمروا ما خرب منها وجدد الرهبان الشويريون بناء الدير.
وسنة 1782م أرسل الأمير يوسف الشهابي حاكم لبنان الأمير شديد بن مراد اللمعي، فنهب بر إلياس وخرب قلعتها فهرب البقاعيون، وكان بين عسكره رجال من زحلة نهبوا قرية النبي إيلا (إيليا) قرب أبلح والفرزل، وقتلوا أراجة حمية من طاريا، فاستاء الأمير مصطفى الخرفوشي حاكم بعلبك وأرسل يتهدد الزحليين ويصادرهم بأموال كثيرة، وكان يتأهب لمقاتلتهم فرحل بعضهم خوفا من مكره، وكان ذلك في شهر آذار ونقلوا أمتعتهم. وفي تلك الأثناء تصدى الأمير محمد الحرفوشي لمحاربة أخيه الأمير مصطفى في بعلبك بعسكر جرار، فهرب هذا إلى نواحي حمص وجمع عسكرا وهاجم بعلبك، فالتقاه أخوه محمد برجاله وبعد مناوشات كثيرة، كانت الغلبة للأمير مصطفى بعد قتل عشرة من رجاله، فدخل إلى بعلبك وحكمها وهرب الأمير محمد إلى زحلة برجاله.
وسنة 1782م جاء زحلة أنتيموس بطريرك أنطاكية الأرثوذكسي قادما من الأستانة بطريق طرابلس الشام، وأصلح الخلاف بين المعلوفيين على كنيسة الخرائب في كفر عقاب، إذ استقدم إليه كهنتها وشيوخها، وكتب بينهم وثيقة كما في «دواني القطوف».
وسنة 1784م في شهر كانون الثاني ظهر في الغرب مذنب كان ذنبه متجها للشرق، وخاف الناس منه وتطيروا من منظره، وحسبوا لظهوره حسابات تدور على تفشي الأمراض والحروب والفواجع، وكانوا يقرعون صدورهم ويستغيثون بالإله ليدفع عنهم شره.
وكان الزحليون خائفين من مكر الحرفوشيين الذين كانوا يتجاذبون أهداب حكم بعلبك والبقاع، ويمخرقون في البلاد فتارة يوالون الزحليين وطورا يعادونهم، حتى ملوا من معاشرتهم وأحبوا البعد عنهم. ففي بدء هذه السنة أرسل حاكم دمشق محمد درويش باشا عسكرا إلى بعلبك بالاتفاق مع أحمد باشا الجزار حاكم عكاء، وألقوا القبض على الأمير مصطفى الحرفوشي وأخوته الستة، ونقلوهم إلى دمشق، فشنقوا ثلثة منهم وحبسوا ثلثة، وتولى بعلبك رمضان آغا ورفعت يد الحرفوشيين عن بعلبك وضواحيها، وصفت كأس الراحة، وأرسل محمد باشا أمرا إلى الزحليين يطيب به خاطرهم ويعدهم بالخير، وأوصى بهم حاكم بعلبك. ثم انتقل حكم بعلبك إلى يد الجزار ، فأرسل عليها حاكما من قبله اسمه سليم أغا، وكثرت القلاقل والفتن فصح بهذه البلاد قول الشاعر:
إذا استغنيت عن داء بداء
فاقتل ما أضرك ما شفاكا
وكان أغناطيوس صروف مطران بيروت قد استفحل الخلاف بينه وبين الرهبان الحناويين، فعم البلاء واشتد الخطب وساد الاضطراب، وفيها توفي الأمير مراد منصور اللمعي وحضر الزحليون مأتمه ولبسوا عليه الحداد.
وسنة 1785م عم الطاعون مصر وبيروت وطرابلس وبعض أنحاء سورية ولبنان، وهرب السوريون إلى الجبال العالية، وكثر الغلاء وتضايق الناس ما عدا مدينة حلب، فإنها كانت بسعة لرخص الحبوب والحاجات فيها، ولحق زحلة ضيق شديد.
وسنة 1786م حكم بعلبك محمد أغا العبد الذي كان حاكم البقاع، فجاء الأمير مصطفى الحرفوشي زحلة، وكان فارا عند عرب خزاعة أنسبائه في شمالي سورية، فجمع من زحلة مائة مقاتل وبينهم بنو شبلي المعلوف المقربين منه، فنعل الخيول باللباد ودخل بعلبك بعسكره ليلا، وقتلوا من التقوا به وأهلكوا من عسكر العبد كثيرا، وكاد هو يسقط في أيديهم ففر إلى دمشق، واستتب الحكم لجهجاه وجاء زحلة كثير من سكان بعلبك وضواحيها، وعمروا كنيسة القديس ميخائيل الكاثوليكية.
وفيها انتشر الطاعون في البقاع واتصل بزحلة وضواحيها، ومات كثير من بدو البقاع وبعلبك، ولا سيما عرب الفضل، وامتد منها إلى حمص ونواحيها وأفنى التركمان، وكان فتكه ذريعا. وفي الصيف جفت المياه والينابيع ولا سيما العاصي وكثر الغلاء. وفي 22 تشرين الأول بعد نصف الليل حدثت زلزلة خفيفة. وفي تشرين الثاني من هذه السنة انفجرت ميازيب السماء، وجرت المياه على الأرض وحملت المواشي والغراس وأماتت اثني عشر شخصا ، وهدمت كثيرا من الأبنية، وكان ضررها في زحلة عظيما حتى طاف البردوني، وحمل بعض الناس وخرب العقارات.
وسنة 1788م كان أظن إبراهيم باشا قد نال ولاية دمشق بعد قتال وخلاف، فأرسل إلى الأمير جهجاه الحرفوشي يتهدده لاعتدائه على بعلبك، فأرسل حريمه إلى زحلة وخرب طواحين بعلبك التي تركها أهلها وفروا إلى زحلة وغيرها، فأسند والي الشام المذكور حكم بعلبك إلى الأمير كنج بن محمد الحرفوشي، وخلع عليه وأمده بعسكر دالاتية ومغاربة، فحارب هذا ابن عمه الأمير جهجاه، فاستنجد هذا بالأمير يوسف الشهابي وبالأمير شديد مراد اللمعي حاكم زحلة إذ ذاك، فأرسلا له عسكرا بينهم الزحليون فقصدوا قرية صنبرة فوق بعلبك، حيث كان عسكر دمشق محاصرا إياها للقبض على الأمير جهجاه، ففرقوا شمل المحاصرين وارتد عسكر جهجاه على المغاربة، فقتلوا منهم أربعين نفرا والباقون فروا إلى بعلبك، وكان ذلك يوم عيد الأربعين شهيدا في 9 آذار، وتوسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فدفع جهجاه ثلثين كيسا غرامة (بلصة)، ونحو مائتي كيس على حكم بعلبك، فأرسلت إليه الخلع مع حاكم الزبداني المذكور ليلة عيد البشارة في 25 آذار، ويوم العيد وصل الخبر إلى زحلة فسر أهلها وأطلقوا البنادق واطمأنوا بعدما كانوا قد أرسلوا أمتعتهم إلى الجبل، وبعدئذ حضر الأمير جهجاه إلى زحلة حيث أسرته فيها وفاوض المطران بنادكتوس أسقف بعلبك ليعود إليها لاستتباب الراحة، فيرجع جميع النصارى إليها قريرين، وعاد بأسرته وتبعه المطران وجميع الأهلين من نصارى ومسلمين وشيعيين.
وفيها توفي الأمير إسماعيل اللمعي أكبر أمراء المتن سنا وجاها ورأس عهدة (سمية) بني قيدبيه، وكان ذا سطوة ونباهة، فأجري له مأتم حافل حضره الزحليون ولا سيما المعلوفيون؛ لأنهم من عهدته، وخلف ثلاثة أولاد وهم الأمير حسن والأمير عساف والأمير حيدر الذي اشتهر بعد ذلك.
وفيها سقط ثلج عظيم حتى بلغ سواحل بيروت، وتضايق الزحليون منه ومات كثير من المواشي.
وفي 24 أيار انكسفت الشمس قبل الظهر بساعتين، وبقيت بضع ساعات.
وسنة 1789 حدث خلاف بين الأمير يوسف الشهابي والجزار، وانضم الأمير جهجاه الحرفوشي إلى الأمير الشهابي، فزحفت عساكرهما على وادي التيم، وفي 20 تموز التقيا في وادي عباد بعسكر الجزار وأمراء حاصبيا وعساكرها؛ فكان النصر للشهابي والحرفوشي وقتل من عسكر الجزار نحو مائتي نفر، فأوغر ذلك صدره غيظا وأرسل عسكرا إلى البقاع، وضبط غلالها ليحمل الناس على خلع الأمير يوسف واستمال الجنبلاطيين، فسعوا بتأييد آرائه فترك الأمير يوسف الحكم لابن أخيه الأمير بشير قاسم الشهير، وما استتب له الحكم حتى طلب منه الجزار طرد الأمير يوسف من البلاد، ففر هذا إلى صرد (جرد) كسروان، والتقى الجيشان في وادي الميحان، وهو عسر لا تسلك فيه الخيل إلا بشعب ضيق في حرج (حرش) كثيف الأشجار. وكان كمين من عسكر الأمير يوسف بينه رجال جبة بشراي والمشايخ الحماديون وأعوانهم في ذلك المضيق، فلما أقبل عسكر الأمير بشير وبينهم الزحليون وغيرهم من رجال البلاد أوقعوا بهم وفتكوا كل الفتك، فقتلوا منهم على حين غرة خلقا كثيرا، ولما رأى الأمير بشير أن عسكره كاد يندحر جرد سيفه وكر أمامهم، فتبعوه وصدموا عسكر الأمير يوسف بقلوب قوية، فشتتوا شملهم ومزقوهم كل ممزق ففر الأمير يوسف إلى الجبة ومنها إلى طاريا في بلاد بعلبك فالزبدانة فمنين قرب دمشق فحوران. وقتل بهذه الموقعة بعض الزحليين لهجومهم مع الآراء اللمعيين، ومن الجنبلاطيين قتل أو دعيبس بن علي بن بشير جنبلاط. والشيخ يوسف الدويهي من الجبة وغيره، وعرفت هذه الموقعة بموقعة الميحان إلى يومنا.
وفي هذه الأثناء اشتد الخلاف بين الأمراء الحرفوشيين على حكم بعلبك، وكان الخلاف بين الجزار والأمير يوسف شديدا، وهكذا الحال في وادي التيم، فعم الويل في البلاد وكثر القلق واضطرب حبل الأمن، وكثرت المهاجرة إلى زحلة من جهات كثيرة، ولحقها خسائر ومخاوف ومصادرات كثيرة. وكان الأمير جهجاه قد صودر بأموال وافرة كما مر، فلم يستطع دفعها فدهمه الحاج إسماعيل الكردي من حمص بعساكره تلبية لطلب وزير الشام، ولما كان جهجاه خارج بعلبك سبي حريمه الأربع وماله وأمتعته وذهب إلى دمشق. فاشتد غيظ جهجاه وجاء بعلبك وعاث فيها وتهدد سكانها، ففروا مع كثير من سكان قرى بعلبك إلى زحلة ونواحي دمشق.
وفي شهر تشرين الثاني جاء الحاج إسماعيل المذكور واستلم زمام أحكام بعلبك، وتأثر الأمير جهجاه حتى كرك نوح، ففر إلى زحلة وذهب معه بعض سكانها إلى فالوغا مستصرخا الأمراء آل مراد اللمعيين، فسكنوا روعه مدة ثم عاد إلى زحلة بكثير من الرجال، فبعث نقولا الدروبي من زحلة إلى الحاج إسماعيل في بعلبك يخبره بمجيئه، فقصده بست مائة فارس ومائة راجل ولما دنا من زحلة أرسل چاويشا ينادي فيها بالأمان، وأن لا يتعرض لأحد من الزحليين ولكنه يبغي القبض على الأمير جهجاه؛ فأجابوه أن هذا خصمك جهجاه خارج إليك فاعمل به ما تشاء. وكان جهجاه قد هجم برجاله وبينهم الزحليون، فدحر حاكم بعلبك وعسكره وتأثروهم وأعملوا السلاح في أقفيتهم، فقتلوا منهم نحو مائتي رجل دون أن يمسوا بسوء وبقي يطاردهم إلى قرب الزبداني، ثم عاد إلى زحلة، وكان ذلك في العاشر من كانون الثاني سنة 1790م. وفعل جهجاه أشياء منكرة مع من عاد إلى بعلبك، ولا سيما قطع رأس المفتي وغيره ممن حرضهم على تركها، فزاد في طين الخلاف بلة وأوغر صدر الوزير حقدا ونوى الاقتصاص منه ومهاجمة زحلة وإحراقها، فمنعه سقوط الثلج الذي برد نار انتقامه. فبلغ الزحليين قصده فتركوا بلدتهم، ثم توسط الأمر الشيخ عباس التل حاكم الزبداني، فأطلق سراح حريم الأمير جهجاه وأصلح بينه وبين الوزير على أن يغرم بأربعين كيسا، ويرهن أخاه لقاء الأموال الأميرية المتأخرة عنده وحمل إليه خلع الولاية، فطلب الأمير بشير مالا من الزحليين، فجمعوا له خمسة عشر كيسا وأرسلوها فلم يكتف بهذه المصادرة؛ بل أرسل من قبله من صادر أغنياءها، فأخذوا من فرنسيس ابن الحاج فرح البعلبكي نحو ثمانمائة غرش، ومن طنوس حجي خمسمائة ومن غيرهم غير ذلك، ثم فرض على زحلة 15 كيسا فتضايق الناس وفر بعضهم.
وفيها جاء زحلة الأمير قاسم الحرفوشي بإيعاز الأمير بشير والجزار، ومعه عسكر من الدروز والنصارى من دير القمر وجمع من زحلة نحو 500 راجل، وذهب بهم لمحاربة ابن عمه الأمير جهجاه الذي كان معسكرا في تمنين، فلاقاهم إلى أبلح فهرب الدروز ولحقهم جهجاه، فقتل بعضهم ونزع سلاح الآخرين، وذلك في 21 حزيران فبعث الأمير عسكرا لمصادرته، فجاء زحلة ونهب بغال دير مار إلياس الطوق وحرق بيادره.
وسنة 1791 اشتد الخلاف واتقدت نيران الفتن بين الأمراء الشهابيين، وشنق الجزار الشيخ غندور بن سعد الخوري وغيره. وكان بعض ممالئي الأمير يوسف الشهابي ضد الأمير بشير قد حركوا دفين حقده، فطلب الأمير بشير عسكرا من دمشق ومن الأمير أسعد الشهابي حاكم حاصبية وأرسلهم إلى البقاع، فخيموا في بر إلياس وهاجموا زحلة مرارا، فانتصر الزحليون عليهم وقتلوا منهم 15 شخصا، ثم نزل الدروز إليها وثقلوا على سكانها، ففر بعضهم والباقون حاربهم عسكر دمشق، فانتصر عليهم وأحرق زحلة في 26 تموز وأحرق دير النبي إلياس الطوق، ولما عاد العسكر إلى دمشق رجع الزحليون والأمراء إلى بلدتهم، وأعادوا بناء بيوتها حقيرة كبيوت القرى، ولكنها أحسن من ذي قبل.
وسنة 1793 اشتد الغلاء لكثرة الفتن والنهب، فصار كيل القمح الشامي بسعر 12 غرشا ولم يوجد، وقفة الأرز بثلاثين غرشا وكيل الذرة بثلاثة غروش
37
وتضايق الناس، فذهب بعض المكارين من زحلة إلى حلب لجلب الحنطة إذ كانت فيها رخيصة وكثيرة، فقبض عليهم متسلم حمص وأخذ منهم الحنطة، فاستغاث الزحليون بالأمير سليمان اللمعي في الشبانية، فأرسل أحد الأمراء وأمسك قفلا من المكارين ذاهبا إلى دمشق، وحجز عليه في مجدل عنجر، فطلب وكيل الجزار من متسلم حمص إرجاع بغال الزحليين فأبى، فقبض عليه وسجنه واسترجع الدمشقيون بضائعهم بتأدية قيمة مالية فكاكا.
وكثرت في هذه السنة الضرائب، فجمع حكام لبنان الشاشية من الفقير ثلاثين بارة ومن غيره أكثر، فجمعوا ثلاثين ألفا ثم جمعوا مالا ونصفا أيضا، ليدفعوا للجزار تتمة مائتي كيس صادرهم بها. وكان موسم الحرير غير جيد، فتضايق الناس أشد الضيق، وصار في هذه السنة ثمن كيل الحنطة الشامي 27 غرشا وكيل الذرة 18 غرشا ورطل الرز ريالا (عشرين بارة) ومد الكرسنة ريالا. وفشا الطاعون في البلاد.
وفي تلك الأثناء لما كثرت المهاجرة إلى زحلة بسبب الفتن التي سادت في سورية ولبنان وكثرة الضرائب التي استنزفت الأموال وضايقت الناس؛ صار الأمير بشير الشهابي يناوئ الزحليين ليعيد المهاجرين إلى مواطنهم، فقوى بني القنطار وحاطوم الذين كانوا في زحلة مع بني حسان، وجميعهم من الطائفة الدرزية من متن لبنان، فعاثوا في البلدة فسادا واشتد أزرهم، فازدادوا شرا وعتوا. وكان الأمراء الحرفوشيون قد شعروا بكثرة مهاجرة سكان بعلبك وقراها إلى زحلة، فأخذوا يصادرون المسيحيين ويقوون الدروز والشيعيين ليناوئوهم ولا سيما بنو مكارم الذين كانوا في ماسة من الدروز، وكثير من الإقطاعيين في البقاع.
ولكن الحواطمة الدروز سكان كفر سلوان وزحلة الذين كانوا من خاصة الأمراء اللمعيين، أوقدوا نار الثورة ضد الأمير بشير لما طلب الضرائب من اللبنانيين، فحاربهم بقيادة ابن عمه الأمير حيدر ملحم الشهابي الذي جاء بخمسين نفرا من العسكر ليحرق منازل بني حاطوم في كفر سلوان، فثار عليه أهل القرية واجتمع إليهم المتنيون وحاصروه في القرية ودخلوها وسلبوا رجاله، وقتلوا ثلثة منهم وقتل منهم هم خمسة، فامتدت الفتنة وامتنع اللبنانيون عن دفع الضرائب فأغر ذلك صدر الأمير غيظا.
وفي 19 حزيران سنة 1793 توفي المطران يوسف فرحات الكاثوليكي، وبقي مطرانا على «الفرزل والبقاع» كما كان يدعى إذ ذاك نحو ثماني عشرة سنة. وقد أرسل من قبله القس أنطون الجمال المخلصي لينوب عنه في المجمع الذي عقده البطريرك اثناسيوس جوهر في دير المخلص في 8 تشرين الثاني في سنة 1790م بعد تثبيته بطريرك على أثر وفاة البطريرك ثاودوسيوس الدهان. وكان برا تقيا محبا للزحليين ساعيا في ترقية شئونهم.
وفي هذه الأثناء صارت زحلة محل تجارة الغلال التي كان الزحليون يبتاعونها من حوران وحمص وجبل القلمون (بلاد الشرق)، وكثرت فيها أسواق البيع والشراء وازدحمت فيها الأقدام. وكان سكانها يشترون الأغنام من حمص ومن العرب في البقاع وبعلبك وما إليهما. وشاعت فيها صناعة النسج حتى اشتغل بها نحو جميع سكانها، وكانوا يحملون المنسوجات إلى نواحي حوارن ونابلس وحمص وبعض الجهات ويجلبون القطن فيغزلونه وينسجونه، وأهم منسوجاتهم الخام البلدي الذي كانت النساء تطرزه بالحرير أكسية للرجال والنساء. وكان عندهم خان يسمى «خان القطن» في حارة بني غرة الآن، فضلا عن اتجارهم بالقطران وغيره، فلما كثرت فيها الحركة التجارية والصناعية راجت سوقها، فطمع بها الدروز الذين كانوا فيها وفي البقاع فاتخذوها موطنا لهم، وكان الأمراء إذ ذاك يعضدونهم؛ لأنهم لم تنتشر المسيحية بينهم انتشارا كاملا، وكان حاكم لبنان يطلب المال الأميري من الأمراء والنواطير الدروز تجمعه؛ فتضايق الزحليون من هذه المصادرة والتثقيلات، وكانت عمشاء القنطار وأنسباؤها يعيثون في هذه البلدة فسادا واستبدادا، ولن يزال الناس يتناقلون أخبارهم الهمجية إلى الآن.
ولما كانت كثرة الضغط تحدث انفجارا أخذ الزحليون يستحثون قواهم ويجمعون كلمتهم وشتاتهم للتملص من هذا الاستبداد، فكانوا يعقدون الجمعيات ويتشاورون في اتخاذ أقوم الذرائع للضرب على أيدي مناوئيهم، وكان شيوخهم ذوي تدبير وسداد رأي، فرأوا من الحكمة أن يوالوا حاكم لبنان وينالوا لديه الحظوة ليتمكنوا من نيل متمناهم، فانتهزوا فرصة غضبه على الحواطمة وبعض الدروز.
ولما كان الخلاف مستفحلا بين الأمير بشير الشهابي الكبير وأولاد عمه أبناء الأمير يوسف الشهابي، وكان الزحليون ينتمون إذ ذاك إلى هؤلاء؛ لأنهم أصدقاء الأمراء اللمعيين استاء الأمير بشير من الزحليين، وهو معروف بحزمه وشدة انتقامه؛ فاجتمع وجهاء زحلة وشيوخها مرارا لإعداد الذرائع التي تخلصهم من الجور المحدق بهم، فلما رأوا الخلاف بين الأمير بشير والحواطمة وبعض الدروز؛ اغتنموا الفرصة وأخذوا يتحفزون للقيام على الدروز الذين أرهقوهم ولا سيما بني القنطار.
وفي سنة 1795 اشتد الخلاف بين الأمير بشير الشهابي والجزار، فجاء عسكر الجزار إلى البقاع، وكان يعيث فيه فسادا فنقل الزحليون أمتعتهم إلى الجبل، لكثرة ما نابهم من التحامل والضرائب والانتقام الذي عم البلاد ومصادرة الأمير بشير للأمراء اللمعيين أصحاب زحلة، فبحث الأمير بشير عن مستودعات أمتعة الزحليين، وضبط كثيرا منها في دير النبي إلياس شويا الأرثوذكسي قرب الشوير في متن لبنان. وكذلك في دير القديس يوحنا الصابغ في الخنشارة بجواره، وفي دير سيدة النياح في بقاع توته من أعمال كسروان قرب بسكنته وهما للكاثوليك، فازداد الزحليون كرها له، وكذلك كان كثير من اللبنانيين يميلون مثلهم إلى أولاد الأمير يوسف.
وفي هذه السنة تولى أولاد الأمير يوسف حكم بلاد جبيل من خليل باشا والي طرابلس الشام، فحاربهم عسكر الجزار بإشارة الأمير بشير. فهربوا وجاءوا زحلة وأرسل والي الشام الملا إسماعيل لنجدتهم، فأرسل الأمير بشير عسكرا من لبنان مع عسكر الجزار، وشبت الحرب في أراضي قب إلياس، فانهزم الملا إسماعيل وأولاد الأمير يوسف فروا من زحلة إلى بلاد بعلبك فدمشق، وقتل في هذه الموقعة الشيخ نمر النكدي وغيره.
وفيها فرضت الشاشية على كل شخص ثلاثة غروش، وصار على أثرها ضريبة فادحة، وكان ثمن كيل الحنطة في البيادر من ستة غروش إلى سبعة، ثم تناقص فرجع إلى الخمسة. وأتى جراد من الجنوب فأتلف المزروعات ورز في الأرض، فسلط عليه السمرمر في شهر حزيران فأفناه، وتضايق الزحليون واللبنانيون.
وفي أوائل سنة 1796م سام البطريرك كيرلس سياج القس باسيليوس جبلي المخلصي من يبرود أسقفا على زحلة باسمه، واستقدم إليه شقيقه فسكن زحلة وعرفت سلالته ببني المطران، وسكنوا في الحارة السفلى (التحتا).
38
وفي سنة 1797م شاع قدوم نابليون بونابرت ملك فرنسه إلى مصر، فخاف المسيحيون ولا سيما سكان دمشق وجاء كثير منهم زحلة، ولبثوا فيها زمنا وعمر أحدهم مسكنا قرب الدار الأسقفية، ثم عادوا إلى مدينتهم لما سكنت الخواطر.
وفيها كان الزحليون مرهقين من بني القنطار وحاطوم، وكان الأمير بشير حاقدا عليهم لا يقبل لهم شكوى على مستعبديهم، فانفتح لهم مجالا؛ لأن بعض المسيحيين في زحلة وبلاد بعلبك قاموا على بني مكارم الدروز في ماسة (البقاع)، واشتد الخلاف بينهم وامتد إلى لبنان حتى انتهى بطرد المكارميين وغيرهم من قرى بعلبك والبقاع إلى لبنان كما فصلت ذلك في كتابي «دواني القطوف». وبقي الخلاف بضع سنين اضطرب فيها حبل الأمن، وانكسرت شوكة الدروز، وجاء زحلة بعض الأسر مثل بني عطا وغيرهم من جبل القلمون ولبنان ورأس بعلبك.
وكان بنو القنطار سنة 1799 قد أحرقوا دار ناصيف نصر الله الحويص في عين الصفصافة (قرب الشوير في لبنان)، وكان هذا كاخية (كتخدا) الأمير منصور مراد اللمعي في المتن، فحنق عليهم الأمراء اللمعيون وأثاروا الزحليين عليهم، فبدءوا يتأهبون للإيقاع بهم بعد أن نالوا من حكومة لبنان التأديب الشديد.
وكان الزحليون يحملون الخمر والكحول (العرق) إلى عكاء للعسكر الفرنسي، وكانوا هم أول من قطرها فاخرة، فقطع عليهم الدروز الطريق في البقاع، وأوقفوا بعض قوافلهم وقوافل أهل بكفية من متن لبنان الناقلة خمرا، وكانوا من أخصاء الأمراء اللمعيين أيضا، فأرسل هؤلاء إلى مشايخ الدروز العماديين والنكديين وغيرهم ليردوا القوافل لأصحابها فلم يفعلوا، فأرسل الأمراء رجالا من زحلة والمتن إلى البقاع، فدهموا قرية كامد اللوز ونهبوها ثم أصلح ذات بينهم الشهابيون والتلحوقيون.
وكان الخلاف يشتد بين مشايخ الدروز والأمير بشير، مما سهل للزحليين التذرع لكسر قيود الذل التي أثقلتهم، ولا سيما بعدما تمكنت المبادئ المسيحية في نفوس الأمراء حكامهم فمالوا إليهم.
وهكذا كان ختام القرن الثامن عشر زمن تحريك لهمم الزحليين حتى يتخلصوا من ربقة الضغط، وكان يتعاقب على حكومة لبنان الأمير بشير الشهابي وأولاد عمه الأمير يوسف، فكثر الخلاف بين اللبنانيين لانحياز بعضهم إلى أحد الحاكمين، وكان الشعب في الغالب ينقاد للظافر منهما؛ فلذلك لم يستتب الأمر لفريق من الناس؛ بل كان الاضطراب سائدا والشقاق كثيرا والوزائع والضرائب فادحة والناس في ضيق شديد ينتظرون الفرج وانحلال هذه الضائقة (الأزمة)، وهكذا كان الزحليون ينشدون معهم قول الشاعر:
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
هوامش
زحلة الحديثة ووقائعها في القرن التاسع عشر إلى يومنا
ما عطس أنف القرن التاسع عشر للميلاد حتى كانت المبادئ المسيحية قد تمكنت من قلوب الأمراء الشهابيين ولاة لبنان واللمعيين أصحاب زحلة وحكامها، ورأوا من الدروز مناوأة شديدة وعصيانا، فأكثروا بينهم النزغات واستمالوا المسيحيين، ولا سيما الزحليين الذين كانوا أشداء بواسل، وتذرعوا بهم على الخضد من شوكة الدروز. وكانت الفتنة المسيحية المكارمية لن يزال شرارها متقدا، وهم يعاضدون المسيحيين لإضعاف الدروز.
وكان مشايخ الدروز أصحاب مقتنيات وقرى في البقاع، وشوكتهم فيه قوية ونفوذهم كبير، فأقام الأمراء مشايخ من وجهاء الزحليين ليحكموها مع بعض قرى البقاع، وكان حاكم البقاع من قبل والي دمشق أحيانا، وطورا من قبل حاكم لبنان. فكثرت الحوادث بين حكام زحلة وحكام البقاع، وامتد الدروز الذين كانوا في زحلة إلى البقاع ملتجئين إلى حاكمه ليساعدهم على الزحليين الذين كانوا قد تنبهوا، وأخذوا في استعادة حريتهم المفقودة واستقلالهم الشخصي.
وفي مطلع هذا القرن كان الجزار لن يزال مرهقا اللبنانيين ومن يجاورهم بتحامله، إلى أن توفي في 16 حزيران سنة 1804م فسكنت الاضطرابات.
وفي سنة 1805م وزع الأمير بشير الشهابي مائة وخمسين ألف غرش على لبنان؛ ليسدد ما بقي عليه لسليمان باشا والي عكاء، فعصى بنو حاطوم الدروز في كفر سلوان ولم يدفعوا هذا المرتب، فصادرهم ومنعهم عن التردد إلى زحلة. فشعر الزحليون بخفة وطأتهم ومالوا إلى الأمير بشير.
وفي سنة 1807م توسط الأمير بشير الشهابي عند يوسف باشا كنج الكردي والي الشام أمر الأمير جهجاه الحرفوشي لحكم بعلبك، وكان الحرفوشي قد علم أن الأمير بشيرا يرغب في امتلاك الكرك قرب زحلة، فكتب له بها وثيقة باسم أولاده الأمراء قاسم وخليل وأمين فصارت ملكهم. ومن أسماء بعضها إلى يومنا «الشهابية»، وهنأه بذلك نقولا الترك من قصيدة:
كما كرك البلاد بك استجارت
فعزت وازدهت بعد الإهانة
وقد جاءت براءتها تنادي
جهارا أنها لك مالكانه
وفيها وزع الأمير ثلاثمائة ألف غرش على ساحل بيروت وزحلة وإقليم الخروب، فدفع الزحليون ما عليهم مقابلة لما صنعه معهم الأمير، فازداد بهم تعلقا ومال إلى موالاتهم بعد أن كان يناصبهم العداء فنال شيوخ زحلة لديه منزلة كبيرة، ونفذت كلمتهم وتقووا على مناوئيهم، وبدأت حياتهم الاستقلالية من هذا الحين تنمو فيهم، وصار وكيل الأمير بشير يصرف أوقاته في زحلة لإدارة الكرك.
وسنة 1808م التجأ إلى زحلة المعلم عبود بن مخايل البحري الحمصي الخطاط الشهير فارا من وجه يوسف آغا الكنج الكردي والي الشام الذي تغير عليه وكان صاحب ديوانه. فأقام عبود في زحلة مكرما، ومنها كتب إلى الأمير بشير وأخبره عن هربه والتمس منه استجلاب أسرته وأخوته وختم عريضته بقوله:
وكنت أطالب الدنيا بوقت
فكان الوقت وقتك والسلام
فأجاب الأمير إلى سؤله. ثم استرضى الوزير وعاد إلى خدمته كما ذكر ذلك إبراهيم العوراء في تاريخ سليمان باشا المخطوط. ويروي الشيوخ أن عبودا هذا كتب مرة بخطه الجميل هذين البيتين:
تعطى التيوس معاشها بسهولة
وذوو الفصاحة رزقها مسجون
إن كان من أجل الذكا أحرمتني
يا ليتني بعد التيوس أكون
وكان عبود بعد رجوعه إلى دمشق يوالي شيوخ زحلة، ويفض مشاكلهم في البقاع وبلاد بعلبك ويزورهم ، ذاكرا ما لاقاه عندهم من الحفاوة، وزحلة مشهورة بتكريم ضيوفها وموالاتهم.
وفي سنة 1810م توفي في زحلة المطران يوسف سفر مطران حمص الكاثوليكي الذي سيم سنة 1760م، وسكن القصير وعمر دير مار يوحنا في رأس بعلبك وسكن فيه مدة، ثم تحامل عليه الحرافشة فسار إلى الهند والعجم، وعاد إلى زحلة فعمر فيها دارا بحارة الراسية، وسكن فيها إلى وفاته، ودفن في دير النبي إلياس الطوق؛ لأنه كان من الرهبان الشويريين. ونقش على ضريحه قول أحد الشعراء مؤرخا:
قد مات ريس كهنة الله العلي
حبر يسمى يوسفا وابن السفر
خمسين عاما ساس شعب الله في
طرق الهداية سالما دون الخطر
لما توفي قلت في تأريخه
حبر مجيد بالقداسة مشتهر
وفي هذه السنة أرسل يوسف باشا كنج والي دمشق يستنجد سليمان باشا والي عكاء لمقاتلة الأمير عبد الله بن سعود الوهابي الذي زحف بجنوده الجرارة من الحجاز إلى الشام، فاستصرخ سليمان باشا الأمير بشير الشهابي الكبير، فجمع هذا خمسة وعشرين ألف مقاتل من اللبنانيين البواسل، وبينهم عدد غفير من زحلة وبلاد بعلبك والبقاع، فسار بهم إلى طبرية، فالتقى بعسكر سليمان باشا بحفلة عظيمة، وانضم إليه ونصب له نحو أربعمائة خيمة، فتداولا بشأن يوسف باشا وسعيه في أخذ الأراضي التي للأمير بشير في بقاع العزيز. ثم أراه الوزير التقليد (الفرمان) بإسناد ولاية الشام إليه وعزل يوسف باشا واليها ومحاربته إذا عصى، فرغب الأمير في الحرب ليرفع تعدي الوزير عن أملاكه في البقاع، فارتدا بعساكرهما إلى جهة دمشق وخيما في ضواحيها في جديدة عرطوز ودارية. وكان يوسف باشا قد ذهب بعساكره إلى المزيريب في حوران لمقاتلة الوهابيين الذين كسرهم وأركنوا إلى الفرار، فلما بلغه ذلك عاد إلى دمشق مسرعا. وخرج بعسكره لمحاربة سليمان باشا، وحدثت موقعة في قرية قطنا والجديدة كما مرت الإشارة إلى ذلك من هذا التاريخ، وبقيت نحو ثلاث ساعات اندحر فيها والي الشام ببعض رجاله إلى طرابلس ومنها إلى مصر مستنجدا بمحمد علي واليها. فدخل دمشق سليمان باشا والأمير بشير برجالهما الأشداء بحفاوة وإكرام، وكان عسكر الزحليين قد أبلى بلاء حسنا، فنال التفاتا من الوزير والأمير. وقد نظم المعلم نقولا الترك شاعر الأمير قصيدة في هذه الموقعة، قال فيها يذكر هجوم الأمير بشير برجاله وكان يكنى «أبا سعدي»:
وسار الأمير المنتخي في عساكر
غدا النصر يسري معهم أينما سروا
وصف خيام الجيش من حول جلق
وعد لخوض النقع عمر وعنتر
فأشعر والي أمرها في مصابه
وفاجاه في أرض المزيريب منذر
فقام مهما طالبا دار جلق
ومذ حل ناديها طغاه التكبر
وأغراه للعصيان عظم عناده
ومن يعص أمر الملك هيهات ينصر
فلاقته فرسان المنايا مغيرة
نواخيذ أبطال من الأسد أجسر
وثارت وغى والسيف قد قارع القنا
وغطى الفريقين الغبار المكدر
وتم لنا إذ زمرة الضد أدبرت
وفي سهل داريا الأعادي تقهقروا
وتم لهم نصر من الله مقبل
بوجه أبي سعدى وفيه تبشروا
1
ونال ولدا الأمير عناية سليمان باشا فولي الأمير قاسما حكم جبيل والأمير خليلا حكم البقاع، كما أشار إلى ذلك نقولا الترك بهذه القصيدة:
فللقاسم المفضال قد وطد الولا
وعادت جبيل فيه تزهو وتزهر
وقطر البقاع اعتز في وجه شبله
خليل العلا ذاك الشهاب المنور
وكان للزحليين كلمة نافذة لدى الوزير والأمير التفتت إليهم أنظارهما، فأخذت بلدتهم في التقدم وكان الأمير خليل يساعدهم على كف يد الاستبداد عنهم. ويصادر مناوئيهم ويصرف معظم أيامه في زحلة قرب الكرك التي نالها مع شقيقيه من الحرافشة كما مر. فاغتنم الزحليون فرصة هذه المجاورة واستمالوا إليهم الأمير خليلا هذا، فتمكنت محبته لهم وألفت إليهم حب والده؛ فكان كل هذا باعثا لهم على كسر قيود الاستبداد عنهم.
وفي سنة 1811م مرت بزحلة أربعمائة أسرة (عيلة) درزية، استقدمهم الأمير بشير من الجبل الأعلى قرب حلب حيث جرى عليهم تحامل، وكان يرافقهم فارس منصور الشدياق المسيحي والشيخ حسون الدرزي، فتحمل الزحليون ثقلة كبيرة للإنفاق عليهم، ولكنهم لم تطل إقامتهم فتوزعوا في مقاطعات الدروز.
وفيها استأثرت رحمة الله بالمطران باسيليوس جبلي أسقف الفرزل والبقاع ودفن في مدفن الرهبان في دير مار إلياس المخلصية. وكان سنة 1806 قد حضر مجمع القرقفة (قرب كفر شيما في لبنان) الذي عقده البطريرك أغابيوس مطر، وكان هذا الحبر متزهدا متقشفا يتعمم بشال ويلبس عباءة سوداء ويركب حمارا في سفره، وكان وكيلا له الخوري مخايل مقصود الزحلي النساخ المشهور، وتولى هو أسقفية حمص بعد ترك المطران يوسف سفر المذكور آنفا لها، وقام بأعباء أعماله الحبرية، وشيد كنيسة السيدة في الفرزل ومطحنة قربها.
2
وفي هذه السنة؛ أي 1811م حضر مجمع عين تراز الذي انعقد لإنشاء مدرستها الإكليريكية. وكان واعظا يؤثر كلامه في النفوس لتواضعه وتقواه، خدم الأسقفية خمس عشرة سنة رحمه الله.
وفيها كان الزحليون مجتمعين في مأتم أحد سكانها. فتفاوض الشيوخ بإقامة أسقف خلف لأسقفهم المتوفى فصاح الجمهور بفم واحد إننا نختار الخوري مكاريوس الطويل الدمشقي رئيس الرهبنة المخلصية العام، فكتبوا للحال يستأذنون البطريرك أغابيوس مطر بسيامته راعيا لهم، فسامه باسمه وأرسله إلى زحلة، فعمر حالا في الدار الأسقفية شبه قاعة بابها في الوسط، ولها نافذتان على الجانبين وسعى بنجاح رعيته.
وفي سنة 1812م أمر الأمير بشير الشهابي الكبير بإبطال الخفارة من جميع طرق بلاده لنشر الأمن وتقريب المواصلات، وأخذ في استعمار زحلة والبقاع التي ملك حاضرتها الكرك كما مر.
وفيها جاء زحلة البطريرك أغناطيوس صروف الدمشقي، ونزل في الدار الأسقفية وألقى فيها عظات بليغة، ثم ذهب إلى بعلبك وعاد إلى زحلة ومنها إلى دير القديس سمعان العمودي قرب كفر عقاب حيث قتل على أثر ذلك في 6 ت2 ، وقاتله إلياس عماد المعلوف المكنى بأبي كشك وأولاده من كفر تيه (لبنان)، وملخص الحادثة التي فصلتها في «دواني القطوف» أن إلياس المذكور كان له ولد في سجن بيت الدين اسمه يوسف، متهم بقتل نسيب له، فجاء إلى البطريرك وتضرع إليه أن يعطيه وصاة إلى الأمير بشير الشهابي ليعفو عن ولده وهو يدفع دية القتيل، فأشار البطريريك إلى كاتم أسراره القس جرجس، الذي كان أخ المقتول أن يكتب له وصاة، وأخذ الكتاب إلى الأمير، وكان قد عزم على قتل ولد؛ فخشية أن يغضب البطريرك من عدم قبول وصاته علقه ليلا على أثر وصول كتابه إليه. فلما أصبح الصباح ذعر إلياس لتداول الناس أمر تعليق رجل على المشنقة، فذهب إلى ساحة السراي وإذا بولده قد علق؛ فصار الضياء في عينيه ظلاما، وعاد إلى كفر تيه قرب دير القديس سمعان العمودي وأساء الظن بالبطريرك معتقدا أن الوصاة كان سببا لشنق ولده، وأن كاتم أسرار البطريرك، هو الذي فعل ذلك والبطريرك سكت عنه. فترك قريته بأولاده الأربعة زمنا قصيرا، وفي أحد الأيام عادوا ليقتلوا نسيبهم كاتم الأسرار، ولعلمهم أنه ذاهب مع البطريرك إلى دير سيدة النياح كمنوا له على الطريق قرب زرعايا، وهناك لما شاهدوا البطريرك وحده أطلقوا عليه الرصاص، فقتلوه وفروا إلى قبرص، ثم عادوا إلى لبنان فشنقهم الأمير بعد سنة.
وفي سنة 1813 عاد فارس منصور الشدياق وأخوه يوسف إلى خدمة الأمير بشير الشهابي الحاكم بعد أن كان قد صادرهما وأبعدهما وتحامل على أقربائهما، فولى فارسا شئون قرية بسكنته في متن لبنان وقرية شمسطار في بلاد بعلبك. وولي أخاه يوسف قرية الشوير ثم زحلة، فأخذ يجمع له منها المال الذي كان قد رتبه على السكان والعقارات والمطاحن.
وفيها جاء زحلة الأمير بشير الكبير الحاكم، فاحتفل سكانها بلقائه، وبدأ بنقل الكرك إلى المعلقة التي لم يكن فيها بيوت. وتأسف لأن أبنية زحلة في الجهة الجنوبية فقط وليس في شماليها على عدوة الوادي وضفة النهر المقابلة المعروفة الآن بالقاطع، إلا ثلثة بيوت قرب قناة الماء (السكر) في الجهة الغربية، ولكنه قال: إن الزحليين سيحتاجون إلى مد أبنيتهم إلى هذه الجهة، وسيكون ثمن أرضها غاليا. وقد حققت الأيام قوله ولا سيما في عهدنا الحاضر. وفي أواخرها على أثر وفاة البطريرك إثناسيوس مطر الكاثوليكي انتخب مطران زحلة مكاريوس الطويل بطريرك على طائفته وأقام في دير المخلص.
وسنة 1815 تمكن الأمير بشير من الحكم في زحلة والبقاع، واستولى على قرية قب إلياس، وكانت غلتها وافرة فعرضها على أهل زحلة بغرش واحد المد، وكثرت في زحلة تجارة الحبوب وتواردت إليها صادرات البلاد، فسميت ميناء البقاع وبعلبك والجبل الشرقي (القلمون)، فرتبت فيها الحسبة على المد والقبان وكان دخلها للأمراء اللمعيين.
أما الأمير بشير الحاكم فبعد أن كان أسلافه الحكام يصادرون السكان بما يفرضون عليهم من الأموال، وقد صودرت زحلة منه مرارا رضي عن سكانها، وأحبهم ورتب عليهم كل سنة خمسة وعشرين قنطارا من السمن تصل إلى داره في بيت الدين، وقد تستبدل بخمسة عشر ألف غرش تتوزع على الحارات بمعرفة الدهاقين (الخولية)، وتتقدم له عن يد مشايخ زحلة الذين نصبهم لإدارة شئونها. وبعد ذلك صار يطلب من زحلة قرضا نحو أربعين ألف غرش في السنة، وقد يصل عند الحاجة إلى مائة ألف غرش، وكان هذا القرض عديم العوض، وكانت حركة التجارة في زحلة سريعة ونجاح البلدة وتقدمها غريبا.
وفيها في 3 ك1 استأثرت رحمة الله بالبطريرك مكاريوس الطويل مطران زحلة السابق في دير المخلص حيث دفن، وأقام على الكرسي البطريركي سنتين وأربعة أيام وكان برا غيورا.
وسنة 1816 كان كرسي زحلة الأسقفي الكاثوليكي فارغا منذ ثلاث سنوات لعدم اتفاق الكلمة على أسقف له، فذهب بعض شيوخ الزحليين إلى الخوري يواكيم بحوت الدمشقي، وبينوا له رغبتهم في انتخابه أسقفا عليهم. وكان العالم الخوري سابا الكاتب الشهير لا يريد ذلك، فأشار إلى الخوري يواكيم أن يطلب من الزحليين ألفي غرش لتجهيز الدار الأسقفية فنفروا منه، وأما الخوري سابا الكاتب فأقنع البطريرك أغناطيوس قطان أن الخوري أغناطيوس العجوري من الإكليروس الحلبي العلماني هو جدير بالأسقفية محبوب من الكرسي الرسولي وطلب منه أن يسيمه أسقفا على ديار بكر ثم ينقله إلى الفرزل والبقاع، فعرض البطريرك ذلك على الأمير بشير فرضي به وسامه في دير المخلص، ثم بواسطة الأمير بشير قبله معظم الزحليين أسقفا عليهم، وخلع عليه الأمير وأرسل معه بكباشي وعشرة فرسان، وكان الذين لا يريدونه من الزحليين قد أزمعوا أن يمنعوه من الدخول، وقد ذهبوا بحجة أنهم من الملاقين إلى ثعلبايا، فلما رأوا رجال الأمير معه ذهب بعضهم إلى جهة السهل والآخرون تظاهروا بالقبول ورافقوا جمهور الملاقين، فدخل باحتفال عظيم ولما تلي منشور البطريرك ومرسوم الأمير بشير أذعن الجميع لأسقفهم، وأحبوه كثيرا فبدأ في عمار بلدتهم، وكان نافذ الكلمة عند الأمير بشير الشهابي الكبير، وفي عهده امتدت تجارة الزحليين إلى حلب وأوروبة وكثرت أبنيتها.
وسنة 1817م كثر العمار في جهة القاطع الغربية، وكان من اصطلاح الزحليين أن الذين من سكانها بعهدة الأمراء آل مراد اللمعيين يتبعون الرهبان المخلصيين، والذين بعهدة الأمراء آل قيدبيه اللمعيين يتبعون الرهبنة الشويرية. وكانت الرهبنتان تبنيان الكنائس فتسمي الحارات باسمها، فسعى الخوري أغناطيوس الجامد من الرهبان الشويريين بعد استئذان السيد أغناطيوس ببناء كنيسة البربارة في جهة القاطع المذكورة، وأتمها فسميت تلك الجهة باسمها «حارة البربارة» إلى يومنا.
وسنة 1819 بعث الأمير بشير إلى الزحليين ريالات يوزلي، وطلب استبدالها بذهب عتيق بندقي فاستبدلوها وأرسلوها إليه.
وفيها قتل الأمير دياب الحرفوشي مخايل بن بولس غره وابن هلال من زحلة، إذ كانا يجلبان القطران من القطارة في لبنان الغربي، فبلغ ذلك الأمير بشير فتحامل على الحرفوشيين اقتصاصا منهم. وبعد بضعة أيام جاء الأمير دياب زحلة، فأهانه بولس غره وابنه شاهين ورميا به عن فرسه وهربا، فبحث الأمير عنهما واستقدمهما إليه وأرسلهما إلى الحرفوشيين على أمل أن يعفوا عنهما، فقتلوهما فأوغر عملهم هذا صدر الأمير بشير غيظا، فكان ينتهز الفرصة للانتقام من الحرفوشيين وسعى بمعاضدة الزحليين ضد الحرفوشيين.
ويروى أيضا أن بولس غرة وابنه شاهينا التقيا بالأمير دياب الحرفوش قرب سراي الأمير بشير أحمد «وهي إلى يومنا تحت ساحة القمح»، فأنزلاه عن فرسه وأهاناه فأغلظ لهما الكلام، فطعنه بولس بمدية طعنة كانت القاضية، ثم رد المدية إلى قرابها وقال لها: «لا أسف عليك إذا صديت (أي صدئت)». ثم أرسلهما الأمير بشير إلى مشغره في البقاع حيث كان الحرفوشيون، فقتلوا شاهين أولا وأطعموا والده من لحمه، ثم ألحقوا به أباه بولس فاغتاظ الأمير منهم، وقيل إن هذه الحادثة صارت سنة 1822م والله أعلم.
وسنة 1819م كان الأمير بشير قد حنق من الحزب اليزبكي، وتظاهر بمعاضدة الجنبلاطيين؛ لأسباب لا محل لتفصيلها الآن، فاغتنم هذه الفرصة للتنكيل بهم وإخراجهم من البقاع، فأرسل إليهم ولده الأمير أمينا ومعه فارس أبو حاتم من حمانا وعسكر من لبنان، فجاءوا زحلة وبقوا فيها أياما ثم عادوا إلى بيت الدين بعد أن فر اليزبكيون من أمامهم. أما الأمراء اللمعيون فكانوا أصدقاءه ولذلك كان يميل إلى الزحليين الذين كانوا من خاصتهم.
وفي أواخر كانون الثاني سنة 1820 عاد الأمير بشير من حوران إلى بيت الدين، فأرسل ولده الأمير خليلا إلى البقاع، فطرد واليها حسن آغا العبد (الذي عاث في البقاع وزحلة)، ونهب بعض القرى وتولى حكم البقاع، فغضب درويش باشا والي الشام ولكنه خاف من انحياز الأمير بشير إلى خصمه عبد الله باشا والي عكاء، فأرسل يسأل الأمير أن يخبره عن مطاليبه فأجابه الأمير بشير أنه يريد:
أولا:
رفع الحجز عن مقتنيات المشايخ الجنبلاطيين في البقاع مما ضبطه يوسف باشا كنج وسلفه.
ثانيا:
أن يكون حاكم البقاع خاضعا له كما هي العادة من القديم؛ وذلك لأن الحرافشة كانوا يحكمون البقاع ويعصون.
ثالثا:
أن يرفع زيادة الضرائب المستحدثة على البقاع.
رابعا:
أن يكون حاكم بعلبك ووادي التيم باختياره وإرادته وذلك لمصادرة الحرفوشيين وأنسبائه الشهابيين.
فأرسل الوزير يطلب الشروط خطا من الأمير، فمنعه عبد الله باشا من ذلك لئلا ينحاز إلى وزير دمشق خصمه، واستصرخه لمحاربته في راشية وأمده برجال، فجمع الأمير العسكر اللبناني وبينهم الزحليون فأبلوا بلاء حسنا، وكان عسكر عكاء ولبنان نحو خمسة آلاف وعسكر دمشق ثلاثة آلاف وكانت الثلوج كثيرة. وحدثت بعض مواقع خاض فيها اللبنانيون الثلج وظفروا بخصومهم وتوسط الأمر بين الأمير واليزبكيين فتهادنا. (1) موقعة المزة
ثم استؤنفت المعارك في الربيع عند ذوبان الثلج، فنهض الأمير بشير بعساكره إلى المعظمية قرب المزة بجوار دمشق، وانحاز عنه المشايخ اليزبكيون وأحلافهم، وانضموا إلى عسكر دمشق إلا الأمراء اللمعيين، واجتمعت جنود الفريقين هنالك وبينهم الزحليون وذلك سنة 1820.
فسار الأمير خليل ابن الأمير بشير بالأرناؤوط إلى الجبل فوق قرية المزة، فأطلق عسكر دمشق المدافع عليهم منها، فقتل مقدم الأرناؤوط وعادوا إلى المعظمية بعد أن أظهروا بسالة شديدة .
وفي 14 أيار (6 رمضان) صباح الأحد انتخب الأمير بشير نحو ألفين من عسكره فرسانا ومشاة من أهل الشوف والمناصف والمتن وبينهم الزحليون، ومن عسكر عبد الله باشا الدالاتية والهوارة، فهجم بهم على المزة هجمة واحدة وهدم أسوار البلدة، وكانت من لبن وامتلكها وأحرقها، وفر عسكر دمشق منه بعد أن قتل منه نحو مائتين وخمسين وأسر خمسمائة، وغنموا ذخائرهم وأسلحتهم. وكان ممن يحمل العلم اللبناني كل من يوسف الحاج شاهين وعبد النور الششم من زحلة، وهو أول علم لبناني مسيحي حمل إلى خارج لبنان، وكان من الألاوز (نوع من الحرير) ذا لونين أحمر وأخضر وفي أعلاه حربة في رأسها صليب. ولما هجم اللبنانيون وفي مقدمتهم الزحليون قتل بعضهم في هذه الموقعة، ومنهم إلياس حنا ضاهر من زحلة، وكان شابا فارسا شجاعا. ويقال إن أبا حبيب يوسف السكاف من قاطع زحلة وأبا درويش سمعان الصدي تبعا عسكر دمشق المنهزم، وأخذا رايته وعادا بها إلى المعسكر، فسر الأمير كثيرا بالزحليين. وتعجب لما أخبره وكيله أنهم عند مرورهم على جسر دير زينون في البقاع، لم يقبلوا ذخائر منه كما قبل غيرهم من العسكر اللبناني فأثنى عليهم. وعاد إلى المعظمية منصورا، وأطلق الأسرى اللبنانيين المنحازين إلى عسكر دمشق، وأرسل الباقين وكانوا 120 إلى عكاء، فسر بهم عبد الله باشا وأرسل يهنئه بظفره، وكان يود الدخول إلى دمشق ولكنه عاد إلى بيت الدين غانما، فهنأه شعراؤه بقصائد رنانة مثل قول المعلم بطرس كرامه الحمصي من قصيدة طويلة في موقعة راشية:
ويوما أقبلت رايات قيس
يقدن الخيل تعترك الحبالا
بشبان يرون الموت عزا
وشيب طالما اقتحموا النزالا
ونصر الله صاحبها يمينا
وآي العز قارنها شمالا
أقام بسفح راشيا خميسا
تخاف الدهر سطوته منالا
فأضرم في ذراها نار حرب
تصب على العداة بها النكالا
وقول المعلم نقولا الترك في موقعة المزة من قصيدة طويلة:
سل «مزة» الشام يوما غار مقتحما
حصارها وعلى أسوارها هجما
تلك التي ضمت الأعداء داخلها
كأنها «صيرة» قد جمعت غنما
هناك أصلى لهم نيران معمعة
ما حدثت سالفا في مثلها القدما
هناك خاض سراياهم بشرذمة
من آل قيس بزاة زاحمت دلما
هناك ولت عداه من سطاه كما
ولى الضباب ولكن قل من سلما
هناك كم جثث فوق الثرى سقطت
من العداة وكم من مفرق حسما
وكم شجاع قضى في نهرها غرقا
وذو السلامة فيها فر منهزما
وكم وكم شردت خيل وكم فرغت
سروجها إذ غدت فرسانها رمما
ثم بعد عودة الزحليين من هذه الموقعة وغضب الدولة على عبد الله باشا والأمير بشير، خافوا من عسكر الدولة الذي جاء إلى البقاع للاقتصاص من الأمير ورجاله الأمراء اللمعيين والمشايخ الجنبلاطيين، ورحلوا إلى لبنان مدة إلى أن أمنهم درويش باشا، واستعادهم إلى بلدهم فعادوا إليها مطمئنين، وكانوا يترقون يوما فيوما ذائعين شهرة ببسالتهم.
ولما شهد الأمير بشير بسالة الزحليين ازداد محبة لهم، وأقام لهم شيخين يوسف الحاج شاهين وإبراهيم مسلم الملقب بأبي عبد الله. ووكل إليهما إدارة شئون البلدة، فكانت زحلة إذ ذاك أشبه بجمهورية صغيرة يحكمها شيوخها بإدارة هذين الشيخين. ولما كان الزحليون قد ذاقوا لذة الظفر أخذوا يناظرون الدروز الذين كانوا مستبدين فيهم من قبل، وكذلك كانوا يناوئون الأمراء الحرفوشيين الذين كانوا يأخذون بيد الدروز لإذلال الزحليين. ولكن لم يطل الوقت حتى ذهب الأمير بشير إلى مصر للتوسط لعبد الله باشا ليبقى والي عكاء وعاد غانما، فسر الزحليون وذهبوا إلى بيت الدين وهنأوه فوعدهم بالمساعدة وسر بهم.
وفي أوائل هذه السنة لما كان محمد آغا بوظو واليا في حوران استقبل الأمير بشير الشهابي الكبير عند ذهابه إليها، فأهداه الأمير سيفا وبندقية ثمينين وسعى له بحكم البقاع، فجاءه ونال الزحليون لديه منزلة بإشارة الأمير، وكان بطرس نجم المعلوف والد نعمان المعلوف قد ضمن منه غلال البقاع، وقسم منها الثلث وأحيانا النصف، وكان ذلك بمثابة الأعشار فاحتكرها وربح أرباحا طائلة مع بعض مواطنيه، واتسعت تجارة زحلة وكثرت أهراء (حواصل) القمح فيها، وصارت واردات البقاع وبعلبك وجبل القلمون (الشرقي) وغيرها تباع فيها. وكانت الغلال رخيصة حتى بيع كل مد ونصف من الحنطة بغرش واحد.
وسنة 1822 كان الأمير بشير لن يزال حانقا على الأمراء الحرفوشيين، فقوى الزحليين عليهم فكثر بينهم الخصام، وحدث إذ ذاك أن الأمير جوادا الحرفوشي رأى كلا من إلياس أبي خاطر ومرعي شبيب من زحلة في قرية بريتال (بريتان)، فقتلهما فزاد ذلك في غيظ الأمير بشير الحاكم، فصار ينتهز الفرص للاقتصاص من الحرفوشيين.
وسنة 1823م بنت الرهبنة المخلصية كنيسة القديسة تقلا، وسميت الحارة التي تجاورها باسمها.
وفيها حدث سيل جارف في الشتاء حمل حجارة كبيرة وجنادل ضخمة وأشجارا عظيمة، فهدمت الجسر الكبير القديم الذي يقال إنه من بناء الصليبيين، مثل جسر الكرك (أي جسر المعلقة)، وكان واطئا متينا ضخم الحجارة، فرمم كما هو على حالته إلى يومنا.
وسنة 1824م نمي إلى الأمير بشير أن الأمير أمينا الحرفوشي في بدنايل «إحدى قرى بعلبك»، فأمر شيخي زحلة أن يذهبا برجالهما، ويقبضا عليه فسارا وطرقا القرية ليلا برجالهما، ففر الأمير هاربا وتقاتل الفريقان مدة انجلت عن قتل إبراهيم قادره الزحلي برصاصة أصابته.
وفيها أسند الكرسي الرسولي وكالة كرسي حلب الكاثوليكية إلى المطران أغناطيوس العجوري مطران الفرزل وزحلة والبقاع، فسار إليها وأحضر من حلب عشرة شبان درسهم وهذبهم بأوقات فراغه، وسامهم لخدمة الرعية الحلبية، وبقي أحدهم الخوري بولس سنكي في زحلة من الأكليروس الأسقفي ومنذ ذاك الحين بدأ تأسيس هذا الأكليروس في زحلة.
وفي سنة 1825م كسدت صناعة النسج التي كان نحو نصف الزحليين يشتغلون بها، وهي نسج الخام البلدي وجلب القطن، وكان من أنواع ذلك ما يعرف بخام تسع عدات، وهو نظيف ناعم وبعد صبغه يشبه الكرمسوت وأخذت في التناقض سنة فسنة. (2) موقعة بني القنطار
وفيها أي سنة 1825 استفحل الخلاف بين الأمير بشير الشهابي والشيخ بشير جنبلاط وأعوانه، فاقتص الأمير منه وضرب على أيدي الدروز، وخضد من شوكتهم وفت في عضدهم.
فانتهز الزحليون هذه الفرصة وأخذوا يتحفزون للقيام على بني القنطار وحاطوم وحسان الدروز الذين كانوا قد مكنوا سلطتهم في زحلة، وأرهقوا سكانها وساموهم الخسف وأثقلوا كاهلهم بالاستبداد، وكثر تحاملهم على الزحليين إضعافا لهم إذ رأوهم يزدادون تقدما يوما فيوما، فخافوا سطوتهم وخشوا نفوذ كلمة الزحليين لدى صديقهم الأمير بشير حاكم لبنان، الذي بدأ منذ ذاك الحين في مصادرة الدروز وإذلالهم، ولا سيما بعد مناوأته لرأسهم وكبيرهم الشيخ بشير جنبلاط (عمود الدروز) وعميدهم.
فكانت عمشاء القنطار وحسين القنطار الدميم المنظر، وغيرهما من العتاة يصادرون الزحليين ويحملونهم التكاليف الكثيرة، ويرغمونهم ويفرضون عليهم حمل المؤن والحاجات إلى بيوتهم بدون قبول أقل اعتراض أو أدنى مقاومة أو اعتذار، ومن خالف أوسعوه ضربا وشتما. فاحتمل الزحليون ذلك بادئ ذي بدء مرغمين، ثم أخذوا يدبرون الذرائع لكسر قيود الذل وحل ربقات الاستبداد.
3
فاستمالوا إليهم الأمير بشير الشهابي، واعتصموا بآراء شيوخهم، واستعانوا باتحاد كلمتهم على ذلك حتى طفح الكيل عليهم وعيل صبرهم، فعقدوا جمعيات كثيرة دبروا فيها ما يتذرعون به لنيل هذه الأمنية تخلصا من هذا العيث، ولما أجمعوا رأيا واجتمعوا كلمة، ووثقوا بمساعدة الأمير بشير لهم لما لاقاه من الجنبلاطيين الذين كان هؤلاء من أتباعهم، عقدوا العزم على التنكيل بهم وجمعوا لذلك قواهم.
فرأوا من الحكمة أن يتوقعوا فرصة فيها يظهر من خصومهم ما لا يطاق، فيبادئونهم العداء ويضربون على أيديهم بحجة اعتدائهم وعيثهم.
وبينما كان الحاج إبراهيم الصفدي التاجر في حانوته يوم الاثنين، دخل عليه أحد القنطاريين وطلب منه كوفية (كفية) وأمتعة أخرى بقيمة مائتي غرش ونيف، ولما أراد الانصراف دون أن يدفع شيئا من الثمن حسب العادة، أمسكه الصفدي، وقال له: ادفع لي الثمن لأن اليوم الاثنين ولا يجوز فيه الدين، فشتمه وذهب فلحقه إلى قرب خان الجبلي (في سوق البلاط الآن)، فرجع إليه ورفسه ودخل حانوته وأخذ يمزق البضائع ويلقيها ويدوسها ويرميها إلى الخارج، فحرك ذلك دفين غيظ الزحليين، ولكنهم حسب الاتفاق الذي دبروه صبروا على خصمهم حتى أفرغ جعبة حقده وكيده وعظم جرمه. فساروا مع الحاج الصفدي إلى شيخي البلدة إبراهيم مسلم ويوسف الحاج شاهين، فجمعا الزحليين حالا وأوصياهم أن يتأهبوا للقيام على هؤلاء العتاة. وصاروا يكررون التحرش والتحكك بأحراج القنطاريين وغيرهم من أعوانهم ليخرجوهم ويزداد عيثهم لتكثر جرائمهم، فنمى الخبر إلى الأمير بشير، فأرسل إلى زحلة جندا للمحافظة بقيادة بكباشي، وأمر شيخي البلدة أن يسهرا على حفظ الراحة، ولكن أوامره كانت مبهمة تدل على رضاه بإقامة الثورة ضد الدروز والتنكيل بهم، ولما عجز الشيخان والجند عن قمع الفتنة ثار الزحليون ذات يوم؛ لأن أحد القنطاريين تحرش بالخوري بطرس ديب مسلم الزحلي، وأهانه بمسمع ومرأى جمع غفير، فانقض عليه الكاهن وبدأ بضربه، وساعده الحاضرون حتى أثخنوه جراحا وتركوه بين حي وميت.
ثم تجمهر الزحليون وحملوا أسلحتهم وهجموا على منازل القنطاريين وأعوانهم، وكانت في محلات حارة مار إلياس المخلصية ومار ميخائيل ومار جرجس الكاثوليك ومار أنطونيوس الموارنة الآن، وأحدقوا بها وقتلوا منهم أربعة وعشرين رجلا للحال. فهرب القنطاريون وغيرهم من الدروز إلى السهول المجاورة حيث كانت عقاراتهم. فأرسل الزحليون شراذم إليهم، فقتلوا بعضهم ونهبوا قراهم واستولوا على عقاراتهم، فلذلك اعتصموا بجبال الزبداني وسرغاية، وقطعوا السابلة على المارة واتصلوا بوادي التيم، ولكنهم كانوا يضمرون السوء للزحليين ويتوقعون الإيقاع بهم والاستثآر منهم.
وعلى أثر ذلك كان كل من ظاهر حجيج من معلقة زحلة وصليبي أسطفان حريقة من وادي العرايش في جوار زحلة عائدين من دمشق، فاعتدى عليهم بعض القنطاريين وقتلوهما، فلما نمى الخبر إلى المعلقة جاء أيوب حجيج ابن أخ أحد القتيلين إلى زحلة وأثار السكان، فذهب منهم نحو ثلاثمائة بسلاحهم إلى بعض الجهات التي كان يعتصم بها القنطاريون وقتلوا من وقع في أيديهم ونهبوا القرى وأحرقوها، فخشي الناس من الزحليين ولم يستطع أحد أن يستقبل القنطاريين وأعوانهم في جميع البقاع وما يجاورها، فساروا إلى حوران ووادي التيم، واستولى الزحليون على عقاراتهم ومقتنياتهم وقراهم، وكان آخر العهد بهم ولن يزال على الألسنة ذكر هذه العداوة، فتقول العامة «مثل عداوة بيت القنطار» وكذلك مثل «عداوة بيت مكارم» التي مر ذكرها آنفا.
ولن يزال من القنطاريين بقية في كناكر ودامت العليا (حوران) وبكا ودير العشاير في وادي التيم، وفي المتين وكفر سلوان في لبنان.
أما بنو حاطوم فبقيتهم في كفر سلوان (لبنان) إلى يومنا، وفي رخلة (وادي التيم) وغيرهما.
ولما كانت هذه المذبحة التي بقيت مدة قد أقلقت الراحة، ونمي خبرها إلى ولاة الأمر في دمشق وعكاء اضطر الأمير بشير مكرها على أن يرسل أمرا مشددا إلى شيخي زحلة بإلقاء القبض على مثيري هذه الفتنة وزعمائها وأكثر من تهديدهم ووعيدهم. فإرضاء للأمير وتلبية لأوامره اجتمع شيوخ زحلة ووجهاؤها في دار أبي عبد الله إبراهيم مسلم. وارتأوا أن يجيبوا على مرسوم الأمير بشير بما يدل على ثبات جأش، فكتبوا إليه عريضة معناها:
أنهم مستعدون للقتال ذودا عن حياضهم ومحافظة على أعراضهم وأموالهم، وأنهم كانوا يودون العمل بقول ابن الوردي لو أمكنهم ترك بلدتهم:
دار جاء السوء بالصبر وإن
لم تجد صبرا فما أحلى النقل
ولكن القنطاريين أحرجوهم فأخرجوهم، ففعلوا ما فعلوا تملصا من استبدادهم ونفوسهم غالية لا يبيعونها رخيصة في سوق الهوان.
فلما قرأ الأمير هذه العريضة غضب غضبا شديدا وتغير على الزحليين، وحسب أن ذلك تطاول منهم على القانون وقلة احترام له، فسكن مدبره المعلم بطرس كرامه ثائر غيظه، وقال له: إن مثل هؤلاء الشجعان لا تحسن مصادرتهم، فلعلك نسيت ما أبلوا به من المواقع في قطنة والمزة وعهدهما قريب فالأولى بسيدي الأمير أن يعفو عنهم ويتخذهم أعوانا لحين الحاجة وهو الآن في موقف حرج يحتاج فيه إلى أشداء الرجال.
فسري عن الأمير واستقدم إليه شيوخ زحلة، ووبخهم وأمرهم بالرجوع إلى بلدتهم والمحافظة على الراحة والإخلاد إلى السكينة، وأن يبعثوا إليه بزعماء الفتنة للاقتصاص منهم. فلما ساروا إليه قرعهم على عملهم وحذرهم من العودة إلى مثل ذلك، وخلع عليهم علامة رضاه وأعادهم إلى بلدتهم مكرمين. وهكذا انفضت المسألة على هذا الوجه، وأخذ الزحليون في تعاطي أعمالهم وترويج تجارتهم وتقدم بلدتهم.
ومما يجدر بالذكر من تفاصيل هذه الموقعة الدموية أنها حدثت في سوق البلاط، وامتدت إلى المقبرة قرب دير مار يوسف الأنطوني الآن، فجندل الزحليون هناك نحو أربعة وعشرين قتيلا من القنطاريين، ففروا إلى أبلح وحشمش وعلي النهري من القرى التي كانت لهم، والغريب أنهم لم يدخلوا قرية حوش حالا وهي لهم، فلحقهم نحو ثلاثين من الزحليين ووراءهم كثير من سكانها، فقتلوا نحو ستة من القنطاريين على عين كفر سنه قرب أبلح و24 في علي النهري واثنين في مجدلون. وهكذا كانوا يتأثرونهم ويقتلونهم حتى أرهبوهم وأبعدوهم من تلك الجهات، وهذه المذبحة كانت بدء استقلال الزحليين وفك قيود إذلالهم وكسر نير عبوديتهم، فأبلى كثير منهم إبلاء حسنا. ولقد عرفت بعد البحث الكثير والسؤال المتواصل والإعلانات المتعددة مع عدم التلبية، أن الفاتكين في القنطاريين من الزحليين كثيرون، وأن الموقعة كانت عامة لم تقتصر على أقوام من الخاصة؛ بل كانت الصدور جميعها موغرة حقدا عليهم ومفعمة انتقاما منهم، والسيوف كلها مرهفة للاستثآر بعد أن طفح كيل بغيهم، وسئمت الأنفس عيثهم وممن يحضرنا من أسماء الذين كانوا في مقدمة المبلين والفاتكين بخصومهم المذكورين كل من يوسف الحاج شاهين وإبراهيم مسلم شيخي البلدة وعبد الله أبي خاطر وسابا الخوري شحادة صعب ودرويش سمعان الصدي وإلياس دموس وشاهين مبارك ومخول غرة وفارس هلال وأبي فارس خليل حجي وسمعان البحنسي وموسى وضاهر الخياط وأبي سمعان جرجس الخياط وعبد النور الششم وإلياس هاشم المعلوف وأنسبائه طنوس شبلي ونجم أبي ضاهر ومراد قيامه وأبي يوسف فرح وجرجس طرزا، وغيرهم من لم تبلغنا أسماؤهم مع رجائنا المكرر لتسميتهم لنا، فليعذرنا المواطنون؛ لأن «جهد المقل غير قليل.»
وفيها انتشر الطاعون في سورية واتصل بزحلة، وطعن اثنان من سكانها فأخرجا إلى البيادر، وطاف المطران أغناطيوس العجوري بالقربان حول البلدة يوم اثنين الفصح، فانقطع دابر ذلك الوباء الأسود إلى يومنا، ولن تزال تلك العادة حتى الآن ولكنها نقلت إلى خميس الجسد.
وفيها صار المطران أغناطيوس المذكور يوقع (يمضي) هكذا «مطران الفرزل وزحلة والبقاع»، بزيادة كلمة زحلة على توقيعه.
وفي هذه الأثناء بلغ الأمير حيدر إسماعيل اللمعي في بكفية (لبنان) أن ابن حجازي من قب إلياس أطال لسانه عليه، فأرسل الأمير يتهدده فخاف المذكور وجاء زحلة ليتوسط شيخها إبراهيم مسلم ليطلب له عفو الأمير عنه، فعلم الأمير بقدومه فأرسل ثلاثة من رجاله قتلوه، فتكدر الزحليون لعمله هذا؛ لأنه كان في حماهم، وندم الأمير على تسرعه وخصص راتبا لابن المقتول.
وسنة 1827م أحدث وزير دمشق مظلمة على سبع عشرة قرية من البقاع، فأمر الأمير برجوع سكانها بمالهم إلى بلادهم، فرجعوا وخربت البقاع. وجاء بعضهم زحلة. (3) موقعة سانور
وفي أواخر سنة 1829 طلب عبد الله باشا وزير عكاء الأموال الأميرية من النابلسيين، فعصوا ولا سيما آل طوقان وجرار وبرقاوي وعبد العال ودحيش وأبي غوش وغيرهم، واعتصموا بقلعة سانور النابلسية، وكانت حصينة الموقع منيعة الجوانب حاصرها الجزار مرارا، وكان زعيم العصاة أسعد بك طوقان والشيخ قاسم الأحمد الجرار، فحاصرهم عبد الله باشا زمنا حتى أوشك أن يرجع عن هذا الحصن مخذولا، فاستصرخ الأمير بشير الشهابي فجمع من مقاطعاته نحو ألفي مقاتل كلهم أبطال مدربون، وذلك في اليوم الثالث من بدء سنة 1830م، وبينهم نحو خمسمائة مقاتل منهم مائتان من زحلة وثلاثمائة من بسكنته وكفر عقاب في المتن، كانت نفقتهم على حسابهم الخاص إذ لم يقبلوا مثل غيرهم نفقات الأمير الحاكم، فسار إلى عكاء فالناصرة، ثم جاء إلى قرية جنين التي تشرف على سانور واستقبله هناك عسكره باحتفاء بالموسيقى وإطلاق البنادق. فلما رأى النابلسيون الذين خارج القلعة العسكر اللبناني، وكانوا يعملون باسه في المواقع الماضية جمعوا ثلاثمائة فارس من العرب، ومنعوا العسكر الاستقاء من ينبوع خيموا قربه، فوثب عليهم المتنيون ولا سيما سكان زحلة وبسكنته وكفر عقاب، وأعملوا فيهم السيوف حتى دحروهم إلى قريتي عرابة وعجة طولوزة، فاعتصموا هناك، فحاصرهم عسكر الأمير الذين اندفق كالسيل فحمى بعض الفرسان المذكورين عين جباع، فلم يستطع النابلسيون أن يستقوا منها فضويقوا، ولكنهم ثبتوا في الحصار وحمي وطيس القتال، ففر النابلسيون جميعهم إلى سانور، واعتصموا بمعقلها المنيع فشدد اللبنانيون في حصارها، وكان شجعانهم يحمونهم من هجوم النابلسيين، وجرت أمام القلعة مناوشات عديدة عادت على النابلسيين بالخسارة والفشل، فجدد حصارها بإطلاق المدافع، فهدم أكبر أعاليها، ولما خيم الغسق في ذلك اليوم العصيب كانت النابلسيات يغمسن الدثر (اللحف) بالزيت ويشعلنها ويطرحنها خارج القلعة؛ لينظر رجالهن عساكر الأمير ويطلقوا عليهم الرصاص. وكان الأمير بشير قد شعر بحرج الموقف وقلة العساكر، فأرسل رسلا إلى الأمير حيدر إسماعيل اللمعي ليوافيه بعسكر آخر من البلاد، فجمع من فوره جيشا جرارا بقيادته، وبادر لمعاضدة الأمير، فوصل إليه والقلعة قد فتحت عنوة، وتم النصر للبنانيين الذين أبدوا بسالة لا مثيل لها، ولا سيما الزحليون والمتنيون، وكانت قد نفدت ذخائر الخصوم وخارت قواهم، فأنفذوا حسينا عبد الهادي من زعمائهم إلى الأمير، فتم الصلح على شرط أن يهدم الثائرون القلعة بأيديهم ويسلموا أسلحتهم لعبد الله باشا، فدكت أبنيتها حتى أسسها وعطلت آبارها ومغاورها وأنفاقها (دهاليزها)، وغشى عبد الله باشا مدافعه بجوخ أحمر إشارة إلى فتحها. وكان في داخل القلعة أكثر من ألف ومائتي نسمة منهم من مشايخ بني الجرار اثنان وأربعون، فعند تسليمها لم يبق منهم سوى 367 رجلا، والباقون قتل معظمهم وفر الآخرون، وقتل من عسكر الأمير بشير سبعة وثلاثون رجلا للحال، ومنهم أسعد حمادة الدرزي من بعقلين، وحنا الشنتيري الماروني من بكفية، وكانا بطلين مدربين ووقع أحد عشر جريحا توفوا منهم صليبي أبو طقا ويوسف الطباع، واثنان آخران وهم من زحلة، وبريء من المجاريح مائة وخمسة بينهم بعض الزحليين منهم بولس أبو سابا ممن كان الأمير بشير يضمد جراحهم بيده. وعاد الأمير بعسكره ظافرا ولم يدخل عكاء؛ لأن الطاعون كان متفشيا فيها ، فلاقاه اللبنانيون بموكب عظيم إلى صيداء وهنأوه بالظفر، وطار صيت اللبنانيين ولا سيما الزحليين والمتنيين وعرفوا بشجاعتهم وإقدامهم.
ومما يرويه الشيوخ أن كلا من إلياس هاشم المعلوف وطنوس شبلي المعلوف من شليفه في بعلبك حميا عين جباع، فلم يستطع النابلسيون الاستقاء منها فتضايقوا، وكذلك طنوس الطباع وخليل أبو عيد حجي من زحلة دخلا قلعة سانور ليلا في أثناء الحصار، وقتلا أحمد الجرار البواب وحمل أحدهما طنوس رأسه وبندقيته، وتلك البندقية بيعت منذ أمد يسير إلى أحد أفراد أسرة الشميل؛ فسر بهم عبد الله باشا حتى إنه قال لمشايخ بني الجرار العاصين: «أما تعلمون أن عسكر الأمير بشير اللبناني مدرب بالحرب والكفاح، وأميرهم ما سار في مهمة إلا وكان النصر حليفه، أما سمعتم ما جرى بموقعة المزة وكيف اقتحم سورها بفرسانه وأحرق القرية، أما علمتم بفتكه بعسكر درويش باشا»، ثم أخذ يعدد لهم المواقع التي أبلى فيها اللبنانيون فوقع الرعب في قلوب المشايخ وطلبوا العفو.
ولما زار هذه القلعة كل من روبنصن وسمث الإنكليزيين على أثر هذه الموقعة، وصفاها وصفا مدققا وذكرا حصانتها وموقعها كما بينت ذلك في «دواني القطوف»، بتفصيل واف راجع صفحة 236 متنا وحواشي. (4) إبراهيم باشا المصري في زحلة
وسنة 1830م جاء إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا جد الأسرة الخديوية إلى سورية وفتح عكاء. وكان الأمير بشير الشهابي من أنصاره، فبعث إليه أن يجمع كمية وافرة من الشعير لخيول فرسانه فطلب الأمير من الزحليين ذلك، فأرسلوه وقدموا أيضا ما تحتاج إليه خيول عساكره التي كانت مخيمة على بيادر الكرك وكان قوادهم نازلين في ثكنة (شونة) معلقة زحلة التي عمرها بأمر الأمير بشير عيسى الخوري مخايل عيسى من بحمدون جد بني البحمدوني في زحلة، وكان من خاصة الأمير وشيخ المعلقة نافذ الكلمة لدى الوزير والأمير يبلغ الزحليين أوامرهما.
وسنة 1831م جاء الأمير قاسم ابن الأمير بشير الشهابي الكبير مع مهندس أفرنجي زحلة، فاحتفر خندقا حولها خشية أن تفاجئهم العساكر التي اجتمعت في حماة بقيادة الوزراء لمحاربتهم، وانضم إليها الأمير أمين الحرفوشي حاكم بعلبك، ولم يطل الوقت حتى بعث إبراهيم باشا إلى الأمير قاسم في زحلة يخبره بالنصر في مواقع حماة ونواحيها، ويطلب منه أن يرسل الذخائر الحربية (الجبخانة) إلى بعلبك؛ فأرسلها إليه وكان قد جاء بعلبك، ونزل في القلعة لكثرة المطر.
ثم جاء زحلة من عكاء عباس باشا أخ الوزير بألف جندي، وكانت طريقه على جسر المجامع فمرجعيون، وبقي ثمانية أيام لكثرة الأمطار، وكان يصحبه الأمير محمود ابن الأمير خليل ابن الأمير بشير الشهابي، ومعهما ذخائر حربية ومدافع وقافلة من الجمال، فوصلاها في أواسط شهر ذي القعدة سنة 1247ه (1831م). وفي 23 ذي القعدة وصل الأمير بشير زحلة قادما من بيت الدين، وحضر إليها إبراهيم باشا من بعلبك يحف به أربعة فرسان، فرأى الخندق الذي حفر حول زحلة ونظم عساكره ورتب طريقة مدافعتهم، ثم بلغه حدوث خصام بين الدروز والمسيحيين في دير القمر والمتن بدسائس آل جنبلاط، فسار من فوره إلى بيت الدين بعساكره وسكن الثورة، ثم نمي إليه أن عسكر حماة مخيم في بلاد بعلبك، فجاء زحلة بعسكر الجهادية فتأكد كذب الخبر وأن الوزراء في حمص، فبقي هو في زحلة يرتب حركاتها العسكرية، ثم لما قدمت العمارة المؤلفة من أربع عشرة سفينة من الإسكندرية إلى طرابلس مثقلة بالذخائر، وفيها سريتان (ألايان) من الجهادية عددهم ثمانية آلاف أرسل، فاستقدم نصفهم إلى عكاء والنصف إلى زحلة. وصارت الحركة المركزية لجنده في زحلة لتوسطها بين المدن الأخرى.
ففي 12 ذي الحجة أرسل الأمير محمودا الشهابي من زحلة، ومعه يوسف بك الضابط بخمسمائة جندي لملاقاة العسكر القادم من طرابلس، وللقبض على بعض الثائرين فأمسكوا بعضهم وعادوا إلى زحلة. وفي هذا اليوم سار إبراهيم باشا من فيلق (أوردي) زحلة إلى فيلق عكاء، فوصلها بيومين.
وفيها؛ أي سنة 1831م كادت تتلاشى صناعة النسج في زحلة، لورود الخام من أوروبة بحرا في المراكب، فرخصت أثمان الخام فيها كثيرا، فترك الأهلون هذه الصناعة التي كانوا جميعهم يشتغلون بها، ويربحون منها أموالا كثيرة. وكان من بواعث إماتة هذه الصناعة تجنيد الزحليين وتسخيرهم مثل غيرهم من اللبنانيين، وانشغال نسائهم بخدمة الجنود المصرية المخيمة عندهم.
وسنة 1832م أرسل الوزير إبراهيم باشا الذخيرة من صيداء إلى زحلة، وسخر لها جميع الجمال والبغال والحمير من بلاد جبيل إلى بلاد صفد، ودام ذلك شهرين، فاجتمع نحو ثلاثين ألف عسكري مصري فيها، وجمع الأمير عسكرا من لبنان واتخذ الوزير زحلة النقطة الكبرى لمواقعه، وازدحمت الجيوش في ضواحيها واكتظت بالذخائر، وكان العسكر يجري التمرينات الحربية والموسيقى والطبول ترتج لها تلك الضواحي، ويتجاوب صداها في وادي البردوني. وفيها أرسل الأمير بشير الشهابي الذي كان مخيما بعسكره اللبناني، وبينه الزحليون في مرجة دمشق إلى ولده الأمير أمين أن يجيء زحلة من بيت الدين، ويجمع أربعة آلاف غرارة شعير من بلاد بعلبك والبقاع للعساكر، ويستودعها بعلبك وزحلة، فأتم الأمير أمين أمر والده بمساعدة الزحليين، وأخذ كثير منهم يتجرون بالحبوب ويحتكرونها ولا سيما الشعير. وقد اشتد الغلاء في هذه السنة، وصار ثمن مد القمح 12 غرشا مما لم يسبق له مثيل في زحلة التي كانت إذ ذاك مستودعا لحاصلات حوران وبلاد الشرق وبعلبك والبقاع. وفيها سار إبراهيم باشا الصغير وعباس باشا شقيق الوزير بفيلق زحلة إلى قرية حسيا قرب حمص.
وكان الأمير أمين الحرفوشي قد انضم إلى وزراء الدولة، الذين كانوا في حماة كما مر وجاءوا حمصا، فاغتنم ابن عمه الأمير جواد الحرفوشي هذه الفرصة، وترك دمشق وجاء زحلة لمقابلة إبراهيم باشا، وبواسطة أعيان زحلة ولاه حكم بعلبك وما إليها. وكانت المواقع تتوالى إذ ذاك بين العساكر العثمانية والجنود المصرية، فبقيت زحلة في أثنائها مخيما للعساكر المصرية ومستودعا لذخائرها وعددها ومؤنها ومباءة للوزير إبراهيم باشا والأمير بشير الشهابي وقوادهما ومدبريهما، مثل سليمان باشا الفرنسي وعثمان باشا وحنا بك البحري أمير اللواء وبطرس كرامة وغيرهم.
وسنة 1833م قدم زحلة القائد طيفور بك بألف عسكري مصري، وانضم إلى الفيالق التي فيها تعزيزا للأمن وتسكينا للحركات التي كان الدروز والحرفوشيون يجرونها في ضواحيها، لتعكير صفاء الراحة وإقلاق العساكر المصرية والأمير بشير.
وكان في هذه الأثناء إبراهيم باشا يختلف إلى زحلة هو والأمير بشير وكبار رجالهما، فتمكنت المودة بينهم وبين أعيان الزحليين وأحبوهم كثيرا، واتخذ الوزير ثلاثمائة عسكري من الزحليين بقيادة الأمير خليل ابن الأمير بشير الشهابي الكبير كان يرسلهم مع عسكره كأدلاء إلى كثير من الأماكن التي يجهلونها، واستخدم من سكانها أطباء في جيشه وصناعا وسعاة ونحو ذلك، منهم المرحوم أبو سليمان خليل الصليبي الحلبي الأصل الذي كان من أطباء أحمد باشا الجزار في عكاء، وكان قد قدم زحلة نحو سنة 1797م، وهو أول طبيب عامي طبب فيها؛ لأن الأطباء كان أكثرهم من الرهبان، ولن تزال سلالته فيها إلى يومنا باسم بيت أبي سليمان (بو سليمان ). ومن نكات الوزير اللطيفة معه أنه استدعاه يوما إلى المعلقة لتطبيب جندي يحبه، فلما رآه قال له: إنه يموت بعد ثلاث ساعات ولا فائدة من علاجه، فألح عليه بتطبيبه؛ لأنه كان عزيزا عنده، فكرر له كلامه الأول أنه سيموت بعد ثلاث ساعات، فقال لحاجبه: أوقفه حتى نرى إذا مات الجندي أجيزه وإلا اقطع رأسه. فمات الجندي بعد مرور ثلاث ساعات إلا بضع دقائق، فأعجب به وأجازه هو وولده إبراهيم بقبضة من الرباعي المجنزرة (المزنجرة) وصرفهما، وكان يعتمد عليه في تطبيب عساكره، وعند غياب أطبائه الذين كان رئيسهم كلوت بك الشهير مؤسس هذا الفن في مصر، ومنهم الدكتور مخايل مشاقة الشهير.
واتخذ قينا (قردحجيا) لأسلحته حنا مخايل عطا والد الطيب الذكر المطران غريغوريوس وموسى ابن شقيقه إبراهيم، الذي فاق عمه بمهارته في هذه الصناعة حتى أن الوزير كان إذا احتدم القتال، وأراد أن يحث (ينخي) جنده على إطلاق البنادق يقول لهم: «انزلوا بزناد موسى» أي أطلقوا رصاص البنادق التي زنادها (ديكها) عمل موسى عطا. وكان من سعاته درويش فرنسيس المعلوف الذي كان مشهورا بأمانته وسرعة سيره، فكان يبعث به إلى عكاء ودمشق وحمص وطرابلس، فيذهب ويعود بسرعة عجيبة؛ ولذلك لقب «الفرخ» لخفته ونشاطه، وكثيرا ما كان يقطع المسافة بين زحلة وعكاء بيوم واحد ولا سيما في الليل، فأجزل الوزير له العطايا واستأمنه برسائله الرسمية ومهماته وله معه أحاديث غريبة. ولما احتفر المعادن في مرجبا وقرنايل من متن لبنان ومشغره من البقاع، كان بنو الجريصاتي في زحلة المشهورون بصناعة الحدادة في مقدمة المشتغلين بمسابك الحديد والمصلحين الآلات الحربية. وكان مهنا بالش يشتغل السيوف والسكاكين ويصقلها، وقد تعلمها من رجل عجمي جاء زحلة، وكذلك أنطون وشقيقه مخايل الصيقلي كانا يشتغلان بالسيوف والجوارح حتى إن مخايل صك النقود، فقطعت الحكومة إبهام وسبابة يده اليمنى فلقب باسم «قريطم»، ولن تزال سلالته بهذا الاسم في زحلة وسلالة أخيه باسم الصيقلي. وكان كثير من أعيان الزحليين يضمنون نفقات الجنود المصرية، ويقدمون لهم حاجاتهم من مأكل ومشرب مثل بطرس أبي ظاهر المعلوف وشقيقه مخايل الملقب بأبي علي وعبد الله بو خاطر ويوسف العن وجرجس الزرزور وجرجس القرعان وغيرهم. إلى غير ذلك من الصناعات والأعمال التي اعتمد فيها على الزحليين.
وفي هذه السنة شيدت الرهبنة الحناوية الكاثوليكية كنيسة القديس أنطونيوس في قلب المدينة فوق الجسر القديم ولن تزال هناك، وهي آخر كنيسة رهبانية شيدت في زحلة؛ لأن المطران أغناطيوس العجوري أسقف المدينة اشترط على جميع الرهبنات الكاثوليكية أن لا تبني كنائس بعد هذه.
وفيها قدم زحلة الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم على أثر عودته من أوروبة سنة 1831 فاستقبل استقبالا حافلا، وكان معه ثلاثة من الآباء اليسوعيين، وهم الأبوان مبارك بلانشة وبولس ريكادونا والشماس ناصر وضعهم في عين تراز، فوهبهم الأمير بشير الشهابي بواسطة السيد أغناطيوس أسقف زحلة، الذي كانوا يختلفون إليه في تلك الأثناء قطعة أرض في ذيل الجبل في معلقة زحلة، حيث لم يكن هناك أبنية وكانت ملك الأمير، فشيدوا على نفقته دير القديس يوسف، وهو أول دير لهم في سورية ولبنان في القرن التاسع عشر، وكان الأمير حيدر إسماعيل اللمعي قد وهبهم أرضا في بكفيا وساعدهم ببناء دير لهم فيها. (5) موقعة جسر السن
وسنة 1834م لما استتب الحكم لإبراهيم باشا المصري في سورية أخذ يجند الأهلين، فعصى سكان بلاد الحصن وعكار وصافيتا ومعظمهم من النصيرية ، وكان سليم بك أحد قواده الأبطال في تلك الجهة بفيلقه، فطلب الوزير من الأمير بشير نجدة له، فأرسل ألفي مقاتل بقيادة ولده الأمير خليل، ثم أردفها بنجدة ثانية أكثر من خمسمائة مقاتل من زحلة وبسكنته وكفر عقاب بقيادة هيكل ابن إبراهيم مسلم أحد شيخي زحلة الملقب بأبي محمود، وكان حامل الراية (البيرقجي) يوسف طعمة عبود، فأخذ هؤلاء لهم طريقا مختصرا فوصلوا إلى جسر نهر السن مقابل تلك البلاد على بعد من طرابلس الشام، ونصبوا عليه رايتهم اللبنانية، فرآهم النصيريون من أهل الطروطة وبيت ياشور والقراضة، الذين كانوا كامنين مقابلهم تحت السريس
4
لقطع طريق الجسر على العسكر المصري، فأرسل هذا العسكر اللبناني الزحلي طليعة منه تستكشف العدو بقيادة يوسف الراعي، فلم يروا أحدا؛ لأن النصيريين خفتت أصواتهم وخفيت مخابئهم على الطليعة، فعادت إلى العسكر وأخبرتهم أن ليس من مقاتل هناك من الخصوم، فجلسوا إذ ذاك ليستريحوا ويأكلوا وقد كلوا من المسير وخارت قواهم جوعا، فاغتنم النصيريون فرصة اشتغال العسكر المتني الزحلي بالطعام، وانهالوا عليهم بالرصاص من طي مكامنهم وهؤلاء لا يرونهم، فانذعروا لساعتهم، وقاموا عن طعامهم وهم يشتهونه، وهجموا إلى جهة الجسر المقابلة، فكثر انهيال الرصاص عليهم وأصاب منهم المقاتل فاندحروا لساعتهم؛ لأنهم كانوا يرون الرصاص كالمطر ولا يعلمون مصابه، فتأثرهم فرسان النصيريين الذين كانوا يحمون الكمين، وأعملوا السلاح في أقفيتهم، فقتلوا منهم كثيرين بينهم نحو عشرين من الزحليين وعشرة من بسكنته. وبينما هم هاربون والنصيريون يتأثرونهم أدرك قائدهم رجلا من كفر عقاب اسمه نقولا القن المعلوف في مضيق لم يجد هذا منه مهربا، فأثنى نقولا على القائد النصيري بحسامه، فقطع قوائم جواده وأوقعه على الأرض فقتله، وكان هذا قائد تلك الشرذمة المدرب. ثم صاح نقولا بقومه وحثهم على الارتداد على خصومهم الذين ذعروا لقتل قائدهم فانثنى اللبنانيون، وردوا النصيريين على أعقابهم، وأثخنوهم جراحا وتأثروهم. وكان الأمير خليل قد أنجدهم بثلاثمائة مقاتل انضموا إليهم، فدخلوا البلاد وعاثوا فيها ونهبوا نحو خمسين من قراها وأحرقوها وغنموا كثيرا.
5
وكان مجموع القتلى من المتنيين نحو مائة ومن النصيريين عددا وافرا. وممن عرفناهم من قتلى زحلة أرميا أبو طقة وطنوس ابن أخيه ومخول الغسطاوي ويوسف حريز وإلياس أبو سمعان حجي وجرجس خير، ورجلان آخران أحدهما من بني الحمصي والآخر من بني القاصوف وغيرهم. أما يوسف طعمة حامل الراية فجرح على الجسر ورمى بنفسه إلى النهر، وهيكل إبراهيم مسلم قائد هذه الحملة جرح أيضا.
ومن النكات اللطيفة ما يروى عن عوض بك الأسد المرعبي أحد أعيان عكار، الذين تغير عليهم إبراهيم باشا أنه اجتمع مرة بأحد القواد المصريين على أثر هذه الموقعة في سوق العقادين في طرابلس الشام، فكتب القائد المصري على ورقة بيت عنترة القائل:
لي النفوس وللطير اللحوم ولل
وحش العظام وللخيالة السلب
وقال له انظر ما أجمل خطي! ففطن عوض بك وكتب تحته بيتا آخر من القصيدة هو:
إن كنت تعلم يا نعمان
6
أن يدي
قصيرة عنك فالأيام تنقلب
وقال له: وانظر أيضا ما أجمل خطي! وهي محاضرة بديعة.
وفي هذه السنة 1834م مني المطران أغناطيوس العجوري بداء الفالج، فعانى مضضه مدة ثمانية أشهر انتقل في آخرها إلى رحمة ربه وذلك في شهر آب، ودفن في دير النبي إلياس تحت النافذة الشمالية، وترك للكرسي خمسمائة كيس؛ أي مائتين وخمسين ألف غرش وزعها بوصيته. وكان قد خدم الكرسي ثماني عشرة سنة بغيرة واجتهاد ووعظ ناجع، وقد انضم بواسطته كثير من بني الطوائف الأخرى إلى طائفته الكاثوليكية مثل بني المعلوف والحاج شاهين الأرثوذكسيين وغيرهم، وزاد على ختمه كلمة «زحلة»، وأرخ ضريحه الشيخ ناصيف اليازجي بقوله وهو من أقدم منظوماته المهملة:
هذا ضريح غاب فيه كوكب
قد كان متشحا بثوب النور
وعلى جوانبه المؤرخ نادبا
مطراننا أغناتيوس عجوري
ونال هذا الأسقف منزلة كبيرة لدى حكام عصره، ولا سيما إبراهيم باشا والأمير بشير وبهمته انتشرت تجارة الزحليين إلى حلب والعراق وأوروبة وأسس الأكليروس الأسقفي، الذي جاء بكهنته من حلب وبقي منهم الخوري بولس سنكي، فتولى الوكالة الأسقفية بعد وفاته. وأنشأ أيضا أخوية القربان المقدس وأخوية العذراء، وكان لا يسام أحد من الكهنة والرهبان إلا بعد أن يمتحنه الطيب الذكر البطريرك مكسيموس مظلوم أو هذا الأسقف، كما تقرر في مجمع «دير البشارة» قرب زوق مكايل سنة 1831م. وفي هذه السنة على أثر ذلك جاء زحلة السيد مكسيموس المظلوم لانتخاب أسقف عوض أسقفها المتوفى. فانتخب الخوري باسيليوس شاهيات الحلبي من الرهبنة الشويرية الحناوية، فعارض فريق من السكان الذين يميلون إلى الرهبنة المخلصية، ويودون أن يكون أسقفهم منها. فرفع البطريرك الأمر إلى الكرسي الرسولي في رومية، وغادر زحلة غير راض عن بعض سكانها المعارضين. وبقي الكرسي فارغا ثلاث سنوات ووكيله الخوري بولس سنكي.
وسنة 1835م كان في زحلة طيفور بك المصري مع ألف جندي، ففرغ الزحليون لهم حارة الميدان فنزلوها، وكانوا يراقبون حركات الدروز، ويؤمنون الطرق المحدقة بزحلة والبقاع. وفي آخر هذه السنة سقط ثلج كثير تكاثف على الأرض، فتحير العسكر المصري في جرفه؛ لأنه لا يعرف ذلك، فتحمل الزحليون ثقلة جرفه لهم وإبعاده عن منازلهم؛ لأنهم لا يطيقون برده.
وفي هذه السنة انتظم مخايل بن حنا عطا الزحلي في سلك كهنة البطريرك مكسيموس مظلوم - وهو المطران غريغوريوس الشهير - فصار شماسا إنجيليا يرافق غبطته.
وفي صيف سنة 1836م ورد الأمر من الكرسي الرسولي أن يكون الخوري باسيليوس شاهيات الحلبي من الرهبنة الحناوية الشويرية الكاثوليكية أسقفا للفرزل وزحلة والبقاع، فاستقدمه إليه من عين تراز البطريرك مكسيموس مظلوم إلى دمشق مع الوكيل الأسقفي وبعض الأعيان، وسامه في كنيستها الكبرى (كاتدرائيتها) يوم خميس الصعود في 7 أيار من هذه السنة، وهو إذ ذاك ابن إحدى وأربعين سنة، فكان أول أسقف سيم فيها. ثم سار توا إلى بيت الدين وقابل الأمير بشير الشهابي ونال لديه منزلة، وعاد إلى زحلة وبدأ يرعى خرافه بغيرة وأسس الأكليروس الأسقفي الوطني الباقي إلى الآن، وأول من نعرفه منهم الخوري يوحنا ملوك الذي صار أسقفا بعد ذلك والخوري بطرس القطيني المعلوف والخوري فيلبس النمير، وقد سامهم في هذه الأثناء شمامسة وكان واعظا بليغا ومدبرا حكيما وراعيا ساهرا على أغنامه. ولما سافر البطريرك مكسيموس إلى مصر أقامه نائبا بطريركيا عاما، فسار إلى دمشق ولبث فيها ستة أشهر وعاد إلى زحلة مترددا بينها وبين دمشق، وهو أول من اتخذ سجلا للحوادث والوفيات والولادات ومنه اقتبسنا كثيرا من الفوائد.
وسنة 1837م أحدث الأمير بشير الكبير بيت مكس (كمرك) في زحلة لضمان ذبحية اللحم، ورتب الخرج (مال العنق) المسمى الفردة على سكانها لما شاهده فيها من رواج سوق الأعمال والحركة التجارية، ووكل تحصيل ذلك إلى خمسة من سكانها سماهم «الوكلاء»، كانوا يفضون مشاكل البلدة وقد ضمنوا (كمركها)، وصار الزحليون إذ ذاك يجلبون بضائعهم من بيروت بعد ما كانوا يستجلبونها من دمشق، وكانت هذه السنوات التي مرت على سورية بزمن الدولة المصرية أيام هناء وسلام ونجاح. ثم حدث غلاء عظيم فبيع مد الحنطة بثلاثين غرشا وذلك لم يسبق له مثيل، وفي أواخرها حدثت زلزلة قوية هدمت قباب الأجراس، وكانت حركتها من جهة طبرية وصفد حيث كان تأثيرها قويا وأضرارها كثيرة هنالك، أما في زحلة فلم يحدث عنها ضرر عظيم. ومنذ هذا الحين ضعفت سلطة الأمراء اللمعيين على سكان زحلة ومنعت مداخلة دهاقينهم (خوليتهم) بشئون سكانها فسعوا بتفريق كلمة الزحليين المجتمعة.
وسنة 1838م كان وكلاء زحلة المذكورون قد ضايقوا مواطنيهم بالرسوم التي يتقاضونها منهم وكثرت أحزابهم، فشكا الأهلون أمرهم إلى الأمير بشير مرارا فلم يعرهم أذنا صاغية؛ لأنه كان يحصل من زحلة بواسطة هذا الرسم أموالا طائلة، فأرسل السكان الخوري بولس سنكي النائب الأسقفي إلى بيت الدين لمقابلة الأمير، فلما فاوضه بذلك قال له الأمير: «هذا ما هو شغلك ولا يعنيك»، وكان هذا الأب جريئا فصيح اللسان قوي الحجة فأجابه: «يعنيني كثرة الخطايا الناتجة عن ذلك وتعطيل أشغال الفقراء.» وكانت عادة الأمير إذا تكدر من إنسان وأراد منعه عن الكلام يقول للواقف أمرق (انصرف)، وإذا لم ينصرف يأمر خدامه بطرده. فقال له بحنق «أمرق»؟ فأجابه الأب: «أنا مارق ومنصرف ولكن يوم القيامة يصيح الفقراء متظلمين أمام الله ولا تقدر أن تقول لهم امرقوا، وأنا سأشهد على ظلمهم، فأستغيث بالله وبسعادتك أن ترحمهم وترفع عنهم هذه المظلمة.» فأوغر كلامه صدر الأمير غيظا، وقال له بصوت ارتجت له القاعة: «قلت لك امرق»، فانصرف ملتفتا إليه وقائلا: «أنا منصرف ولكن الملاقاة عند الله الديان العظيم.»
وعاد إلى زحلة بفشل متأثرا، فلما رأى السكان ازدياد ظلم الوكلاء وعدم سماع الأمير شكاويهم رفعوا دعواهم إلى شريف باشا حاكم دمشق نزيل بيروت إذ ذاك، فجاء زحلة ومعه حنا بك البحري، فقص عليهما الخوري بولس سنكي حادثته مع الأمير، فتذاكرا وجزما بإبطال رسم الذبحية المذكور، وفاوضا الأمير بشيرا، فاقتنع بإبطاله وبعث إلى كل من الطيبي الذكر أغابيوس الرياشي مطران بيروت ولبنان الكاثوليكي والخوري إبراهيم الكعدي الأرثوذكسي والخوري موسى أبي كرم الماروني كاهني قصبة بسكنته في لبنان أن يحضرا إلى زحلة مع بعض خاصته، ويفضا هذه المعضلة التي أقلقته، فجاءوا زحلة ونزلوا في دير النبي إلياس الطوق الشويري؛ لأن السيد شاهيات كان إذ ذاك في عين تراز يدبر شئون مدرستها البطريركية. فحاسبوا الوكلاء فإذا أموال طائلة باقية ضمنهم ورأوا ظلمهم للسكان، فأخبروا الأمير فعزلهم وأرسل عوضهم من قبله وكيلا لفض مشاكل زحلة الشيخ وردان الخازن فنزل في المعلقة.
وفيها أمر إبراهيم باشا أولاد الأمير بشير وأعيان لبنان أن يلبسوا الطرابيش عوض العمائم، فعم استعمالها ولبسها بعض الزحليين مثل غيرهم، وكانت تعرف بطرابيش الدلح، وهي أشبه بجراب مسترسل على قذال (قفا) الرأس.
وفي هذه السنة سيم الشماس مخايل عطا الزحلي (المطران غريغوريوس) كاهنا باسمه من يد السيد باسيليوس شاهيات، وصار نائبا بطريركيا في دمشق وما يليها. (6) إخراج الدولة المصرية من سورية
ولقد كانت أيام إبراهيم باشا المصري في سورية أوقات سرور وهناء تخللها حروب ومناوشات، ولا سيما في عهدها الأخير، وكان لهذا الوزير محاسن وهفوات، فمن محاسنه تعميم الزراعة، وتنشيط الصناعة، وترويج التجارة، وتقرير حق التملك، ومنع الرشوة والتدليس، وإنشاء الدواوين، وكثيرا ما كان يرسل مأموريه إلى داخل البلاد للحض على تحسين الزراعة، وعدم إهمال الأراضي الفسيحة التي كانت مواتا، وعمم زراعة التوت، وأدخل زراعة الأرز والنيل، وأدخل دودة القرمز، وحفر المعادن والفحم الحجري، وأدخل المرسلين الإفرنج، وبدأت النهضة العلمية منذ ذلك الحين. ومن هفواته التي يتناقلها الشيوخ أنه بقر بطن جنديه؛
7
لأنه اشترى لبنا من امرأة ولم يعطها ثمنه فرفعت دعواها إليه، فقال لها: إنني سأقتله فإن رأيت أثرا للبن أعطيك ثمنه وإلا أقتلك، ولما رأى اللبن في معدة القتيل نقدها ثمنه، وله كثير أمثال هذه الحادثة.
ومن أهمها أنه أمر بجمع سلاح النصارى اللبنانيين، وأرسل مأمورا لذلك إلى زحلة، فضايق سكانها كل المضايقة، وجمع كل الأسلحة بقساوة وتهديد لم يشاهد الأهلون نظيرهما بعد أن تحرروا من الاستعباد القنطاري، وذاقوا لذة الحرية والاستقلال الشخصي، ورأوا انعطاف وزير إليهم، فخسروا أموالا طائلة ليس بقيمة الأسلحة الثمينة فقط؛ بل بقيم أسورة البنادق والسيوف المجوهرة (المسقطة) والخناجر المفضضة التي كانوا يتغالون باقتنائها، وكان بنو عطا يبالغون بإتقان عملها والتفوق برونقها ولا سيما لمواطنيهم.
وكان الزحليون فوق كل ذلك قد جشموا النفقات الباهظة بوجود العسكر المصري في بلدتهم وتجنيد الأهلين، حتى إن كثيرا منهم كانوا يستأجرون عوضهم رجالا يذهبون للقتال وينفقون على الجميع، فضلا عن تسخير الناس لحفر المعادن والدواب لنقل الذخائر والمؤن، فكثر الطمع بهم لسرعة نجاح بلدتهم، وحسبت في سعة كبيرة من العيش وذات أموال وافرة.
ومع كل ما أبدى الزحليون للعسكر المصري من المؤانسة والخدمة، وتحملوا لأجلهم من النفقات والأثقال لم يسلموا من تحاملهم عليهم حتى إنهم سنة 1840 لما عزمت الدولة باتفاق الدول على إخراجهم من سورية، نووا وهم في المعلقة أن ينهبوا زحلة ويحرقوها، لولا سليمان باشا القائد الفرنسي وحنا بك البحري وبطرس كرامة الذين منعوهم بإشارة إبراهيم باشا وتوسط بعض الأعيان.
وما جمع إبراهيم باشا أسلحة المسيحيين الذين لم يقاوموه ولا حاربوه؛ بل قدموا له أسلحتهم وتجندوا متطوعين وبينهم الزحليون حتى رأى مقاومة الدروز والعرب في حوران ووادي التيم وعصيانهم عليه، فاضطر مكرها أن يعيد الأسلحة إلى المسيحيين لينجدوه على الدروز الذين أرسل جنوده لمحاربتهم في حوران، فتحصنوا في اللجأ وعاثوا بوادي التيم واضطرب حبل الأمن، فكان ذلك من أهم أسباب العداء بين الطائفتين المسيحية والدرزية، فتوطدت بينهم الشحناء وكثرت النزغات. وكان حرب الأمير بشير الكبير وسعيد بك جنبلاط أول جذوة من هذه النار التي زادت الآن ضراما. فذهب المسيحيون متجندين مع العساكر المصرية وحضروا المواقع الكبيرة التي نشبت بينها وبين الدروز في حوران ووادي التيم ولا سيما وادي بكة. فأبلى اللبنانيون وبينهم الزحليون وكانت الثورات تتوالى والخصام يزداد اتساعا وعوامل الحقد تسكن القلوب فتحركها على جر الويل وإهراق الدماء.
ولما حارب إبراهيم باشا الدروز كما مر واعتقل بعض أعيانهم وأرسلهم إلى مصر مثل سعيد بك جنبلاط وملحم بك العماد وملحم بك حمادة وغيرهم ممن التجأ إلى الأستانة؛ أجمع الدروز على مقاومة إبراهيم باشا، وكان قد أرهقهم بأخذ سلاحهم وتجنيدهم مرارا وأوغرت صدرهم إعادته أربعة آلاف بندقية (بارودة) للمسيحيين؛ بل للموارنة بعد أن كان جمعها منهم، وحسبوا أنه بذلك سيقوي المسيحيين عليهم ويضعفهم، فيفتكون بهم فصاروا يثيرون المسيحيين على المصريين. وما صدر أمر الوزير بإرجاع البنادق الأربعة آلاف إلى المسيحيين حتى جاء من أبيه الأمر بجمعها منهم. فتكدر أهل دير القمر وغيرهم، وتجمهر اللبنانيون من دروز ومسيحيين، وعصوا بأسلحتهم قاصدين حرب المصريين، وهي الحرب المعروف «بالعامية»، إذ اشترك فيها عامة المسيحيين والدروز واتفقوا يدا واحدة على محاربة إبراهيم باشا، وكان ذلك في شهر أيار سنة 1840م. فانقسموا أربع فرق (كاشات)، ونصبوا عليهم قائدا عاما (سر عسكر) الشيخ فرنسيس أبا نادر الخازن. واشتهر بهذه الحرب يوسف الشنتيري وأبو سمرا غانم من المسيحيين وأحمد داغر الشيعي (المتوالي) من برج البراجنة بظاهر بيروت، وكان قوادهم من الأمراء الشهابيين واللمعيين والمشايخ الإقطاعيين وغيرهم، وكانت الفرقة (الكاشة) الرابعة قرب زحلة بقيادة الأمير علي بن الأمير أحمد قيدبيه، وانضم إليها الأمير خنجر الحرفوشي برجاله، فسلبوا ذخيرة العسكر المصري الذاهبة إلى صيداء، وجاء عثمان باشا المصري بعساكره إلى المعلقة، وكان زعماء الحركة (العامية) الأمراء الشهابيون واللمعيون ومشايخ الموارنة، وكانت الدولة العثمانية قد أرسلت السر ريتشرد وود الإنكليزي الشهير معتمدا لطرد المصريين، فأثار ضرام هذه الحرب، وبقيت من منتصف أيار إلى أواخر تموز من سنة 1840. (7) موقعة شتوره
ومن المواقع التي حدثت في جوار زحلة في أثناء الحرب (العامية) اللبنانية. موقعة «شتوره» التي انقض فيها نحو ستة عشر ألفا من الجنود المصرية المدربة على ألف ومائتين من اللبنانيين وأصلوهم نارا حامية، وهجم الهنادي عليهم بالسيوف (الشلفات)، وأعملوا فيهم شفارها الحادة. فجندلوا كثيرا من القتلى. وكان عثمان باشا قائدهم قد نصب المدافع على إحدى التلال المشرفة على شتوره وأمطرهم بقنابلها. فقتل نحو مائة وعشرين وثار ثائر العسكر المصري وتعقبهم وعاث في لبنان.
أما الزحليون فلم يدخلوا في الحرب (العامية)؛ ولذلك لم يحضروا موقعة شتوره؛ لأن الأمير بشير الكبير كان قد أرسل إليهم الشيخ رشيد غالب الدحداح لإقناعهم، وخشوا من فتك إبراهيم باشا المخيم بعساكره بين ظهرانيهم، ومع ذلك فإنهم أغضبوا اللبنانيين المسيحيين والدروز والدولة المصرية. وكان فضول قرقماز من كسروان شيخا في زحلة من قبل الأمير بعد الشيخ وردان الخازن المار ذكره، فنسب إليه اللبنانيون الخيانة بإقناع الزحليين لعدم الدخول في الحرب (العامية) فقصدوا قتله، ففر إلى «قعفرين» فوق زحلة قرب منبع نهرها البردوني فقتلوه هناك.
وهكذا اضطرب حبل الدولة المصرية في سورية، واتفقت دول إنكلترة وروسية وبروسية والنمسة مع الدولة العثمانية بموجب معاهدة «لندن» بتاريخ 15 تموز سنة 1840 على طرد الحكومة المصرية من سورية. وكان إبراهيم باشا المصري قد اقتصر على امتلاك ولايتي سورية وأطنة وتنظيمهما، فأرسلت الدول المارة الذكر أسطولا من بوارج إنكليزية ونمسوية بقيادة روبرت ستبفرد والسر شارل سمث، فحضرا وأرسلا الكومودور السرنابيه إلى بيروت، وكان محمولها نحو عشرة آلاف مقاتل من العثمانيين والإنكليز، فضربوا بيروت في 11 أيلول سنة 1840م، وفر سليمان باشا الفرنسي قائد العساكر المصرية إلى زحلة وضربت الأساطيل عكاء، وذهب نابيه إلى مصر وعقد مع محمد علي باشا والد إبراهيم باشا اتفاقا بتاريخ 27 تشرين الثاني سنة 1840 يصرح له أن تكون خديوية مصر وراثية لأسرته. وكان إبراهيم باشا المصري قد قدم من مرعش إلى زحلة واستقدم إليه الأمير بشيرا الكبير وتفاوضا مليا، وخيم العسكر المصري في المعلقة وصار يتراجع إليها القواد بما بقي من جنودهم مدحورين، مثل عثمان باشا قائد حملة كسروان الذي حارب سكانه خمسة وعشرين يوما، فاندحر في موقعة وطا الجوز واستظهر عليه الكسروانيون، وسليمان باشا عاد من الحازمية مدحورا من أمام أساطيل الدول المتفقة المشار إليها. وانضم إليهم عسكر طرابلس الشام والجهات الأخرى فصارت زحلة محل سكنات هذا الجيش الجرار بعد أن كانت محل حركاته في أول مواقعه.
وإذ ذاك كان محمد علي قد أرسل يستقدم إليه ولده إبراهيم باشا من سورية، فبرح زحلة يوم السبت في 9 تشرين الثاني سنة 1840 إلى دمشق، وسار منها على طريق غزة بعد أن هدم الحصون والمعاقل. وعرض على الأمير بشير الكبير أن يسلم، فاستمهل أياما اعتذر في آخرها أنه لا يستطيع أن يغضب عليه إبراهيم باشا؛ لأن أولاده وأنسباءه يحاربون مع جيشه فيفتك الوزير بهم انتقاما منه إذا انحاز ضده. ولذلك استسلم إلى الأمير الإنكليزي وبعد ثلاثة أشهر أخرج من سورية بأسرته ومدبريه وبعض أنسبائه فكانت نهاية حكمه في تلك السنة وإخراج الدولة المصرية من سورية أيضا.
فهذه كانت أهم ذرائع التنافر والتنابذ والمناوأة بين طائفتي المسيحيين والدروز المتجاورتين المتحابتين، وكأن البلاد ألفت التعصب فتوالى عليها من العصبيات القيسية واليمنية، واليزبكية والجنبلاطية، والمعلوفية والمكارمية، والزحلية والقنطارية. ثم بدأت العصبية المسيحية والدرزية فكانت الأخيرة أشر من الأولى وتحفز الدروز للتنكيل بالمسيحيين، ولا سيما سكان زحلة ودير القمر الذين أوغروا صدورهم ببسالتهم ونفوذ كلمتهم لدى إبراهيم باشا والأمير بشير ولمعاضدتهم إياهما. (8) مشيخة زحلة الأولى
كان الأمراء اللمعيون أيام تسلطهم على زحلة يتولون إدارة شئون سكانها ويفضون مشاكلهم، إما بذاتهم أو بواسطة دهاقينهم (خوليتهم) وخاصتهم. ثم استبد بهم القنطاريون فكانوا يأتمرون بأمرهم مدة إلى أن قيض لهم الظفر في موقعة المزة، وكانوا في مقدمة جيش الأمير بشير الشهابي الكبير. وفاتنا هناك أن نذكر أنهم ساروا بقيادة يوسف الحاج شاهين الأرثوذكسي وابن عمه أنطون فلما وزع الأمير السلاح على عسكره جميعه، وبقي الزحليون فقط أراد إعطاءهم السلاح، فمنعهم قائدهم المذكور عن أخذه وتلكأ برجاله عن القتال حتى عندما ضعف عسكر الأمير، وكاد يتقهقر تقدم يوسف برجاله البواسل ودحروا العدو، وكان يوسف السكاف والحاج نصر من حملة الأعلام اللبنانية فتقدما حتى القلعة، وكان فيها عسكر فوضعا سلما على سطحها وصعد يوسف السكاف عليه، ونصب علمه فوقها فكان النصر للزحليين باهرا. فقال الأمير ليوسف: لماذا تأخرت بهجومك برجالك الأشداء، فأجابه: إن تأخر توزيع الأسلحة عليهم أخر هجومهم. فأحبه الأمير كثيرا، ورأى فيه بسالة وسداد رأي، فكان يعتمد عليه منذ ذلك الحين بعد أن كان عرفه عند وجود عبود البحري الخطاط في بيته أيام فراره من وزير دمشق.
فهذا كان بدء مشيخة الزحليين ففوض إليه حل المشاكل، وكان يستشيره بكثير من شئون زحلة وبلاد بعلبك ويعتمد على رأيه فنفذت لديه كلمته، وكان يوسف متزوجا بشقيقة إبراهيم مسلم الكاثوليكي، فنال ابن حميه منزلة لدى الأمير وقلدهما مشيخة زحلة، فاتفقا طول حياتهما على رفع شأنها وحرراها من ظلم القنطاريين.
وفي حرب سانور كان أنطون الحاج شاهين ابن عم يوسف هذا قائد الحملة الزحلية والمتنية مع ابنه إبراهيم، فعادا بعسكرهما ظافرين فمضت مدة على مشيخة زحلة بزمن الأمير بشير الكبير، وفي عهد إبراهيم باشا المصري حتى كانت زحلة أشبه بجمهورية صغيرة يحكمها شيوخ ينصبهم الحاكم بإرادة الشعب.
ولما كان أنطون الحاج شاهين مدبر (كتخدا أو كاخية) الأمير أمين الحرفوشي وشي عليه مرة إلى الأمير بشير الكبير، فذهب مع ابن عمه يوسف إلى بيت الدين لمقابلته حسب أمره، فامتنع الأمير عن مقابلتهما خشية أن يقنعه يوسف فيعفو عن أنطون الذي أمر بسجنه وإرساله إلى عكاء، وبعد ثلاث سنوات مرض أنطون فيها فأرسل الزحليون الطبيب ترانوبي من أطباء إبراهيم باشا المصري لتطبيبه وقيل: إنه سممه فتوفي نحو سنة 1836م، فاشتد حزن يوسف عليه وتوفي بعده بنحو سنتين؛ أي نحو سنة 1838م، وكان داهية في رأيه قوي الحجة كريما باسلا مثل أنطون. أما إبراهيم مسلم فبقي نافذ الكلمة إلى أن توفي يوم الأحد في الرابع من أيار سنة 1841 قبل موقعة العريان وكان حصيفا شجاعا جوادا، ولما اختلف الوكلاء في زحلة عند إنشاء بيت المكس (الكمرك)، وفشا التحزب بين سكانها أرسل الأمير بشير الكبير شيخا على زحلة الشيخ وردان الخازن. ثم فضول قوقز من قرقماز في كسروان، وهذا قتله الأمير بشير قاسم في أثناء الحرب العامية عند إخراج الدولة المصرية. ثم خلفه مدة يوسف عدبا أحد رجال فضول المذكور فهذه حالة زحلة في سنواتها الأربعين الأولى من القرن التاسع عشر.
وكان للشيوخ حق الحبس والحكم بالدعاوى على اختلافها وجمع الجنود للمحاربة والفعلة لحفر المعادن والمكارين للتسخير فضلا عن جباية الخراج والضرائب، وكان تحت يدهم بكباشية (بلوكباشية) من وطنيين وغيرهم ورجال للتحصيل وتبليغ الأوامر يسمون «حواليه»، كانوا ينزلون على المطلوبين فلا يبرحونهم حتى ينالوا منهم مطاليبهم المأمورين بها والواحد منهم يسمى «حوالي». وإلى الآن يضرب المثل بالحوالية وتثقيلهم على الناس. (9) موقعة عالية وبعبدا
ولما خرج إبراهيم باشا المصري من سورية سنة 1840 وأبعد الأمير بشير الكبير إلى مالطة ولقب بالمالطي، ثم إلى الأستانة نصب الأمير بشير قاسم الشهابي الملقب بأبي طحين حاكما على لبنان بموجب تقليد (فرمان) سلطاني سلمه إياه أمير البحر الإنكليزي السر ستبفرد. وكان الساعي بذلك السر رتشرد وود الذي جاء سورية للسعي بإخراج الدولة المصرية. وفي هذه الأثناء نصب قنصلا عاما لدولته الإنكليزية في دمشق وبقي يشارف أعمال لبنان.
ولما تولى الأمير بشير قاسم سار إلى بعبدا، ومنها إلى بيت الدين واتخذ مستشارا له الأمير محمودا سلمان الشهابي من وادي شحرور وقرب إليه كثيرا من أنسبائه الشهابيين، وخالف عادة الحكام من أيام فخر الدين المعني الشهير؛ أي منذ قرنين ونصف، إذ كانوا يتخذون مدبريهم وأعوانهم من اللبنانيين، فاتخذ هو فرنسيس مسك من بيروت مدبرا وأعاد الإقطاعيين من مسيحيين ودروز إلى قطائعهم، ولكنه لم يكن ليحترمهم كثيرا فرأى الدروز منه تغيرا عليهم، ولا سيما بعد عودة مشايخهم من منفاهم في سنار وغيرها، وهم موغرو الصدور على الأمراء الشهابيين والمسيحيين. ثم رأى الدروز أن النصارى الذين في قطائعهم متغيرون عليهم، ولا سيما في عاداتهم القديمة بالانقياد التام إليهم، فأوجسوا من ذلك خوفا وأضمروا لهم السوء، على أن الأمير الحاكم لم يكن ليبالي بذلك، ولا سعى برقع الخرق قبل اتساعه؛ فسرت روح التحاسد والتضاغن بين المسيحيين والدروز ونمت بمساعي المفسدين نمو الجراثيم (المكروبات) في المستنقعات، وتحولت الأحزاب دينية بحتة بعد أن كانت سياسية مدنية منذ القديم، وجاشت صدور الفريقين بالحقد للانتقام.
وفي أول تموز سنة 1841م حدث خلاف بين بعض سكان دير القمر من بني البستاني وبين بعض سكان بعقلين على صيد حجل، فدخل الديريون بعقلين ثم جاء الدروز الدير وحاصروها في أوائل أيلول. وفي الثالث منه جاء زحلة رسول من دير القمر يستصرخ سكانها لمعاضدة إخوانهم الديريين المحاصرين، فأرسل الزحليون من فورهم رسلا مسلحين إلى أسقفهم المطران باسيليوس شاهيات المار ذكره؛ لأنه لم يكن أسقف غيره لبقية الطوائف يقيم في زحلة، وكان هذا في طوافه على الرعية مع الشماس فيلبس النمير، فاستقدم من بر إلياس فوصل زحلة في الرابع من أيلول، وعقد جلسة اجتمع فيها شيوخ البلدة وزعماؤها وأقروا على مفاوضة السيد يوسف حبيش بطريرك الطائفة المارونية، وعاد المطران باسيليوس إلى طوافه متوقعا الجواب. ففي الثامن من أيلول أرسل إليه الزحليون مخول الجبلي، فعاد مع شماسه المذكور من قب إلياس وبعد المداولة جهز الزحليون نحو خمسمائة فارس وألف راجل ليسيروا إلى دير القمر، ولكنهم علموا أن الدروز واقفون لهم بالمرصاد وقاطعون عن الدير كل طريق، فتغير رأيهم هذا يوم الخميس في الثاني من تشرين الأول، واستبدل بإرسال نحو خمسمائة مقاتل في ذلك اليوم من نخبة أعيانهم، مثل عبد الله أبي خاطر وابن عمه حنا وبطرس أبي ضاهر المعلوف ونسيبه مراد وهبه قيامة وعساف مسلم وابن عمه ناصيف وأبي عساف جرجس الحاج شاهين وابن عمه إبراهيم بن أنطون ومخول غره وخليل حجي وناصيف جدعون وأبي شبل ناصيف أبي عقل. وكان حملة الإعلام الزحلية أبو لولو خليل الجريجيري وعبد النور الششم وأبو عيطا النمير ويوسف بشارة الخياط ، وكان بين هذا المعسكر بعض نصارى العرقوب الذين التجأوا إلى زحلة، فساروا على طريق المريجات إلى أن وصلوا تجاه عالية في محلة (النقارات)، فالتقاهم نحو ألف من الدروز بقيادة الشيخ حسن تلحوق والشيخ يوسف شبلي عبد الملك. فتقابلا وتحاربا يوم السبت في الرابع من تشرين الأول. فثبت الزحليون في مواقف القتال وفرسانهم المذكورون يحمونهم إلى أن تمكنوا من إبعاد الدروز عن الطريق بعد أن قتلوا منهم نحو خمسة وعشرين رجلا، ولم يقتل من الزحليين إلا أربعة أحدهم إلياس الدويليبي.
فسار الزحليون إلى بعبدا؛ حيث كان العسكر اللبناني مقيما هناك، وعدده نحو عشرة آلاف مقاتل مع قواده الأبطال، مثل الأمراء ملحم حيدر، وسلمان سيد أحمد، وأخيه فارس من الشهابيين، وحيدر إسماعيل من بكفيا، وأسعد فارس من بسكنتا، وبشير أحمد وعلي منصور من برمانا من اللمعيين، والمشايخ كنعان بان وكسروان من الخازنين وخليل حمزة من الحبشيين. فانضم إليهم الزحليون واجتمع كبارهم بكبار اللبنانيين يديرون حركة عساكرهم، ويتداولون بالشئون الحاضرة. فعقدوا جلسات متتابعة تباحثوا فيها في إنقاذ دير القمر من الحصار، فقرروا أن ينتخب ثلاثة آلاف مقاتل وقائدهم (عقيدهم) الأميران قيس ملحم الشهابي وسلطان الطرودي من آل فارس اللمعيين من بسكنتا والشيخ نقولا الخازن من كسروان وبشاره طربيه من تنورين، فزحفوا من بعبدا إلى عبيه. وكان سكان الشويفات، قد تعاهدوا من مسيحيين ودروز أن لا يدخلوا في هذه الحرب؛ بل يكونون على حيادة. فهاجم العسكر اللبناني الشويفات والتقاهم سكانها بقوة عظيمة وثبات غريب، فأحادوهم عن الطريق ثم سار شبلي المعلوف بأنسبائه الكفر عقابيين وكثير من الزحليين، يرافقهم الأمير شديد عبد الله مراد اللمعي ويوسف الشنتيري من بكفيا وجميعهم نحو مائة وخمسين مقاتلا، حتى اجتازوا نهر الغدير بين بعبدا وكفر شيما، فالتقوا بالدروز فحمي وطيس القتال بينهم، فثبت المسيحيون ثبوت الأبطال وأبدى شبلي في ذلك اليوم من البسالة ما يتناقله الشيوخ إلى يومنا، وبقوا إلى عصر ذلك النهار وأزاحوا الدروز عن مركزهم إلى بسابا. ولما كلوا أرسلوا الأمير عبد الله اللمعي إلى نسيبه الأمير حيدر إسماعيل قيدبيه لينجدهم، وما بعد عنهم حتى وصل بطرس بك كرم الأهدني بخمس مائة مقاتل إلى بئر الوروار حيث كان عسكر الدروز واقفا بقيادة خطار بك العماد، فانضم إليهم عسكر بعبدا والتقى الصفان وتطاحنا، فكانت ساعة بيعت فيها الأرواح وزهقت النفوس، وثبت المسيحيون في مواقفهم وأصلوا الدروز نارا حامية، وما آذنت الشمس بالغروب حتى أشرقت شمس انتصار المسيحيين ودحروا خصومهم بعد أن قتل كثير من الفريقين.
وذهب نحو خمسين مقاتلا من زحلة ونابيه «المتن» وغزير (كسروان) بقيادة حنا أبي خطار الزحلي، فوصلوا إلى برج خلدة تحت الصحراء، وكان خطار بك العماد قد أرسل ثلاثمائة مقاتل من الدروز إلى صحراء الشويفات، فكمنوا بين أشجار الزيتون الغبياء، فأطلقوا الرصاص من مكامنهم على هذه الشرذمة، فجندلوها قتلى على الحضيض وهي لا تعلم من أين ينصب عليها الرصاص تباعا. أما قائدها حنا أبو خاطر فأبدى بسالة غريبة، ولما طارده الفرسان همز جواده إلى جهة البحر في محلة الأوزاعي، وأنزل حصانه فيه فسبح إلى أن ابتعد عنه الدروز، فخرج إلى البر ولحق عسكر عبيه بين الناعمة وبعورته المطلة على البحر، فأدركهم وهم ينتظرونه لما قابلوه من بعيد، فرأوه مخضبا بالدم هو وجواده وقص عليهم ما جرى له، فحمدوا الله على سلامته وأثنوا على بسالته. ثم وصل إلى العسكر عبد الله قادري من زحلة عريانا، وقد أفلت من بين أيدي الدروز الذين خلعوا عنه ثيابه وأرادوا ذبحه، فساعده أحدهم على الفرار. ثم أخبرهم أنه لم يبق أحد غيره من تلك الشرذمة التي كان يقودها حنا أبو خاطر.
وبينما هذا العسكر سائر رأى طلائع الدروز في بيصور فزحف عليها وأحرقها دحر الدروز، فقتل الشيخ بشارة طربيه من تنورين. ثم رجعوا جميعهم إلى عبيه فلبثوا فيها ثمانية أيام لم يتمكنوا في خلالها من الوصول إلى الدير؛ لانتشار عساكر الدروز في كل المعابر والمضايق والطرق، فعادوا إلى بعبدا وتفرق شمل بعضهم.
وما زالت المناوشات تتوالى والنصر يتراوح بين الفريقين حتى تغلب الدروز على المسيحيين لانقسام كلمتهم، فإنهم كانوا حزبين؛ أحدهما يريد إثارة القلاقل وتكدير صفاء الأمن لاستعادة الأمير بشير الكبير حاكما، وفريق يميل إلى تأييد الأمير بشير قاسم في ولايته. والدروز متفقون قلبا وقالبا على عدم قبولهم بحكم الأمراء الشهابيين ومنحازون إلى إسناد الولاية إلى حاكم غريب غير مسيحي، وعمت المواقع ساحل بيروت والغرب والشحار ودير القمر والمتن. ثم أخمدت نيران الفتنة بإخراج الأمير بشير قاسم من بيت الدين بواسطة أيوب باشا قائد العسكر العثماني والجنرال روز والسيد عبد الفتاح «فتيحه» حمادة الذي تولى وكالة الحكم.
وفي تلك الأثناء نقل مقر الولاية من عكاء إلى بيروت بأمر سلطاني، فسلخت هذه عن أيالة صيداء وتبعت دمشق رأسا وعزل زكريا باشا الذي خلف عزت باشا، ونصب عوضه سليم باشا وكان هذا رئيس العسكر (سر عسكر). (10) موقعة العريان
وعاد الزحليون إلى بلدتهم بعد أن نازلوا هم والعسكر اللبناني عسكر الدروز في موقعة بعبدا الشهيرة وظفروا بهم، وقد قتل من الفريقين خلق كثير، وكان ذلك في أثناء شهر تشرين الأول سنة 1841. وبينما هم يتأهبون للتفرغ من القتال إلى معاودة الأشغال، إذ بنبأ تجمع الدروز للزحف على زحلة يطرق آذانهم ويقلق خواطرهم، وكان الدروز قد نووا أن يفعلوا بزحلة كما فعلوا بدير القمر والبلدتان عاصمتا المسيحيين، وكان شبلي العريان
8
أحد سكان راشيا الوادي قد اشتهر بحربه ضد إبراهيم باشا المصري وإبلائه بالمواقع الكثيرة، ولا سيما في الوعرة إلى أن دخل في خدمته، ثم أقامه نجيب باشا والي دمشق رئيس الخيالة (سر سواري)، ووكل إليه تدبير شئون وادي التيم، فجمع سلاح المسيحيين في تلك البلاد وأعطاه إلى قومه الدروز لتقويتهم على هؤلاء، فاغتنم فرصة تقربه من والي الشام ونفوذ كلمته في وادي التيم وحوران على أثر حروبه فيهما ونيل الزعامة على أبناء جنسه ومذهبه الذين انقادوا لأمره، فجمع على أثر حوادث دير القمر وبعبدا المارة الذكر كثيرا من دروز وادي التيم ولبنان وحوران وفرسان الأكراد والعربان وخمسمائة من عسكر الحكومة العثمانية وغيرهم من مناصريهم، وزحف بهم وهم يربون على خمسة عشر ألفا بين فرسان ومشاة إلى زحلة وبينهم بعض بني القنطار الذين نكل بهم الزحليون. وكانوا قد أوغروا صدر العريان على الزحليين واستثاروه لمحاربتهم، فلما علم الزحليون حرج موقفهم لبعدهم عن لبنان وعدم تمكن أهليه من نجدتهم بسرعة فضلا عن وقوع بلدتهم منفردة تحدق بها الدروز والعرب والشيعيون (المتاولة) واستياء اللبنانيين منهم لعدم مساعدتهم إياهم في حرب العامية، عقدوا اجتماعات قرروا فيها أن يتخذوا الأمراء الحرفوشيين ظهرائهم. ففاوضوا الأمراء خنجرا
9
وأخوته وأبناء عمه وكانوا زعماء قومهم ورؤساء عشائرهم فرضوا بالانضمام إليهم ومعاضدتهم على الدروز، وكان السر ريتشرد وود قنصل دولة إنكلترة في دمشق الشهير في حوادث إخراج الدولة المصرية من سورية قد حصل للحرفوشيين أمرا من نجيب باشا والي الشام أن يساعدوا الزحليين أصدقاءه، وشرع الزحليون من فورهم يقيمون المتاريس ويحصنون المضايق والمشارف ويوفرون ذخائرهم الحربية وحاجاتهم المعاشية خشية أن يحاصرهم الدروز، فأقاموا كثيرا من المتاريس والمرامي والخنادق حول بلدتهم، وحصونها وجمعوا كثيرا من الأسلحة؛ لأن المصريين أخذوا معظم أسلحتهم، وملئوا قبو دير النبي إلياس الطوق بالرصاص والبارود، فراسلهم الدروز أن يجمعوا سلاحهم ويسلموه للعريان فلم يغتروا بما عرضوه عليهم من التأمين، إذا سلموهم سلاحهم بل أوجسوا من خيانتهم.
ويوم الأربعاء في 22 ت1 سنة 1841 جاء زحلة الأمير خنجر الحرفوشي وأبناء عمه برجالهم، وبينهم المعلوفيون والمسيحيون من بلاد بعلبك بقيادة شبلي وإلياس هاشم المعلوف المشهورين ببسالتهما، والشيعيون (المتاولة) بقيادة حسن حمية من طاريا وسليمان الحاج سليمان من بدنايل، فكان مجموعهم نحو ستمائة فارس، وكانت تدق أمامهم الطبول، فاستقبلهم الزحليون وانضموا إلى عسكرهم وتعاهدوا على التعاضد والتحالف، فكان المقاتلون في زحلة نحو ألف وخمسمائة، فجمعوا قواهم ودربوا حملة إعلامهم وفرسانهم واتفقوا قلبا وقالبا على الثبات في مواقف القتال مهما كان عدد الدروز كثيرا. وكان في زحلة محمد علي حميه من طاريا، الذي قتل أحد الأمراء الحرفوشيين منذ بضع سنوات، والتجأ إليها فتوسط الزحليون أمره واسترضوا الأمير خنجرا عليه فقابله وقبله بين المحاربين. ولما استوثقوا بعددهم وعددهم زحفوا بقيادة الأمير وبعض أعيانهم، وكان حامل علم العسكر البعلبكي فارس الديراني من قصر نبا وحامل أعلام الزحليين طنوس جبور المعلوف الملقب بأبي عفيفة وأبو عيطا إبراهيم النمير، وأبو لولو خليل الجريجيري، وعبد النور الششم، وخليل الطباع، فتركوا حامية المدينة في المتاريس من الأبطال المدربين في الرمي وساروا بالباقين لملاقاة الدروز، فانتشب القتال يوم السبت في 25 ت1 في شتوره وجلالا بظاهرة زحلة، ففر الدروز إلى قمل وجرح شبلي العريان
10
هناك برصاصة في بلعومه، وأخوه علي برصاصة في فخذه فوقف القتال، ولم يترجح النصر لفريق من الاثنين بل كان يتراوح بينهما؛ لأن عسكر الدروز كثير وبأس الزحليين شديد على قلتهم، ومع ذلك قتل من عسكر الدروز أكثر من سبعين عدا المجاريح، ولم يقتل من الزحليين إلا ثلاثة وهم طنوس أبو طقة وابنا عمه أسعد ويوسف وجرح أربعة وقتل من عسكر بعلبك ابن قره بولاد المسيحي، بينما كانوا مطاردين الدروز إلى جسر بر إلياس عند فرارهم فوصل العريان جريحا إلى بر إلياس وقطع آذان القتلى، وأرسلها مع ابن عمه خزاعي العريان، وبعض الفرسان إلى لبنان ووادي التيم وحوران مستصرخا قومه ومستقدما قواتهم لنجدته، فجاءته النجدة بالخيل والرجل.
ويوم الأربعاء في 29 تشرين الأول ذهبت طليعة إلى تل شيحا تستشرف الدروز، فرأى أحدها محمد سويدان من بدنايل أشباحا كثيرة، فأسرع إلى الأمير خنجر مذعورا وهو يقول له: «يا مولاي الدروز مثل الضباب وقد ملئوا السهل بالخيل والرجل.» فركب الأمير برجاله إلى أن وصل إلى باب السوق فلاقاه أحدهم، وقال له: إن ما رآه محمد سويدان هو عجال (مواشي) بر إلياس فانثنى الأمير على محمد وأطلق عليه بندقيته، فوقع مضرجا بدمه وتكدر وأراد الانصراف من زحلة، فطيب أعيانها خاطره وأحضروا له النارجيلة؛ لأنه كان مولعا بها فسري عنه.
ويوم السبت التالي في أول تشرين الثاني؛ أي بعد ثلاثة أيام كانت حجافل الدروز الجرراة، التي تبلغ نحو خمسة وعشرين ألفا تخفق أعلامها في السهل هاجمة على زحلة، وكانت الطلائع على تل شيحا، فجاء كل من أبي قبلان لحود ثابت البحمدوني وإبراهيم حيدر الحاج سليمان راكضين إلى الأمير ينادون قائلين: وصل الدروز إلى قرب مرج عرجموش (الفيضة)، فركب الأمير خنجر من فوره يحدق به الفرسان والمشاة، فوضعوا ثلاثمائة في الخندق عند البيادر الذي أصلحوه، وكان باقيا من زمن إبراهيم باشا وحرضوهم على الثبات واتخذوا للحصار بيت البردويل قرب سيدة الزلزلة وبيتي مراد المعلوف وعبد الله العزر في حارة سيدة النجاة، وانقسم المهاجمون الزحليون فرقتين؛ إحداهما من ظهر تل شيحا، والثانية من سفحه فالتقوا بالدروز عند بيادر حوش الأمراء، فاصطلت نيران القتال والتحم الفريقان، واستحر النزال وبيعت الأرواح، وكان الأمير خنجر قد ربط في نقطة طريق المعلقة ليقطع على الدروز خط الهجوم، فلما رأى اشتداد العراك وتطاحن الأبطال وكثرة الدروز تقهقر برجاله إلى عين الفلفلة في منقلب ظهر الحمار فوق المعلقة إلى جهة زحلة ، فتأثرته فرقة من الدروز وأعملت السلاح في أقفية رجاله، فقتلت كثيرا منهم وقتل الأمير يوسف الحرفوشي عند عين الفلفلة وأصيب ابن عمه الأمير منصور برصاصة،
11
فصاح أحمد صفوان من قصر نبا: «أيها الأمير عار عليك أن تترك الزحليين، وقد أكلت من خبزهم وملحهم.» فرماه بالقرابينه فمزقه، وسار إلى تلة بئر هاشم حيث كانت نساء زحلة والأولاد في الكروم عند بئر هاشم، فلما رأين الحرفوشيين منهزمين صحن بهم: «أنتم بيت الحرفوش أنتم سيوف البيض وحماة العرض اليوم نريدكم الجوعان يأكل والعطشان يشرب»، وحملن إليهم الطعام والماء وبعضهن قدمن لهم الذخائر، فالتفت الأمير خنجر إلى الزحليين وإذا بالنصر يحف بهم، وقد ثبتوا ثبات الأبطال. فاستعاد قوته وجمع رجاله وصاح بهم اليوم أريدكم، وتقدم فارس الديراني بعلمه، وكان الزحليون قد انسحبوا إلى تل شيحا وثبتوا في الخندق والمتاريس والمرامي، واندفق عليهم الدروز بجيشهم الجرار من جهة غدير (بركة) البيادر، فأصلوا الدروز نارا حامية وأحسنوا الرمي، فكردسوا الأشلاء عند البيادر نحو أربعمائة، ولا سيما من حامية الخندق فردوهم إلى بيادر الحوش حيث عاد الأمير خنجر برجاله والتقى بهم، فكان الدروز قد دحروا وتقهقروا فاعتذر عن تخلفه.
وكانت بعض فرق الدروز قد دخلت البلد عندما انكسر الحرفوشيون وأخلوا نقطة محافظتهم قصد النهب، فانسحبت بعض نقط زحلة لسد الخرق، فتفرقت قواتهم وطمع الدروز، فدخلت شراذم منهم من جهة حوش الزراعنة، فحرقت حارة في بستان عبد الله أبي خاطر الباقي إلى الآن قرب الخان وتقدمت نحو زحلة، فهجم أبو جرجس إلياس رابية الزحلي مع شرذمة، وقتل حامل علم الدروز قرب محل الحمام الآن، وهجم الزحليون عليهم فأعادوهم على أعقابهم. وكانت شرذمة من الدروز قد دخلت البلد من جهة بيت أبي راجي المعلوف، فأحرقت بيت العزر (قرب دير اليسوعيين الآن)، فردها الزحليون ناكصة على الأعقاب. وهكذا فعلوا من جميع الجهات التي دخل فيها الدروز البلدة، ورموا كثيرا من أشلاء القتلى. ولم يقتل في الموقعة الثانية إلا أربعة من زحلة منهم خليل الحاج نقولا، وابن منصور بالش، وعبد الله بن يوسف إبراهيم، وابن الزنكي. وجرح اثنان أحدهما إبراهيم أبو طقة مات بعد أيام، أما من المعلقة فقتل ثلاثة عشر نفرا؛ لإخلاء الحرفوشيين نقطة المحافظة فيها كما مر.
فتأثر الزحليون الدروز الذين تفرقوا طرائق لا يلوون على شيء، فقتل منهم نحو ثلاثمائة، وقيل أكثر من ذلك وجرح ثماني مائة، فبقي الزحليون يطاردونهم ويعملون الأسلحة في أقفيتهم إلى قرب بر إلياس وبعضهم لحقهم إلى جديتا وغيرها. ولولا أن الزحليين أوجسوا خيفة من أن متابعة مطاردتهم ربما تفضي بهم إلى حيث تكثر عليهم النجدات، وخافوا من أن يكون ذلك خدعة لهم لأخرجوهم من البقاع، ففر الدروز إلى وادي التيم مذعورين ومنكلين بمن رأوه في طريقهم من المسيحيين، وكانوا يسلبون من النصارى الذين حضروا معهم هذه الموقعة ما يعجبهم من السلاح والخيل، وبات العريان جريحا في قرية ظهر الأحمر.
ثم عاد الزحليون ورءوس القتلى على رماح كثير من أبطالهم، ودخلوا البلدة فائزين واحتفلوا بنصرهم بقصف وسرور، وكانوا يعيدون لهذا اليوم الانتصاري في كل سنة حتى سنة الستين. وتناقل الناس نبأ هذه الموقعة وانتصار الزحليين فيها على قلتهم وكثرة الدروز. فلما نمي خبرها إلى إبراهيم باشا المصري قال: «عفارم أولادي، سباع الوادي، لقد شهدت مواقعهم في سورية، وعرفت حميتهم الحربية.»
وفي أثناء هذه الموقعة كان سليم باشا قد خلف زكريا باشا في ولاية بيروت، فلما بلغه خبر محاربة الدروز للزحليين أرسل خمسمائة جندي نظامي ومدفعين بقيادة رشيد باشا لمحافظة زحلة، فبقي القائد على الطريق نحو أربعة أيام متنقلا بين حمانا والمتين مع أن البعد بين بيروت وزحلة ليس بأكثر من سبع ساعات، فوصلوا زحلة وقد خمدت نار القتال فارتعد عسكره من رؤية جثث القتلى، ونزلوا في المعلقة وتهدد الزحليين وطلب جمع سلاحهم، وبعد أيام عاد رشيد باشا إلى بيروت وأبقى العسكر مع مصطفى باشا للمحافظة؛ لأن العريان كان يريد أن يهاجم زحلة ثالثة، فلم يلب أحد استصراخه لما ناله من الفشل في هذه الموقعة التي ذاع فيها صيت الزحليين، وعرفوا باجتماع الكلمة والتعاضد والعمل بقول الشاعر:
كونوا جميعا يا بني إذا اعترى
خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى القداح إذا اجتمعن تكسرا
وإذا افترقن تكسرت أفرادا
وكان لهم بموقعة بعبدا التي سبقت عبرة وعظة؛ لأنهم خرجوا من البلدة غير متفقي الكلمة فعادوا بخسارة عظيمة من القتلى.
وممن اشتهر في موقعة العريان الأميران خنجر ويوسف ابن الأمير حمد الحرفوشيان وأنسباؤهما، وإلياس هاشم، وشبلي المعلوف من شليفه، وظاهر أبو يعقوب المعلوف من سرعين، وسليمان الحاج سليمان من بدنايل، والحاج علي فرحات من بيت شامة، ومحمد علي حمية نزيل زحلة، وابن عمه حسن حمية من طاريا من عسكر بعلبك، وعبد الله أبو خاطر، وحنا أبو خاطر، وأبو عجاج يوسف أبو خاطر، والخوري بطرس القطيني المعلوف، والخوري حنا رزق الله المعلولي، وإبراهيم أنطون الحاج شاهين، ونسيبه أبو عساف جرجس، وأبو قبلان لحود ثابت البحمدوني مدبر الأمير سلمان الحرفوشي، وعساف مسلم وأخوته، وأبو محمود هيكل مسلم، وناصيف جرجس مسلم، وأبو العماش موسى البحنسي، ومخول غره، وفارس هلال ووالده خليل، وأبو فارس خليل حجي الذي لقب بحامية سيدة الزلزلة، وأبو ناصيف إلياس دموس وأخوه عبد الله وابن عمه يوسف، وخليل موسى الصدي وأخوه رحال، وأبو عبيد البريدي وأخواه إلياس، ومخول ويوسف وفارس الراعي، ومتري إليان ، وجرجس الخياط، ورحال المكوي، وفارس طعمة السكاف، ويوسف شمعون، وعبد الله الدويليبي، ويوسف وشاهين مبارك، وإبراهيم أبو طقة، وبطرس نجم أبو ظاهر المعلوف الملقب بحامي سيدة النجاة وأنسباؤه مراد وهبه قيامه، وعبد الله جبور، وجرجس طرزا، وإلياس أبو هرموش، وحنا جدعون، وأبو شديد عقل، والحاج متى وولده يوسف، وطنوس نقولا وأخوه زهران، وفارس الحريك وغيرهم ممن لم تتصل بنا أسماؤهم.
وقد وصف هذه الموقعة كثير من الزجالين المشهورين منهم حسين أبو الحسن
12
من الطائفة الإسلامية نزيل زحلة، وأبو إسحق يوسف المعلوف
13
من معلقة زحلة، ويوسف السكاف،
14
ونصر الراعي،
15
وموسى عيسى،
16
من زحلة بزجليات بليغة مفصلين فيها المواقع.
وقد وصف المرحوم طنوس الشدياق في كتابه «أخبار الأعيان» هذه الموقعة في صفحة 638، وقال في صفحة 639 يذكر قدوم القائد العثماني إلى زحلة:
أما القائد فأمر أهل زحلة أن يهدموا الشون (الحصون) من حول بلدتهم، فالتمسوا منه إبقاءها وقاية لهم، فأجابهم أن الدولة تقيهم لا الحصون وهدم كل ما بنوه، وكان يضيق عليهم كأنه خصمهم. وأما الأمير أسعد قعدان، فنهض من بكفيا إلى زحلة بأربعمائة رجل، ولما أقبل على البلدة التقته الوجوه والتمسوا منه أن يدخل بجماعته سرا خوفا من مخالفة أمر الباشا قائد العسكر المقيم عندهم، فأجاب الأمير سؤلهم ودخل بمن معه مساء، وبلغ الباشا ذلك، فأمر برجوع الأمير أسعد وجماعته إلى أوطانهم، فأبقى الأمير أسعد جماعته في البلد سرا وأخذ رجالا من زحلة عوضهم مظهرا أنهم جماعته الذين دخلوا معه وصحبته الشيخ غندور (السعد)، وأبو سمرا (غانم) وظل سائرا إلى كسروان. وجاء مثل ذلك في تأريخ أبي سمرا غانم صفحة 115، وأما كتاب «نكبات الشام» فإنه أخطأ في وصف هذه الموقعة في صفحة 95 وفي ما وضع عليه من الاستدركات صفحة 12 والصحيح الممحص ما رويناه في هذا التأريخ فليعتمد عليه الناقلون والمطالعون والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
أما تفصيل هذه الحادثة فهو أنه كان مصطفى نوري باشا قائد العسكر (سر عسكر ويسميه العامة ساري عسكر). قد جاء بيروت في 24 ك1 سنة 1841 ومعه عمر باشا النمسوي مع ألف وخمسمائة جندي نظامي، وفي 15 ك2 سنة 1842 استقدم إليه أعيان المسيحيين والدروز من جميع الطوائف والجهات، وقرأ عليهم التقليد (الفرمان) المؤذن بتعيين عمر باشا حاكما للبنان، فاجتمع في مجلسه الأمير حيدر إسماعيل اللمعي وأميران مسيحيان، فأهدى إلى كل منهم شالا من الكشمير النفيس ومسعطا (علبة عطوس) مرصعة بالألماس، وخلع على كل من المشايخ الخازنيين والحبيشيين والدحداحيين، وحنا الإسطنبولي وكيل وممثل بطريرك الموارنة، والسيد طوبيا عون الماروني أسقف بيروت، والسيد باسيليوس شاهيات أسقف زحلة، والسيد أغابيوس الرياشي أسقف بيروت ولبنان الكاثوليكيين، والسيد بنيامين أسقف بيروت الأرثوذكسي، وأعيان زحلة ولبنان، وأربعة مشايخ من الدروز عباءة من الجوخ القرمزي مطرزة بالقصب وعادوا إلى مواطنهم.
فلم يطل العهد على حكم عمر باشا حتى ثار الدروز عليه، فقبض على بعض شيوخهم وسجنهم في بيروت، واستحر بينهم وبينه القتال فتكدر من ذلك مصطفى باشا؛ لأنه كان يميل إلى الدروز بخلاف عمر باشا، فإنه كان يميل إلى المسيحيين. وكان مصطفى باشا قد أساء الظن ببعض أعيان زحلة، فأرسل ترجمانه جبران العوراء إليهم يوم الخميس في 24 أيار سنة 1842، ففاوض الأهلين وحرضهم على نبذ ما كان بينهم من الخلاف ثم عاد إلى الوزير.
ويوم الخميس في 4 ت1 سنة 1842 جاء مصطفى باشا إلى زحلة ببعض المدافع وألف جندي، فضربوا خيامهم في حارة الميدان، ووضعوا المدافع على تلة الحمار فوق المعلقة مصوبة إلى زحلة، وكان قد أوغر صدره غلبة الزحليين للدروز، فجمع سلاحهم وأعاد بعض جنوده في العاشر من هذا الشهر، ويوم الجمعة في 12 منه أمسك نحو عشرين نفرا من الزحليين، فبقوا في خيامه نحو ثلاثة أيام وتهدد وجوههم بقوله: إنكم قد فتحتم هذا الخندق وبنيتم هذه الشون تريدون بذلك العصيان على الدولة، فلا بد أن تطمروا الخندق وتهدموا الشون، وإلا رميت بلدتكم بقنابل هذه المدافع المصوبة (وأشار إليها بإصبعه). فاستأذنه عبد الله أبو خاطر وقال بجرأة: إن ذلك لم يكن إلا لوقاية البلدة من هجمات الدروز وأن هذا الخندق كان من أيام حملة مصطفى آغا قرملا
17
على زحلة في عهد الجزار، ثم جدده إبراهيم باشا المصري لما اتخذ زحلة نقطة لحركات عسكره. فأجابه أن الدولة تحميكم من المعتدين فلا لزوم للخنادق والشون. وبعد حديث طويل معه اشترك به بعض وجوه الزحليين لم يجدوا ندحة من هدم الشون وطمر الخندق، ففعلوا وأنقذوا البلدة من التخريب والتنكيل، وأطلق سراحهم في اليوم الثالث، ويوم الجمعة في 23 ت2 ترك زحلة بعساكره.
18
وكان موغر الصدر حتى يقال إنه فاوض الدروز سرا بإعادة الكرة على زحلة، فلم يغتروا بقوله فعاد إلى بيروت ولن تزال حادثة السر عسكر متناقلة على الألسن إلى يومنا. (11) زحلة قاعدة إقليم الشوف البياضي
كانت زحلة في زمن الأمير حيدر إسماعيل اللمعي قاعدة إقليم الشوف البياضي،
19
وهو المنحدر الشرقي من لبنان وغربي البقاع وسكانه نصارى ومسلمون، فسميت مدينة البقاع،
20
وكانت تتبعها القرى المحيطة بها مثل وادي العرايش ومعلقة زحلة وسعدنايل وتعلبايا وجديتا ومكسه وقب إلياس وبمهريه
21
والمضيق وعميق ودير طحنيش وكفريا وخربة قنافار والحبس وسغبين وعيتنيت ومشغرا وعين التينة وسحمر ويحمر وغيرها، وأمراء هذه المقاطعة هم اللمعيون وسكانها كانوا إذ ذاك 11473 مسيحيا و1000 مسلم، بينهم قليل من الشيعيين وسكان زحلة وحدها لا يتجاوزون عشرة آلاف نسمة ذكورا وإناثا، وكانت بلدة زحلة إذ ذاك خمس حارات كل منها تابعة لبيت من الأمراء اللمعيين هكذا حارة برمانا وفالوغا والمتين وصليما وقرنايل، وكل حارة تدار بدهقان (خولي) من قبل الأمراء الذين تنتسب إليهم.
وكانت مرتبات قضاء زحلة بعد تنظيمات شكيب أفندي 14350 غرشا المال الأميري و6130 الإعانة الجهادية و5310 إعانة جهادية المعلقة والمجموع 25790 غرشا.
وكانت قسمة لبنان إلى قائميتي مقام مسيحية ودرزية في أول يوم من سنة 1843م؛ لأن أسعد باشا والي أيالة صيداء وبيروت الذي خلف عزة باشا فصل عمر باشا النمسوي عن لبنان؛ لانحيازه إلى فريق من سكانه، ورأى أن تعيين حاكم غريب يزيد في مشاكله وتحزباته، فأعاد الحكم إلى المواطنين وذلك بعد المداولة والتروي،
22
وكانت حدود قائمية مقام النصارى من طريق الشام إلى قرية تربل
23
في البقاع، ومن شاطئ البحر الرومي إلى سطح الجبل، وقد دخلت نطاقها قريتا الهرمل وشمسطار أيضا.
فأرسل الأمير حيدر قائم مقام النصارى ثلاثة وكلاء من قبله لإدارة شئون زحلة عوض المشايخ الوطنيين، وهم حنا زلزل الكاثوليكي من بكفية وخليل قرطاس الأرثوذكسي من بسكنته وجرجس الحاج نصار الماروني من بكفية أيضا، وكلهم من قضاء المتن ومقاطعة الأمراء اللمعيين، فكانوا يفصلون الدعاوى ويفضون المشاكل.
ومال هذا الأمير إلى الزحليين وأحبهم وأحبوه، ومن الذين نعرفهم ممن نفذت كلمتهم عنده عبد الله أبو خاطر، وجرجس العن، وإبراهيم أنطون الحاج شاهين،
24
وأبو نعمان بطرس المعلوف، وشقيقه مخايل الملقب بأبي علي، وحنا فرح المعلوف وغيرهم. وممن كانوا من بكباشيته من زحلة روفائيل الشحروق المعلوف وأخوه بطرس
25
وغيرهما.
وذاعت زحلة شهرة بعد حرب العريان وفي زمن الأمير حيدر إسماعيل اللمعي؛ لأن كثيرا من أسرها كانت من عهدته. فقدم إلى زحلة كثير وتديروها واتسعت أبنيتها وأسواقها، وامتدت تجارتها في الأغنام والغلال والصوف، وكان يرد إليها من الأغنام نحو مائة ألف خروف مما يجلبه التجار المواطنون أو الأكراد الغرباء ومعظمها يرسل إلى السواحل، واتسعت تجارتها أيضا مع مدينة بيروت التي صارت إذ ذاك «ميناء سورية» ومستودع بضائع أوروبة، واقتنى سكان زحلة كثيرا من القرى والأملاك في بلاد بعلبك والبقاع، فكثر عمرانها وصارت تعرف بقاعدة إقليم الشوف البياضي. وكانت الراحة مستتبة بزمن أسعد باشا والأمير حيدر إسماعيل لاعتدالهما في مشربيهما وموازنتهما بين الحزبين.
ويوم الثلاثاء في 15 آب سنة 1844م سار السيد باسيليوس شاهيات مع عشرين من وجوه زحلة إلى بيروت، وقابلوا أسعد باشا والي صيداء وبيروت وعادوا بعد سبعة أيام نائلين التفاته. (12) موقعة كفر سلوان وقرنايل
انقطع الزحليون بعد موقعة العريان إلى أشغالهم وتجارتهم وإدارة أملاكهم وتوفير ثروتهم، فطمع بهم الدروز الذين كانوا ينتهزون الفرصة للاستثار منهم. وما ركدت زعازع الفتن الداخلية في لبنان بضع سنوات حتى كانت سنة 1845م، فعادت القلاقل والتحزبات بين الدروز والمسيحيين وتحركت دفائن الضغائن وعوامل الأحقاد، فأخذ كل من الفريقين يستعد للقتال، ولا سيما على أثر تولية وجيهي باشا عوض أسعد باشا في أيالة صيداء وبيروت، فصار هذا يشد أزر الدروز لميله الخاص إليهم ويتحامل على النصارى، فزاد ذلك في طنبور التحزب نغمة جديدة، فكثرت الاختلافات بين الفريقين في قائميتي المقام لاختلاطهما في أكثر القرى، ولعدم إمكان فصل بعضهم عن بعض ليتباعدا.
ولما حمي وطيس الحرب بين الطائفتين في قضائي الشوف والمتن يوم الأربعاء في 18 نيسان سنة 1845م، تأهب الزحليون لنصرة المتنيين خشية أن يتطرق الدروز إلى بلدتهم المتصلة بالمتن إذا فازوا بالحرب، فنووا أن يوقفوهم عن التغلب على صرود (جرود) المتن فوق زحلة فيتخلصوا من مهاجمتهم، ولسوء الحظ كانت زحلة إذ ذاك قد تشتت كلمتها وفرق الطمع وحب الرئاسة بين أعيانها على حد قول الشاعر:
لقد صبرت عن لذة المال أنفس
وما صبرت عن لذة النهي والأمر
فانقسموا إلى حزبين البعلبكي نسبة إلى الأسر التي أصلها من بعلبك ، والراسي نسبة إلى الأسر التي منبتها رأس بعلبك. أما بعض الأسر الأخرى فالتزمت الحياد، وكان بعضها يحب التفريق وزيادة الخرق والآخر يحب الاتفاق والاتحاد؛ فلذلك أنتجت السعاية وشدة التحزب والتحيز حدوث قتال يوم الاثنين في 16 نيسان في زحلة بين الفريقين المذكورين فقتل يوسف بالش وجرح عبد الله مسلم، فلهذا لم يشاءوا أن يذهبوا للمدافعة عن بلدتهم إلا حزبين، فالبعلبكيون ذهبوا بقيادة عساف مسلم من جهة خان مراد على طريق الشام وبيروت، والراسيون بقيادة مخول البريدي إلى حمى
26
كفر سلوان. وكانوا جميعهم نحو ثمانمائة بين فرسان ومشاة.
ويوم السبت في 21 منه دخلت فئة من الزحليين الراسيين كفر سلوان وأحرقوها وتقدموا إلى قرنايل (المسماة سكرة المتن أي مفتاحه)، فلاقاهم الدروز في الطريق وجرت بينهم موقعة رجع فيها الزحليون متقهقرين وفقد منهم ستة أنفار وذلك؛ لأنهم ثملوا بخمرة النصر وانصرفوا إلى اقتسام الأسلاب. والفئة الثانية من الزحليين؛ أي البعلبكية تقدمت إلى جهة المتن وملكت منها جوار الحوز وبزبدين، ودخلت بتخنيه قرع السيف وأحرقوا بعض تلك القرى التي استولوا عليها، فتجمع الدروز عليهم، وردوهم إلى الوراء وفقد منهم بهذه الموقعة عشرة أنفار وخسر الدروز كثيرا منهم في الموقعتين، وكان الدروز قد استصرخوا بعسكر الدولة، فعزم الوزير وجيهي باشا على النهوض إلى المتن لمنع الحرب وكتب إلى مناصب البلاد من الطائفتين ليستقدمهم إليه إلى خان الحصين فوق بحمدون للمذاكرة بما يوقف تيار الثورة ويخمد نار الفتنة، فوصل الوزير المديرج، وكان قد أرسل ثلاثمائة من عسكره إلى قرنايل بقيادة خورشيد باشا، فمنعوا الزحليين وعسكر النصارى عن الهجوم على الدروز، وأرسل فئة أخرى إلى عين دارة وقب إلياس للضرب على أيدي النصارى.
فاجتمع إليه كثير من أعيان البلاد بينهم وفد من زحلة في المديرج، فأشار عليهم بإيقاف القتال وتفريق الرجال، فاستأذن خليل حجي وتكلم أمامه بجرأة قائلا: يا مولاي يعيش راسك إن النصارى لا ينفضون حتى يفرق شمل الدروز ويعودوا إلى مواطنهم لنكون في مأمن من مهاجمتهم. وصادق على قوله أعيان معظم الوفود المسيحية؛ فلذلك لم يستطع الوزير إخماد نار الفتنة لعدم انقياد زعماء الطائفتين إليه.
فعاد الزحليون إلى بلدتهم وقد فشلوا في حربهم؛ لانقسام كلمتهم وتنابذهم، وكان الذين فقدوا منهم بالموقعتين المذكورتين هم: يوسف حجي، وجرجس نابيه، ونقولا سماحة، وحبيب السكاف، ويوسف زنبقه، وحبيب ريا، وطنوس حجي، وظاهر الخياط، وجرجس رومية، ويوسف رحال، وأبو حيدر إلياس البريدي وصليبي البخاش، وأبو حسون الصائغ، وجرجس السكاف، وشاهين العتل، وحنا أبو فيصل.
27
ويقال: إن خليل معكرون هجم على الدروز فرموه بالرصاص قتيلا.
28
ولما اجتمع الزحليون في بلدتهم وأوجسوا خيفة من هذا الفشل وعلموا أن سببه إنما هو انقسامهم، جمعوا كلمتهم واتفقوا قلبا وقالبا وأقسموا الأيمان المغلظة أنهم يكونون جميعهم في المدافعة يدا واحدة وقلبا واحدا وينبذون التضاغن والتحاسد ظهريا، متواثقين متعاهدين على الدفاع عن حوزتهم بكل قواهم، وذلك بحضرة المطران باسيليوس شاهيات فباركهم، فاجتمع أكثر من ألف وخمسمائة مقاتل وقيل نحو ألفين وخمسمائة، ومعهم بعض الذين كانوا قد التجأوا إلى زحلة من البقاع والعرقوب في الشوف.
فزحفوا يوم الخميس في 26 نيسان المذكور وجميعهم بقيادة عبد الله أبي خاطر المشهور بدربته وحنكته، فخيم عسكر الزحليين في حمى كفر سلوان والدروز اجتمعوا في قرنايل ، فتربص الزحليون متوقعين هجوم الدروز عليهم فلم يفعلوا. وفي صباح اليوم التالي (السبت) في 27 منه اختلف عبد الله أبو خاطر وعساف مسلم على خطة الهجوم، فالأول أحب التريث والتمهل والثاني مال إلى الهجوم، ولما رأى أبو خاطر أن المقاتلين يودون الهجوم أرسل أولا العراقبة (سكان العرقوب) بقيادة إبراهيم الطحان من دير القمر والبكافنة (سكان بكفيه) الذين كانوا قد انضموا إلى الزحليين بقيادة يوسف الشنتيري، فهجموا على قرنايل من جهتين متخالفتين فدحرهم الدروز ولم يستطيعوا دخول القرية لحصانتها وكثرة الدروز.
ولما رأى القائد العام عبد الله أبو خاطر ذلك، وكان عساف مسلم قد تقدم بنحو خمسين مقاتلا لنجدة النصارى اخترط هو سيفه، وسار أمام الزحليين الذين نظمهم صفوفا على خط مستطيل، وأشار إليهم أن لا يطلق الواحد منهم إلا رصاصة واحدة من بندقيته، وهكذا كان فاستمروا في هجومهم هذا وهو أمامهم إلى أن دخلوا قرنايل وأخرجوا الدروز منها، وقتلوا نحو ثلاثمائة بينهم ضابطان من عسكر خورشيد باشا قيل قتلهم الدروز، وقيل الزحليون لأنهم دخلوا بين المتقاتلين.
وكان عسكر بسكنته وكفر عقاب في السفيلة تحت بعبدات بقيادة الأمير أحمد الطرودي اللمعي، فلما رأوا الزحليين هاجمين لاقوهم وكذلك بقية عسكر المتن بقيادة الشيخ غندور الخوري السعد، فأطبقوا بقرنايل قبل ظهر ذلك اليوم وأحرقوها ثم ارتدوا إلى القرى المجاورة، فأتموا حريقها الذي كانوا قد بدءوا به في الموقعة الماضية كما مر، ثم أوقفهم عسكر خورشيد باشا عن القتال، فعادوا إلى زحلة والنصر حليفهم ولم يهرق منهم بهذه الموقعة نقطة دم لا قتلا ولا جرحا، وذلك بفضل قائدهم المحنك عبد الله أبي خاطر،
29
فأوغروا صدر الدروز غيظا وانتقاما لاستظهارهم عليهم في المرة الثانية.
واشتهر من أبطال هذه الموقعة عبد الله أبو خاطر القائد العام وابن عمه حنا، ويوسف الراعي، وعساف مسلم، ونسيباه مراد وأبو محمود، وأبو عبيد يوسف البريدي وأخواه مخول وأنطون، ومخول وناصيف غره، وأبو عساف جرجس الحاج شاهين، وناصيف دموس وهو لا يزال حيا معافى، وناصيف جدعون، وجرجس القرعان، ولحود ثابت البحمدوني، وموسى البحنسي، وإلياس هاشم المعلوف الذي قصم ظهر حصانه. وقد تثاقل تحته وأبناء عمه شبلي
30
وأبو علي مخايل وابن شقيقه نعمان، وحنا فرح وشقيقه طنوس الذي لا يزال حيا معافى، وعبد الله جبور وأخوه طنوس الملقب بأبي عفيفة وغيرهم ممن أبلوا في المواقع الماضية. وكان حملة الأعلام أبو عيطا النمير، ويوسف بشارة الخياط، وأبو لولو خليل الجريجيري، وعبد النور الششم، وقد ثبتوا ثبوت الأبطال أمام رصاص الدروز المتواصل. وكان الاضطراب لن يزال سائدا في نواحي لبنان ووادي التيم والبقاع، فكانت زحلة ملجأ للمنكوبين.
فيوم الأحد في 29 نيسان سنة 1845 جاءها كثير من البقاعيين ملتجئين إليها؛ لأن قراهم التهمتها النار على أثر المواقع الدامية، ويوم الثلاثاء في أول أيار حاصر الدروز قرية جزين، وحضر بعض سكانها إلى زحلة مع المطران يوسف رزق الماروني الذي سافر في اليوم الثالث إلى بيروت . ويوم الأربعاء في 9 منه جاء كثير من نصارى حاصبيا مدحورين. وكان الزحليون قد أكرموا وفادة من التجأ إلى بلدتهم وسكنوا روعهم بحسن معاملتهم، فجبروا قلوبهم الكسيرة وأراحوا نفوسهم المضطربة.
ويوم الأحد في 13 منه حضر إسماعيل بك إلى زحلة وسار إلى حاصبية.
ويوم الاثنين في 21 منه ذهب عسكر من زحلة إلى كفر سلوان.
ويوم الأربعاء في 6 حزيران جاء زحلة الأمير بشير أحمد اللمعي، وسافر بعد يومين إلى حاصبية.
ويوم الأربعاء في 27 منه جاء الخواجة برطاليس. وهكذا كانت زحلة محطا لرحال المداولات في الشئون الطارئة إذ ذاك.
وفي أواخر آب سنة 1845 قدم نميق باشا رئيس العسكر (سر عسكر) بأربعة آلاف من العسكر النظامي بقيادة داود باشا، فخيم في جسر دير زينون قاصدا التنكيل بزحلة، فسار شيوخها لمقابلته، فاستأذنوا للدخول عليه فأبى، فتقدم عبد الله أبو خاطر بجرأة ودخل عليه (والقصة مشهورة عند الزحليين)، فاستأذن لهم وقابلوه، ففاوضهم الباشا بشأن كف القتال وجمع السلاح، وطلب منهم مئونة لعسكره وعلفا لخيولهم؛ لأنه زاحف بهم إلى زحلة، فامتثلوا أمره، واستأذنوا بالعودة، وعند وصولهم البلدة نبهوا أن يخبز كل الطحين الموجود فيها دفعة واحدة لطعام العسكر، ويجمع الشعير الموجود علفا لخيولهم.
ويوم الأحد في 26 آب دخل زحلة بعسكره الجرار، فلاقاه السكان بالطعام إلى البيادر، وقدموا العلف للخيول. ثم سار بعسكره إلى الحمار فوق المعلقة، وضربوا خيامهم هناك.
فأولم له المطران باسيليوس شاهيات يوم الخميس في 30 آب وليمة شائقة.
ويوم الاثنين في 10 أيلول سافر المطران إلى بيروت لمقابلة شكيب أفندي ناظر الخارجية الذين أنفذته الدولة لإصلاح الشئون، وكان قد استقدمه إليه مع غيره من الرؤساء للمداولة بذلك.
ولما ألح الباشا بطلب سلاح الزحليين وضايقهم، كان مشايخهم يختلفون إليه معتذرين وطالبين إبقاء الأسلحة للدفاع عن بلدتهم التي كان الدروز يتهددونها بما لهم عند سكانها من الثارات (ولا سيما في موقعتي العريان وقرنايل المارتي الذكر) فلم يقبل.
وفي تلك الأثناء قدموا كتابة مع رسول خاص إلى الموسيو أوجان بوجاد - قنصل دولة فرنسا في بيروت - ليتوسط أمرهم مع الحكومة لتسمح لهم ببقاء السلاح، متعهدين بعدم الاعتداء ومما جاء في هذه الرسالة
31
قولهم:
ويؤخذ من الإفادات التي تلقيناها ما يثبت أن الدروز لم يأتوا لمحاربتنا إلا مكرهين من أصحاب الإقطاع، فإنهم يجبرونهم على ذلك بضرب العصي. ولا مراء أن لبنان لا يتمتع بالراحة ما دام لزعمائه امتيازات ومعافيات كان يمنحهم إياها أمير الجبل لقاء خدماتهم وينزعها منهم حينما شاء.
ومع سعيهم المتواصل بذلك حبطت مساعيهم، ولم تفلح اعتذاراتهم للباشا، ولا نجحت تعهداتهم له بالإخلاد إلى السكينة، وكان في مقدمة المدافعين عن الزحليين والساعين بإبقاء السلاح عبد الله أبو خاطر، وأبو علي المعلوف وغيرهما ممن أوتوا طلاقة اللسان وسداد الرأي وقوة الحجة من شيوخ زحلة، فلم يفلحوا بمساعيهم هذه.
ويوم الخميس في 4 تشرين الأول من السنة المذكورة (1845) أحدق العسكر العثماني بزحلة بين فرسان ومشاة من كل جهة، وشرعوا يجمعون السلاح من سكانها، فأبى كثير منهم التسليم، وكانت المداولات بذلك لن تزال جارية مع الحكومة والقناصل. ويوم الأربعاء في 10 تشرين الأول سارت بعض العساكر إلى الجبل.
ويوم الجمعة في 12 منه استقدم نميق باشا شيوخ زحلة إليه، وكانوا نحو عشرين وقال لهم: كلكم في السجن حتى تقدموا سلاح البلد برمته. لأنه كان قد فهم أن كثيرا من السكان أخفوا سلاحهم. فاحتج كل منهم لتبرئة ساحة البلدة، فلم يقتنع بذلك فقام أبو عساف الحاج شاهين وقال له: عفوك يا مولاي كيف يمكننا تقديم سلاح البلد ونحن في السجن. قال لهم: إذن ضعوا بنيكم رهنا عندي حتى تذهبوا وتجمعوا السلاح. فاستقدموا إليه كلا من عبيد يوسف البريدي، ومخول الحاج شاهين، ويوسف حجي، وناصيف غرة، وهيكل أبي خاطر، وكانوا في مقتبل عمرهم فأودعهم خيمة مخفورين وأطلق سراح الشيوخ، وكان ذلك يوم الاثنين في 15 منه.
وبقي العسكر محدقا بزحلة إلى أن تم جمع السلاح، فسار الباشا يوم الجمعة في 23 تشرين الثاني إلى جنوبي لبنان. وقد تكبد الزحليون نفقات كثيرة ووقف دولاب أعمالهم مدة، ولكن نجت بلدتهم من التنكيل والتخريب.
وفي هذه السنة كان عبد الله أبو خاطر من زحلة مستشار الكاثوليك في مجلس قائمية مقام النصارى، وشديد عيسى الخوري البحمدوني مستشار الأرثوذكس في مجلس قائمية مقام الدروز (راجع «المحررات السياسية» 1 : 218).
وفي أوائل سنة 1846م اشتد الغلاء في سورية، ولا سيما في زحلة التي أنفقت جميع ما كان مخزونا في أهرائها (حواصلها) من الحبوب طعاما للعسكر، فبيع فيها مد الحنطة بعشرين غرشا والشعير بثلاثة عشرة والذرة بخمسة عشر، وصار جوع ضايق الفقراء.
ويوم السبت في 27 نيسان سنة 1846م بدأ المطران باسيليوس شاهيات ببناء كنيسة سيدة النجاة الكبرى في زحلة، وكان الراز (رئيس البنائين) خليل الخرياطي، ووكيل العمل الخوري بطرس القطيني المعلوف. وفي تلك الأثناء ابتاع الآباء اليسوعيون محلا في أعلى زحلة يعرف بكرم البالوع، وبنوا ديرهم الصغير وأنشئوا فيه مدارس للذكور والإناث، وذلك بمساعدة الأمير حيدر الحاكم وبعض الزحليين مثل جرجس العن، وحبيب مقصود الذين انتظم في سلك رهبانهم بعد ذلك، وزاد عمران زحلة فصار كرم البالوع الكبير بيوتا للسكن وهو قرب دير اليسوعيين كما مر، وامتد العمار إلى فوق الطريق الموصل إلى الجبل من جهة البياضة. واتسع البناء فوق الدار الأسقفية وأخذ جانب من الكروم غير ما أخذ أولا وبني فيه ، ثم تقدم العمار وعطلت التربة فوق حارة دير النبي إلياس المخلصي، وقطعت الكروم التي فوقها على الظهر وعمرت كل تلك الناحية حتى إلى رأس التلة. ومن جهة القاطع ازداد العمار كثيرا في ناحية الميدان حتى اتصل بالمعلقة، وفي حارة البربارة حتى عين الدوق.
ونهار الجمعة في 10 أيار سنة 1846م انقض برد كالرصاص فأتلف الكروم والأشجار.
وفي أوائل أيلول من تلك السنة كان السيد أغابيوس الرياشي أسقف جبيل وبيروت الكاثوليكي، وبعض أعيان بيروت في زحلة للمداولة بإدخال الحساب الغريغوري.
ويوم الثلاثاء في 27 تموز سنة 1848 جاء زحلة ناصيف منعم المعلوف المؤلف المشهور في الأستانة وأوروبة، ومعه بعض السياح الأوروبيين، فقوبلوا باحتفاء ولم يطيلوا المقام لتفشي الهواء الأصفر في سورية، فساروا إلى بعلبك وانحدروا إلى بيروت.
ويوم الخميس في 29 تموز قدم زحلة أسر (عيال) كثيرة من دمشق لكثرة الهواء الأصفر فيها ولم يمض على تقاطرهم مدة حتى اتصلت عدوى الوباء بزحلة، فأصيب ثلاثة من الزحليين يوم الخميس في 26 آب، وماتوا على الأثر؛ أحدهم موسى أبو فيصل في 30 آب عن نحو خمسين سنة والاثنان في 3 أيلول، وهما فروسين ابنة جرجس القبرصلي بعمر ثلاثين سنة وخليل بن مخايل الجامد بعمر سنتين ونصف.
32
ويوم الخميس في 20 تشرين الأول سنة 1849م جاء مصطفى باشا زحلة مع عسكر لعد الأنفس ولم نقف على إحصائه لزحلة.
وفي 25 كانون الثاني سنة 1850م سقط ثلج عظيم لم يسبق له مثيل من زمن طويل، وتوالى سقوطه في شباط فتضايق السكان.
ويوم الاثنين في 21 آب سافر الأب فيلبس النمير الزحلي
33
والخوري موسى مقحط الدمشقي
34
من الكهنة الأسقفيين إلى بيروت ورومية فالنمسة لجمع إحسان لإتمام الكنيسة الكبرى، وذلك بأمر المطران باسيليوس شاهيات الذي طاف بعض الجهات، فجمع لها منها ومن زحلة مقدرا من المال لم يكف لإنجازها.
ويوم الاثنين في 25 أيلول من تلك السنة جاء أمين أفندي إلى زحلة، وأمسك بهذا اليوم الأمراء الحرفوشيين في بعلبك وهم أحمد وابنه ويوسف وسلمان وخنجر والبك وشديد وذلك بواسطة مصطفى باشا.
وسنة 1852 بنى الروم الأرثوذكس في زحلة كنيستهم الثانية باسم القديس نيقولاوس. وفيها أنجز بناء كنيسة سيدة النجاة، فأرخها الشيخ ناصيف اليازجي بقوله وهذا مما لم يطبع في ديوانه:
بناها السيد المطران من قد
دعي باسيليوس الشاهيات
فزر إن شئت بالتاريخ تنجو
مقام البكر سيدة النجاة
وسنة 1854 أضيفت زحلة إلى أسقفية سلفكية (صيدنايا ومعلولا) وسيم عليها الطيب الذكر المطران متوديوس صليبا اللبناني، فجاء زحلة ولبث فيها مدة ثم طاف على الرعية وعاد بعد سنة وشرع ببناء الدار الأسقفية قرب الكنيسة المذكورة.
35
وفي آذار سنة 1854م صار غلاء شديد فبيع مد الحنطة من 22-26 غرش، والشعير باثني عشر غرشا، والذرة الصفراء من 17-18 غرشا. وفي شهر نيسان من تلك السنة فك قسم من قالب عقد سيدة النجاة. وفي يوم الخميس في السادس منه كان سبعة من الفعلة يحفرون أساسا في شمالي الكنيسة لجهة بيت شبيب في زاوية الحائط، فانهال عليهم التراب وأخرجوا موتى والذين نعرفهم منهم هم منصور بن فرح النبكي، ونادر بن دعيبس دعيج، وإبراهيم أبو شحود. وخليل بن جرجس توما.
ويوم السبت في 24 تموز من تلك السنة سار جمهور من زحلة إلى الزبداني والنبي شيت وسرعين وغيرها تفتيشا على الأمير حسين الحرفوشي؛ لأنه ضرب أحد سكانها وأجرى أنسباؤه الحرفوشيون بعض تعديات عليهم في زمن حكم الأمير سلمان. وعادوا يوم الاثنين إلى بلدتهم بدون قتال.
ويوم الخميس في 29 تموز جاء المستر ريتشرد وود قنصل إنكلترة في دمشق، وأصلح بين الزحليين، والأمير سلمان الحرفوشي وبعض أنسبائه، وذلك في قرية بدنايل قرب زحلة.
وفي 11 أيار من هذه السنة توفي الأمير حيدر إسماعيل اللمعي قائم مقام النصارى في صربا (كسروان) عن 65 سنة بمرض الفالج ونقل إلى بكفيه، وأقيم له مأتم حافل حضره وجوه الزحليين برجالهم، ودفن فيها وخلفه بالوكالة ابن أخيه الأمير بشير عساف اللمعي تسعة أشهر، ثم أسندت قائمية المقام إلى الأمير بشير أحمد اللمعي، فهنأه الزحليون حسب العادة، وانقسم المتنيون بل سكان قائمية مقام النصارى إلى حزبين عرفا بالعسافي والأحمدي، حسب انتمائهما إلى أحد الأميرين كما سترى.
ويوم السبت في 19 آذار سنة 1855 قدم زحلة الأمير بشير أحمد وأبناء عمه الأمراء أمين ويوسف وأسعد وخليل، فجرى لهم استقبال حافل سر به الأمير جدا، ولم يلبث أن ابتاع بعض البيوت في قلب المدينة وشرع بهدمها ليبني قصرا (سرايا) للحكومة فيها. فاستوقفته عمشاء أم خديجة التي لم ترض أن تبيعه بيتها، فأراد أخذه منها قهرا فرفعت دعواها إلى المرجع الأعلى؛ ونجحت فأخفق الأمير سعيا ولم يتم ذلك القصر بعد أن بنى بعضه، ولن يزال إلى يومنا قائم الجهة الشرقية غير كامل.
36
وكان الزحليون قد أقاموا عليهم بضعة شيوخ من وجهائهم يديرون شئونهم، وهم حنا فرح المعلوف، وعبد الله أبو خاطر، وعساف مسلم، ويوسف البريدي، وأبو عساف جرجس الحاج شاهين، وخليل حجي، ومخول غره، وناصيف جدعون، فلم يمض على مشيختهم بضعة أشهر حتى أرسل الأمير بشير نقولا الأرقش البيروتي شيخا لزحلة من قبله. فسكن في بيت إلياس سيف في حارة الراسية، ورفع الأمير يد مشايخها الوطنيين مستاء مما حصل له من توقيف تشييد دار الحكومة كما مر.
ويوم الجمعة في 8 نيسان سنة 1855م جاء زحلة عاقب (ولي عهد) ملك بلجكة مع زوجته والأب ميسلان،
37
فنزل ضيفا كريم المثوى في بيت أبي يوسف جرجس العن الزحلي والد حبيب العن، فاستقبل بحفاوة وبات تلك الليلة، وسافر في اليوم التالي إلى دمشق مع بطانته، وقد التمس لحبيب العن من الدولة العثمانية لقب بك وكافأه بوسام لما لاقاه في بيته من حسن الضيافة.
وفيها سار يوسف القطيني المعلوف وإلياس الزمار من زحلة إلى مدرسة قصر العيني الطبية في مصر لدرس الطب، فكانا أول من درس هذا الفن قانونيا ورجعا بعد عشر سنوات.
38
وفيها بنيت كنيسة عين الدوق باسم القديس يوحنا في زحلة للرهبنية الحلبية الباسيلية الكاثوليكية محل المأوى (الأنطوش) الآن.
39 (13) حريق بريتان
كان سكان قرية بريتان الشيعيون (المتاولة) يعيثون في بلاد بعلبك والبقاع ويتحاملون على المسيحيين، وكانت قد حدثت نزغة بين الزحليين والأمراء الحرفوشيين، فازداد عيث البريتانيين وعبثهم بالراحة. وبينما كان شاهين مبارك من زحلة مارا في أرض بريتان قتله سكانها، فتكدر الزحليون لذلك ورفعوا شكواهم إلى الأمير بشير أحمد قائم مقام المسيحيين الذي كان يقيم في برمانه (من متن لبنان)، فأشار إليهم بالإخلاد إلى السكينة والمحافظة على الراحة، فتدارك عقلاؤهم الأمر وأوقفوا الجهال عن هياجهم، وما كادت السكينة تستتب أثار البريتانيون الأحقاد باعتدائهم على موسى شاهين كروك الزحلي الذي كان ناطورا (شوباصيا) في بريتان، فقتلوه وهو في عنفوان شبابه، فلما نمى إلى الزحليين خبر هذا الاعتداء الفظيع، وكانوا قد تكدروا من تهامل الأمير بشير بطلب دم قتيلهم الأول هاجوا موغري الصدر، وتجمهروا ليلا على الجسر وسار في مقدمتهم حملة الأعلام. فأرسل شيخ البلدة نقولا الأرقش يتهددهم ويتوعدهم فلم يرعووا، فاستعان بالمطران باسيليوس والشيوخ خشية أن يلام من الأمير، فنزل المطران إلى المعسكر على الجسر، ولما رآهم في هياج عظيم سكن روعهم ونصحهم، فازدادوا لغطا وحماسة فعمد إلى ذريعة أخرى دبرها لهم قائلا: إن مطران بعلبك أرسل ينبئني أن من تظنونه قتيلا من إخوانكم هو حي يرزق في بعلبك وهو في الدار الأسقفية؛ فهدأ روعهم وسكنت عوامل غيظهم. فأرسل نقولا الأرقش رسولا ليلا إلى الأمير في برمانه يخبره بما جرى، وأن المطران والوجهاء ساعدوه على رد الثائرين عن الهجوم فأجابه الأمير ليلا: أن يمنع الزحليين عن الهجوم، وإن ظهر منهم ما يكدر الراحة يقعون تحت القصاص الصارم.
ولكن النواطير (الشوابصة) الذين كانوا في القرى المجاورة حملوا جثة القتيل، وجاءوا بها إلى زحلة ومروا بها صباحا في وسط البلدة والناس متجمهرون، فساروا بأسلحتهم من فورهم وهم نحو ألف بينهم نحو ثلاثمائة فارس مدججين بالأسلحة يقصدون بريتان. والأرقش أعاد الرسول حالا إلى الأمير يخبره بما جرى مما جدد ثورة الأهلين، فزحفوا إلى بريتان استثآرا بقتيلهم، فكتب الأمير إلى الأرقش ما معناه: «بلغ محبينا أهل زحلة وقد خرجوا من بلدتهم للقتال أنهم إذا عادوا مكسورين أحرق بلدتهم.» فأرسل إليهم جواب الأمير وهم زاحفون على الطريق، فقرأوه وازدادوا حماسة ونزلوا على بيادر قرية «طليه» يوم الجمعة في 27 أيار سنة 1855، فقدم لهم نصارى تلك الجهات حاجاتهم من أكل وعلف للخيول، وأمر الأمير سلمان الحرفوشي حاكم بعلبك جميع المتاولة أن لا يعترضوا الزحليين ولا يقاتلوهم.
وكان الأمير محمد الحرفوشي مع ألف وخمسمائة مقاتل مسلحين ومحاصرين في بريتان. فقال لقومه: إذا جاءكم الزحليون ثلاث فرق فلا تحاربوهم؛ بل أخلوا لهم القرية، وإن جاءوا جمهورا واحدا قاتلوهم.
وكان شيوخ الزحليين قد رتبوا المقاتلين ثلاث فرق من مشاة وفرسان، ولكل فريق زعماء يديرون حركاته. فظهروا صباح السبت في 28 أيار سائرين ثلاث فرق منظمة، فلما رآهم الأمير محمد الحرفوشي فر بأنسبائه ورجاله إلى المغاور المجاورة واختبأوا فيها، فزحف الزحليون على بريتان من ثلاث جهات من جهة سرعين جنوبا ومن ناحية بعلبك شمالا والباقون من الغرب (أي من جهة زحلة)، وهؤلاء كانوا معظم فرسانهم المدربين على القتال. فدخلوا القرية من الجهات الثلاث وأحرقوها وعادوا منتصرين ولم يقتل منهم أحد.
40
فأرسلوا قبل وصولهم إلى زحلة أحدهم فارس طعمة السكاف يحمل إلى الأمير بشير بشائر انتصارهم فخلع عليه ووهبه كيسا «خمسمائة غرش» وبعث يهنئهم.
وسنة 1856م شرع المطران متوديوس صليبا الأرثوذكسي المذكور آنفا ببناء الدار الأسقفية قرب كنيسة القديس نيقولاوس. وجرى بينه وبين الطائفة الكاثوليكية خلاف شديد حل بواسطة عقلاء الطائفتين، ولا سيما أبو عساف الحاج شاهين، وأبو علي المعلوف. وصارت زحلة من هذا الحين مقر كرسي أسقفية أرثوذكسية، واتفق أسقفها هذا مع السيد باسيليوس شاهيات الكاثوليكي على ترقي أبنائها والسعي بعمرانها وتقدمها، فكانا يدا واحدة في العمل وكان أبناء الطائفتين متعاهدين على الموالاة والمصافاة.
وفي تلك الأثناء كان الأمير بشير أحمد مستاء من الزحليين لما حدث له في بلدتهم، فصار يصادرهم وكان شيوخ زحلة وزعماؤها يودون إدارة شئون بلدتهم بنفسهم كما اعتادوا، فعقدوا مجلسا قرروا فيه طرد نقولا الأرقش الذي أرسله الأمير شيخا عليهم واستعادة المشيخة لهم. وكان الأرقش قد وضع عنده نحو ثمانية محافظين (نواطير) يستخدمهم في إدارة شئون البلدة وحفظ عقاراتها، فبدأ الزحليون يناوئونهم، ويصدونهم عن إنجاز ما ينتدبهم الأرقش إليه حتى أغاروا على جهات عين الدوق وبحوشه ، وامتلكوا أراضي الأمراء اللمعيين في زحلة وجوارها، ولا سيما في الصرود (الجرود) ورفعوا يد النواطير عنها، ثم هجموا على نقولا الأرقش وطروده واستعادوا المشيخة، فتكدر منهم الأمير بشير وبعض أنسبائه اللمعيون الذين كان لهم السيطرة على الزحليين، ولهم في بلدتهم عقارات وأبنية كثيرة. فصار الزحليون في ذلك الحين مبغوضين من الدروز والمتاولة وقنصل إنكلترة والأمراء للأسباب التي مر تفصيلها، فضويقوا من ذلك، واعتمدوا على أنفسهم بجميع أعمالهم، وأقاموا قاضيا منهم وكل شيخ عين رجلين من قبله سميا ضابطين، كانوا يدفعون رواتبهم من جيوبهم الخاصة، واتخذوا لهم ختما مركبا من قطع على عددهم يأخذ كل منهم قطعة، فلا يختمون به إلا عند اجتماعهم، وفي مكتبتي أوراق ممهورة باسم «وكلاء عموم زحلة» تتضمن وصاة. وهكذا كانت زحلة في تلك الأثناء يحكمها مجلس بلدي من زعمائها، وكانت منحازة إلى الأمير بشير عساف مناظر الأمير بشير أحمد في الولاية ، فسعى هذا لدى خورشيد باشا والي صيداء وبيروت بمصادرة الزحليين، فأرسل يتهددهم بالاحتلال العسكري إذا بقوا مخالفين لقائم المقام.
41
وفي أوائل أيار سنة 1858م جاء زحلة المستر «ر. ج. ددس
R. J. Dodds » المرسل البروتستاني مع أسرته لتأسيس رسالة إنجيلية فيها، فقام سكانها وطردوه، ولولا نعمان المعلوف الذي كان مستأجرا بيته لحدث ما لا يحمد، فغادر المرسل زحلة مستاء من معاملة سكانها، وشكا أمره إلى قنصل إنكلترة فتغير هذا على الزحليين.
42
وفي 27 أيار من هذه السنة عقد الأمراء اللمعيون جمعية في العرعار قرب بعبدات (لبنان) ضمت كثيرا من أعيان الدروز والمسيحيين المتنيين للمداولة بشأن قائم المقام الأمير بشير أحمد، واختلافه مع أنسبائه الأميرين علي وأمين رئيس مجلس قائمية المقام سابقا ومحاصرتهما إياه في داره حتى فر من برمانه، وأعاده خورشيد باشا بقوة عسكرية تخفره إليها. فاقترح هذا المجلس كتابة رسالة إلى الزحليين بهذا الشأن، فحدث اختلاف عليها بين الأمير أسعد موسى وصهره والأمير سيد أحمد وابن أخيه والأمير يوسف علي؛ لكنهم وقعوا أخيرا الرسالة
43
وذلك بشأن الأمير بشير عساف ليخلف الأمير بشير أحمد.
وفي أواخر حزيران من تلك السنة تألف وفد نحو ستمائة شخص من الزحليين
44
لينضم إلى الوفود اللبنانية التي ذهبت إلى بيروت للشكوى على قائم المقام الأمير بشير أحمد لدى أحمد عطا بك (المندوب العثماني لفصل الخلاف بين الأميرين)، وكثر التحزب للأميرين بشير عساف وبشير أحمد، فعرفت هذه العصبية بالعسافي والأحمدي كما سبق آنفا وكانت زحلة من الحزب العسافي.
وفيها بدأ السيد باسيليوس شاهيات ببناء كنيسة القديس يوسف في حارة الميدان المعروفة بكنيسة مار يوسف الشير وجعلها أسقفية.
ولما كان اللبنانيون بخصام مستمر مع الأمير بشير أحمد مثل كثير من الزحليين الذين هم من الحزب العسافي المذكور آنفا، تضايق الزحليون من معاملته ومصادرته، ومن الاضطراب الذي جرى في قائمية مقامه، وكان الأمير بشير قد وقف في 28 أيلول سنة 1858 وأقيم الأمير حسن اللمعي وكيلا عنه، فألف الزحليون وفدا من أعيانهم ساروا في أواسط كانون الأول سنة 1858 إلى بيروت، فقابلوا خورشيد باشا والي الأيالة إذ ذاك، وقدموا له عريضة يطلبون فيها تعيين حاكم عثماني يدير شئونهم لينسلخوا عن لبنان ويتخلصوا من حاكمه الذي كان يساورهم، فاستقبلهم الوزير بكل حفاوة وسكن روعهم، وعاهدهم أن لا يحتل مدينتهم احتلالا عسكريا كما كان قد نمى إليهم، فأظهروا له رغبتهم في تفضيل الوالي العثماني المدني على العسكري ويأسهم من التسويف بعدم قبول تظلمهم من الأمير بشير قائم المقام الذي شكوا أمره إلى المراجع العليا مرارا ولم تسمع شكواهم، فوعدهم الوزير أن يجيب مطاليبهم ويسعى في إسعادهم فودعوه شاكرين وضاربين موعدا لأخذ الجواب النهائي، ثم ساروا لمقابلة القناصل الأجنبية في بيروت وأظهروا لهم رغباتهم المذكورة فمنهم من استحسنها ومنهم من رفضها.
وفي 21 كانون الأول عقد الوزير مجلسا من أرباب الحكومة الملكية والعسكرية للمداولة بشأن طلب الزحليين وإجابتهم، فأقروا بعد المفاوضات على إرسال عريضة الزحليين إلى الأستانة، وأشاروا إليهم بالعودة إلى بلدتهم ومراجعتهم بشأن الجواب ليبلغوهم إياه بعد وروده فعاد الزحليون إلى بلدتهم متوقعين جواب الأستانة.
45
وفي 20 نيسان سنة 1859م راجع الوفد الزحلي الوزير طالبا جواب الأستانة، فأخبرهم أنه لم يرد جواب حتى ذلك الوقت.
وبعد مرور مدة ورد الجواب من الآستانة بإجابة مطاليب الزحليين وقبول انضمامهم إلى ولاية سورية وانسلاخهم عن لبنان، وأرسل الوزير متسلما عثمانيا لزحلة اسمه صادق أفندي، فسكن دار بني السرغاني، واستقلت زحلة بأحكامها عن لبنان، وأدار المتسلم الجديد شئونها فاستاء من ذلك الأمراء اللمعيون، الذين كانوا متسلطين عليها منذ القديم فصارت زحلة محاطة بمبغضيها من كل جهة وأصبح موقفها حرجا وألقي الخلاف بين أسرها (عيالها) وتفرقت كلمتهم؛ لاختلاف منازعهم ومبادئهم فضعف شأنها وطمع بها أعداؤها وحسادها كل الطمع.
وفي تلك الأثناء كانت الحكومة قد تغيرت على الأمير سلمان الحرفوشي وطاردته للقبض عليه، ففزع إلى زحلة سنة 1858 على أثر موقعة الحديدية، واختبأ فيها مدة خفي فيها أمره على الحكومة وكان يتنقل في أحيائها وبيوتها.
وفي أوائل سنة 1859م جاء زحلة يوزباشي مع أنفار من فرقة حسني بك رئيس فرقة الفرسان الخمسمائة المنظمة المقيمة في بعلبك للبحث عن الأمير الحرفوشي، فبقي اليوزباشي في زحلة متنكرا أياما يبحث عن الأمير سلمان، فأخبره أحد أعيانها ممن كانوا مستائين من الأمير المذكور عن محل وجوده، وهو معصرة أبي شاهين الحلوة، فذهب اليوزباشي حالا إلى بعلبك وأنبأ حسني بك بالأمر فقام من فوره وجاء معه يرافقهما تابع آخر إلى المعلقة التي كانت إذ ذاك تابعة لدمشق ثم جاءا إلى زحلة التي كانت في ذلك الحين قد ألحقت بولاية بيروت وصيداء، فأخذ حسني بك الجنود التي كانت مقيمة في زحلة والثلج يتساقط عليهم، وأحاط بالبيت الذي فيه الأمير ليلا وأنذره بالشر إن لم يسلم، فأطلق الأمير الرصاص على الجنود فأخطأهم لاعتراض الظلمة بينهما. ثم طلب أن يأتي إليه حسني بك وحده فيسلمه ذاته فلم يرض حسني بك، ولكنه استدعى صاحب البيت وهو أبو عيطة النمير، وسأله عن ثمن بيته فقال: خمسة آلاف غرش فقال حسني: أدفع لك ضعف هذه القيمة وأحرقه، ثم أمر الجنود بإضرام النار. وبينما هم يتأهبون لذلك كان الأمير سلمان قد فضل أمر التسليم وأقر عليه، فنزع سلاحه مع ثلاثة من رجاله وسلم نفسه ورجاله إلى حسني بك وعرض عليه مالا ليفر فلم يقبل؛ بل أوثقه وأرسله مخفورا إلى بعلبك في ذلك الليل فبلغها قبل الفجر، وكان ذلك يوم الاثنين في 12 ك 2 سنة 1859 فأودع السجن.
46
ومما زاد في إرهاق زحلة ما كان قد حدث منذ نحو سنتين من رغبة الطيب الذكر البطريرك أكلمنضوس بحوث الكاثوليكي في إدخال الحساب الغريغوري (الغربي) بين رعيته، التي كانت حتى ذلك الحين تابعة للحساب اليولي (الشرقي)، فوزع المناشير على الرعية يحثها على وجوب قبول ذلك، فحدث في الطائفة انقسام شديد وكان من أشد مناوئيه في هذا القصد أربعة أساقفة مقدامهم أسقف الفرزل وزحلة والبقاع السيد باسيليوس شاهيات المشهور بحزمه وإقدامه ونفوذ كلمته لدى الحكومة. فكان هذا الانقسام الطائفي سببا آخر أضيف إلى ما تقدم من أسباب قلق الزحليين فزاد في الطنبور نغمة.
وفي 12 آب سنة 1859م التأم المجمع الثامن والعشرون للطائفة الكاثوليكية في محلة عين الدوق من أحياء زحلة، اجتمع فيه الأساقفة الثلاثة بدعوة السيد باسيليوس شاهيات؛ وهم السيد أغابيوس الرياشي مطران بيروت ولبنان، وملاتيوس فندي مطران بعلبك، وتاوضوسيوس القيومجي مطران صيداء ودير القمر. وتفاوضوا مليا بشأن الحساب فأقروا على رفضه بتاتا فنمي الخبر إلى البطريرك، فشكاهم إلى رومية فألغى الكرسي الرسولي مجمعهم هذا، واضطروا بعد مرور مدة أن يتبعوا الحساب المذكور، ولكنهم مع ذلك ضايقوا البطريرك حتى اضطر إلى الاستقالة، كما هو مشهور في تاريخ الطائفة.
وفي أواخر هذه السنة كانت زحلة مهملة؛ لأن متسلمها صادق أفندي كفت الحكومة يده عن العمل واستقدمته إليها، فاضطرب حبل سكانها وانقسموا أحزابا كثيرة، فمنهم من أحب الانضمام إلى قائمية مقام النصارى ومنهم من أصر على طلب حاكم آخر عثماني، ومعظمهم أراد البقاء في ولاية لبنان إذا أبدل قائم مقام النصارى الأمير بشير أحمد، ولكنها ألحقت بأيالة صيداء.
47
وكثر الخلاف والتحزب فأقعد الزحليين وأقامهم وحدثت مواقع بين بعض الأسر (العيال) يسوء ذكرها. وهكذا كانت الفوضى مستولية على هذه المدينة، وانقسام الكلمة سائدا بين سكانها، مع معرفتهم أنهم مبغضون من جميع من يجاورهم أو يلابسهم بل مع تأكدهم أن القوة في الاتحاد، فكانوا أجدر بالتناصر منهم بالتخاذل. (14) مذبحة سنة 1860م
كان انقسام لبنان إلى قائميتي مقام مسيحية ودرزية واتساع الفتق بين الطائفتين، وعدم رتقه بحكمة وسداد داعيا إلى نشوب حرب جديدة اضطرمت شرارتها في قرية بيت مري في المتن في أواسط سنة 1859م، واتصلت بلبنان وسورية، فحدثت مذابح سنة 1860م المشئومة التي يحزننا ذكرها، ولكن المؤرخ مضطر إلى سرد ما جرى ووصف الحقائق التاريخية كما حدثت. ذلك ما حدا بنا إلى ذكر هذه الفاجعة التي ارتعدت لها فرائص الإنسانية جزعا، وسطرتها الأيام بمداد اللوم والتقريع لمن كانوا السبب في إضرام نارها، سامحهم الله وألهمنا الشفقة والحنان على بني جنسنا في مثل هذا الموقف الخطير، والصبر الجميل في مثل هذا المصاب الكبير.
كان سكان مدينة زحلة قبل شبوب نار هذه الفاجعة متفرقي الكلمة كثيري الخصام، لا يتجاوز عددهم اثني عشر ألف نسمة يتجرد منهم نحو ثلاثة آلاف بطل مدرب على القتال. وكانوا قد بلغوا مبلغا عظيما من التجارة والثروة والسطوة وموقفهم حرج.
فكانت الطائفة الدرزية تحب الاستثآر منهم لما أجروه مع بني القنطار وحاطوم، ولإبلائهم في موقعة العريان، وفي المعارك الأخر التي فصلت في أثناء الكلام عن وقائعها. وكان الأمراء الحرفوشيون وإخصاؤهم الشيعيون، قد تغيروا على الزحليين لحرقهم بريتان وتسليمهم الأمير سلمان الحرفوشي الذي التجأ إليهم، والأمراء اللمعيون قد استاءوا من شنهم الغارة على وكلائهم وعقاراتهم وعدم انقيادهم إليهم كعادتهم وشقهم عصا الطاعة، وقنصل إنكلترة موغر الصدر عليهم لطردهم المرسل الإنكليزي، كما مر إلى غير ذلك مما سبق تفصيله في مواقع مختلفة. فكانت الشئون الخارجية ضدهم من كل جهة، وحالتهم الداخلية مضطربة بانقسام كلمتهم وتفريق مبادئهم وتظاهر أسرهم بالعداء والتحزب؛ فلذلك كانت هذه الموقعة أشد المواقع التي خذلتهم وفتت في عضدهم ورمتهم بالفشل وأعادتهم بالخيبة، فخسروا كل ما كانوا قد ربحوه من المجد في المواقع الماضية عملا بقول الشاعر:
وإذا نظرت إلى البلاد وجدتها
تشقى كما تشقى العباد وتسعد
ولما امتدت نيران الفتنة في أنحاء لبنان بين الدروز والمسيحيين في هذه السنة، وقرب الدروز من ضواحي زحلة ونواحيها وتأهب الزحليون للدفاع عن مدينتهم، ولكنهم كانوا فرقا متناوئة وجماهير متخاصمة فكانوا يسيرون بدون قائد عام؛ وقلوبهم متنافرة وكلمتهم غير مجتمعة، وقد فزع إلى زحلة كثير من المسيحيين ممن نشبت عندهم أو في جوارهم الفتن، وكثرت الفتوق ولا سيما من العرقوب والبقاع.
ولقد شهد الزحليون أربع مواقع قبل أن تحاصر بلدتهم وتحرق متراوحين بين النصر والفشل، وهذه هي المواقع التي أصلوا نارها.
48
موقعة ظهر البيدر
ذهبت فرقة من مقاتلي زحلة ونزلائها فرسانا ومشاة نحو ألف، انقسمت فئتين؛ إحداهما هبطت قب إلياس، وهي نحو النصف والثانية صعدت إلى ظهر البيدر لجهة المغيثة، وذلك في أواخر النصف الأول من شهر أيار سنة 1860م بعد الظهر، فباتت هذه الفئة في جديتة (قرب زحلة) وما تنفس صباح اليوم التالي حتى كانوا متوقلين التلال إلى ظهر البيدر، فوصلوا عند ضحى ذلك اليوم إلى قرب خان مراد الكبير؛ حيث كان هناك مضارب الإفرنج الذين يشتغلون بطريق العربة اليومية (الدايلي جنس) بين بيروت ودمشق.
وما كاد يستقر بهم المقام حتى أرسلوا طليعة من أربعة عشر شابا مدربين إلى ظهر البيدر ليستشرفوا عسكر الدروز ويعلموا مخيمهم، فلما وصلوا إلى قرب النفق (التونل) الحالي شاهدوا الدروز متأهبين للقتال فوق قرية عين دارة في الصرد (الجرد)، فلما رأى أولئك طليعة الزحليين أرسلوا إليهم فارسا مغوارا يستطلع أمرهم، فهاجمته الطليعة وردته على أدراجه. فلما رآه الدروز عائدا انقسموا إلى فرقتين زحفتا من جهتين متباعدتين على العسكر الزحلي الذي رأوه في محلين، كما سبق أحدهما عند خان مراد والثاني فوق قب إلياس. ولما شاهد معسكر الزحليين من مكانيهما زحف الدروز فئتين سار كل منهما لملاقاة الفئة المتجهة إليه، فخرجت شرذمة قب إلياس إلى قرب عين الحجل في أعلى الربوة وكانوا فرسانا ومشاة مدربين؛ فأصلوا نار الحرب ودحروا الدروز إلى جوزات قطلش قرب عين داره، وغنموا علم (بيرق) بني عطا الله شيوخ عين دارة وعادوا به منشورا، ووراءه بعض سكان العرقوب الذين كانوا في زحلة ولبسهم أشبه بلبس الدروز.
أما الفرقة الزحلية الثانية فكانت قد وصلت إليها النجدات تباعا من خان مراد، فعززت موقفها وهاجمت فئة الدروز المتجهة إليها فدحرتهم على أعقابهم إلى ما فوق العزونية (مقابل عين دارة)، وكانوا نحو خمسمائة مقاتل. وتقدم الشيخ علي بن خطار بك العماد (قائد الدروز وزعيمهم) بنحو مائتي نفر لتخليص علم عين دارة الذي غنمه الزحليون، فأمطرهم الزحليون بالرصاص، فأصيب الشيخ علي برصاصة في ركبته جندلته عن جواده فخر صريعا، ولولا مداركة الفرسان له وحملهم إياه لأجهز عليه الزحليون. وكانت الفئة الزحلية الثانية قادمة لنجدة هذه وأمامها علم عين دارة، الذي غنموه يحف به كثير من العراقبة الذين هم أشبه بالدروز في ملابسهم، فتوهمتهم فئة الزحليين هذه أنهم الأعداء فأمطرتهم رصاصا مصوبا، فقتلت سبعة من العرقوبيين، ولما تقاربوا عرفوا خطأهم وانضم بعضهم إلى بعض. وكان خطار بك العماد مع أربعمائة مقاتل في ظهر البيدر ، فلما علم بجرح ابنه قال: «إذا كان قد أصيب بالرصاص من الأمام فلا بأس؛ لأنه يدل بذلك على شجاعته، وأما إذا كان قد أصيب من الوراء فهو جبان.» فطلب خطار بك المبارزة فبارزه أحد أبطال الزحليين بالرصاص والسيف، فلم يظفر أحدهما من رفيقه بطائل، وقصتهما مشهورة يتناقلها الناس إلى يومنا. ثم انتهت هذه المبارزة بالمسالمة وانكف الدروز عن القتال، فجمعوا شملهم وحملوا جريحهم الشيخ علي إلى عين دارة فبريح مسقط رأسه حيث قضى نحبه بعد ثلاثة أيام. وقد قتل من الدروز بهذه الموقعة عدد غفير بينهم نحو ستة وثلاثين من شيوخهم منهم الشيخ حمود عبد الملك وقتل من زحلة عشرة أنفار منهم خليل جرجس إليان وأخوه إلياس، وإلياس صوايا، وإلياس عصفور، وطنوس واكيم، ومخول أسعد أبو حسان بعد قتله اثنين من الدروز، ويوسف شكري من دير القمر بعد قتله أربعة منهم، وذلك قبل أن لفظا أنفاسهما. وكانت هذه الموقعة أهمها عند قلعة ابن عفان قرب خان مراد وذلك يوم السبت في 14 أيار (شرقي). ولما عاد الدروز لم يلحقهم الزحليون خوفا من خدعتهم، إذ كانت قد انضمت إليهم النجدات الكثيرة من المتن والشوف ووادي التيم.
موقعة كفر سلوان
وبعد عشرة أيام من ذلك التاريخ استأنف الزحليون القتال، فسار نحو ألف مقاتل إلى حمى كفر سلوان. وكان يوسف بك كرم الأهدني قد أرسل إليهم كتابا يعدهم فيه أنه مستعد لمعاونتهم وأن يتربصوا مطمئنين، فأرسلوا يستقدمونه من المروج قرب المتين إلى حمى كفر سلوان لمفاوضته، فأرسل يعتذر لموانع أخرته، ويقال إن ذلك كان بطلب الأمراء اللمعيين لاستيائهم من الزحليين كما سبق. ونشبت الحرب بين الزحليين والدروز، فأحرقوا كفر سلوان وبقوا فيها أربعة أيام، وكان الدروز قد اجتمعوا في قرنايل وأوقفوا القتال. فعاد الزحليون إلى بلدتهم وبقي عبد الله أبو خاطر مع نحو ثلاثمائة مقاتل، فهاجمه الدروز من الصبح إلى المساء وكسروه إلى جهة حجر الأطرش أو درجة الأساكفة فوق عين حزير، فأنجده الزحليون وثبتوا في ذلك الموقف إلى أن عاد الدروز عنهم، فرجعوا إلى بلدتهم، وقد قتل منهم في ذلك اليوم الذي هو الأربعاء في 25 أيار (شرقي) نحو عشرة منهم حنا المطران، وعيد سعادة، وجرجس البدوي (شمعون)، وخليل الطباع، وقتل من الدروز نحو خمسة عشر نفرا.
موقعة السهل
ويوم الأربعاء في أول حزيران (شرقي) حدثت موقعة السهل على جسر بر إلياس بين الزحليين والدروز، وكان زعماء الدروز إذ ذاك الشيخ إسماعيل الأطرش من عري (حوران)، وخطار بك العماد الذي قتل الزحليون ولده كما مر والشيخ كنج العماد. أما زعماء زحلة فهم الذين ذكرناهم في ما مضى من المواقع، ولكن الزحليين لم يكونوا لينقادوا إلى زعمائهم في هذه المعارك، لما بينهم من المشاحنات والبغضاء والتحاسد. فسارت فرقة من مقاتلي زحلة دون إرادة الزعماء والقواد إلى جسر بر إلياس يوم الأربعاء في أول حزيران (شرقي)، وبعد أن أبدوا بسالة تذكر اندحروا، وقد قتل نحو ثلاثة وثلاثين من زحلة والمعلقة وجرح نحو عشرين، وكان بين قتلى الزحليين مراد بن عبد الله أبي خاطر جمح به جواده، فأدركه الدروز وقتلوه وخليل الجريجيري، وحبيب مرعي المعلوف، ونصر بن أنطون فرح المعلوف وولده يوسف، وصعب بن داود الحاج نقولا، وعازار أبي زهر وغيرهم. ومما يروى أن عبد الله أبا خاطر وأبا علي المعلوف، وهما من أكبر عقلاء الزحليين كانا قد منعا المقاتلين من شهود هذه الموقعة، فلم يسمعوا كلامهما بل غرروا بأنفسهم وعادوا بفشل؛ فلذلك لم يشأ عبد الله أبو خاطر مشاهدة ولده قتيلا لأنه عصاه. ومما يستحق الذكر أن عبد الله شحاده الخوري صعب أنقذ نعمة بن الحاج نصر الصفدي من تحت سيف الدروز الذي كاد يفتك به، وأنقذ أيضا صليبي أبا خاطر من زحلة وأبا محفوظ من جديته.
وهكذا كانت نيران المواقع قد ازدادت اضطراما والخصام اشتد احتداما، فتجمع الدروز والعربان والمتاولة والأكراد من أطراف البلاد السورية جماهير غفيرة، وتعاونوا على تدمير زحلة والتنكيل بسكانها والاستثآر منهم متعجبين من بسالتهم الشديدة التي قاوموا بها (مع قلتهم واختلافهم وعدم إنجادهم) تلك القوات العظيمة، وثبتوا أمامها في معارك متعددة ثبوت الأبطال المدربين.
موقعة الفرزل وبساتين الكرك
ويوم الخميس في الثاني من حزيران (شرقي) كان بعض الزحليين والبعلبكيين مجتمعين قرب الفرزل لصد هجمات الدروز الذين زحفوا على أبلح، فمنعهم أهلها عن دخولها فوصلوا الفرزل، وهناك أبدى المسيحيون ولا سيما الزحليين ثباتا غريبا وردوا الدروز على أعقابهم وتأثروهم إلى بساتين الكرك بعد أن قتلوا منهم ثلاثة، وأما هم فلم يقتل منهم أحد.
موقعة كساره وحرق زحلة
ولما رأى حساد زحلة ثبات مقاتليها أرادوا أن يدمروها، وكان الدروز قد فرغوا من مقاتلاتهم فتفرغوا لذلك فاجتمعوا في سهل البقاع من لبنان ووادي التيم وحوران وانضم إليهم العربان من حوران وسورية والشيعيون من بلاد بعلبك والبقاع مع بعض النصارى، الذين في حوزتهم حتى أربوا على خمسة عشر ألف مقاتل، وقيل عشرين ألفا بين فرسان ومشاة مدججين بالأسلحة، فالأطرش خيم في قب إلياس، والعماد خيم في المرج، وأحدقوا بزحلة من جهاتها الثلاث إلا جهة الغرب من طريق البياضة إلى صنين والمتين، فهذه بقيت مفتوحة وكانت مآكل الزحليين كثيرة وحاجاتهم وافرة، ولكن ذخيرتهم الحربية غير كافية؛ لأنهم فقدوا كثيرا منها بمهاجماتهم المارة الذكر فشعروا بحرج موقفهم وانفرادهم في القتال واجتماع القوات كلها عليهم. فتداول الأسقفان باسيليوس شاهيات ومتوديوس صليبا، وأرسلوا إلى قناصل الدول في بيروت عرائض الاستغاثة والاستنصار، فقابل القناصل الوالي خورشيد باشا ثم كتب إليهم أنه أرسل أمرا إلى الدروز ليوقفوا القتال وسيرسل عسكرا لخفارة زحلة،
49
وطلب من القناصل أن يمنعوا النصارى عن الاجتماع في زحلة ليستطيع كف الدروز عن مهاجمتها إذ لا يعود لهم من حجة، فأرسل الجواب إلى الزحليين بما جرى. وكان يوسف بك كرم الأهدني قد حضر بعسكره إلى المروج في صرود (جرود) المتن فوق زحلة. ويوسف آغا الشنتيري من بكفيه قد جمع رجال المتن والقاطع بالقرب من مخيم الأهدنيين، فكتب إليهما القناصل يستوقفونهما عن التقدم إلى زحلة، وأن يتربصا هناك لينظرا ماذا يحدث. وكتب مور قنصل إنكلترة العام إلى الشيخ إسماعيل الأطرش يستوقفه عن مهاجمة زحلة، فأجابه بما يفيد التربص.
50
وأرسل خورشيد باشا سليمان نوري بك أمير الألاي بفرقة نحو أربعمائة من الجند النظامي مجهزة بالذخائر والعدد الحربية ومدفع، فبقي ثلاثة أيام من بيروت إلى غربي زحلة على بعد ساعة منها، فخيم فيها في اليوم الثالث في حزيران ولم يبد ما يدل على إيقاف المهاجمين
51
بل تهدد الزحليين، وكان قد سار ثلاثة من وجوههم إلى يوسف بك كرم، وألحوا عليه بالحضور لنجدتهم فوعدهم أنه يحضر في اليوم الثاني الذي هو الأحد، فخرج في غد ذلك اليوم جماعة منهم لملاقاته عند حجر الأطرش قرب عين حزير، وذبحوا الذبائح وأعدوا الأطعمة متوقعين قدومه فلم يأت، فازدادوا قلقا وأرسلوا إليه من استحثه للقدوم فوعد أن يأتي في اليوم الثاني، الذي هو الاثنين في 6 و18 حزيران. وكان الدروز قد علموا بكل ما جرى للزحليين فرأوا من الحكمة مفاجأتهم قبل أن تأتيهم النجدات.
ويوم الأحد في 5 و17 حزيران وصلت نجدة إلى زحلة من بسكنته نحو أربعمائة رجل بقيادة الأمير أحمد طرودي اللمعي وفارس سبع أيوب، وكان الزحليون قد أعدوا المتاريس وحصنوها وتأهبوا للدفاع ومتاريسهم كانت هكذا (1) متراس بيت القاصوف في أعلى حارة الراسية من الغرب لخفارة طريق صنين والمتن من جهة البياضة (2) متراس بيت أبي عبيد يوسف البريدي (محل الكلية الشرقية الآن) (3) متراس آخر فوق مقبرة المعلوفيين في شمالي حارة الراسية على طريق الكروم (4) متراس فوق بيت أبي علي المعلوف (وهو الآن دار مرسلي الأمركان) (5) متراس البيادر فوق تل شيحا وقرب عين الدخن (فوق دار الحكومة الآن) (6) متراس بيت الهندي المسلمين بين متراس بيت أبي علي والبيادر (7) متراس سيدة النجاة الكاتدرائية (8) متراس بيت حبيب بك العن (بيت يوسف بالشن الآن) قرب الجسر الكبير في الحارة السفلى (التحتا) (9) متراس في كنيسة البربارة في القاطع. وكانت هذه المتاريس مرتبة يخفرها الفرسان وعلى كل منهما وكلاء لتوزيع المآكل والذخائر وجميع حامية المدينة نحو ألف وخمسمائة رجل بين فرسان ومشاة.
ويوم الاثنين الواقع في 6 و18 حزيران
52
ذهبت فرقة من الزحليين بقيادة بعض الفرسان إلى جهة كساره وحوش الأمراء لصد هجمات الدروز وأبدت بسالة وثباتا، وبينما كان الزحليون ينتظرون قدوم يوسف بك كرم في هذا اليوم من طريق صنين كما وعد، وهم قد تفرقوا في متاريسهم رادين هجمات الخصوم من الجهات الثلاث إلا الغرب؛ لانتظارهم قدوم النجدة منه، إذا بالدروز قد دبروا حيلة خدعوا بها الزحليين؛ وهي أن خطار بك العماد قائد دروز لبنان الموغر الصدر على الزحليين الذين قتلوا ولده الشيخ علي في موقعة ظهر البيدر كما مر، أخذ نحو ألفي مقاتل من رجاله الأشداء ونشر أمامهم أعلاما مسيحية عليها صورة الصليب كانوا قد غنموها من بعض المواقع ودخلوا زحلة من جهة الغرب (محل حاووز الماء الآن)، بالأهازيج المسيحية إيهاما لسكانها أنهم رجال يوسف بك كرم، فلاقاهم بعض الزحليين فأطلقوا عليهم رصاصهم وخرقوا متراس بيت البريدي ودخلوا البلدة من الغرب، وأحرقوا بيوت الشركاء الملاصقة دير مار إلياس الطوق، وبيت البريدي المذكور الذي أخلاه محافظوه لقلتهم، وانضموا إلى متراس سيدة النجاة فخرقت محافظة البلدة من الجانبين الغربيين؛ لأن متراس بيت القاصوف أخلي عند دخول الدروز البلدة وخلا الجو للدروز، فدخلوا زحلة ولا سيما حارة الراسية وأضرموا النار في بيوتها، ونهبوا ما وصلت إليه أيديهم ولم يكن الجند المحافظ يستطيع أن يوقف نيران الشر بل أطلق المدفع على البلدة، فانذعر السكان وهرب معظمهم فاشتد العراك في المتاريس الثلاثة الباقية، التي هي متراس بيت أبي علي المعلوف، ومتراس البيادر، ومتراس سيدة النجاة. فثبت محافظوه ثباتا غريبا، وقتل بعضهم بعد أن قتلوا من المهاجمين خلقا كثيرا ثم قوي المهاجمون لمتراس بيت أبي علي، فأخلاه محافظوه وبقي متراس البيادر وبيت العن محصنين. وكان مطرانا زحلة عاقدين جلسة في سيدة النجاة، فلما علما بدخول الدروز فرا مع كثير من الزحليين وعيالهم من جهة حارة البربارة على طريق صنين لا يلوون على شيء، فاندفق الدروز على متراس بيت العن للفتك بمن فيه وهم كثيرون، وكان يتقدمهم قائداهم الشيخ إسماعيل الأطرش وخطار العماد، فخاطبا الزحليين شفاها من خارج البوابة بقولهم: «سلموا تسلموا عن يدنا»، فأجابوهم وهم يظهرون من الضعف قوة قائلين : إننا لا نسلم حتى نفنى ولا تظنوا الزحليين هربوا؛ بل ذهبوا مرافقين لنسائهم وأطفالهم ليبعدوهم عن مواقف القتال ويعودوا لمحاربتكم، وعندنا ذخيرة نحو نصف سنة ونحن خمسمائة بندقية «بارودة» هنا. ثم قالوا لهم: «أشهروا حالكم» واشتعلت نار البنادق فقتل الزحليون من الدروز على البوابة نحو عشرين كان الدروز يخفونهم ويحرقونهم لئلا تخاف رجالهم وتتقهقر، وكان قتلى الدروز جميعهم نحو خمسين، فأحرق الدروز الطبقة العليا من بيت العن من جهة بيت الزرزور، فهبطت ونزل المحاصرون إلى الطبقة السفلى والنار تتساقط عليهم واحترق ابن أبي إلياس بالش.
أما حصار سيدة النجاة فكان هائلا؛ لأن معظم الكهنة تركوا زحلة مع مطرانيها الكاثوليكي والأرثوذكسي كما مر، وبقي الخوري بطرس القطيني المعلوف، فجمع الخوري أخوته وبعض أهل بلدته في دار سيدة النجاة، وكان يدافع عنهم بمعاونة ابن عمه عبد الله جبور المعلوف، ولما دخل الدروز الدار دافعا دفاع الأبطال، وهاك ما ذكره الطيب الذكر المطران غريغوريوس عطا الزحلي رئيس أساقفة حمص وحماة ويبرود في مصنفه «تاريخ زحلة» المخطوط «أن الخوري بطرس القطيني المعلوف بقي وحده يحارب مع بعض الأهالي في زحلة وحاصر في الدار الأسقفية، وأصيب برصاصتين فقتل وسقط شهيد الغيرة، وفي النهار ذاته قتل في المعركة أخواه حنا وشاهين.» ومما يذكر من بسالة عبد الله جبور المعلوف في ذلك اليوم أنه حمل الخوري بطرس على ظهره قتيلا والرصاص يمطره من الدروز خوفا من أن تهان جثته وأدخله إلى الكنيسة. وكانت مريم والدة الخوري بطرس تقدم الذخائر لأولادها ومواطنيها، فشاهدت بعينيها قتلهم ثلاثتهم، أما ولدها خليل فأبدى بسالة تذكر بعد قتل أخوته، إذ شق صفوف الأعداء ونجا بوالدته. ثم جاء درزيان بالخوري يعقوب المعلوف الكاهن الثاني الذي بقي في زحلة، ودخلا به الكنيسة ليدلهما على قبر الأساقفة (الكمنتير) الذي ضمن الكنيسة؛ لأنه نمي إليهما أن خزائن الزحليين ومصوغاتهم مودعة فيه، فما كاد يخبرهما عن محلها حتى وقعا قتيلين من المحاصرين، فنجا الخوري وفر ليلا إلى كفر عقاب مع ولده وكثير من الزحليين. وكان في سيدة النجاة من المحاصرين عدا من ذكرنا جرجس فصوح المعلوف، وأبو عبد الله يوسف قادره، وطنوس القبرصلي، وإلياس أبو عيد، والفتى سليمان فارس الراعي. فأبدوا جميعهم ثباتا وبسالة وكان كلما دخل درزي يقتل، وكان كثير من الزحليين قد التجأوا إلى دير الآباء اليسوعيين في زحلة فلم يستطيعوا الدفاع، فهاجمهم الدروز، وقتلوا كثيرا منهم بينهم الأب يوحنا بيليوته، والأخ بوناتشينا، والأخ حبيب مقصود الزحلي، وهم من الرهبنة اليسوعية فقتلوهم
53
وأحرقوا الدير. ولما كانوا هاجمين من جهة الحاووز قتلوا الخوري أسطفان حريقة كاهن وادي العرايش الماروني على جسر الصفة أمام نزل (لوكندة) الصحة، وكان قد أبدى بسالة في مواقع زحلة. وكان عباس القلعي أحد حملة أعلام الدروز قد قتل فوق جسر الوادي.
وهكذا بعد أن أحرق الدروز كثيرا من أحياء المدينة وبيوتها، ونهبوا ما وجد في طريقهم ونكلوا بالسكان نادى مناديهم بلسان زعيميهم الأطرش والعماد أن لا يبيت رجل منهم في زحلة، وكان ذلك عند غروب الاثنين فأخلوها قاعا صفصفا، وكان مشهد أشلاء القتلى والجرحى من الفريقين يفتت الأكباد، ولا سيما حيث كان معظمها مكردسا في آخر سوق البلاط وفي جعيران على الجسر الكبير، وكذلك منظر الحريق والدمار كان فاجعا للعيون. وبقي المحاصرون في بيت العن وسيدة النجاة ومار ميخائيل إلى صبح اليوم التالي وكان في مار ميخائيل بولس المنير وأبو أنطون السكاف وغيره وقد أبدوا بسالة وثباتا، فلما تأكدوا خلو المدينة من الأعداء خرجوا إليها بعيون باكية وأفئدة دامية، وكان الفارون قد ساروا في طريق صنين الوعر لا يلوون على شيء، فباتوا في العراء يتضورون جوعا ويتفجعون أسفا لما حل بهم من الدمار، وبقي قليل منهم في بسكنته والباقون تفرقوا في كفر عقاب وزبوغة ووادي الكرم حيث دير القديس سمعان العمودي مصيف مطارنة بيروت وجبيل الكاثوليكين، وبعضهم سار إلى كفر تيه ومزرعة كفر دبيان والمحيدثة والشوير وبتغرين والخنشارة وغيرها، فنزلوا في هذه الأماكن على الرحب والسعة. ولما ضاقت بهم الأمكنة كانوا ينامون في الفضاء تحت أشجار التوت ويستظلون بها نهارا. وفي اليوم التالي كان يوسف بك كرم يستشرف زحلة، وهي بهذه الحالة المحزنة من أعالي محلة المشيرفة على طريق صنين فحزن وندم لتخلفه عن نجدتها معتذرا أن الأمراء اللمعيين هم الذين أخروه.
وكان قد قتل من الدروز نحو مائة وثمانين ومن الزحليين مائة وعشرون وذلك في يوم حرقها. وكان الأمير محمد الحرفوشي عدو الزحليين قد أرسله الأطرش والعماد زعيما الدروز ليخفر وادي قعفرين (قاع الريم) فوق زحلة، وليمنع النجدات عنها من تلك الجهة فدخل المدينة برجاله وحملوا ما تركه لهم الدروز من أسلابها. ومما يروى عن براعة فرسان الزحليين في الحرب أنهم كانوا يحشون «يدكون» بنادقهم وخيولهم راكضة بينما كان دروز حوران يوقفونها ليحشوا بنادقهم. ولقد تفانى الزحليون في الدفاع وأبدوا بسالة وجرأة عرفا بها منذ القديم، وهكذا انتهت موقعة زحلة التي انفرد فيها سكانها، ولم ينضم إليهم إلا العراقبة الملتجئون إليها ونجدة بسكنته المذكورة آنفا. ذلك مع كثرة عدد خصومهم.
ومما يروى عن نية الدروز في مهاجمتها أنهم قصدوا أن يشنوا عليها الغارات الجرارة من جهة الغرب بعد أن يستكملوا قواتهم؛ ليجمعوا سكانها في السهل وهناك تلتف حولهم النجدات المتواصلة، فينكلون بالزحليين كل التنكيل. ولكن هجوم كل من حنا أبي خاطر، ونعمان المعلوف، وغيرهما من فرسان زحلة إلى تعنايل فكساره ومقاتلتهم للدروز. وإخلاء أبي عبيد يوسف البريدي المتراس الذي كان في بيته وزحفه بمن فيه إلا القليل إلا القتال في كساره، وقدوم النجدة من بسكنته مساء الأحد كل ذلك رآه الدروز موجبا لتعجيل هجومهم ثاني يوم الاثنين فانتهزوا هذه الفرصة. ومن تفننهم الحربي والحرب خدعة أنهم عندما اجتمعوا تحت رايات الصلبان فوق أعالي المدينة، ورأوا طلائع الزحليين تستشرفهم اصطفوا صفين متقابلين لأحدهما أعلام الصلبان وللآخر أعلام الدروز وشرعوا يطلقون البنادق كأنهم يتحاربون ليؤكدوا للزحليين أن نجدة يوسف بك كرم قادمة إليهم؛ فلذلك تمكن الدروز من الدخول إلى البلدة من جهة الحاووز لمعرفتهم أن متراس بيت البربدي فارغ من الحامية، وقد اندفقوا من هناك فئتين؛ إحداهما دخلت حارة الراسية والثانية جاءت بطريق عين الدوق إلى القاطع. وبعد أن أخليت أكثر المتاريس كما مر اندفقت جيوشهم الجرارة من جهة عين الدخن (فوق دار الحكومة الآن)، وأحاطوا بزحلة ولا سيما بمتراس بيت العن كما سبق.
وكان زعيمي الدروز الكبيرين الشيخ إسماعيل الأطرش وخطار بك العماد ومع كل منهما قواد وزعماء، فمن قواد اللبنانيين من مشايخ آل العماد أسعد وكنج وملحم بك ومن غيرهم الشيخ محمود العيد، ومن قواد الحوارنة المشايخ واكد حمدان، وهزيمه هنيدة، وجمود الفخر وقبلان، ودعيبس عامر، وسليمان القلص، وحمد وفندي عزام، ويوسف صعرو، وكانوا كلهم في مقدمة الهاجمين على زحلة يوم سقوطها والمحرضين على القتل والنهب منها، وقد اتهموا بالتحقيقات التي ترأسها فؤاد باشا ومعتمدو الدول.
ومن زعماء الزحليين ومقاتليهم الأبطال الذين توفقنا إلى معرفتهم في موقعة ظهر البيدر نعمان المعلوف، وحنا أبو خاطر، ولحود البحمدوني، وأبو دعيبس مخول البريدي، ويوسف خليل حجي، وحبيب لوسيه بالش، وعبد النور الششم، وخليل الطباع، وطنوس القشعمي الحكيم من حمانا، ونعمه صليبي من فالوغا، وهذان كانا في معسكر زحلة .
وفي موقعة حمى كفر سلوان عبد الله أبو خاطر، وعساف مسلم وأخوه خليل، ومراد وهبه قيامه المعلوف، ويوسف الراعي، الذي يروى أنه ارتأى السير بالعسكر الزحلي الجرار والزحف من الحمى على الدروز قبل أن يتضعضع العسكر الزحلي، وينتبه الدروز إليه فلم يوافقه القواد.
وفي موقعة السهل مراد مسلم، وعساف مسلم، وحنا أبو خاطر، ومراد أبو خاطر (الذي قتل)، وموسى البحنسي، وأبو لولو الجريجيري، وناصيف دموس، وناصيف غره، ولحود البحمدوني، ومخول البريدي، ونعمان المعلوف، وسليمان العريس الفلفلة من المعلقة (الذي قتل أيضا).
وفي موقعة كساره والبلد الذين ذكرناهم في غيرها ممن بقوا أحياء وعبد الله جبور المعلوف، والخوري بطرس القطيني الذي قتل مع أخويه، كما مر. ومما يستحق الذكر أن الشاب إبراهيم الصفدي لما دخل الدروز متراس بيت أبي علي المعلوف حمل العلم أمام نخبة من الشبان، وصعد معهم إلى المتراس وأنجدوا من كان قربه، فأزاحوهم عنه وكل من عبد الله أبي شهلا، وحبيب إلياس الأبرص تملصا من بين الدروز، واختبآ إلى أن خرج هؤلاء من زحلة ولم يهتدوا إليهما. والخوري حنا رزق الله المعلولي أظهر بسالة تذكر في الدفاع ومثله حبيب لوسيه بالش وغيرهم.
وقد عرفنا من قتلى هذه المذبحة على اختلاف مذاهبهم ومواقعها غير من ذكرناهم قبلا ممن قتلوا يوم الحصار كلا من إبراهيم الششم، وابنه خليل وجرجس الششم، وطنوس شحاده الخوري صعب، وديب طنوس لطفي، وإلياس السرغاني، وطنوس الدكاكي، وإبراهيم الصفدي الذي كان طاعنا في السن، ويوسف داود وأخيه إبراهيم، وحنا نصر الله صويا واثنين من أولاد أم حنا، وإلياس الخوري رزق الله المعلولي، وأنطون بالش وولده طنوس، وزامل أبي زهر، وأبي عبده حميمص، وخليل الكوسي، وخليل مخول الجبلي، وخليل بالش، وهيكل بالش، ويوسف حرو، ومراد العس وأخيه دعيبس، وابن هارون، ومراد غره، ومخول الدواليبي، وأبي يوسف نعمة السكاف من القاطع، وأبي فارس أنطون السكاف، وأبي مخول القاعي، وجرجس وإبراهيم وسمعان من بني الخياط، وفرنسيس فتوش، ودعيبس فتوش، وإلياس مسعود الفران، وأبي شحاده جبور السكاف، ويوسف موسى البخاش ، وصليبي البخاش، وخليل يوسف الراعي، ومراد ابن الخوري يعقوب المعلوف، وأبي مراد ظاهر بن حنا فرح المعلوف وولده الشاب يوسف، وإبراهيم بن يوسف فرح الزجال (القوال) وعمه بولس، وأبي جدعون حنا المعلوف وخليل بن جرجس أبي خروبه المعلوف، والشماس نيقوديموس الموصلي الشويري، وسليمان قرطاس من عسكر بسكنته، ويعقوب مقصود من معلقة زحلة، وإلياس يوسف بالش الذي احترق (ولم يسم هناك).
وممن فاتنا ذكرهم من قتلى المواقع الأخرى موسى الدوماني، وجرجس أبو حسان من قتلى موقعة كفر سلوان، وجرجس أبو عبيد، ومخول القاعي وحبيب فليفل، وعبد الله خير، وأبو عيطا النمير في موقعة السهل.
ولم يبق في زحلة على أثر هذه الموقعة إلا القليلون الذين ساروا إلى بعض القرى المجاورة، ويوم الأربعاء ثالث يوم الحريق بدأ الزحليون يرسلون طلائع لاستكشاف بلدتهم المدمرة، فكان الحريق قد عم جميع الكنائس والأديار ومعظم البيوت ولم يبق شيء من المقتنيات إلا ما خبئ في مقبرة سيدة النجاة (الكمنتير) وسيدة الزلزلة وبعض الكنائس وفي بيت العن، وهكذا بقي منظر زحلة نحو شهرين يفتت الأكباد ويدمي القلوب ويستنزف المدامع، ولقد نظمت زجليات كثيرة في وصف مواقع سورية في تلك السنة، وذكرت فيها زحلة منها زجلية رقيقة لناصيف كامل
54
وغيره.
وكانت هذه الموقعة آخر العهد بالخلاف الذي استفحل بين المسيحيين والدروز، فعقبها اتفاق القلوب ومحو الضغائن وإماتة الأحقاد بالتساهل والتصافي عملا بقول الشاعر العربي وفيه كل الحكمة:
وإني لألقى المرء أعلم أنه
عدو وفي أحشائه الضغن كامن
فأمنحه بشرا فيرجع قلبه
سليما وقد ماتت لديه الضغائن
ولن تزال المسالمة ممدودة الظلال والاتفاق مرفوع اللواء بين الفريقين إلى يومنا هذا بفضل حكومتنا العثمانية ورجالها الأمناء في خدمتها الذين يسعون في جمع القلوب، واجتماع الآراء لرقي الوطن المحبوب الذي يجب أن نتفانى في تعزيزه ورفع شأنه واستعادة مجده القديم الذائع الشهرة ونحن جميعنا إخوان.
وفي أواخر حزيران سنة 1860 قدمت أساطيل دولتنا العثمانية وغيرها من الدول ورست في مرافئ سورية ولا سيما بيروت، فأخمدت نيران الفتن. وفي 17 تموز وصل فؤاد باشا المعتمد العثماني لتسكين الاضطرابات وتوقيف عواصف الفتن. وفي 3 آب عقد مؤتمر باريس الدولي الذي اجتمع فيه معتمدو دولتنا العثمانية وبريطانية وفرنسة وروسية وبروسية والنمسة، فأقروا على وجوب تأمين الأهلين بقوات عسكرية كافية تتوزع بينهم وإعانة المنكوبين بالإحسانات، فوصل بيروت في 16 آب سبعة آلاف جندي فرنسي بقيادة الجنرال بوفور دوتبول. وفي 5 أيلول وصل بيروت معتمدو الدول الخمس المشار إليها ليتداولوا مع فؤاد باشا معتمد دولتنا المومأ إليه. وبعد أن طافوا جميعهم الأماكن المنكوبة وجبروا الخواطر الكسيرة وسكنوا القلوب الخافقة وجلا وحزنا عقدوا في الخامس من تشرين الأول مؤتمرا دوليا في بيروت حضر خمسا وعشرين جلسة، وفض في الخامس من آذار سنة 1861م، فاتفقوا فيه على إصلاح ذات البين وتعمير ما هدم وتعويض الخسائر الفادحة.
وكانت الاكتتابات في جميع أنحاء أوروبة وأميركة قد بدئ بها منذ نمى إلى سكانها نبأ هذه الفواجع، فأرسلت الدراهم المجموعة مع مندوبين ووزعت على المحتاجين بعد تثمين الخسارة وتقدير الحاجة.
فجاء زحلة الأب شارل لافيجري (مؤسس جمعية المدارس الشرقية وهو الذي صار في ما بعد أسقفا وكردينال، وسعى بمنع النخاسة (بيع العبيد)) مع الأب أغناطيوس اليسوعي، وكان يطوف البيوت ويستقصي أحوال سكانها ويختبر بنفسه حاجاتهم ويوزع الإحسان عليهم حسب الاقتضاء، وهاك تعريب ما ذكره عنها في كتابه «اكتتاب لإعانة مسيحي سورية»: «ثم عدنا إلى زحلة فالتقينا بالعساكر الفرنسية المخيمة في المديرج وقب إلياس، أما زحلة فمبنية على آخر منعطفات جبل لبنان، ومنظرها أشبه بالبلعوم (الزلعوم) وتشرف على سهل البقاع الخصيب، وكان دير اليسوعيين والدار الأسقفية محروقين، فعقدنا في هذه جمعية برئاسة القبطان سوفيش وقدمنا لهم مائة وعشرين ألف فرنك، ثم تركت زحلة في الأحد الأول من شهر كانون الأول سنة 1860م خالعا ثوبي الرهباني ومتنكرا بزي عامة البلاد متجها إلى دمشق ...» ا.ه.
وكان الزحليون قد اجتمعوا كلهم في بلدتهم بعد هجرها شهرين كاملين كانوا في خلالهما يختلفون إليها، فالتجأوا إلى الأطلال التي تظللهم أو سكنوا مع جيرانهم ممن بقيت بعض بيوتهم غير مقوضة، وشرعوا في ترميم المدينة وقد خصص لهم ألف وسبعمائة كيس.
55
وكان العسكر الفرنسي مخيما في قب إلياس بجوار زحلة بقيادة المركيز دي بوفور القائد الفرنسي العام، فدخلتها فرقة كبيرة منهم بقيادة الربان سوفيش، وذلك في أول تشرين الأول سنة 1860م، وسكنوا في الدار الأسقفية الكاثوليكية بعد أن رمموها وبقوا نحو ثمانية أشهر يساعدون السكان في الترميم ويوزعون عليهم الدراهم، وكان مخايل المعلوف الملقب بأبي علي موكلا بتقديم حاجاتهم.
وفي تلك الأثناء عاج فؤاد باشا بزحلة واجتمع بأعيانها، وطاف أحياءها وخاطب السكان برقة وشفقة وجبر خواطرهم ووعدهم بالتعويض، وحضهم على ترميم بيوتهم وأمنهم وأمر إذ ذاك. أن تسمى زحلة «مدينة» فأطلق عليها هذا اللقب منذ ذلك الحين.
وكان إبراهيم أبو راجي المعلوف ترجمان فرقة الجنرال ديكرو من العسكر الفرنسي وكان عددها ثلاثة آلاف، فسار معهم إلى دير القمر ودفنوا القتلى، وحصل كثير من الزحليين على تعويضات ومسلوبات بواسطته.
فما قدم الشتاء حتى كان الزحليون قد رمموا بعض بيوتهم ملتجئين إليها من صبارة البرد ، وكانت الثلوج في تلك السنة كثيرة والبرد قارصا، ومما يذكر أن أبا حسون الزرزور وزوجته وأولاده الستة قتلوا تحت أنقاض بيت هدم عليهم فلم يسلم منهم أحد.
ولما رمم المطران متوديوس صليبا الأرثوذكسي كنيسة القديس نيقولاوس عقدا (قبوا) على جدرانها القديمة هدمت، ثم أعاد تجديدها وتوسيعها بعد بضع سنوات بمساعدات روسية وإحسانات سكان الإسكندرية التي ذهب إليها بنفسه وجمعها منها.
وكان الآباء اليسوعيون قد سكنوا ديرهم الحقير في المعلقة واستأجروا أبنية صغيرة قربه للمدارس وأتموا تشييد الميتم (الذي هو الآن دار حكومة البقاع) قرب موقف القطار (الحديدي)، وبعد سنتين جددوا عمار ديرهم ومدارسهم في زحلة. وقد جمعوا في ميتم المعلقة كثيرا من الأيتام المنكوبين واعتنوا بهم اعتناء مذكورا.
56
وكان نابليون الثالث ملك فرنسة قد فاوض السلطان عبد المجيد العثماني بشأن القتلى من الرهبان اليسوعيين في دير زحلة كما مر، فأمر السلطان فؤاد باشا أن يعطيهم تعويضات، فسلمهم أرض تعنايل وكساره في جوار زحلة، وكانت أكثر أرضها مستنقعات؛ فبنوا ميتم تعنايل ونقلوا إليه الأيتام من المعلقة، وأصبحت تلك الأرض بعنايتهم جنات خصيبة. ومن أهم مستنبتاتها الجفنة الأفرنجية التي يباع معظم خمرها في ألمانية وغيرها والفواكه البديعة، وفي هذا الميتم الآن نحو خمسين يتعلمون اللغتين العربية والفرنسية ويمارسون الأعمال اليدوية من صناعة وزراعة.
وكانت الدار الأسقفية الكاثوليكية قد احترقت وفقدت كنيستها جمالها وزينتها، التي كان معظمها قد أحضر من النمسة بسعي الخوري فيلبس نمير والخوري موسى مقحط اللذين ذكرنا سفرهما إليها، فرممت. ويوم الثلاثاء في 29 نيسان سنة 1861 وصلت صورة سيدة النجاة من النمسة عوض التي احترقت. ويوم الأربعاء في 31 تموز سنة 1861 نقل المطران باسيليوس من دير النبي إلياس الطوق، حيث كان مقيما مدة الترميم إلى داره الجديدة. وكان قد أصدر منشورا بتاريخ الخميس في 27 أيلول سنة 1860 إلى رعيته ليؤرخوا بالحساب الغريغوري (الغربي) فشاع منذ ذلك الحين عند جميع الروم الكاثوليك. وهكذا عادت زحلة في أثناء سنة إلى سابق رونقها مستعيدة حركتها التجارية شيئا فشيئا.
ويوم الجمعة في 31 أيار سنة 1861 ترك العسكر الفرنسي زحلة قاصدا بيروت ومنها عاد إلى بلاده.
وفي 17 تشرين الثاني سنة 1860 كان فؤاد باشا قد نصب يوسف بك كرم قائم مقام النصارى عوض الأمير بشير أحمد إلى غير ذلك.
وهذه خلاصة ما كان من أعقاب حادثة الستين المشئومة لا أعاد الله مثلها على هذه الأمة العثمانية المختلفة العناصر والمذاهب المحتاجة إلى جمع الكلمة والاتحاد، وفي الاتحاد قوة على حد قول الشاعر:
وإذا تألفت القلوب على الهوى
فالناس تضرب في حديد بارد
هوامش
زحلة بعد سنة 1860
أفضنا في تاريخ زحلة مطولا إلى هذا العهد القريب منا، ولهذا نجتزئ الآن مقتضبين الكلام في ما هي عليه الآن زحلة التي لقبها فؤاد باشا العثماني «مدينة» كما مر لأسباب كثيرة أهمها حسن موقعها وعمرانها وكثرة عدد سكانها ونشاطهم، فزحلة هي مدينة لبنان الوحيدة فيه في كبرها وعدد سكانها وموافقة موقعها، وهي الآن مقر قائمية مقام منتسبة إليها مشهورة بنهرها البردوني (البارد)، الذي يقسمها إلى شطرين وعلى ضفتيه المدينة بأبنيتها وقصورها الفخيمة والأنزال (اللوكندات) البديعة والحدائق الغناء والمتنزهات الفيحاء، التي تجمع في الصيف نخبة المصطافين من القطرين المصري والسوري يتخطرون في طرقها زرافات ووحدانا، وممتازة بهوائها الجاف ونسيمها المنعش وعنبها اللذيذ ومعيشتها الهنيئة إلى غير ذلك مما تقدم تفصيله في أوائل هذا التاريخ.
أما سكانها فمشهورون بقوة أجسامهم، وجرأتهم وحدة أمزجتهم العصبية والدموية، وطيب قلوبهم وكرمهم وفروسيتهم وبسالتهم وحبهم للأسفار، وبراعتهم في التجارة وإقدامهم على تحمل المشاق والمتاعب، وشدة ذكائهم في مجاراة المعاصرين بآداب العلوم وإتقان اللغات والفنون والصناعات، وقد نبغ منهم الرؤساء والصحافيون والمؤلفون والمحامون والشعراء والكتاب والتجار والصناع، وكان عددهم قبل سنة 1860 لا يتجاوز الاثني عشر ألف نسمة، فصار سنة 1887 ثمانية عشر ألفا، واليوم نحو خمسة وثلاثين ألفا منهم نحو النصف في المهاجر، وهم يقسمون بالنظر إلى مواطنهم الأصلية إلى لبنانيين ومعظمهم من قضائي المتن والشوف، وإلى بعلبكيين ومعظمهم من بعلبك وما إليها من القرى، وإلى راسيين ومعظمهم من قرية رأس بعلبك، وإلى دحامرة ومعظمهم من الظهر الأحمر إحدى قرى وادي التيم «والكلمة منحوتة محرفة»، وإلى مختلفي الموطن فبعضهم من حماة وحمص، والآخرون من ديار بكر وغيرهم من بعض جهات سورية الأخرى، وهم من الطوائف الكاثوليكية والأرثوذكسية والمارونية والإنجيلية والمسلمية، وبعض السريان الكاثوليكيين والأرثوذكسيين وعدد مكلفيهم نحو 4257 شخصا. وجميعهم يرجعون إلى أسر (عيال) معروفة بعضها كثيرة العدد والأخرى قليلته،
1
ومساحة عقاراتهم 2147 درهما وبيوتهم نحو أربعة آلاف، ومدينتهم منظمة تحتاج إلى بعض إصلاحات تزيدها جمالا وعمرانا وتوفية للبحث التاريخ حقه من الاستيعاب نشير الآن إلى شئونها العامة باختصار ... (1) حالتها الإدارية
لما نظمت متصرفية لبنان وأسند حكمها إلى داود باشا الأرمني أول متصرفيها، وذلك في 10 حزيران سنة 1861 صارت زحلة مقرا للمدير الذي كان إذ ذاك بمثابة قائم مقام، وكان يتبعها البقاع الغربي والشرقي على نحو ما كانت في عهد قائميتي المقام (قاعدة الشوف البياضي).
فكان أول مدير (قائم مقام) تولى إدارة شئونها الأمير عبد الله أبو اللمع سنة 1861، وسنة 1862 سارت العربة بينها وبين بيروت. ويوم الأحد في 10 ك 2 سنة 1864 توفي السيد باسيليوس شاهيات أسقف الروم الكاثوليك عن نحو 67 سنة صرف معظمها في خدمة هذه المدينة وعمرانها ونجاح سكانها، فدفن بعد ظهر ثاني يوم الاثنين باحتفال يليق به.
2
ويوم الثلاثاء في 26 ك 2 من هذه السنة جاء زحلة داود باشا متصرف لبنان، فعزل مديرها الأمير المذكور، ونصب عوضه سليم الصوصه الكاثوليكي من دير القمر، ورتب فيها مجلسين إدارة وجزاء «جناية»، وعين للأعضاء رواتب كما كان الحال في جميع لبنان.
وفي شهر أيار من تلك السنة صارت مساحة عقاراتها. وفي 15 أيار من تلك السنة زارها أولاد ملكة الإنكليز (ڤكتورية) ونزلوا في خيامهم على البيادر واستقبلوا بحفاوة. وفي 8 تموز سنة 1865 عزل الصوصه ونصب عوضه حنا زلزل من بكفيه، وسمي قائم مقام فصارت زحلة قائمية مقام
3
إلى يومنا. وزارها جميع المتصرفين وكثير من المشاهير، وسنة 1866 كان الخوري جرجس عيسى الزحلي رئيسا للمدرسة البطريركية في بيروت التي شيدها،
4
وسنة 1867 غرم الزحليون بمائة ليرة فرنسية لمخاصمة بعض أسرهم وعمروا جسر الصلح، وسنة 1868م نصب فرنكو باشا وسلخ البقاع عن زحلة، فصارت قائمية مقام بنفسها ، وأنشئ فيها تلغراف بخمسة أسلاك إلى بيروت وبعبدا وبيت الدين وبعلبك ودمشق. وسنة 1870 اشتد غلاء الحبوب فيها، فبيع مد الحنطة بأربعين غرشا فأصدرت زحلة نحو أربعين ألف مد معظمها إلى دمشق وحوران. وسنة 1873 من 25 كانون الأول إلى 6 نيسان سنة 1874 كان سقوط الثلج متواصلا، فسدت الطرق وضويق الناس والمواشي، وبيع جوالق (يالق أو خيشة) التبن بستين غرشا، ورطل الفحم بغرشين ونصف، ورطل الأرز باثني عشر غرشا، وارتفعت جميع أسعار الحاجات.
وفي شهر أيار صار ثمن مد الحنطة ثلاثة وثلاثين غرشا، والذرة خمسة وعشرين، والشعير خمسة عشر غرشا. وسنة 1879 نظم رستم باشا فيها المفوض البلدي (المجلس البلدي)، وخصص له ثلث دخل الحسبة ودخلا آخر وافرا، ورتب الذبحية غرشا على كل ذبيح. وسنة 1880 كثر الغلاء والثلج والبرد وضويق الزحليون. وسنة 1882 نشبت الحوادث العرابية في القطر المصري، فجاء زحلة كثير من سكانه فلاقوا من كرم الوفادة وحسن الحفاوة ما حملهم على قصد ربوعها في كل عام للاصطياف، وكان ذلك بدء قدوم المصريين إلى زحلة ولا سيما في السنة التالية، إذ تفشى الهواء الأصفر في مصر وسورية. وفي شتاء هذه السنة كان صاحب الدولة فوزي باشا السر عسكر العثماني مسافرا من دمشق إلى بيروت فأوقفته الثلوج الكثيرة في شتوره، فأمر رستم باشا الزحليين أن يرسلوا فعلة لجرف الثلج من أمامه ويدعوه إلى زحلة فنزل فيها ضيفا كريم المثوى، وحضر الامتحان الانتصافي في المدارس الأسقفية الكاثوليكية، فسر جدا من نجاح الطلبة وخطب فيهم محرضا إياهم على الاجتهاد.
وسنة 1883 أبدل أعضاء المفوض البلدي الشيوخ بشبان وبدئ بمد طريق العربات منها إلى المعلقة متصلة بطريق بعلبك، وبنيت القنوات (السياقات) لحمل الأقذار. ترتب على كل مكلف (من يدفع المال الأميري) ريال مجيدي وعلى كل ذبيح (رأس غنم) خمسة غروش أنفقت في إصلاح البلدة. وسنة 1884 في شهر نيسان ذهب أول مهاجر زحلي إلى أمركة واسمه حبيب أبو جودة، فانفتح لسكانها باب المهاجرة، وفيها إذن السيد أغناطيوس ملوك ببناء كنيسة القديس يوحنا في عين الدوق للرهبنة الحلبية في محلها الحالي. وسنة 1885 أمر واصه باشا ببناء دار الحكومة في محلة البيادر بزمن إسكندر أفندي الحداد الجزيني قائم المقام. فقدمت النفقة من صندوق البلدية وأنجزت سنة 1888 ودشنها واصه باشا في 11 تشرين الأول ونقش على بابها تأريخ بقلم الدكتور بشاره زلزل اللبناني
5
ورصفت السوق الجديدة المعروفة بسوق البلاط وأصلحت الطرق. وسنة 1889 كثرت مهاجرة الزحليين إلى أمركة وأوسترالية، وفشا السفر بين سكانها فكان الفقراء يرهنون بيوتهم ويسافرون. وسنة 1890 كان معرض باريس العام فربح فيه التجار الزحليون، وزال عسرهم المالي لانفتاح أبواب الربح لهم، وفيها مدت طرق العربات في أكثر أحيائها وصارت العربات والعجلات (الكارات) تدخل السوق. وسنة 1891 تفشت الهيضة (الهواء الأصفر) في دمشق وضويقت زحلة بالنطاق الصحي الذي ضرب عليها، وهجم السكان على دار الحكومة بزمن قائم مقامها الشيخ حبيب لطف الله وأبرقوا لمتصرف لبنان واصه باشا فرفع النطاق بعد شهرين من وضعه. وسنة 1895 أصلحت جميع طرقها وراجت أعمالها، وشرع بمد طريق العربات حول متنزهاتها، فأنجز بعد سنة بعهد الشيخ حبيب لطف الله قائم مقامها، وزرع على جانب الطريق أشجار الأزدرخت (الزنزلخت) على أنه لم يعتن بها مع أنها مفيدة كثيرا للتظليل، ولحمل الغبار الذي يتطاير فيعمي العيون؛ فضلا عما هنالك من موارد الحطب الذي يقطع منها، فحبذا توجيه النظر إلى العناية بها. وكثرت متنزهاتها وارتاح إلى الاصطياف فيها كثير من المصريين والسوريين، وعاد إليها كثير من أبنائها المهاجرين بأموال وافرة. وفي هذه السنة كانت السكة الحديدية بين بيروت ودمشق وحوران قد أنجزت فراجت أعمال زحلة المجاورة لمحطة المعلقة الكبرى إذ ذاك. وصباح الأربعاء في أول تشرين الأول من هذه السنة (1895) احترق أربعة مخازن كبيرة من مخازن سوق البلاط فيها، فقدرت الخسارة بنحو ألفي ليرة، فأمر نعوم باشا متصرف لبنان إذ ذاك باستبدال الفواصل والحواجز الخشبية أو اللبنية بين المخازن بفواصل وحواجز حجرية، فلم يعمل المرممون بذلك. فتجدد الحريق في ليل الخميس في 27 أيار سنة 1896 وعم معظم السوق، فكانت الخسارة نحو خمسة آلاف ليرة فبنيت الحواجز جميعها من حجر ورصف السوق بالبلاط. وسنة 1897 عمر جسر الصفة (قرب لوكندة الصحة).
وسنة 1898 كثر الثلج والجمد، ووقف القطار الحديدي ثلاث مرات عن مسيره بين بيروت ودمشق، وبقي الثلج إلى أواخر شباط وتضايق الزحليون. وفيها بني جسر الدباغة (قرب حارة التحتا) وذلك في زمن متصرفية نعوم باشا. وسنة 1898 كان بدء نهضتها العلمية والفضل بذلك للكلية الشرقية التي أنجزت تشييدها في هذه السنة الرهبنة الحناوية، وفتحت أبوابها للطلبة كما سنذكر في بحثنا عن المدارس. وكانت قد أسست صحافتها في المهجر كما سترى في باب الصحافة.
وسنة 1899 مر بالمعلقة جلالة غليوم الثاني إمبراطور ألمانية، فلاقاه الزحليون ونالوا لديه حفاوة وأعجب بفوارسها، ولا سيما نجيب بك المعلوف (اليوزباشي اللبناني الآن) وسليم أفندي جرجس مسلم، فإن جلالة الإمبراطورة أخذت بيدها رسمهما أمام خان بيت شاما وهما ذاهبان إلى بعلبك. وسنة 1900 أنشأ فارس أفندي البحنسي الزحلي أحد متخرجي كليات الولايات المتحدة مقرأة (غرفة للقراءة)، وعطلت بعودته إلى أميركة. وسنة 1901 أنشأ يوسف أفندي المشعلاني نزيل زحلة مكتبة (التقدم) وجهزها بالكتب العربية والإفرنجية والأدوات المدرسية . وسنة 1903 أنشأ مرسلو الأميركان فيها مقرأة (غرفة للقراءة) مجانية وجهزوها بأهم المؤلفات والمجلات والجرائد باللغتين العربية والإنكليزية. وفي أواخرها أنجزت الرهبنة الحناوية ترميم دير النبي إلياس (الطوق) وسنمته (سقفته بالقرميد)، وذلك في عهد رئيسه الأب أونيسيموس صوايا (سيادة اثناسيوس مطران بيروت ولبنان الحالي)، وهندسه المدبر الأرشيمندريت يعقوب الرياشي، فكانت أبنتيه بغاية الإتقان، أما الكنيسة فبقيت على بنائها القديم منذ نشأتها مكتنفة بدعائم متينة، وقد نقش فوق بابها الشرقي تاريخ بقلم الشيخ ناصيف اليازجي.
6
وفي أواخر سنة 1905 كثرت الثلوج واشتد البرد ووقف القطار الحديدي أحد عشر يوما، وقرص البرد في الجروم (السواحل) حتى إن مياه نهر الكلب جمدت في صهاريجها، ومات كثيرون صردا (دنقا). وفي 3 نيسان سنة 1906 تجدد سقوط الثلج، ووقف القطار ثلاثة أيام وبقي البرد شديدا إلى يوم عيد الفصح في 15 نيسان، وكان في تلك السنة زلزال سان فرانسيسكو وهياج البراكين. وفي 8 تشرين الأول سنة 1906 حفر أساس المستشفى الوطني في زحلة الذي أنشأته جمعية المحبة (دفن الموتى) الكاثوليكية. وفي 21 منه تلك السنة وضع أول حجر في أساس كنيسة السريان الكاثوليك في حوش الزراعنة. وفيها أنجزت أبنية الأنزال (اللوكندات) الجديدة الكبيرة بجوار عين الدويليبي على ضفة النهر الشمالية، فكانت من أفخم الأنزال وأتقنها وأجملها موقعا وشيد أمامها الجسر الحديدي الجديد. وفي أوائل سنة 1907 اشتد البرد والجمد وكثر الثلج ووقف القطار الحديدي، وبقي الجو مكدرا إلى أواخر أيار. ومساء السبت في 18 أيار منها وصل تمثال البطريرك بطرس الرابع الجريجيري الكامل من الشبه (البرونز)، وهو هدية المهاجرين الزحليين في أميركة الشمالية والجنوبية، فنصب نهار الثلاثاء في 16 حزيران سنة 1908 في باحة الدار الأسقفية على قاعدة من الرخام الجميل، وأرخ ذلك مؤلف هذا التاريخ بيتين،
7
وهذا التمثال قد سبك في ميلانو «إيطالية» علوه نحو مترين، وارتفاع قاعدته نحو متر ونصف يمثله تمثيلا بديعا بحلته الكهنوتية وعلى رأسه «اللاطية»، وهو يبارك بيمناه وعصا الرعاية في يسراه. وفي صيف سنة 1907 بدئ بجر مياه الزويتيني إلى أحياء زحلة، وعقدت الحكومة عهدا بشروط معلومة بتاريخ 7 نيسان سنة 1323 مع الخواجات فرنسيس راهبه وولده وإسكندر أسعد جاويش، فدشن خزان (حاووز) الماء يوم الأحد في أول آب سنة 1907 بحفلة حافلة. وأرخ ذلك عزتلو إلياس بك الباشا قائم مقام زحلة بأربعة أبيات نقشت على صدر الصهريج.
8
وفي 14 تشرين الثاني من تلك السنة «1907» احترق السوق الجديد الذي بناه في زحلة سعادة الأمير قبلان أبي اللمع، فالتهمت النيران ستة دكاكين، وكانت الخسارة نحو خمسة آلاف ليرة، وفيها اشتد البرد وكثر الجمد. وفي أوائل سنة 1908 توالى سقوط الثلج بكثرة ووقف القطار. وفيها أسس الآباء اليسوعيون مرصدا فلكيا في كساره (قرب زحلة إلى جنوبيها) على علو 923 مترا عن البحر، واشتهر هذا المرصد الذي حضرت آلاته على آخر طرز بدقة إرصاده وذلك لجفاف الجو وعدم التبخر وقلة الضباب، وهو بإدارة مؤسسه الأب برلوتي من ليون (فرنسة) ومن مشاهير الرياضيين، وفي كل شهر يرسل تقويما بأرصاده إلى جميع مراصد العالم. وفي صيف هذه السنة أسس «محفل زحلة» الاسكتلندي (نمرو 1047) الماسوني.
وفي أول آب سنة 1909 أنشأ فارس أفندي مشرق الشويري اللباني مع لجنة زحلية وطنية معرضا عاما في زحلة إلى جنوبي نزل (لوكندة) عين الدوق، وقد جمع نفائس الصناعات الوطنية من فلسطين وسورية ولبنان، وتقاطر الناس إلى زحلة في ذلك الصيف وأقفلت أبوابه في أول تشرين الأول. وفي 20 تشرين الأول سن 1909 طاف نهر البردوني وأضر بالعقارات والأبنية وهدم بعض الجسور، وعاد السيل طاميا في أواسط تشرين الثاني حتى خرت منه مرافض الأودية، وكثرت الخسارة في الأراضي التي جرفتها المياه والسيول. وفي صيف سنة 1910 أسس محفل «الحرية والاعتدال» العثماني الماسوني (نمرو 13)، وشاعت في زحلة المبادئ الماسونية.
وفي أواخر سنة 1910 وأوائل سنة 1911 سقط ثلج كبير في أثناء أربعين يوما متواصلة وتراكم على الأرض زمنا طويلا، وأوقف القطار كل تلك المدة بين بيروت ودمشق وضويقت زحلة، ولكن لم يحدث فيها غلاء مثل غيرها كحلب ودمشق وبعض المدن الأخرى. وفيها أنجزت الدار الأسقفية الكاثوليكية بعناية السيد كيرللس مغبغب، وفيها أنجز سيادة المطران جرمانوس شحاده أسقف زحلة الأرثوذكسي بناء الدار الأسقفية على طرز جميل متقن . وفي ربيع هذه السنة 1912 وصلت من نيويورك الساعة الدقاقة الكبيرة التي أهدتها السيدة نجلاء المطران الزحلية عقيلة قيصر أفندي الصباغ إلى الدار الأسقفية الكاثوليكية، وستنصب فيها قريبا. وفيها باع الرهبان الحناويون الأرض الواقعة بين جسر عين الدويليبي وجسر الصلح، فابتاع المفوض البلدي منها محل الحديقة (المنشية)، وسيبدأ بترتيبها قريبا. وفيها ابتدأ الرهبان المذكورون بتشييد نزل (لوكندة) من أفخم أنزال المدينة عظما وهندسة وإتقانا، وهو على ضفة النهر الجنوبية إلى غربي جسر عين الدويليبي ومقابل الأنزال الجديدة.
وفي أواخر نيسان وأوائل أيار منها حدثت عواصف وأنواء شديدة في كثير من جهات سورية وسقط ثلج وبرد؛ فأتلف الكروم والتوت، ولا سيما في زحلة والصرود و(الجرود) العالية وأضر بالزروع. وغرقت الباخرة تيتانيك الإنكليزية بصدمة جبل جمدي من القطب الشمالي، وغرق من ركابها نحو ألف وستمائة بينهم نقولا نصر الله من زحلة وسلم نحو ثمانيمائة بينهم السيدة أدال أرملة نقولا المذكور. وتيتانيك أعظم باخرة ونكبتها أعظم نكبة.
وقد تولى إدارة قائمية مقام زحلة منذ تنظيم المتصرفية إلى الآن كل من الأمير عبد الله أبي اللمع من فالوغة، وسليم الصوصه من دير القمر، وحنا زلزل من بكفيه بمدة متصرفية داود باشا الأرمني، وكان قائم المقام يسمى مديرا إلى زمن ثالثهم حنا زلزل، فسمي قائم مقام وبقي ذلك إلى يومنا، ثم تولى فارس زلزل من بكفيه، وخليل الجاويش من دير القمر، والأمير مجيد شهاب من كفر شيمه بزمن فرنكو باشا، وحبيب العكاوي من دير القمر، وملحم الشميل من كفر شيمه بزمن رستم باشا، وإسكندر الحداد من جزين، والشيخ حبيب لطف الله من بطشيه، وإلياس بك الباشا من دير القمر بزمن واصه باشا، والشيخ حبيب لطف الله (ثانية)، وإلياس بك الباشا (ثانية)، وسليمان أفندي الجاهل من دير القمر بزمن نعوم باشا، والشيخ حبيب لطف الله (ثالثة)، وإبراهيم بك أبي خاطر من زحلة، ثم سليمان أفندي الجاهل (ثانية) بزمن مظفر باشا، ثم إلياس بك الباشا (ثالثة)، وبطرس بك كرامة من دير القمر، وخليل بك مراد مسلم قائم المقام الحالي من زحلة بزمن صاحب الدولة يوسف باشا فرنكو المتصرف الحالي.
وكان في مديرية زحلة بمدة داود باشا مجلس مؤلف من حبيب بك العن من الروم الكاثوليك، وإبراهيم البحمدوني من الأرثوذكس، وناصيف جدعون من الموارنة، وعبد الوارث من المسلمين، وجميعهم من زحلة. وكان رئيس المجلس سليم الصوصه قائم المقام. ثم بعد أن صارت المديرية قائمية مقام صار القاضي في محكمتها جبران مشاقة من دير القمر، ثم نخله (مخايل) زلزل من بكفيه وجبران مشاقة (ثانية)، وملحم زلزل من بكفيه، ونخلة زلزل (ثانية)، وأسعد جبور المعلوف من كفر عقاب، والأمير مجيد شهاب (الذي كان قائم مقام)، وأسعد بك زلزل من بكفيه، وداود أفندي عيسى من دير القمر، والأمير مجيد شهاب (ثانية)، وإسكندر أفندي الجاويش من دير القمر، وسليم بك أسعد المعلوف من كفر عقاب أيضا، ثم سليمان أفندي أبو خالد من زحلة وهو الرئيس الحالي.
ومعلوم أن حكومة زحلة تؤلف الآن من قائم مقام ورئيس محكمة كاثوليكيين، وعضوين أرثوذكسي وماروني، وكتاب من الكاثوليك، وانتخابها الإداري هو خاص بها لا يشاركها فيه قضاء آخر. فقضاء زحلة ليس فيه مديرين ولا شيوخ صلح، فلهذا يكون انتخاب العضو الإداري فيه بأكثرية واحد وأربعين صوتا توزع على حاراتها العشر هكذا: حارة الراسية سبعة أصوات، وحارة سيدة النجاة (المعالفة) ثلاثة، وحارة مار إلياس المخلصية (الضيعة) سبعة أصوات ستة منها يشترك بها معها حوش الأمراء وصوت للمسلمين، وحارتا مارانطونيوس والقديسة تقلا معا ثلاثة، وحارتا مار مخايل ومارجرجس معا أربعة، وحارة سيدة البربارة صوتان، وحارة الميدان صوتان، وحوش الزراعنة صوت، وجميعهم من الروم الكاثوليك، وأما الموارنة فستة أصوات، والأرثوذكسيون ستة أيضا، وأصوات هاتين الطائفتين مشتركة في جميع الحارات، فلا يمكن حصرها في إحداها، فتوزع كل حارة أصواتها على مكلفيها؛ فيتراوح معدل الصوت غالبا بين الثلاثين والأربعين مصوتا من الحاضرين لا الغائبين، فيكون التصويت إفراديا، ويترجح الانتخاب لمن ينال واحدا وعشرين صوتا فما فوق، وقد انتخب للمجلس الإداري الكبير على هذه الطريقة في أثناء كل ست سنوات
9
كل من عبد الله أبي خاطر، فاستقال وخلفه عبد الله مسلم وسليم المطران، وناصيف غره، وإبراهيم باشا نعمان المعلوف، وإبراهيم بك عساف مسلم، ونعمان المعلوف، ويوسف بك البريدي العضو الحالي (ثلث)، ولهم جميعهم مشاريع مفيدة للبلدة لا تزال ناطقة بفضلهم، فسليم المطران أوصل طريق العربات من شتوره إلى زحلة وبنى جسر الصلح. وناصيف غرة أحال ثلث دخل قلم الحسبة إلى المفوض البلدي. وإبراهيم باشا المعلوف قرر الحدود بين ولاية سورية الجليلة ومتصرفية لبنان من جهة البقاع وبناء دار الحكومة الحالية، وأوصل طريق المعلقة إلى زحلة. ونعمان المعلوف أرجع لبلدية زحلة 30 ألف غرش كانت موقوفة في صندوق النافعة من مال الفاعل (المكلف) لإصلاحات البلد، وبنى جسر الصفة، وسعى بجر المياه إلى زحلة، ثم زادت الشركة ثمن المتر مخالفة لشروطها الأولية فأبى الزحليون، فغرمتهم الحكومة بقيمة 1200 ليرة عثمانية تعويضا على الشركة وتوقف العمل. ويوسف بك البريدي أحال ثلثي دخل الحسبة الباقيين في صندوق النافعة إلى المفوض البلدي، وبنى جسري عين الدويليبي والدباغة، وسعى بجلب مياه نبع الزويتيني إلى البلدة ووزع في أحيائها، ونال امتياز الكهربائية وسعى بإنشاء حديقتي البردوني والبيادر. ومما ينتقد في طريقة هذا الانتخاب تفشي الانقسامات والتحزبات إلى وقت طويل مما قد يفضي إلى العداوات الشديدة. (2) شئونها الدينية
نبغ من الزحليين عدد من رؤساء الأساقفة والأساقفة ورؤساء الرهبانيات العامين والمدبرين ورؤساء الأديار والمدارس والمؤلفين وغيرهم من أرباب التقوى التي عرف الزحليون بها منذ القديم. فممن نبغ منهم المطوبا الذكر السيد بطرس الرابع الجريجيري بطريرك أنطاكية وإسكندرية وأورشليم للروم الكاثوليك،
10
المشهور بتقواه وغيرته ومعارفه الواسعة، والسيد غريغوريوس عطا رئيس أساقفة حمص وحماة ويبرود صاحب التآليف الكثيرة،
11
وسيادة الحبرين السيد أكليمنضوس المعلوف مطران بانياس وما يليها،
12
والسيد بولس أبي مراد مطران دمياط، والنائب البطريركي في رومية، ثم في القدس الشريف لطائفة الروم الكاثوليك، والخوري مرتينوس المعلوف،
13
والخوري ديمتريوس الجامد، والخوري باسيليوس صوايا، وحضرة الأرشيمندريت سليمان الشامي من رؤساء الرهبنية الباسيلية القانونية المعروفة بالشويرية، والخوري سليمان النمير، والخوري مخايل بشاره المعلوف
14
اللذان تعاقبا في الرئاسة العامة على الرهبانية المخلصية منذ سنة 1898.
والخوري مخايل مقصود الخطاط المشهور،
15
والخوري بطرس القطيني وكيل المطران باسيليوس شاهيات،
16
والخوري فيلبس النمير، والخوري جرجس عيسى، والآباء المدبرون ورؤساء الأديار أندراوس حجي، ومرقص القاصوف وبنادكتوس السرغاني، ومكاريوس الحاج نصر، ومخايل البركس، وجبرايل الوف، ويوسف الشامي، وفيلبس الصيقلي، والأخ حبيب مقصود اليسوعي وغيرهم، والأب لويس المعلوف
17
اليسوعي مدير جريدة البشير ومؤلف معجم «المنجد»، والأرشيمندريت مخايل الوف صاحب المؤلفات المفيدة وجميعهم من طائفة الروم الكاثوليكيين. والإيكونوموس نقولا ظاهر المشهور بتقواه وغيرته الذي تولى نيابة أسقفية سلفكية (زحلة وصيدنايه ومعلوله) الأرثوذكسية نحو أربعين سنة، وتوفي في 19 آذار سنة 1882م. والإيكونوموس نقولا الصفدي المعروف بإقدامه ونشاطه المتوفى منذ بضع سنوات. والقس لويس البعبداتي النائب البطريركي في رومية، والقس ملاتيوس نكد رئيس مأوى (أنطوش) القديس يوسف لرهبنته، وهما من الرهبنة الأنطونية المارونية وغيرهم من أدباء الكهنة. وقد أصلح كثير من مقاماتها الدينية وكنائسها وأديارها لجميع الطوائف.
وأسس فيها كثير من الأخويات والجمعيات الخيرية للطوائف الثلاث، مثل جمعية «بزوغ شمس الإحسان» الأرثوذكسية المؤسسة سنة 1884، وجمعية «شركة الإحسان» الكاثوليكية سنة 1885. وجمعية «القديس منصور دي بول» في تلك الأثناء، وجمعية «الاتحاد الروحي» الأميركانية للشبان وجمعية «الخياطة»، التي أسستها المرحومة عقيلة وليم جسب لإعداد ثياب للفقراء وكلتاهما سنة 1900، وجمعية المحبة «دفن الموتى» الكاثوليكية سنة 1902، وجمعية «نصرة الفقير» الأرثوذكسية سنة 1905، وجمعية «دفن الموتى» المارونية، وجمعية «بنات الشففة» الأرثوذكسية سنة 1907، و«الجمعية الخيرية الإنجيلية» في تلك السنة أيضا. وجمعية «جان درك» لراهبات قلبي يسوع ومريم اليسوعيات لإغاثة الفقراء منذ بضع سنوات، وقد أقامت هذه الجمعيات حفلات تمثيلية وخطابية في أوقات مختلفة، فضلا عن بعض الجمعيات للنساء والذكور من جميع الطوائف مما لم يطل عهدها. (3) نهضتها الأدبية والعلمية
مدارسها
كانت زحلة في النصف الأول من القرن التاسع عشر الماضي تتنازع سكانها الحروب الأهلية والتحزبات، فشغلهم ذلك عن الميل إلى العلوم، وكانوا يتلقون مبادئها على بعض الرهبان ولا سيما الآباء اليسوعيين، ولكن لما أسس أحد أبنائها الخوري جرجس عيسى السكاف الراهب الحناوي المدرسة البطريركية في بيروت، وترأسها سنة 1866، تنبه الزحليون بواسطة وطنيهم هذا إلى وجوب تلقن المعارف والعلوم، ثم ترأسها من الزحليين الخوري فيلبس النمير، وأدارها الخوري بطرس الجريجيري «البطريرك»، فشاع التعلم بين نفر قليل من سكانها، إلى أن أنشأ الخوري بطرس الجريجيري في 2 كانون الأول سنة 1867 المدرسة الفرنسية في زحلة، فتخرج على يده كثير من الشبان الذين كانوا يتمون علومهم في مدارس بيروت ولا سيما البطريركية منها، فكثر المتأدبون والمتخرجون باللغتين العربية والفرنسية وببعض العلوم. وسنة 1887 أنشأ القس دال المرسل الأميركي بمساعدة رفيقه غرينلي مدرسة داخلية في زحلة بقيت سنة واحدة، وأهملت على أثر وفاة منشئها.
وسنة 1889 أنشأ المطران جراسيموس يارد الأرثوذكسي مدرسة داخلية، ولم يطل عهدها أيضا فطوي أمر المدارس الداخلية إلى أن استفزت الحمية الأدبية الرهبنية الحناوية الشويرية الكريمة فشيدت «الكلية الشرقية» على رابية في غربي المدينة بعناية سيادة رئيسها العام الإيكونوموس يوسف الكفوري ومدبرها، وقد هندسها ووقف على بنائها حضرة الأرشيمندريت يعقوب الرياشي أحد مدبري الرهبنة إذ ذاك، فكانت أبنيتها فخيمة اتفق عليها نحو عشرة آلاف ليرة وجهزت بالمعدات المتقنة وأرخها الشيخ إبراهيم اليازجي بأبيات نقشت في صدر مدخلها،
18
وأرخها مؤلف هذا التاريخ ببيتين لينقشا فوق بوابتها الشرقية الكبرى،
19
وفتحت أبوابها للطلبة في أوائل تشرين الأول سنة 1898، وتناوب رئاستها كل من حضرة مهندسها الأرشمندريت يعقوب الرياشي، فالخوري بولس الكفوري سنة 1899، والأرشمندريت ساروفيم الشميل سنة 1907، والأرشمندريت مخايل شمعة سنة 1908، والخوري كرنيليوس الرياشي سنة 1909، والأرشمندريت المدبر أرشيبوس الزرزور سنة 1911، وكان مؤلف هذا التاريخ منذ أول إنشائها إلى الآن مدرس آداب العربية والخطابة لحلقاتها العليا، ودرس فيها مدة الرياضيات واللغة الإنكليزية، فتخرج في هذه المدرسة كثير من شبان زحلة وغيرها وكانوا في مقدمة المشتغلين بالأعمال المفيدة بنشاط وذكاء.
ومن مدارس زحلة مدرسة الدار الأسقفية الكاثوليكية للذكور وهي قديمة، خرجت كثيرين من الأدباء ولا سيما في رئاسة الجريجيري والأرشمندريت مخايل الوف، وهي اليوم راقية بعناية السيد كيرللس المغبغب الذي وسع نطاقها. ومنها مدارس الطائفة المارونية، ولا سيما مدرسة مار يوسف الأنطونية التي سعى بترقيتها الأب ملاتيوس نكد الزحلي المار ذكره، وقد سافر بالرخصة إلى أميركة لجمع الإحسان لتعزيزها، وكذلك مدرسة الآباء اليسوعيين من أقدم المدارس التي أفادت المدينة، وقد حولت منذ أعوام إلى نصف داخلية، ومدرسة الراهبات الداخلية للإناث، ومدرسة الإناث الأسقفية الخارجية الكاثوليكية ومدارس الأرثوذكس للذكور والإناث، وهي الآن بإدارة جمعية فلسطين الروسية، وكذلك مدارس الأميركان للذكور والإناث وأقدمها مدرسة البنات التي أسستها المس بوين طمسن في بيروت سنة 1860، ونقلتها إلى زحلة سنة 1865 وجميعها راقية مزهرة.
مكاتبها
كان في الدار الأسقفية الكاثوليكية وفي ديري مار إلياس (الطوق) الحناوي ومار إلياس (الضيعة) المخلصي، وفي دير الآباء اليسوعيين كتب مخطوطة نفيسة أحرقت ونهبت في سنة 1860، وبقاياها قليلة ليست بذات شأن، وأهم مكاتبها التي تجددت بعد ذلك: (1)
مكتبة الدار الأسقفية الكاثوليكية، وفيها نحو ألفي مجلد جددها السيد كيرللس مغبغب، ومعظمها في التاريخ الكنسي واللاهوت والعقائد باللغات اللاتينية والفرنسية والعربية وفيها بعض المخطوطات الدينية. (2)
مكتبة الدار الأسقفية الأرثوذكسية، فيها نحو ألف مجلد بينها كثير باللغة الروسية، والباقي بالعربية واليونانية وفيها بعض المخطوطات الدينية. (3)
مكتبة دير الآباء اليسوعيين، فيها نحو أربعة آلاف مجلد من المطبوعات في اللغات اللاتينية والفرنسية والعربية، ومخطوطاتها نقلت إلى ديرهم في بيروت. (4)
مكتبة دير النبي إلياس (الطوق)، فيها نحو ستمائة مجلد بينها كثير من المخطوطات الدينية، وفيها بعض شروح الأجرومية والتفتازاني ونحو ذلك. (5)
مكتبة دير النبي إلياس المخلصي، ليست بذات شأن الآن؛ لأنها نقلت إلى ديرهم الكبير. (6)
مكتبة الكلية الشرقية، فيها نحو خمسمائة مجلد باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية، بينها مخطوطات قليلة، ومن أهم مطبوعاتها «مجموعة الفنون العربية» مصورة ملونة في ثلاثة مجلدات ضخمة، ولها شرح إفرنسي بمجلد واحد. (7)
مكتبة الموارنة في ديريهم مار أنطونيوس البلدي ومار يوسف الأنطونياني، وهي مطبوعات حديثة دينية. (8)
مكتبة المرسلين الأميركان، فيها أكثر من ألفي مجلد معظمها بالإنكليزية والعربية، ولكن في مكتبة القس وليم جسب نزيل زحلة الآن قسم ذو شأن من مكتبة المرحوم والده هنري جسب، فيه مطبوعات عربية نادرة وبعض المخطوطات. (9)
مكتبة الخوري فيلبس النمير الزحلي نحو خمسمائة مجلد معظمها باللغة النمسوية، وبينها بعض المخطوطات الدينية ومنها رحلته إلى النمسة في أربعة مجلدات، ولكنها فقدت بفقده؟ (10)
مكتبة فدعا المعلوف نحو ألف مجلد معظمها كتب تاريخية عربية من نوادر المطبوعات، وقد فقدت أيضا بفقده. (11)
مكتبة عيسى إسكندر المعلوف مؤلف هذا التاريخ فيها نحو ألفي مجلد باللغات العربية والإنكليزية والفرنسية، وبينها كثير من نفائس المطبوعات. أما مخطوطاتها فنحو ثلاثمائة بينها كثير من النوادر مثل كتاب «جامع الفنون وسلوة المحزون» على نمط دائرة معارف عربية لابن شبيب الحراني، و«الحكم» لأبي الليث السمرقندي، و«شرح قاضي زاده على الجغمين» في علم الفلك، وهي نسخة متقنة الخط والتصوير والحواشي، و«نزهة المحبين» لابن قيم الجوزية، و«مقالات القديس يوحنا الدمشقي» مصورة بالزيت و«ديوان ابن سنان الخفاجي» الحلبي إلى غير ذلك.
وفي زحلة بعض مكاتب خاصة قليلة العدد وحديثة المؤلفات؛ فضلا عن مكتبة المقرأة (غرف القراءة) الأميركانية المجهزة بكثير من المؤلفات المطبوعة بين عربية وإنكليزية.
جمعياتها العلمية «جمعية طلب المعارف» أسسها وترأسها الخوري بطرس الجريجيري (البطريرك) سنة 1884 في الدار الأسقفية، وبقيت بضع سنوات وكانت تلقى فيها الخطب والمحاورات في مواضيع شتى. و«جمعية النهضة العلمية» أنشأها وترأسها مؤلف هذا التاريخ في «الكلية الشرقية» في 6 آذار سنة 1903 ولا يزال مترئسا إياها إلى الآن، وهي تمرن الطلبة على الخطابة والمحاورات والإنشاء، وتبحث في جميع المواضيع متحاشية الدينية والسياسية منها، وقد ظهرت فائدتها في طلبة الكلية، ولها سجل يحتوي على قوانينها وجلساتها وجميع الخطب التي تتلى فيها في كل سنة، فقد بعض أجزائه الأولى، ولهذه الجمعية فرع إفرنسي أيضا.
صحافتها الأميركية
بدأت الصحافة الزحلية في المهجر، فأنشأ يوسف أفندي نعمان المعلوف جريدة «الأيام» السياسية الحرة نصف أسبوعية في تموز سنة 1897م، وكان يعاونه بإنشائها ابن شقيقه جميل بك المعلوف وذلك في مدينة نيويورك، واقتنى لها مطبعة باسمها أيضا، وكانت أول صحيفة انتقدت أعمال رجال حكومة عبد الحميد بجرأة وبقيت ثماني سنوات وعطلت، ونشرت إدارتها كتابي «خزانة الأيام في تراجم العظام»، و«العقد الثمين في أخبار أربعة سلاطين»، وهو المعروف بأسرار يلدز وهما مشهوران، وفي مطبعة الأيام نشرت جريدة «الإصلاح» لشبل أفندي دموس سنة 1899، وعطلت بعد سنة ونصف، وكانت خطتها أشبه بالأيام. وسنة 1899 نشر قيصر بك المعلوف جريدة «البرازيل» السياسية الأسبوعية في مدينة سان باولو (البرازيل)، فبقيت أربع سنوات تخدم المهاجرين والحكومة العثمانية وعطلت. وسنة 1907 أنشأت «جمعية الشبان الزحليين» في لورنس ماس من أميركة الشمالية جريدة «الوفاء» أسبوعية، وحررها يوسف أفندي مراد الخوري من عبيه (لبنان)، وعطلت بعد نحو سنتين.
صحافتها المصرية
أنشأ نقولا أفندي شحاده الزحلي جريدة «الرائد المصري» السياسية سنة 1896، وهي نصف أسبوعية خدمت المصالح العثمانية والمصرية نحو تسع سنوات وأوقفت مؤقتا. وأنشأ حضرة الأرشمندريت باسيليوس الحاج نقولا الراهب الشويري مجلة «الكائنات» نحو سنة 1908، وهي شهرية فلسفية.
صحافتها الوطنية (1)
المهذب:
أنشأ مؤلف هذا التاريخ جريدة «المهذب» لطلبة آداب العربية والبيان في الكلية «الشرقية» تمرينا لهم على صناعة الإنشاء، وطبعت على الهلام (الجلاتين) فوصلت أجزاؤها إلى أميركة، ورأى بعضها سليم أفندي سركيس في نيويورك، فأعجبته مواضيعها واستفزته الحمية العربية ، ففتح اكتتابا لمشتري مطبعة لها، ثم تبرعت السيدة نجلا المطران الزحلية عقيلة قيصر أفندي الصباغ بمطبعة يدوية صغيرة أرسلت إلى الكلية الشرقية، فسعى الأب بولس الكفوري رئيسها إذ ذاك بتحصيل امتياز «المهذب» سنة 1907، وتولى تحريرها منشئها مؤلف هذا التاريخ، ثم استقل الأب بولس الكفوري بالجريدة والمطبعة، وحرر جريدة المهذب كثير من أدبائنا، ولا تزال إلى الآن تنشر في زحلة. وقد أصدر لها ملحقا مدة ونشرها مؤخرا نصف أسبوعية. (2)
زحلة:
نال امتياز هذه الجريدة سعيد بك حجي سنة 1907 ولم ينشرها. (3)
العصر:
نال امتيازه نجيب أفندي ملحم المشعلاني ولم ينشره. (4)
الرأي العام:
نال امتيازه إبراهيم بك أبو خاطر ولم ينشره. (5)
البردوني:
لإسكندر أفندي الرياشي، وهو جريدة أسبوعية نشرت في 23 حزيران سنة 1910، ثم عطلت في آخر سنة 1911. (6)
زحلة الفتاة:
نال امتيازها إبراهيم أفندي الراعي بشركة بشاره أفندي خليل قريطم المدير المسئول ومدير المطبعة وشكري أفندي البخاش المحرر، فظهر أول عدد منها في 3 كانون الأول سنة 1910، وهي الآن نصف أسبوعية، ولا تزال سائرة على قدم النجاح. (7)
مجلة الآثار:
وهي أول مجلة علمية في زحلة لمنشئها عيسى إسكندر المعلوف مؤلف «تاريخ زحلة» نال امتيازها مع مطبعة باسمها في شهر حزيران سنة 1910، ونشر أول جزء منها في تموز؛ أي بعد شهر. (8)
الخواطر الزحلية:
لصاحب امتيازها إبراهيم بك أبي خاطر ظهر أول جزء أسبوعي منها في أواخر كانون الثاني سنة 1912، وفي شهر نيسان الماضي صارت نصف أسبوعية. وجميعها راقية.
مطابعها
في زحلة مطبعة «المهذب» ومطبعة «زحلة الفتاة» ومطبعة «الخواطر»، وجميعها مجهزة بالمعدات اللازمة، تطبع جميع ما يطلب منها من المؤلفات والمجلات والجرائد والأدوات التجارية. أما المطابع التي لم تفتح حتى الآن، فهي مطبعة «زحلة» ومطبعة «العصر» ومطبعة «الآثار».
أطباؤها وصيدليوها
حصرت الطبابة قديما بالكهنة كما أشرنا إلى ذلك في ما مضى، وأقدم طبيب جاء زحلة أبو سليمان خليل الصليبي، ثم المعلم جرجس والسنيور الإيطالي، وتخرج على هؤلاء بعض الزحليين مثل أبي فرح يوسف المعلوف وأخيه عبد الله، وإبراهيم أبي سليمان، وجرجس الخوري، وعبد الله قادري، وأسعد أفندي فاضل ويوسف أفندي الزمار، وعرف بيت الصفدي الزحليون بمداواة الجراح والقروح. ثم كان أول من درس الطب قانونيا يوسف القطيني المعلوف وإلياس الزمار في مدرسة قصر العيني بمصر، ثم سليم أفندي فرح المعلوف في الكلية الأميركية في بيروت وجاء زحلة سنة 1871، ثم توالى بعده الأطباء مثل أمين بك أبي خاطر من كلية الأمير كان نزيل القاهرة وحبيب أفندي جبور وأمين يوسف عطا في قصر العيني، ثم مخايل مسلم ويوسف أفندي أبو سليمان وإسكندر أفندي الزين ويوسف أفندي جريصاتي وعزيز أفندي شحاده من طلبة الكلية الأميركانية، وميشال بك بريدي وميشال أفندي حجي ونجيب أفندي السكاف من طلبة المكتب الطبي الإفرنسي في بيروت، وهم مشهورون ببراعتهم، وفي أميركة أطباء زحليون منهم إبراهيم القطيني المعلوف.
أما الصيدلية فكان قدماء الأطباء يركبون الأدوية بيدهم، وأقدم صيدلية أنشأها الدكتور يوسف القطيني المعلوف، ثم موسى الجريصاتي وهي بإدارة ولده ملحم أفندي الآن وجرجس أفندي الخوري المعلوف، ويوسف أفندي قادري وهذه وقفت، ومخايل أبو سليمان وهي بإدارة أخيه جبران أفندي الآن، ونجيب أفندي مسلم وهي الآن بإدارة يوسف أفندي أبي حاتم، وصيدلية نجيب أفندي نكد ووديع أفندي بريدي ويوسف أفندي حريز. (4) عمرانها
معلوم أن أخص أسباب العمران الزراعة والصناعة والتجارة، فزراعة زحلة ضيقة النطاق محصورة «بالكروم» يعصرون منها الخمر ويستقطرون الكحول (العرق)، وعنبها ممتاز وزبيبها فاخر أيضا و«بالتوت» الذي يربى عليه دود الحرير، ومعظمه في البساتين قرب حوش الأمراء وضواحيه. أما بعض أغنيائها فلهم عقارات واسعة في بلاد بعلبك والبقاع وهي ذات ريع وافر.
وصناعتها القديمة «النسج» حتى كان جميع سكانها يشتغلون به. وقد أميتت هذه الصناعة على عهد إبراهيم باشا المصري، و«الحدادة» ويتبعها سبك الحديد أيضا، وقد اشتهر بهما بنو الجريصاتي، ولا سيما أحدهم عازار الذي تفوق بعمل المسنونات كالفئوس والسكك للحراثة وبالأجراس الحديدية التي تنسب الأسرة إليها، واشتهر ولداه فرج وعبد الله الجريصاتي وهذا مشهور الآن بأعماله الدقيقة فيها فهو يعمل أنواع القسطاس «القبان» والمضخمات «الطلمبات» وجميع الأدوات والإصلاحات، وعنده آلات إفرنجية يستعين بها على عمله. ومن مشاهير الحدادين غيرهم في القديم بنو أبي زيان، وهم فرع من بني الحداد وأسعد خليل الصيقلي، والآن عبيد الشامي وأولاده وعبد الله طنوس التبشراني وأولاده، وبراعة كل منهم بما خص به من الأعمال.
والقيانة (القردحة) واشتهر بها حنا مخايل عطا (والد الطيب الذكر المطران غريغوريوس) وموسى ابن شقيقه إبراهيم وتفوق موسى بالقيانة، وقد أثنى على براعته المرحوم المستر هنري جسب في كتابه الإنكليزي «خمسون سنة في سورية» 2 : 417. وذكر أنه نال جائزة في معرض لندن الذي قدم له بعض مصنوعاته ولن تزال هذه الصناعة في أسرته إلى يومنا، ومن مشاهير قيونهم الآن أسعد بن حبيب بن موسى المذكور، وهو منذ زمن طويل يشتغل في مدينة حلب، وله براعة ذات شأن، وأمين بن سليم بن موسى، وهو في زحلة وله أعمال متقنة، وقد انحطت هذه الصناعة الآن.
و«الصياغة» ومن أقدم المشتغلين بها أسطون خرينق وشقيقه عبده، ثم حنا وعبد الله مسعد، وحنا إلياس الصائغ وولداه منصور (طبيب الأسنان الآن) وعازر، ويوسف خليل الجبلي وأولاده، ثم تفوق في هذه الصناعة أسعد الدويليبي وولداه نجيب ومخايل وابن شقيقه عزيز غالب الدويليبي، ونالوا شهرة واسعة بجميع أنواع المصوغات والمجوهرات، وأحرزوا شهادة في معرض الشوير اللبناني، ومن البارعين بالصياغة سليم بالش ونايف الطباع وغيرهما.
و«الدباغة» ومن أقدم المشتغلين بها بنو الأبرص وريا وحافظ على الطريقة البسيطة، وأول من أدخل إليها الدباغة الإفرنجية هو إبراهيم زيدان القاصوف الذي ذهب إلى الأستانة وأثينة وعاد متفوقا فيها، فأسس معملا سنة 1879، هو الآن بإدارة شقيقه حبيب وولده خليل، وهو بغاية الإتقان يدبغ فيه الساتنه وغيره، ومن أهم المعامل أيضا معمل عيد سابا فرح وأولاد نقولا سابا، وسليمان الأبرص، وحبيب غنطوس وغيرهم.
و«البناء» وكان أولا باللبن وبعد سنة 1860 جاء كل من طنوس أبي نادر صوايا وحنا أبي ليلى صوايا من الشوير فعمرا البيوت والكنائس بالحجر، فالثاني عاد إلى الشوير والأول بقي في زحلة، واشتهر بعده ولداه أسعد ونعوم ولا سيما راجي بن أسعد. ومن مشاهير بنائي زحلة القدماء والحديثين موسى البريدي وولداه عبد الله ونعمان ونقولا القرعوني وابن عمه مخول وخليل الطباع وإبراهيم فرج حريز وغيرهم.
و«النجارة» لم تكن هذه الصناعة متقنة كثيرا في القديم، ومن البارعين فيها إذ ذاك أبو عساف جرجس أبو زيان ويوسف المعقر، وسنة 1900 أنشئ معمل الخواجات مخايل وإبراهيم أبي عفش لجميع أنواع النجارة الإفرنجية (الموبيليا)، مما تحتاج إليه البيوت على الطرز الحديث، وكان الفضل في إنشائه لأحدهم المرحوم إبراهيم الذي توفي سنة 1906، وبعد وفاته اشترك شقيقه مع صهره الخواجة يوسف الحمصي، وصار المعمل باسم عفش وحمصي وعملته نحو أربعين وصناعته متقنة كل الإتقان. «عصر الخمر واستقطار العرق» كان أبو موسى إلياس الخياط وإلياس رابيه أول من استقطرا العرق وعصرا النبيذ الفاخر، وكانا ينقلان ذلك إلى العساكر الفرنسية المخيمة في عكاء، ويبيعانه لهم في مطلع القرن التاسع عشر. ثم أتقن ذلك موسى بن إلياس الخياط المذكور على يد الأخ بوناتشينا اليسوعي الذي قتل سنة 1860 كما مر ، ولن يزال بنوه يعملون الصنفين إلى يومنا، وقد ذكرت دائرة المعارف العربية جودة العرق الزحلي في الجزء العاشر صفحة 199، وزحلة تصدر الآن إلى الولايات العثمانية نحو ألف قنطار عرق في السنة وهو مورد ذو شأن، وأنشئت له معامل منذ القديم منها معمل حبيب أبي صيبعه وولده فارس ومراد داود ويوسف المعقر وحبيب سرور وبني الخياط ويوسف الراسي وجرجس غنطوس، وبعضها يحضر المشاريب الإفرنجية كالكنياك وغيره.
ومن صناعات زحلة المفيدة «نسج البسط المنقوشة والعباءات» (العبي) الصوفية بحرير مقصب، وأول من عملها أبو مخول الحمصي وولده مخول ثم أبطلت. وعمل اللبد (اللباد) والسروج والجلالات وغيرها مما لم نتوفق إلى معرفة شيء من تأريخها، وقد فصلنا أشياء كثيرة من هذا القبيل في كتابنا «دواني القطوف» صفحة 119.
إن تجارة زحلة الوطنية أهمها جلب الأغنام والحنطة والصوف والسوس، فضلا عن الاتجار بالبضائع والأصناف الأخرى، وقد امتدت علاقاتها بزمن الطيبيي الذكر المطران أغناطيوس العجوري والمطران باسيليوس شاهيات إلى حلب، واتصلت إلى أرض روم وبقية البلاد السورية. أما الآن فانحطت تجارتها ببعض الأصناف المذكورة لكثرة المزاحمين وللمهاجرة، وقد اشتهر الزحليون بأسفارهم البعيدة وتحملهم المشاق.
أما تجارتهم في المهجر فهي راقية في هذه الأيام، وقلما يذكر التجار السوريون في عواصم ومدن أميركة الشمالية والجنوبية وأوسترالية والترنسڤال ومصر، ولا يكون بين مشاهيرهم الزحليون وهم كثيرون.
إلى غير ذلك مما لا محل الآن لتفصيله بعد أن امتد بنا نفس الكلام إلى هذا الحد، وتقاضانا محبو المطالعة إنجاز هذا التأريخ رغبة في مطالعته وتشوفا للوقوف على مباحثه مما لم ينشر بعد عن هذه المدينة المحبوبة.
هوامش
استدراكات
(1)
كتب إلينا «صديقنا الأب قسطنطين الباشا» من الرهبان المخلصيين الكاثوليكيين مقالة طويلة في تأريخ مدينة زحلة وألحف في طلب نشرها. ولما كانت قد انتهت إلينا بعد طبع الكتاب جميعه إلا صفحات قلائل، وكان لم يفتنا في هذا التأريخ ما جاء في معظمها اكتفينا بالإشارة إليها شاكرين له فضله وعنايته وتدقيقه. ومن أهم ما جاء فيها أن أقدم من ذكر زحلة ڤولني الرحالة الفرنسي الذي قدمها نحو سنة 1784، وذكر عنها في المجلد الأول من رحلته صفحة 76 ما معربه: «وهي قرية في لحف جبل في واد قريب من البقاع صارت منذ عشرين سنة مركز صلة بين بعلبك ودمشق ولبنان» ولم يزد. وممن أقاموا فيها أيضا من الإفرنج بودين قنصل فرنسة في دمشق وزميله هنري غيز قنصلها في بيروت اجتمعا فيها سنة 1827م، فذكرها غيز في كتابه «بيروت ولبنان» المطبوع سنة 1850، وقال: إن سكان زحلة كانوا على عهده ثلاثة آلاف نفس منهم خمسمائة مقاتل. «ثم قال الأب قسطنطين»: إن زحلة عمرت على أثر زلزلة سنة 1758، ونحن قلنا هنا إنها عمرت على أثر موقعة عين دارة سنة 1711، ونرجح قولنا لأسباب كثيرة نكتفي الآن منها بقول ڤولني الذي نقله حضرته، فإنه قال: إن زحلة صارت منذ عشرين سنة؛ أي سنة 1764 مركز صلة بين بعلبك ودمشق ولبنان، فكيف يتم لها ذلك في أثناء ست سنوات، وهو ما لا يكون بأقل من نصف قرن إلى غير ذلك، فنثني على غيرته أطيب الثناء. (2)
وكتب إلينا أنطون الطباع من مونتريال كنده وهو في الثانية والثمانين من عمره بعض استدراكات في موقعة بني القنطار؛ زبدتها أن الزحليين ذبحوا ستين منهم على عين كفر سنة قرب أبلح و12 في كفر زبد و22 في المحيدثة، والمذبحة كانت من حزيران إلى أواخر آب، وغلط بالسنة فقال: إنها كانت 1831، والصحيح ما رويناه في [ فصل زحلة الحديثة ووقائعها (موقعة بني القنطار)] وأن الزحليين جمعوا نساء بني القنطار وأولادهم وأخرجوهم إلى البيادر دون أقل إهانة أو أذى، وأن سركيس الطباع وشقيقه إبراهيم قتلا أبا سعدي والد عمشاء العاتية مع رجاله في منزله قرب الجسر الكبير واستولوا عليه وهو ملكهم إلى يومنا، وأن حملة الزحليين في موقعة سانور كانت ثلاثمائة بقيادة أبي وهبه طنوس الطباع، وأن نسيبه هذا كان بطلا مدربا في هذه المواقع. وكتب إلينا من القاهرة نقولا أفندي شحاده
1
صاحب جريدة «الرائد المصري الغراء» الموقفة مؤقتا أن هذه الحملة سارت بقيادة أنطون الحاج شاهين وولده إبراهيم فنشكر لهم إفاداتهم . (3)
وممن فاتنا ذكرهم بين الأطباء المرحوم غالب جريج من القصر العيني وعبد المسيح المصور وإلياس مسلم، وهما في أميركة الشمالية الآن. وكانت للشيخ خليل حبيش يد في مساعدة الزحليين بموقعة جسر السن.
هوامش
كلمة الختام
يقول مؤلف «تاريخ زحلة» عيسى إسكندر المعلوف اللبناني: هذا آخر ما استرعفت له جامد القلم، وشحذت له كليل الذهن واستنجعت له رائد البحث في تاريخ هذه المدينة المحبوبة وحوادثها وشئونها إلى يومنا الحاضر، وذلك بين شواغل استغرقت أوقات الراحة ومشاده بلبلت الفكر ومراجعات ضل فيها العقل فضلا عن قلة ما لدي من المراجع الموثوق بها، وعدم حصولي على إفادات ممن له معرفة بشئونها، مع إلحافي بالطلب شفاها وإعلانا. وكان النجاز من إفراغه في هذا القالب يوم السبت في الخامس والعشرين من أيار أحد شهور سنة اثنتي عشرة وتسعمائة وألف (1912)، وذلك في مدينة زحلة اللبنانية؛ آملا من إخواني الزحليين وغيرهم من محبي المطالعة أن يتلقوا خدمتي هذه بغزير فضلهم، ويستروا خطأي بواسع حلمهم، ويحملوا ما يرونه من التقصير على حسن القصد:
وعين الرضى عن كل عيب كليلة
كما أن عين السخط تبدي المساويا
وما الكمال إلا لله الذي يجب حمده في كل بدء وختام.
অজানা পৃষ্ঠা