مقدمة المترجمة
تصدير
مدخل بقلم المؤلفة
1 - يوتوبيات العصر القديم
2 - يوتوبيات عصر النهضة
3 - يوتوبيات الثورة الإنجليزية
4 - يوتوبيات عصر التنوير
5 - يوتوبيات القرن التاسع عشر
6 - اليوتوبيات الحديثة
ببليوغرافيا
مقدمة المترجمة
تصدير
مدخل بقلم المؤلفة
1 - يوتوبيات العصر القديم
2 - يوتوبيات عصر النهضة
3 - يوتوبيات الثورة الإنجليزية
4 - يوتوبيات عصر التنوير
5 - يوتوبيات القرن التاسع عشر
6 - اليوتوبيات الحديثة
ببليوغرافيا
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
تأليف
ماريا لويزا برنيري
ترجمة
عطيات أبو السعود
مراجعة
عبد الغفار مكاوي
لولا يوتوبيات العصور الأخرى، لظل الناس يعيشون في الكهوف عرايا بؤساء. إن اليوتوبيات هي التي رسمت خطوط المدينة الأولى، ومن الأحلام السخية تأتي الوقائع النافعة. إن اليوتوبيا هي مبدأ كل تقدم، وهي محاولة بلوغ مستقبل أفضل.
أناتول فرانس
إن الاشتراكية الحديثة تبدأ مع اليوتوبيا.
كاوتسكي
إن حقلا في ميدلسكس لأفضل من إمارة في يوتوبيا.
لورد ماكولي
ليست هناك يوتوبيا تبلغ من الشر حدا يمنعها من أن تقدم بعض المزايا المؤكدة.
أوجست كونت
ينظر إلى اليوتوبيات بوجه عام على أنها غرائب أدبية أضفت عليها الاحترام أسماء مشهورة، أكثر مما ينظر إليها بوصفها إسهامات جادة في المشكلات السياسية التي أقلقت العصر الذي ظهرت فيه.
ه. ف. رسل
إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا، لا تستحق حتى مجرد النظر إليها، لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية دائما إليه. وعندما ترسو على شاطئه، تتلفت في الأفق، فإذا لمحت بلدا آخر، انطلقت مبحرة إليه. إن التقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع.
أوسكار وايلد
لا نريد أن نحيا في يوتوبيا، تلك المروج التي تقع تحت الأرض، ولا على جزيرة سرية يعلم الله وحده أين تكون. بل في هذا العالم نفسه، الذي هو عالمنا أجمعين، هذا المكان الذي نجد فيه سعادتنا في آخر المطاف، أو لا نجد شيئا على الإطلاق.
وليم وردزورث
مقدمة المترجمة
كان توماس مور
Thomas More (1478-1535م) هو أول من صاغ كلمة يوتوبيا أو «أوتوبيا» في نطقها اليوناني. وقد اشتقها من الكلمتين اليونانيتين
Ou
بمعنى «لا» و
Topos
بمعنى «مكان»، وتعني الكلمة في مجموعها «ليس في مكان»، ولكنه أسقط حرف
O
وكتب الكلمة باللاتينية لتصبح
Utopia ، ووضعها عنوانا لكتاب له هو أشهر يوتوبيا في العصر الحديث.
واستخدم اللفظ منذ ذلك الحين في كل اللغات الأوروبية، وفي ترجمته العربية أيضا، ليعني نموذجا لمجتمع خيالي مثالي يتحقق فيه الكمال أو يقترب منه، ويتحرر من الشرور التي تعاني منها البشرية، ولا يوجد مجتمع كهذا في بقعة محددة من بقاع الأرض، بل في أماكن وجزر متخيلة، وفي ذهن الكاتب نفسه وخياله قبل كل شيء. وأصبح للكلمة فيما بعد معان كثيرة غير التي استخدمها مور، فصارت تطلق على كل إصلاح سياسي أو أي تصورات خيالية مستقبلية، أو احتمالات علمية وفنية. ولكن تظل اليوتوبيا تصورا فلسفيا ينشد انسجام الإنسان مع نفسه ومع الآخرين ومع مجتمعه. فالفكر اليوتوبي معني في الدرجة الأولى بخلق أفكار وتصورات للانسجام الاجتماعي، وهو يصدر عن الخيال الأدبي أو التصور الفلسفي، ويختلف كل الاختلاف عما يسمى في عصرنا بعلوم المستقبل التي تقوم على التخطيط العلمي والرياضي للمستقبل، على أساس الإمكانات الكامنة في الواقع الراهن.
وقد تنوعت النماذج اليوتوبية، فتم التعبير عنها في أشكال أدبية مختلفة، منها المقالة والقصة والرواية والقصيدة، أو في شكل نظريات سياسية تقدم صورة نظام سياسي نموذجي بمؤسساته المختلفة، مع تصور كامل لكل تنظيمات الحياة (كما عند توماس مور) أو في بعض نظريات فلسفة التاريخ (كما عند كوندورسيه).
ويلعب الخيال الدور الأكبر في كل الأشكال والمشروعات اليوتوبية بدءا من جمهورية أفلاطون (وهي النموذج الأول لكل اليوتوبيات)، وانتهاء بروايات الخيال العلمي. ولكن الأفكار والخيالات والأحلام اليوتوبية لم تكن غير استجابات مختلفة للمجتمعات التي نشأت فيها، فكانت تعبيرا عن الرغبة في تغيير الواقع القائم وتجاوزه، والحلم بحياة ومجتمع أفضل وأكثر عدلا، ولذلك لا يمكن فهم التفكير اليوتوبي قديمه وحديثه حتى نضعه في سياق التطور التاريخي والاجتماعي، لنعرف أنه كان صرخة احتجاج على أوضاع وظروف اجتماعية ظالمة وفاسدة. ولم تجد الغالبية العظمى من المشروعات اليوتوبية طريقها إلى التطبيق، والقليل النادر الذي طبق منها كان مآله الإخفاق. ومع ذلك لم يكف الخيال البشري عن الحلم بواقع إنساني أفضل، ولن يتوقف عنه في يوم من الأيام. •••
وترجع أهمية هذا الكتاب إلى أن المؤلفة قد ألقت الضوء على جذور التفكير اليوتوبي، وتتبعت رحلته الشاقة والمشوقة بدءا من أفلاطون إلى العصر الحاضر. ومما يزيد من أهميته أن المؤلفة تناولت بعض اليوتوبيات التي كادت تسقط في أعماق النسيان، كما تعرضت لتلك التي لم يلتفت إلى أهميتها في عصرها ولا في العصور اللاحقة. وعلى الرغم من ارتباط الكتاب بظروف تأليفه (أي في السنوات التي أعقبت انتهاء الحرب العالمية الثانية، والانتصار على النازية والفاشية، والكشف عن فظائع الشمولية الستالينية) فإنه لا يزال يحتفظ بقيمته وأهميته في الأدبيات اليوتوبية التي توالت بعد ذلك في صور وأشكال لا حصر لها. •••
ولدت مؤلفة الكتاب ماريا لويزا برنيري بالقرب من فلورنسا بإيطاليا عام 1918م. وبعد مولدها بثماني سنوات فرت مع عائلتها إلى فرنسا، هربا من اضطهاد الفاشية الإيطالية. وهناك قضت أحد عشر عاما، درست خلالها علم نفس الطفل بجامعة السوربون، وظهرت اهتماماتها بالقضايا السياسية والاجتماعية، ثم انتقلت إلى لندن التي عاشت فيها ومارست العمل الصحفي والإذاعي والسياسي، حتى وفاتها المفاجئة عام 1949م. وقد انصب اهتمامها بشكل خاص على مظاهر الثورة الاجتماعية والحركات الفوضوية، ونشرت كتابها عن «العمل في روسيا الستالينية» عام 1944م، كما كتبت أيضا عن الثورة الإسبانية، وإن لم يسعفها الأجل لاستخلاص النتائج التي تمخض عنها الصراع الطويل مع دكتاتورية فرانكو الفاشية، ثم عكفت على إنجاز هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ولكن لم يمهلها القدر لتراه في طبعته الأولى، التي كتب تصديرها أستاذ الفلسفة السياسية والاجتماعية جورج وودكوك. وما زال الكتاب يعاد طبعه حتى الآن، نظرا لأهمية موضوعه ودقة تناوله لأبرز اليوتوبيات، والطبعة التي اعتمدت عليها في هذه الترجمة هي طبعة سنة 1986م.
وقد كان المشروع الأصلي للكتاب هو تقديم أهم النصوص اليوتوبية التي تعد علامات أساسية على طريق الفكر اليوتوبي، غير أن المؤلفة آثرت الجمع بين أكبر قدر ممكن من النصوص وبين التحليل والتفسير والنقد، وهو الشيء الذي لم توفق فيه دائما، إذ أسرفت في كثير من الأحيان في اقتباس النصوص غير المعروفة وغير المتاحة، على حساب التحليل والنقد والتقييم. ويقدم الكتاب نماذج من مجتمعات يوتوبية متنوعة، ربما يتشابه بعضها في جوانب عديدة مع البعض الآخر، وربما تختلف الظروف والرؤى اليوتوبية فيها اختلافا بينا، وتتنوع اجتهادات أصحابها في تقديم الحلول لمشاكل مجتمعاتهم. ولكن العامل المشترك الذي يجمع معظم هذه اليوتوبيات هو طابع الشمولية وإلغاء الفردية وقهر الحرية في مجتمعات يفترض أنها مثالية، في حين أن حرية التفكير والتعبير واحترام الفرد هما أساس المجتمع الأفضل وغاية الإنسان في كل زمان ومكان.
وربما يخرج القارئ في نهاية الكتاب بانطباع يائس عن اليوتوبيا وتحولاتها ومصيرها، غير أن هذا يؤكد حقيقة مهمة، وهي أن الكتابات اليوتوبية تقع في خطأ فادح عندما تتوهم أنها تقدم لنا تصورات نهائية عن مجتمعات كاملة ومنظمة بشكل آلي، لأنها ستكون بالتأكيد مجتمعات مغلقة وخانقة وخالية من نسمات الحرية. وربما يكون من أهم الدروس المستفادة من هذه الرحلة في أرجاء المجتمعات اليوتوبية أنه ليس هناك مجتمع أو تصور يوتوبي كامل أو تام من كل ناحية، بحيث يمكن تطبيقه على كل المجتمعات وفي كل مكان أو زمان. فلكل عصر متطلباته، ولكل مجتمع احتياجاته المتجددة باستمرار، مما يحتم على الكتاب اليوتوبيين أن يقدموا رؤى وتصورات لمجتمع قابل للتجدد.
وأخيرا لا يسعني إلا أن أتوجه بالشكر إلى أستاذي الدكتور عبد الغفار مكاوي على الجهد الذي بذله في المراجعة الدقيقة، ومساعدته في توضيح ما غمض علي من نصوص، كما أتوجه بالامتنان والتقدير إلى أسرة «عالم المعرفة» ومستشارها الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا، على إتاحة الفرصة لخروج هذا العمل إلى النور.
عطيات أبو السعود
القاهرة
مايو 1996م
تصدير
بقلم جورج وودكوك
أخذت ماريا لويزا برنيري على عاتقها أن تقدم، في «المدينة الفاضلة عبر التاريخ»، وصفا وتقييما نقديا لأهم الكتابات اليوتوبية (وسيلاحظ القارئ أنها لا تعني بالضرورة أشهرها)، منذ أضفى أفلاطون، في «جمهوريته»، شكلا أدبيا على أحلام العصر الذهبي والمجتمعات المثالية التي لازمت الإنسان بغير شك ، منذ أن بدأت المناقشات الواعية للمشاكل الاجتماعية. وأعتقد أن من الضروري استعادة بعض الوقائع على سبيل الذكرى في بضع كلمات لتفسير الشكل الذي اتخذه الكتاب. ففي عام 1948م، عندما طرحت دار النشر على المؤلفة مشروع جمع مقتطفات من اليوتوبيات الشهيرة، وافقت على أن تتولى عملية الاختيار، ولكنها أكدت أن الخطة الأصلية التي قدمت إليها لم تكن كافية؛ إذ إن اليوتوبيات الشهيرة متاحة بصورة أو أخرى للقراء الحريصين على الاطلاع عليها، وأن ما هو مطلوب حقا لم يكن جمع النصوص فحسب، وإنما هو كتاب يجمع المعلومات والتعليق عليها، فيقدم نماذج مسهبة، ويناقش في نفس الوقت النصوص، ويربط بينها بطريقة توضح تطور الفكر اليوتوبي، وتبين مكانته في تاريخ الأوضاع والأفكار الاجتماعية. ووافقت دار النشر على الفكرة مع تعديلات طفيفة، فشرعت، بدقتها المعهودة، في استقصاء اليوتوبيات المجهولة والمعروفة على حد سواء. وسوف يدرك القارئ مدى نجاحها في هذه المهمة حتى لو ألقى نظرة سريعة على هذا الكتاب وثبت مراجعه، وسوف يرى القارئ أيضا أن بعض اليوتوبيات التي انتشلتها من غياهب النسيان، مثل يوتوبيا جابرييل دي فوانيي
Gabriel De Foigny ، تجمع بين الطرافة الأدبية والأهمية الفكرية باعتبارها تأملات في التيارات الاجتماعية السائدة في عصرها. وفي بعض الحالات التي لم تتوافر فيها ترجمة إنجليزية لهذه اليوتوبيات، اضطرت ماريا لويزا برنيري إلى القيام بترجمتها بنفسها عن اللغة الفرنسية أو الإيطالية، كما حدث في حالة «ملحق رحلة بوجانفيل» لديدرو، و«رحلة إلى إياكاريا» لكابيه. أما فيما يتعلق «بمدينة الشمس» لكامبانيلا، فقد أعدت المؤلفة ترجمة جديدة عن الأصل الإيطالي الذي سبق النسخة اللاتينية ببضع سنوات، واعتمد عليه المترجم الإنجليزي الذي سبق أن ترجمها. وبقدر اطلاعي على الكتب العامة التي صدرت عن اليوتوبيات حتى الآن، أستطيع أن أؤكد أنه ليس بينها كتاب واحد يعدل هذا الكتاب في اتساع نطاقه أو في الجهد الذي بذل فيه لتقديم الموضوع بهذه الصورة الحية الشائقة.
وقد أكدت ماريا لويزا برنيري، في عرضها لليوتوبيات، الطابع التسلطي غير المتسامح لمعظم هذه الرؤى، بحيث إن الاستثناءات مثل يوتوبيات موريس ، وديدرو ودي فوانيي، لا تشكل إلا أقلية ضئيلة جدا. وقد أشارت المؤلفة كذلك إلى حقيقة مهمة، وهي أن الماركسيين، على الرغم من ادعائهم العلمية على النقيض من الاشتراكيين اليوتوبيين، فإن تجاربهم الاجتماعية الفعلية كانت تنتهي من الناحية العلمية إلى التصلب في بنية متحجرة بصفة عامة، بل تبنت كثيرا من الملامح المؤسسية الفردية التي اتسمت بها اليوتوبيات الكلاسيكية. ومن حسن الحظ أن العبر المستخلصة من هذا التطور لم تغب عن أذهان الناس في أيامنا هذه، سواء أكانوا مثقفين أم عمالا. إن رؤى المستقبل المثالي، الذي يتم فيه تنظيم وتحديد كل فعل بعناية فائقة ويدمج في دولة نموذجية، كما هي الحال في مشروعي كابيه وبيلامي اليوتوبيين، هذه الرؤى لم تعد تتمتع بشعبيتها السابقة، ومن المستحيل اليوم أن يحرز أي كتاب منها الشهرة التي حققتها يوتوبيا «التطلع للوراء» لبيلامي في نهاية القرن التاسع عشر. ومن الأمور التي لها دلالتها أن الكتاب الواعين بالشرور الاجتماعية في عصرنا لا يكتبون فحسب يوتوبيات مضادة؛ لتحذير الناس من أخطار التمادي في تنظيم الحياة تنظيما صارما، بل إن كتبهم تتمتع بنفس الشعبية التي تمتعت بها الرؤى الهزيلة التي قدمت قبل عام 1914م عن جنة الاشتراكية.
ومنذ أن وضع كتاب «رحلة مع اليوتوبيا»، صدر كتابان مهمان في هذا الموضوع كان من الممكن بلا شك أن تشير إليهما ماريا لويزا برنيري، لو قدر لها أن تبقى على قيد الحياة. وأحد هذين الكتابين هو «الفرد والماهية» لأولدس هكسلي، وهو رؤية فاجعة للمستقبل، بعد الحرب النووية، عندما يتحول سكان كاليفورنيا إلى عبدة الشيطان، ويقيمون مجتمعا عقيدته الكراهية والحقد. إنه كتاب يحتل مكانته في التراث اليوتوبي، ويؤكد الدرس المستفاد منه لعصرنا الحاضر تأكيدا يفوق في ضراوته اليوتوبيا المضادة السابقة لنفس المؤلف، وهي «عالم طريف شجاع». أما اليوتوبيا المضادة الثانية فهي رؤية «عام 1984» لجورج أورول، وهي رؤية أكثر عنفا من الرؤية السابقة لعالم دمرته السلطة، كما أنها توشك أن تكون هي النتيجة المنطقية لجمهورية أفلاطون، ولكل اليوتوبيات الأخرى المعادية للفردية الإنسانية. وفي رواية «مهبط الطائرات رقم 1» لأورول تتحطم الفردية بصورة نهائية. بل إن التفكير نفسه ينظم فيها تنظيما لم يكن ليتصوره واحد من اليوتوبيين المبكرين. وربما استطعنا أن نتخيل مقدار السعادة التي كان يمكن أن يشعر بها أحد اليوتوبيين المتسلطين في الماضي، وهو يضع يده على أسلوب يمكنه من خلق فكر موحد، لأن كل هذه الأشياء كانت في تلك الأيام بعيدة جدا عن أن تكون موضوع رؤى تأملية مريحة. أما في أيامنا فقد أطبقت علينا الكوابيس، وتجسدت يوتوبيات الماضي من حولنا، وبدأنا ندرك في النهاية أن أكثر هذه المشروعات اليوتوبية إغراء في مظهره لا بد أن يتحول بالضرورة إلى سجن رهيب، ما لم يقم على أساس ثابت ومأمون من الحرية الفردية، كما هي الحال في ذلك الاستثناء الرائع، وهو يوتوبيا وليم موريس «أخبار من لا مكان».
إن أهمية كتاب ماريا لويزا برنيري لا تقتصر على الجانب الأكاديمي وحده. فهو ليس مجرد جمع ونقد لليوتوبيات، ولكنه في واقع الأمر يقدم، بأسلوب مدهش، العلاقة الوثيقة والحتمية التي تربط بين التفكير اليوتوبي والواقع الاجتماعي، كما يحتل مكانه بين الكتب المهمة التي ظهرت في السنوات الأخيرة لكي تحذرنا، من وجهات نظر مختلفة، من المصير المشئوم الذي ينتظر أولئك الذين بلغ بهم الغباء إلى حد وضع ثقتهم في عالم شديد التنظيم والإحكام.
مدخل بقلم المؤلفة
إن عصرنا هو عصر التسويات، والحلول الوسطى، والسعي لجعل العالم أقل شرورا. والحالمون من أصحاب الرؤى أصحاب موضع السخرية أو الاحتقار، و«الناس العمليون» هم الذين يحكمون حياتنا. لم نعد نبحث عن حلول جذرية لشرور المجتمع، بل لإصلاحه، ولم نعد نسعى لإلغاء الحروب، بل لتجنبها فترة تمتد سنوات قليلة، إننا لا نحاول إلغاء الجريمة، وإنما نكتفي بإصلاح القوانين الجنائية، ولا نحاول إلغاء المجاعة، بل نسعى لإنشاء مؤسسات خيرية عالمية على نطاق واسع. وعنما يعيش المرء في عصر ينشغل بكل ما هو عملي قابل للتحقق السريع، فربما يكون من المفيد أن يلجأ إلى الأشخاص الذين حلموا باليوتوبيات، ورفضوا أي شيء لا يتلاءم مع مثلهم الأعلى من الكمال.
سوف نشعر بالضعة عندما نقرأ عن الدول والمدن المثالية، لأننا سنتحقق من تواضع طموحاتنا، وفقر رؤانا. لقد دافع زينون عن النزعة العالمية، وعرف أفلاطون المساواة بين الرجال والنساء، ورأى توماس مور بوضوح العلاقة التي ينكرها الناس حتى اليوم بين الفقر والجريمة. وتبنى كامبانيلا، في بداية القرن السابع عشر، الدفاع عن نظام العمل اليومي المكون من أربع ساعات، وتحدث الباحث الألماني أندريا عن العمل الجذاب، واقترح نظاما للتعليم ما زال من الممكن أن يعد اليوم نموذجا يؤخذ به.
سنجد الملكية الخاصة تدان بشدة، والنقود والأجور تعتبر غير أخلاقية وغير عقلانية، والتكافل الإنساني يسلم به بوصفه حقيقة واضحة. وكل هذه الأفكار التي يمكن اعتبارها اليوم أفكارا جريئة، قد طرحها أصحابها بثقة كبيرة دلت على أنها، وإن لم تحظ بقبول عام في حينها، كان الناس على استعداد لفهمها. ونجد في أواخر القرن السابع عشر وفي القرن الثامن عشر أفكارا أكثر إثارة وجسارة عن الدين والعلاقات الجنسية، وطبيعة الحكومة والقانون. وقد اعتدنا تصور أن الحركات التقدمية تبدأ مع القرن التاسع عشر، بحيث تصيبنا الدهشة عندما نجد أن انحلال التفكير اليوتوبي قد بدأ في ذلك الحين؛ إذ أصبحت اليوتوبيات، كقاعدة عامة، تتسم بالجبن، وأصبحت الملكية الخاصة والتعامل بالنقود في الغالب أمورا ضرورية. كما أصبح على البشر أن يعتبروا أنفسهم سعداء إذا عملوا ثماني ساعات يوميا، وصار من النادر أن يطرح السؤال عما إذا كان عملهم جذابا. أصبح النساء تحت وصاية الأزواج، والأطفال تحت وصاية الآباء. ولكن قبل أن تصاب اليوتوبيات بعدوى الروح «الواقعية» لعصرنا، كانت قد ازدهرت وتنوعت وازدادت ثراء بدرجة يمكن أن تثير فينا الشك في شرعية مزاعمنا عن تحقيق قدر معين من التقدم الاجتماعي.
وليس معنى هذا أن كل اليوتوبيات كانت ثورية وتقدمية. لقد كانت الغالبية العظمى منها تجمع بين الصفتين، ولكن القليل منها كان ثوريا بشكل كامل. كان الكتاب اليوتوبيون ثوريين عندما دافعوا عن مشاعية السلع في وقت كانت تعد فيه الملكية الخاصة مقدسة، وعن حق كل فرد في الحصول على لقمة العيش في وقت كان يشنق فيه الشحاذون، وكانوا ثوريين عندما دافعوا عن المساواة بين الرجل والمرأة في عصور كانت تعتبر فيها المرأة أفضل قليلا من العبيد، وعن كرامة العمل اليدوي الذي كان ينظر إليه على أنه عمل مهين أو مخز، وعن حق كل طفل في طفولة سعيدة وتعليم جيد، بعد أن كان ذلك الحق مقصورا على أبناء النبلاء والأغنياء. كل هذا ساهم في جعل كلمة يوتوبيا مرادفة للسعادة أو مرتبطة بها، وجعلها شكلا اجتماعيا مرغوبا فيه. وفي هذا المقام تمثل اليوتوبيا حلم الجنس البشري بالسعادة، واشتياقه الخفي للعصر الذهبي، أو لجنته المفقودة كما تصور البعض.
بيد أن هذا الحلم كانت له جوانبه المظلمة. فقد كان هناك عبيد في جمهورية أفلاطون، وفي يوتوبيا مور. وكانت هناك جرائم قتل جماعية للعبيد في أسبرطة ليكورجوس، وحروب، وإجراءات ونظم صارمة، وتعصب ديني، جنبا إلى جنب مع المؤسسات التنويرية إلى حد كبير. هذه الجوانب التي لم يلتفت إليها في الغالب المدافعون عن اليوتوبيات التي كانت تهدف إلى تحقيق الحرية الكاملة.
وهناك اتجاهان رئيسيان يتكشفان في الفكر اليوتوبي عبر العصور: اتجاه يبحث عن سعادة الجنس البشري من خلال الرفاهية المادية، وإذابة فردية الإنسان في المجموع وفي مجد الدولة. واتجاه آخر يتطلب درجة معينة من المادية، لكنه يعتبر أن السعادة هي نتيجة التعبير الحر عن شخصية الإنسان، ويجب ألا يضحي بها لأجل قانون أخلاقي استبدادي أو لمصالح الدولة. وتتطابق هاتان النزعتان مع التصورات المختلفة للتقدم، لأن اليوتوبيات المضادة للنزعة التسلطية تقيس التقدم، كما يرى هربرت ريد: «عن طريق درجة التمايز داخل المجتمع. فإذا كان الفرد وحدة في كتلة المجموع، فإن حياته لا تكون فظة وقصيرة فحسب، بل تكون كذلك حياة متبلدة وآلية. وإذا كان وحدة في ذاته، أي لديه المجال والإمكانية للعمل المستقل، فربما يكون أكثر خضوعا للمصادفة والحظ، ولكنه سيستطيع على الأقل أن ينمو ويعبر عن نفسه. وسوف يمكنه أن يتطور - بالمعنى الحقيقي الوحيد لكلمة التطور - في الوعي بالقوة والحيوية والبهجة.»
ولكن هذا، كما يؤكد أيضا هربرت ريد، ليس تعريفا للتقدم: «فهناك العديد من البشر الذي يجدون الأمان وسط الأعداد الكبيرة، ويجدون السعادة في أن يبقوا مجهولين، والكرامة في العمل الروتيني. إنهم لا يسعون إلى شيء أفضل من أن يكونوا رأسا في قطيع يسوقه راع، أو جنودا تحت إمرة قائد، أو عبيدا تحت سطوة طاغية. والقليلون منهم فقط هم الذين يتطورون بحيث يصبحون الرعاة والرؤساء والقادة لأولئك الذين اختاروا بإرادتهم أن يكونوا تابعين.»
لقد كان هدف اليوتوبيات التسلطية تسليم الشعوب لرعاة أغنام وقادة وطغاة، سواء تحت اسم الحراس (الفيلاركس) أو الساموراي.
وكانت تلك اليوتوبيات تقدمية، بقدر ما أرادت إلغاء عدم المساواة الاقتصادية، لكنها استبدلت بنظام العبودية الاقتصادية القديم نظاما آخر جديدا، فلم يعد الناس عبيدا لأسيادهم أو لأصحاب العمل، بل أصبحوا عبيدا للأمة أو الدولة. وقامت قوة الدولة على السلطة الأخلاقية والعسكرية، كما في جمهورية أفلاطون، أو على الدين كما في مدينة المسيحيين لأندريا، أو على ملكية وسائل الإنتاج والتوزيع كما في معظم يوتيوبيات القرن التاسع عشر. بيد أن النتيجة بقيت دائما واحدة، وهي اضطرار الفرد لاتباع مجموعة من القوانين أو قواعد السلوك الأخلاقي المحدود بشكل مصطنع.
إن التناقضات الكامنة في معظم اليوتوبيات ترجع لهذا الأسلوب التسلطي. فقد زعم مؤسسو اليوتوبيات أنهم منحوا الحرية للشعب، ولكن الحرية التي منحوها توقفت عن أن تكون حرية. وكان «ديدرو» هو أحد كتاب اليوتوبيا القلائل الذي أنكر على نفسه حتى الحق في أن يعلن أن لكل فرد أن يفعل ما يريده، غير أن أغلبية مؤسسي اليوتوبيات تشبثوا بأن يبقوا أسيادا في دولهم المتخيلة. فبينما يزعمون أنهم يمنحون الحرية لشعوبهم، تجدهم في نفس الوقت يصدرون مجموعة من القوانين التي يتعين اتباعها بصرامة. فهناك المشرعون للقوانين، والملوك، والقضاة، والكهنة، ورؤساء الجمعيات الوطنية في يوتوبياتهم، ومع ذلك فبعد أن أعلنوا أنهم قد سنوا القوانين، ونظموا شئون الزواج وأمور السجن وإجراءات الإعدام، ظلوا على ادعائهم بأن الشعب حر يفعل ما يريد. ومن الواضح كل الوضوح أن توماسو كامبانيلا تخيل نفسه «الميتافيزيقي الكبير » في مدينة الشمس، وأن بيكون جعل من نفسه الأب الراعي ل «بيت سليمان»، وكابيه نصب نفسه المشرع في جزيرته إيكاريا، وعندما كان لديهم ذكاء توماس مور، كانوا يعبرون عن أشواقهم الخفية بتهكم شديد: «لا يمكنك أن تتخيل كم أنا مبتهج.» هكذا كتب توماس مور لصديقه إرازموس، «ولا كيف تعاظمت ورفعت رأسي عاليا، ودائما ما كنت أتصور نفسي في دور الحاكم الأعلى ليوتوبيا، بل إنني تخيلت نفسي أختال في مشيتي وفوق رأسي تاج من سيقان الذرة، لابسا عباءة راهب فرنسسكاني، وحاملا في يدي سنبلة من الشعير أشبه بصولجان، ومحفوفا بحشد كبير من أبناء شعب أموروت.» وأحيانا يضطر أناس آخرون إلى إبراز تهافت أحلامهم، كما نجد جونزالز
Gonzales
في مسرحية «العاصفة» لشكسبير عندما يقول لرفاقه في دولته المثالية التي أراد تأسيسها على جزيرته:
جونزالز :
أنا الدولة، وسوف أنجز كل شيء عن طريق الأضداد.
لن أسمح بأي نوع من أنواع التجارة،
ولا باستخدام قاض،
والأدب لن يسمح بالاطلاع عليه،
ولن يكون ثمة غنى ولا فقر ولا خدمات،
لا عقود، ولا توريث، ولا حدود للأراضي،
لا حرث، ولا كرم، ولا شيء من هذا،
لن يصرح باستخدام المعادن، ولا الذرة، ولا النبيذ ولا الزيت،
لا وظائف، فالناس جميعهم كسالى متعطلون،
والنساء أيضا، وإن كن بريئات ونقيات.
لا سيادة ولا تسلط.
سبستيان :
ومع ذلك يتمنى أن يكون ملكا عليها.
أنطونيو :
إن النهاية الأخيرة لدولته تنسي البداية.
وتقع اليوتوبيات التسلطية في تناقض آخر يكمن في التأكيد على أن قوانينها تتبع نظام الطبيعة، على حين أنها في واقع الأمر قد سنت بشكل تعسفي. فبدلا من أن يحاول كتاب اليوتوبيا اكتشاف قوانين الطبيعة، فضلوا أن يخترعوها أو يعثروا عليها في «سجلات الحكمة القديمة». ذلك أن بعضهم، مثل مابلي
Mably
أو مورللي
Morelly ، كان من رأيه أن قوانين الطبيعة هي قوانين أسبرطة، وبدلا من أن يقيموا يوتوبياتهم على تجمعات حية وبشر مثل أولئك الذين يعرفونهم، أقاموها على تصورات مجردة. إن هذا على وجه التحديد هو المسئول عن الجو المفتعل السائد في معظم اليوتوبيات : فالبشر اليوتوبيون مخلوقات من نمط واحد، ولهم رغبات متماثلة وردود أفعال متشابهة، وهم مجردون من العواطف والانفعالات، لأن هذه الأخيرة ستكون تعبيرا عن الفردية وقد انعكس هذا التوحيد في كل جوانب الحياة اليوتوبية، من الملبس إلى جدول المواعيد، ومن السلوك الأخلاقي إلى الاهتمامات العقلية. ويؤكد ه. ج. ويلز أن «كل اليوتوبيات على وجه التقريب - ربما باستثناء أنباء من لا مكان لوليم موريس - يرى فيها المرء أبنية صحيحة ولكن بلا شخصية، ومنشآت متجانسة وكاملة، وحشودا من الناس الذين يتمتعون بالصحة والسعادة ويرتدون الملابس الجميلة، ولكنهم يفتقرون إلى أي تفرد شخصي من أي نوع. وكثيرا ما يشبه هذا المنظر إحدى اللوحات الكبيرة لحفلات الزواج الملكي والبرلمانات والمؤتمرات والتجمعات التي كانت تتم في العصر الفيكتوري، ففي هذه اللوحات لا نرى وجها بشريا، وإنما نرى بدلا من ذلك أن كل شكل منها يحمل ملامح بيضاوية مدونا عليها رقمه في الدليل الرسمي.»
وينطبق الشيء نفسه على التنظيم المصطنع لليوتوبيا؛ فالأمة الموحدة لا بد أن يناظرها بلد موحد أو مدينة موحدة. والعشق التسلطي للتجانس يجعل اليوتوبيين يطمسون الجبال أو الأنهار، بل يجعلهم يتخيلون جزرا كاملة الاستدارة، وكذلك أنهارا كاملة الاستقامة. «في يوتوبيا الدولة القومية (كما يقول لويس ممفورد) لا توجد مناطق طبيعية، والتجمع الطبيعي للبشر في البلدان والقرى والمدن، وهو الذي أكد أرسطو أنه الفارق الأساسي بين الإنسان وبقية الحيوانات، هذا التجمع الطبيعي، لا يسمح به إلا على أساس الخرافة التي تقول إن الدولة هي التي تمنح هذه التجمعات قدرا من سلطتها الشمولية أو - كما يقول - من سيادتها، ومن ثم تسمح لهم بممارسة الحياة المشتركة. ومن سوء حظ هذه الخرافة الجميلة، التي بذلت أجيال من المحامين ورجال الدولة جهودا كبيرة في صنعها، أن المدن قد سبقت الدول في الوجود بوقت طويل - فقد قامت روما على نهر التيبر قبل قيام الإمبراطورية الرومانية بوقت طويل - وهذا التسامح الكريم من قبل الدولة ليس في الواقع إلا منزلة الختم المطبوع على حقيقة منجزة بالفعل (...).
وبدلا من التعرف على المناطق الطبيعية والتجمعات الطبيعية للبشر، أقامت اليوتوبيات ذات النزعة القومية ، بواسطة خطوط المساحين، مملكة معينة أطلقت عليها اسم الإقليم القومي، وجعلت كل سكان هذا الإقليم أعضاء في دولة واحدة، أو مجموعة واحدة غير منقسمة تسمى أمة، ويفترض أن لها الأسبقية، ولها السلطة الأعلى من كل المجموعات الأخرى. ذلك هو التشكيل الاجتماعي الوحيد المتعارف عليه رسميا في اليوتوبيا القومية. والشيء المشترك بين كل سكان هذا الإقليم هو الذي يعتقد أنه هو الأكثر أهمية من جميع الأمور الأخرى التي تربط بين البشر في مجموعات مدنية أو صناعية.»
حافظت الدولة القومية القوية على هذه الوحدة، فألغيت الملكية الخاصة، لا لتحقيق المساواة بين المواطنين فقط أو بسبب تأثيرها الفاسد، بل لأنها (أي الملكية الخاصة) تمثل خطرا على وحدة الدولة. وتحدد الموقف من الأسرة أيضا بالرغبة في المحافظة على وحدة الدولة. وبقيت يوتوبيات كثيرة ضمن التراث الأفلاطوني، فألغت الأسرة والزواج المعقود بين زوج وزوجة، بينما تبعت يوتوبيات أخرى توماس مور، ودافعت عن خصوصية الأسرة والزواج وتربية الأطفال وتعليمهم داخل نطاق الأسرة. وأخذ مجموعة ثالثة بحل وسط، وذلك بالإبقاء على المؤسسات الأسرية، وإن عهدت للدولة بمهمة تعليم الأطفال.
لقد انطلقت اليوتوبيات التي أرادت إلغاء الأسرة من نفس الأسباب التي جعلتها تلغي الملكية. واعتبرت الأسرة عاملا مشجعا على تنمية الغرائز الأنانية، ومن ثم على تفكيك وحدة الجماعة. وفي الجانب الآخر يرى المدافعون عن الأسرة أنها هي عمادة الدولة المستقرة، بل والخلية الأساسية فيها، والحقل الذي يتم فيه التدريب على فضائل الطاعة والولاء للدولة. ويعتقد أصحاب هذا الرأي بحق أن الأسرة التسلطية التي هي بعيدة كل البعد عن خطر غرس الاتجاهات الفردية في نفوس الأطفال، تعودهم، على العكس من ذلك، على احترام سلطة الأب، وبالتالي سوف يطيعون في النهاية أوامر الدولة بغير اعتراض.
إن الدولة القومية تتطلب بالضرورة طبقة حاكمة، أو فئة تمسك بزمام السلطة المتحكمة في بقية الشعب. وبينما اهتم مؤسسو الدول المثالية اهتماما كبيرا بعدم السماح للملكية أن تفسد الطبقة الحاكمة أو توقع الشقاق بين أعضائها، فإنهم على العموم لم يدركوا أن خطر حب السلطة يفسد الحكام ويفرق بينهم ويوقع الظلم على الشعوب. وكان أفلاطون هو المذنب الرئيسي في هذا الصدد. فقد عهد إلى حراسه بكل السلطة في المدينة، بينما كان بلوتارك على وعي بالمفاسد التي يمكن أن يرتكبها الأسبرطيون، وإن لم يقدم علاجا شافيا منها. وقدم توماس مور تصورا جديدا، وهو تصور الدولة التي تمثل جميع المواطنين، باستثناء قلة من العبيد. لقد كان نظامه من النوع الذي ندعوه بالنظام الديمقراطي، إذ يمكن القول إن ممثلي الشعب هم الذين يمارسون السلطة. ولكن هؤلاء الممثلين يملكون تنفيذ القوانين، أكثر من سلطة وضعها أو صياغتها؛ لأن جميع القوانين الأساسية قد تم وضعها من قبل المشرع. وهكذا شرعت الدولة مجموعة من القوانين التي لم تشارك الجماعة في صنعها. والأكثر من هذا، أن الطبيعة المركزية لتلك الدولة جعلت هذه القوانين ذاتها تسري على كل المواطنين، وعلى كل قسم من أقسام الجماعة دون أن يأخذ المشرعون في اعتبارهم العوامل الشخصية المتنوعة. ولهذا السبب، عارض بعض كتاب اليوتوبيات، مثل جيرارد ونستنلي، الجماعة التي تفوض سلطتها لهيئة مركزية، لأنهم خشوا أن تفقد الجماعة حريتها، وأرادوا أن تبقي الجماعة على استقلال حكومتها. بل إن كلا من جبرييل دي فواني وديدرو قد ذهب إلى أبعد من ذلك بإلغاء الحكومات إلغاء تاما.
إن وجود الدولة يتطلب مجموعتين من قواعد السلوك الأخلاقي؛ لأنها لا تقسم الشعب إلى طبقات فحسب، وإنما تقسم البشرية إلى أمم. فغالبا ما يتطلب الولاء للدولة إنكار مشاعر التكافل والتعاون المتبادل الذي يوجد بشكل طبيعي بين الناس، وتفرض الدولة أنواعا معينة من قواعد السلوك التي تحدد العلاقة بين المواطنين والعبيد أو «البرابرة»، فكل ما هو محرم في العلاقات القائمة بين المواطنين المتساوين، مسموح به تجاه أولئك الذين يعدون كائنات أدنى منزلة. وبينما يتحلى المواطن اليوتوبي بالرقة ودماثة الخلق في تعامله مع من هم في نفس منزلته، فإنه يتسم بالفظاظة في تعامله مع عبيده، إنه يحب السلام في وطنه، ولكنه يشن أبشع الحروب خارج الحدود. وقد سمحت جميع اليوتوبيات، التي حذت حذو أفلاطون، بهذه الثنائية في الإنسان. ووجود هذه الثنائية في المجتمع، كما نعرفه، حقيقة معروفة بصورة كافية، ولكن عدم التخلص منها في «مجتمع كامل» هو الذي يبدو أمرا غريبا. إن النموذج العالمي في جمهورية زينون الذي أعلن أخوة البشر من الأمم كافة، هو نموذج ندر من تبناه من كتاب اليوتوبيا. وتوافق معظم اليوتوبيات على الحرب بوصفها جزءا حتميا من نظامها، والواقع أن الأمر لا بد أن يكون كذلك، لأن وجود الدولة القومية هو الذي يولد الحروب على الدوام.
إن الدولة اليوتوبية التسلطية لا تسمح بوجود أي شخصية تكون من القوة والاستقلال، بحيث تتصور إمكان التغيير أو التمرد. وما دامت المؤسسات اليوتوبية تعتبر كاملة، فمن البديهي أنها لن تكون قابلة للإصلاح. إن الدولة اليوتوبية في جوهرها دولة سكونية، ولا تسمح لمواطنيها بأن يناضلوا أو حتى أن يحلموا بيوتوبيا أفضل.
هذا السحق لشخصية الإنسان يتخذ في الغالب سمة شمولية. فالمشرع أو الحكومة هما اللذان يخططان المدن والمنازل؛ وقد أعدت هذه الخطط وفق أكثر المبادئ عقلانية وأفضل معرفة بالتقنية، ولكنها (أي الخطط) ليست هي التعبير العضوي عن الجماعة. إن المنزل، مثله مثل المدينة، قد يصنع من مواد غير حية، ولكن ينبغي أن يجسد روح أولئك الذين بنوه. وبنفس الطريقة ربما تكون الأزياء اليوتوبية أكثر راحة وأكثر جاذبية من الملابس المعتادة، ولكنها لا تسمح للفرد بالتعبير عن فرديته.
والدولة اليوتوبية أشد شراسة في قمعها لحرية الفنان. فالشاعر والرسام والنحات يفترض فيهم أن يكونوا في خدمة الدولة، وأن يتحولوا إلى عملاء الدعاية لها. إن التعبير الفردي محظور عليهم سواء لأسباب جمالية أو أخلاقية، ولكن الهدف الحقيقي هو سحق أي مظهر من مظاهر الحرية. ولا مراء في أن معظم اليوتوبيات ستفشل فشلا ذريعا في «اختبار الفن» الذي اقترحه هربرت ريد: «لقد طرد أفلاطون، كما يعرف الجميع، الشعراء من جمهوريته. ولكن هذه الجمهورية كانت نموذجا مضللا للكمال. ربما استطاع بعض المستبدين أن يحققوها في الواقع، غير أنها لن تؤدي وظيفتها إلا كالآلة، أي بشكل آلي. فالآلات تعمل بشكل آلي لمجرد أنها مصنوعة من مواد ميتة وغير عضوية. ولو أردت أن تعبر عن الفرق بين مجتمع تقدمي وعضوي وحكومة شمولية سكونية، فيمكنك أن تعبر عن هذا بكلمة واحدة: هذه الكلمة هي الفن. ولا يستطيع المجتمع أن يجسد مثل الحرية والتطور العقلي، وهي التي تجعل الحياة في نظر الغالبية منا جديرة بأن نحياها، إلا بشرط السماح للفنان بأن يمارس عمله بحرية.»
إن اليوتوبيات التي تنجح في هذا الاختبار هي تلك التي تعارض مفهوم الدولة المركزية باتحاد فيدرالي للجماعات الحرة، حيث يستطيع الفرد أن يعبر عن شخصيته دون أن يخضع لرقابة قانون مصطنع، وحيث لا تكون الحرية كلمة مجردة، بل تتجلى بشكل عيني في العمل، سواء أكان عمل الرسام أم البناء. هذه اليوتوبيات لا تتعلق بالبناء الميت للتنظيم الاجتماعي، وإنما تتعلق بالمثل التي يمكن أن يقوم عليها المجتمع الأفضل. أما عن اليوتوبيات المضادة للتسلطية، فهي أقل عددا، وقد مارست نفوذا أقل من اليوتوبيات الأخرى، لأنها لم تقدم خطة جاهزة، بل طرحت أفكارا جريئة غير متزمتة، ولأنها تتطلب من كل منا أن يكون «متفردا»، وليس رأسا في القطيع.
وحين تشير اليوتوبيات إلى الحياة المثالية دون أن تتحول إلى خطة، أي بغير أن تتحول إلى آلة مجردة من الحياة تطبق على مادة حية، عندئذ تستطيع بجدارة أن تصبح هي التحقق الواقعي للتقدم.
الفصل الأول
يوتوبيات العصر القديم
يتميز الفكر الفلسفي والسياسي اليوناني بقدر كبير من الثراء والتنوع، يجعله من أهم المصادر التي ألهمت الكتاب اليوتوبيين طوال العصور. فلقد كان لأساطير العصر الذهبي، وتصورات الدول المثالية الخاصة بالماضي الأسطوري أو المستقبل البعيد، والكتابات النظرية عن فن الحكم، كان لكل هذا تأثير عميق على مؤسسي الدول والمجتمعات المثالية من توماس مور حتى ه. ج. ويلز.
وليس من السهل دائما تحديد أي الأعمال يمكن اعتبارها يوتوبيات، لأن الفرق بين العروض التي تقدم عن الأحداث الخيالية والأحداث التاريخية يكون في بعض الأحيان شديد الدقة. وأفلاطون نفسه، الذي اتجه إليه الكتاب المتأخرون في معظم الأحوال، قد ترك وراءه أعمالا تتضمن أشكالا مختلفة من الفكر اليوتوبي. فكل من طيماوس وكريتياس تصف مجتمعات أسطورية ودولا أو مجتمعات مثالية، والجمهورية تضع أسس مدينة مثالية للمستقبل، بينما تضع القوانين أسس دولة تليها في الأفضلية. ونجد عند أرسطو إطار دستور مثالي، كما نجد وصفا للمؤسسات التي تحكم العديد من الدول اليونانية، ويقدم ديودوروس الصقلي
Diodorus Siculus
1
عرضا تاريخيا لمجتمعات مبكرة وأساطير عن العصر الذهبي، كما يقدم زينون دراسة للحكومات وتخطيطا عاما لجمهورية مثالية. وعند سترابون (من 64ق.م.-20م) وبلوتارك (من 46-119م) وصف شديد الدقة للمجتمع القديم في كريت وأسبرطة.
وأقرب الأعمال التي ذكرناها من تعريف الدول المثالية وأعظمها في الوقت نفسه تأثيرا في اليوتوبيات اللاحقة المدينة لها، هي «جمهورية» أفلاطون و«حياة ليكورجوس» لبلوتارك؛ وكلاهما يمثل الاتجاهات التسلطية والشيوعية في الفكر اليوناني، ولكن تأثيرهما في المفكرين المتأخرين قد خففت منه في الغالب أفكار أرسطو الإصلاحية و«البرجوازية الصغيرة»، أو مثل زينون المتحررة والعالمية. ولو كان هدفنا هو تتبع تأثير بلاد الإغريق في الفكر اليوتوبي، بدلا من الاكتفاء بتقديم المخططات العامة للمجتمعات المثالية، لوجب علينا تناول أعمالهما هنا بالدراسة. وربما يبدو من التعسف اختيار جمهورية أفلاطون وترك محاورات أخرى مثل طيماوس وكريتياس والقوانين، ولكن إنتاج أفلاطون، كما لاحظ ألكسندر جراي، يعادل في ضخامته إنتاج شكسبير، ولا مفر من أن تتطلب الحدود التي يفرضها علينا المسح المختصر لتاريخ اليوتوبيا شيئا من التعسف. (1) أفلاطون: «الجمهورية»
كانت الفترة التي كتب فيها أفلاطون «الجمهورية» فترة تدهور في التاريخ اليوناني. فقد انتهت الحرب البلوبونيزية (431-404ق.م. وهي الحرب الأهلية بين أثينا وأسبرطة في المورة.) بالهزيمة الساحقة لأثينا، وضعفت المدن المستقلة التي شاركت فيها بتأثير الصراع الطويل والمنازعات الداخلية. وقد أدى بها التفكك إلى أن تصبح عرضة للغزو الأجنبي، وسمح لدولة أسبرطة العسكرية والتسلطية أن تنتصر عليها. وقد كان أفلاطون في الثالثة والعشرين من عمره عندما وضعت الحرب أوزارها، تاركة أثينا في حالة من الإنهاك السياسي والاقتصادي. ولهذا كان من الطبيعي أن تهتم كتاباته اهتماما شديدا بالقضايا السياسية والاجتماعية، وأن يحاول استخلاص بعض الدروس المستفادة من هزيمة أثينا وانتصار أسبرطة.
ومن المعروف أن عقل المهزوم غالبا يكون مفتونا بقوة الغزاة الفاتحين، فعندما شرع أفلاطون في بناء مدينته المثالية اتجه إلى أسبرطة واتخذها نموذجا له. وهو بالطبع لم يقلد هذا النموذج تقليد العبيد، ولكن جمهوريته أشبه بالتنظيم التسلطي لأسبرطة منها بالتنظيمات الحرة التي تمتعت بها المدن اليونانية الأخرى في غضون القرون السابقة. وقد وضع أفلاطون في مقابل روح الاستقلال والنزعة الفردية المتطرفة التي تميزت بها الحياة اليونانية، وضع تصوره عن دولة قوية متجانسة وقائمة على مبادئ تسلطية.
وكان السوفسطائيون، الذين وجه لهم أفلاطون هجومه المتواصل والمرير، قد بحثوا عن حل لمواجهة تفكك الحياة اليونانية بطريقة مخالفة لطريقة أفلاطون. وكان العلاج الذي اقترحوه هو المزيد من الحرية لا التقليل منها. فقد رجعوا إلى الإيمان التقليدي بعصر ذهبي عاش فيه البشر في حالة من الحرية التامة والمساواة، وقدموا نظريتهم التي تقول بأن البشر فقدوا تلك الحرية والسعادة، التي هي «حقهم الطبيعي» مع ميلاد التنظيمات السياسية. وقد وصف رودلف روكر
Rudolf Rocker
في كتابه «النزعة القومية والحضارة» هذا المفهوم الاجتماعي بقوله:
كان أعضاء المدرسة السوفسطائية بوجه خاص، هم الذين اعتادوا في نقدهم للشرور الاجتماعية أن يشيروا لحالة طبيعية ماضية، لم يكن الإنسان فيها قد عرف عواقب الظلم الاجتماعي بعد. وهكذا أعلن هيبياس الإليسي
2
أن «القانون قد أصبح طاغية يتحكم في الإنسان، ويحرضه بشكل مستمر على إتيان أفعال غير طبيعية.» وعلى أساس هذا المذهب دعا ألكيداماس وليكوفرون (شاعر وعالم سكندري عاش في منتصف القرن الثالث ق.م.) وغيرهما لإلغاء الامتيازات الاجتماعية، وأدانوا نظام الرق بصفة خاصة باعتبار أنه مناف لطبيعة الإنسان، وأنه نشأ عن تشريعات البشر الذين جعلوا من الظلم فضيلة. ومن أعظم مآثر المدرسة السوفسطائية المفترى عليها أن أعضاءها تخطوا كل الحدود القومية بشكل واع مع المجتمع الكبير للجنس البشري. لقد شعروا بقصور المثل الأعلى الوطني وضيق أفقه الروحي، وعرفوا مع أرستيبوس
3
أن «كل الأمكنة متساوية في البعد عن هاديس».
هذه الأفكار تبناها بعد ذلك الكلبيون الذين نظروا إلى تنظيمات الدولة باعتبارها مضادة للنظام الطبيعي للأشياء، واستهجنوا الفروق الطبقية والقومية، كما أخذتها المدرسة الرواقية، التي أسسها زينون الكيتيوني، فرفضت الخضوع للإلزام الخارجي، وتبعت «القانون الداخلي الذي يتجلى في الطبيعة». أما مجتمع زينون المثالي فقد حرص على التخلص من الدول أو التنظيمات السياسية، ولم يبق إلا على الحرية والمساواة الكاملة بين جميع البشر، مع إلغاء الزواج، والمعابد، والمحاكم، والمدارس والنقود. ومع ذلك فلم يخلط زينون بين الحرية والترخص أو عدم المسئولية. لقد اعتقد أن الغريزة الاجتماعية للبشر تمد جذورها في الحياة الجماعية المشتركة، وتجد التعبير عنها في الإحساس بالعدل، وأن الإنسان يجمع بين الحاجة إلى الحرية الشخصية والإحساس بالمسئولية عن أفعاله.
كان أفلاطون يمثل رد الفعل المضاد للاتجاهات الرئيسية للفكر الفلسفي في عصره، إذ آمن بضرورة الإلزام الأخلاقي والخارجي، وبعدم المساواة والسلطة، وبالقوانين الصارمة والتنظيمات الثابتة، وتفوق الإغريق على «البرابرة». وعلى الرغم من أن تأثيره في الفكر الحديث كان أعظم بكثير من تأثير الفلاسفة الآخرين، فإن هناك فترات نادى فيها بعض المفكرين، مثل الرواقيين، ب «الحق الطبيعي» للبشر في الحرية والمساواة الكاملتين.
ومع أن أفلاطون، مثل السوفسطائيين والرواقيين، كان مقتنعا بأن تنظيماته متوافقة مع قانون الطبيعة، فإنه رأى أن الطبيعة قد أوجدت بعض البشر ليكونوا حكاما وبعضهم الآخر ليكونوا محكومين. يقول في الجمهورية:
إن الحقيقة التي أقرتها الطبيعة هي أن المريض، سواء أكان غنيا أم فقيرا، ينبغي عليه أن ينتظر على باب الطبيب، وأن كل إنسان يحتاج إلى أن يكون محكوما، يجب عليه أن ينتظر على باب القادر على الحكم.
وبعد أن استنكر أفلاطون أن يتولى كل إنسان حكم نفسه، وأقر ضرورة وجود طبقة حاكمة، كان من المنطقي أن يتجه لإقامة حكومة قوية، لا تقتصر قوتها على السلطة التي يمكن أن تمارسها على عامة الشعب، بل تتمثل فضلا عن ذلك في تفوقها الأخلاقي والعقلي ووحدتها الداخلية. ولا يجوز اختيار الحكام أو الحراس في جمهوريته المثالية على أساس نسبهم أو ثروتهم، ولكن على أساس الخصال التي تؤهلهم للقيام بمهمتهم؛ فلا بد أن ينحدروا من سلالة طيبة ، وأن يتمتعوا بصحة جيدة، وأن يكون لهم عقل راجح ويتلقوا تربية حسنة. وها هو ذا سقراط يشرح لجلوكون الصفات الأساسية التي ينبغي أن تتوافر للحراس: - وهكذا ترى أنه كلما ازدادت أهمية حرفة الحراس تطلبت زمنا وفنا وعناية أعظم. - بلا شك. - ولكن ألا يلزم لهذا الفن أيضا صفات طبيعية فطرية في المحارب؟ - يقينا. - وإذن فعلينا، إن استطعنا أن نختار أولئك الذين تؤهلهم طبيعتهم وقدرتهم الفطرية ليكونوا حراسا للدولة. - هذا واجب علينا دون شك. - الحق أن المهمة لن تكون هينة، ومع ذلك فلنستجمع شجاعتنا، ولنبذل كل ما في طاقتنا. - هذا ضروري. - حسنا. أترى، فيما يتعلق بالحراسة، فروقا بين طبيعة كل أصيل، وبين فتى عريق الولد؟ - ماذا تعني؟ - أعني أن كليهما لا بد أن تتوافر له قوة ملاحظة الأعداء، وسرعة الانقضاض عليهم، والقدرة على العراك إذا ما هوجم. - لا شك أنه بحاجة إلى كل هذه الصفات. - وهو بحاجة إلى الشجاعة أيضا ليجيد القتال. - بلا شك. - ولكن، أيستطيع فرس أو كلب أو أي حيوان أن يكون شجاعا ما لم يكن غضوبا متحمسا؟ ألم تلاحظ أن الحماسة لا تغلب ولا تقهر، وأنها إذا تملكت نفسا فلن تخشى شيئا أو تلين لشيء؟ - لقد لاحظت ذلك بالفعل. - وهكذا ترى بوضوح الصفات المطلوبة في الحارس. - أجل. - وتدرك كذلك أن الصفة النفسية هي الحماسة الفياضة. - نعم. - ولكن من كانت لهم هذه الصفات، ألن يكونوا عدوانيين في سلوكهم، بعضهم نحو بعض، ونحو كل مخلوق آخر؟ - الحق أنه ليس من السهل عليهم أن يتغلبوا على هذا الشعور. - ومع ذلك، فمن المحتم عليهم أن يظهروا الوداعة مع مواطنيهم، والشراسة مع أعدائهم، وإلا ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، دون أن ينتظروا حتى يهلكهم الآخرون. - هذا حق. - ولكن ما العمل؟ وأين لنا أن نجد طبيعة تجمع اللين والشدة؟ إن الوداعة والشراسة لتتنافران وتتناقضان. - أجل، هذا واضح. - ومع ذلك، فلو افتقر الحارس إلى إحداهما، لما عاد صالحا لعمله. على أن الجمع بينهما يبدو محالا ، وهكذا يبدو أن من المستحيل أن نهتدي إلى حارس صالح. - أخشى أن يكون الأمر كذلك. - ماذا تعني؟ - أعني أنه توجد بحق طبائع تجمع بين هذه الصفات المتناقضة، التي بدا الجمع بينها مستحيلا. - وكيف يكون ذلك؟ - إن ذلك ليتبدى في حيوانات متعددة، وبخاصة في ذلك الذي كنا نقارنه بحراسنا. فأنت تعلم ولا شك أن طبيعة الكلاب الأصلية هي أن تكون على أعظم قدر من الوداعة بالنسبة إلى من ألفتهم ومن عرفتهم، وأن تكون على عكس ذلك بالنسبة إلى من لا تعرفهم؟ - أجل، أعلم ذلك. - إذن فحل المشكلة ممكن، ولن نكون مخالفين للطبيعة إذا سعينا إلى الاهتداء إلى حارس تتوافر له هذه الصفات. - ذلك لا يبدو مستحيلا. - ولكن ألا يبدو أن من أردناه حارسا ما زال يفتقر إلى صفة معينة حتى يبلغ الكمال في حراسته، وهي أن يجمع إلى الحماسة الفياضة صفات الفيلسوف؟ - إنني لا أفهم ما تعنيه. - إن الصفة التي أتحدث عنها يمكن الاهتداء إليها لدى الكلب أيضا، وهي صفة تستحق التقدير فيه. - أي صفة تعني؟ - أعني أن الكلب يثور كلما رأى غريبا، وإن لم ينله منه أي أذى، على حين أنه يرحب بمن يعرفه، حتى لو لم يتلق منه خيرا. ألم تلاحظ ذلك من قبل؟ - الحق أنني لم أوجه انتباهي إلى هذا الأمر مطلقا، ولكن من المؤكد أن الكلب يسلك كما تقول. ولا جدال في أن هذه صفة طيبة، بل هي صفة الفيلسوف بحق. - كيف ذلك؟ - ذلك لأنه لا يميز صديقه من عدوه إلا على أساس المعرفة أو عدم المعرفة وحدهما. وأظنك ترى معي أن حيوانا يميز ما يحبه مما يكرهه بمقياس المعرفة والجهل، لا بد أن يكون من محبي المعرفة والعلم. - لا يمكن أن يكون الأمر على خلاف ذلك. - حسنا، ولا شك أن محبة المعرفة ومحبة الحكمة، أي الفلسفة، شيء واحد؟ - إنهما حقا شيء واحد. - فلنسلم إذن، ونحن على ثقة من صحة ما نقول، بأن وداعة المرء مع أصدقائه ومعارفه تقتضي أن يكون بطبيعته فيلسوفا محبا للحكمة. - أجل، يمكننا أن نؤكد ذلك ونحن مطمئنون. - وإذن، فمن أردناه أن يكون حارسا صالحا لدولتنا، لا بد أن يجمع بين الفلسفة والحماسة، والاندفاع والقوة.
4
إن مسئولية اختيار هؤلاء الحراس ستقع على عدد قليل من الرجال الذين يتميزون بأنهم فلاسفة حقيقيون، ويعرفون الأشخاص المناسبين للطبقة الحاكمة. ولا يشرح أفلاطون بوضوح كيف تنشأ حكومة الفلاسفة هذه، وإنما يكتفي بالقول بأن من الواجب في جمهوريته أن يصبح الفلاسفة ملوكا، وأن يصبح الملوك فلاسفة. وبعد أن يتولى الفلاسفة زمام الحكم تكون مهمتهم الأولى هي اختيار هؤلاء الذين سيصبحون حراسا.
وتشرح هذه الفقرة كيف سيتم ذلك: - وعلى ذلك لا بد أن ننتقي، من بين حراسنا، أشدهم إخلاصا لهذا المبدأ الأساسي، وهو أن يرعى المرء في كل ما يفعل مصلحة الدولة وحدها. وعلينا أن نختبرهم منذ طفولتهم، بأن نعهد إليهم بالأعمال التي تعرضهم لنسيان هذا المبدأ أو تؤدي بهم إلى الخطأ، ثم ننتقي منهم من يظل يتمسك به، ومن يصعب إغراؤه، بينما نستبعد من لم يكن كذلك. أوليس هذا ما ينبغي عمله؟ - بلى. - كذلك ينبغي أن نعرضهم لأعمال مرهقة ومعارك شاقة، ونلاحظ مدى وجود نفس الصفات فيهم. - الحق معك في هذا. - وينبغي أن يمروا بعد ذلك بتجربة ثالثة، هي أن نغريهم بالسلطة والنفوذ، ونلاحظهم وهم يتسابقون فيما بينهم. وكما يقود المرء الحصان القوي وسط الجلبة والضوضاء ليرى إن كان جبانا، فكذلك ينبغي أن نلقي بمحاربينا في صغرهم وسط أشياء مخيفة ثم نغمرهم بالملذات، ونعجم عودهم خلال ذلك باختبار أقسى من ذلك الذي يختبر فيه المرء الذهب بالنار، لنعلم إن كانوا يقاومون المغريات ويظلوا على استقامتهم في كل الظروف، وإن كانوا حراسا صالحين لأنفسهم وللموسيقى التي تعلموا دروسها، وإن كانوا يحتفظون في كل سلوك لهم بما في الموسيقى من إيقاع وتوافق. مثل هؤلاء الحراس هم أنفع الناس لأنفسهم ولوطنهم. فإذا ما وجدنا منهم شخصا اجتاز، دون أن تشوبه شائبة، كل ما وضعناه له من اختبارات متتابعة في طفولته وشبابه ورجولته، فلننصبه حارسا يرعى شئون الدولة، ولنكلله بألقاب الشرف طوال حياته وبعد مماته، ونخلد ذكراه بأفخم القبور والنصب التذكارية. أما من لم يكن منهم كذلك، فسوف نستبعده حتما. تلك يا جلوكون، في صورة عامة ودون الدخول في التفاصيل، هي الوسيلة التي أرى من الواجب اتباعها من أجل اختيار الحكام والحراس. - يبدو لي أيضا أن هذه خير وسيلة تتبع. - ولكن إن شئنا أن نتكلم بدقة، فالأصح أن نطلق اسم الحراس على أولئك الذين يأخذون على عاتقهم أن يفعلوا ما من شأنه ألا يكون لأعداء الدولة في الخارج المقدرة على إلحاق الضرر بها، ولا لأتباعها في الداخل الرغبة في ذلك، وأن نطلق اسم المساعدين أو منفذي قرارات الحكام على الشبان الذين كنا من قبل نسميهم حراسا.
5
وما إن يتم اختيار الحراس حتى تخول لهم السلطة التي ستكون أوجب للاحترام كلما آمن الناس بأنها مقدرة من قبل. ومن خلال أسطورة أو «كذبة ضرورية» أو «أكذوبة نبيلة»، كما يسميها أفلاطون، يتحتم إقناع الحكام بأنهم ينتمون لطبقة أسمى، وأنهم ولدوا ليكونوا حكاما، والأهم في ذلك أن يدرب باقي المواطنين على الاعتقاد بأنهم ولدوا ليكونوا محكومين، وأن هذه الفروق الطبقية جزء من نظام إلهي. وبشيء من الخجل الذي يرجع لخوفه من عدم تصديق أكذوبته النبيلة بسهولة، نجد سقراط يعرض أسطورته البارعة على جلوكون: - سأقول لهم، مواصلا هذه الأسطورة، إن من الصحيح أنكم جميعا، يا أهل هذا البلد، إخوة، غير أن الله الذي فطركم قد مزج تركيب أولئك الذين يستطيعون الحكم منكم بالذهب. لهذا كان هؤلاء أنفسكم. ثم مزج تركيب الحراس بالفضة، وتركيب الفلاحين والصناع بالحديد والنحاس. ولما كنتم جميعا قد نبتم من بذرة واحدة، فإن أبناءكم، على الرغم من أنهم يشبهون آباءهم عادة، قد يأتون أحيانا من الفضة لأبوين من ذهب، أو من الذهب لأبوين من الفضة، وكذلك الحال في المعادن الأخرى. لهذا عهد الله إلى الحكام أولا وقبل كل شيء برعاية الأطفال، وبالعناية الكبرى بالمعدن الذي يدخل في تركيب نفوسهم. فإن دخل في تركيب أبنائهم عنصر من النحاس أو الحديد، فينبغي ألا تأخذهم بهم رحمة ، وأن يعاملوا طبيعتهم بما تستحقه، ويدخلوهم في زمرة الصناع أو العمال، أما إذا أنجب هؤلاء الأخيرون أبناء يمتزج بهم الذهب أو الفضة، فعليهم أن يقدروهم حق قدرهم، ويرفعوهم إلى مرتبة الحراس أو المحاربين، إذ إن هناك نبوءة تقول إن الدولة تفنى لو حرسها الحديد والنحاس. والآن فهل تعرف وسيلة لبث الإيمان بهذه الأسطورة في النفوس؟ - لست أعرف أي وسيلة تصلح للجيل الحالي، غير أن في وسع المرء أن يدفع أبناءه إلى تصديقها، ومن بعدهم ذريتهم ورجال المستقبل.
6
وبعد أن يتم اختيار الحراس وتخويلهم السلطة، تبقى مهمة تنظيم حياتهم لضمان أعظم قدر من الوحدة، ويتحقق هذا بأن يطلب منهم أن يشارك بعضهم بعضا في الخيرات والبيوت ووجبات الطعام. أضف إلى هذا أن الحراس لن يعرفوا أي نوع من الجشع أو الشهوة التي يمكن أن تزرع الخلاف بينهم وتصرفهم عن أداء مهمتهم: - إن من الواجب أولا ألا يكون لأي منهم شيء يمتلكه هو وحده، إلا عند الضرورة القصوى، وبعد ذلك ينبغي ألا يكون لواحد منهم منزل أو مسكن لا يدخله غيره. أما الغذاء الضروري لتكوين رياضيين محاربين أقوياء شجعان، فسوف يمدهم منه مواطنوهم، لقاء خدماتهم، بالكميات التي تكفيهم عاما واحدا بالضبط، لا يزيد ولا ينقص. وعليهم أن يتناولوا وجباتهم معا ويعيشوا جماعة كالجنود في ساحة القتال. وأما الذهب والفضة، فسنؤكد لهم أن لديهم في نفوسهم على الدوام ذهبا وفضة وهبهما لهم الله، وأنهم ليسوا بحاجة إلى ذهب الناس وفضتهم، وأن من العار أن يفسدوا ما يمتلكون من الذهب الإلهي بإضافة الذهب الأرضي إليه، إذ إن ذلك الذهب الذي يتنافس عليه العامة كان مبعثا لشرور لا حصر لها، على حين أن الذهب الذي يكمن في نفوسهم من معدن نقي، وأنهم هم وحدهم، دون بقية المواطنين، الذين ينبغي عليهم ألا يجمعوا مالا أو يمسوا ذهبا، أو أن يئويهم هم والذهب سقف واحد، أو أن يلبسوا حليا تزدان بها أجسامهم، أو أن يشربوا في أكواب من الفضة أو الذهب. ففي هذه الحياة وحدها يكون خلاص نفوسهم وخلاص الأمة. ذلك بأنهم لو تملكوا كالآخرين حقولا وبيوتا وأموالا، لتحولوا من حراس إلى تجار وزراع، ومن حماة للمدينة إلى طغاة وأعداء لها، ولقضوا حياتهم مبغضين ومبغضين، خادعين ومخدوعين.
7
وسوف تحكم المدينة على أفضل وجه عندما يتفق العدد «الأكبر من الناس على إطلاق كلمات «ملكي» أو «ليس ملكي» على نفس الشيء. ويجب أن تكون هناك مشاركة في اللذة والألم، لأن «الفردية في هذه المشاعر قوة عاملة على التفكك». ومن الواجب أن تكون هذه الوحدة قوية بين الحراس بصفة خاصة، ولهذا السبب يلزم أن تكون هناك مشاعية في الزوجات والأطفال، حتى يعتقد المواطن أن كل شخص يقابله هو أخ له أو أخت، أو أب أو أم، أو ابن أو ابنة، أو حفيد أو جد. هذا القانون سيجعلهم حراسا حقيقيين، ويحول دون تمزق المدينة، الذي يمكن أن يحدث إذا أطلق كل فرد كلمة «ملكي» على أشياء مختلفة وليس على نفس الشيء، وإذا أخذ الجميع ما يستطيعون أخذه لأنفسهم، وجروه معهم عائدين إلى بيوتهم الخاصة المختلفة، وإذا اتخذ أي فرد لنفسه زوجة وأطفالا، وغرس بذلك في المدينة المباهج الفردية وأحزان الأفراد ...»
وتتم الزيجات، أو بمعنى أدق المعاشرات الجنسية، طبقا لمبادئ صارمة لتحسين النسل، وهنا نجد أفلاطون يرجع مرة أخرى إلى استخدام «الأكاذيب الضرورية». - فإن كنت مشرعا، فعليك أن تختار للرجال الذين انتقيتهم أقرب النساء إلى طبيعتهم، ثم تجمع بين هؤلاء وأولئك، فيكون للجنسين معا نفس المسكن ونفس الطعام، ما دام من المحظور على أحد أن يملك شيئا لنفسه. ويعيشون معا، ويختلطون معا في الرياضة البدنية وفي بقية التدريبات، ويشعرون برابطة قوية تجمع بينهم بالطبيعة. أليس من الضروري أن يحدث هذا؟ - ربما لم تكن هذه ضرورة هندسية، ولكنها ضرورة قامت على الحب، وهي بالنسبة إلى البشر أقوى وأقدر على الجمع بينهم من الضرورة الأولى. - هذا صحيح، ولكن ترك الاجتماع بين الأزواج، أو أي عمل آخر مشترك بينهم، يتم اتفاقا دون نظام، هو أمر لا تقره الشرائع، ولا يسمح به الحكام في أي مجتمع يحيا مواطنوه حياة فاضلة. - الحق أن هذا لن يكون أمرا مستحبا. - فمن الواضح إذن أننا نود أن تكون الزيجات أقدس ما يمكن أن تكون، وهذه القداسة تتوافر في الزيجات التي تجلب أفضل النتائج. - هذا رأيي تماما. - فكيف نحصل على أفضل النتائج؟ ذلك ما لا يتعين عليك إجابته يا جلوكون؛ إذ إنني أرى في بيتك عديدا من كلاب الصيد والطيور الأصيلة، ولا بد أنك لاحظت شيئا في مسألة التزاوج والتناسل بينها. - وما هو؟ - ألا يوجد، بين هذه الحيوانات ذاتها، ما هو خير من الباقين، وإن تكن كلها أصيلة؟ - بالطبع. - فهل تسمح بأن يتناسل الجميع دون تمييز، أم أنك تحرص على أن يتناسل أصلحها فحسب؟ - الأصلح. - وأيها تفضل لهذا الغرض: الأصغر، أم الأكبر، أم الناضجين؟ - أفضل الناضجين. - وإن لم توجه مثل هذه العناية إلى تناسل طيورك وكلابك، فإن نوعها سيتدهور كثيرا، أليس كذلك؟ - بلى. - وهل الأمر على خلاف ذلك في حالة الخيل وغيرها من الحيوانات؟ - محال أن يتغير. - يا إلهي، إننا سنحتاج إلى مهارة فائقة في حكامنا، إن كان هذا يصدق على جنس البشر أيضا. - إنه لكذلك قطعا، ولكن لم كان تعين أن تتوافر فيهم هذه المهارة؟ - ذلك لأنه سيكون عليهم أن يستخدموا كميات كبيرة من ذلك الدواء الذي تحدثنا عنه من قبل، إذ يبدو أن طبيبا واحدا، حتى لو لم يكن ماهرا قط، يكفي لمعالجة أناس لا يحتاجون إلى أدوية، وإنما يودون أن يتبعوا نظاما دقيقا في المآكل فقط، أما إذا كان استخدام الأدوية ضروريا، فسيقتضي ذلك طبيبا ماهرا. - هذا صحيح، ولكن ما الذي ترمي إليه من كل ذلك؟ - يبدو لي أن الحكام سيضطرون إلى أن يلجئوا كثيرا إلى الكذب والخداع من أجل نفع تابعيهم، ولقد قلنا من قبل إن هذا النوع من الكذب نافع بوصفه دواء. - إن لنا كل الحق في أن نقول ذلك. - وهكذا يبدو أن هذا المبدأ السليم سيلعب في الزواج وفي إنجاب الأطفال دورا ليس بالهين. - وكيف ذلك؟ - من الضروري، تبعا للمبادئ التي أقررناها، أن يتزاوج هذا النوع الرفيع من الجنسين على أوسع نطاق ممكن، وأن يتزاوج النوع الأدنى على أضيق نطاق ممكن. ولا بد من تربية أطفال الأولين، لا الآخرين، إن كنا نود أن نحتفظ للقطيع بأصالته. ومن الناحية الأخرى، فعلى الحكام أن يدركوا وحدهم سر هذا الإجراء، كما يتجنبون على قدر استطاعتهم كل خلاف داخل قطيع الحراس. - هذا عين الصواب. - وعلى ذلك، فسنقيم احتفالات نجمع فيها بين الشبان والشابات، ونقدم فيها القرابين، ونعهد إلى شعرائنا بتأليف أناشيد تلائم حفلات الزواج. أما عدد هذه الاجتماعات السنوية، فسنترك تحديده للحكام حتى يستطيعوا أن يحتفظوا بعدد السكان ثابتا بقدر الإمكان، مع حساب ما يمكن أن تستتبعه الحروب والأمراض وغيرها من الحوادث من خسائر. فعليهم أن يحرصوا بقدر الإمكان، على ألا تغدو دولتنا كبيرة أو صغيرة أكثر مما ينبغي. - هذا حسن. - يبدو لي أن عليهم اختراع نوع من القرعة المدبرة، والتي يظن معها الأعضاء الأقل شأنا أن السبب في نتيجة الاقتراع هو سوء حظهم لا تدبير الحكام. - تماما. - وفضلا عن ذلك فإن الشبان الذين يبلون بلاء حسنا في الحروب وغيرها من المهام، يمنحون مكافآت وامتيازات، منها زيادة عدد مرات معاشرتهم للنساء، إذ إن تلك في الوقت ذاته ذريعة معقولة للحصول منهم على أكبر عدد ممكن من الأطفال. - هذا صحيح. - أما الأطفال، فعندما يولدون، يعهد بهم إلى هيئة تتولى شئونهم، تتكون إما من رجال أو من نساء، وإما من الجنسين معا، ما دامت المهام العامة مشتركة بين الرجال والنساء. - حسنا. - ومن الواجب أن يعنى هؤلاء الموظفون بأبناء صفوة المواطنين، ويعهدوا بهم إلى مربيات يقطن وحدهن مكانا خاصا من المدينة، أما أطفال المواطنين الأقل مرتبة، وأولئك الذين يولدون وفي أجسامهم عيب أو تشويه، فعليهم أن يخبئوهم في مكان خفي بعيد عن الأعين. - أجل، إذا أردنا المحافظة على نسل الحراس. - وعليهم أن يعنوا بتغذية الأطفال، وينقلوا الأمهات إلى دور الحضانة عندما تمتلئ أثداؤهن باللبن، مع اتخاذ كل التدابير الكفيلة بألا تتعرف الأمهات على أطفالهن. فإن لم يكن في وسع الأمهات أن يرضعن ، فلا بد من إيجاد مرضعات. ومن الواجب تحديد الوقت الذي تقوم فيه الأمهات بالرضاعة، بحيث لا يقمن بالسهر على الأطفال، لأن هذه وغيرها من الأعمال من شأن المربيات والخدم. - إن هذه التدابير من شأنها أن تجعل الأمومة أمرا هينا بالنسبة إلى نساء الحراس. - هكذا ينبغي أن تكون، ولكن لنواصل بحث موضوعنا. لقد قلنا إن إنجاب الأطفال يجب أن يتم بواسطة أناس ناضجين. - هذا صحيح. - ألا تظن معي أن المدة المعتادة لهذا النضج هي عشرون عاما للمرأة وثلاثون للرجل؟ - أي الأعوام تعني؟ - أعني أن للمرأة أن تنجب للدولة أطفالا منذ سن العشرين حتى الأربعين، أما الرجل، فبعد أن يجتاز أشد فترات العمر حماسة للسباق، يظل ينجب للدولة أطفالا حتى الخامسة والخمسين. - الحق أن هذه هي الفترة التي تبلغ فيها القوى الجسمية والذهنية، عند الجنسين، أقصى مداها. - فإذا حاول رجل أن ينجب أطفالا للدولة قبل هذه السن أو بعدها، فسنتهمه بأنه آثم في حق الدين والعدل؛ إذ إنه، لو أفلح في إخفاء ميلاد أطفاله، فمعنى ذلك أنه يأتي للدولة بأطفال لم يقترن مولدهم ببركات القرابين والصلوات التي يقوم بها الكهنة والكاهنات وكل هيئة دينية في الدولة لكل زواج، مبتهلين أن تنجب الصفوة المختارة من الناس أبناء خيرا منهم، وأن ينجب النافعون للدولة أطفالا أنفع لها منهم. أما هذا الذي يفعله أولئك، ففيه مخالفة وإباحية شنيعة. - هذا حسن. - وينطبق نفس الحكم على الرجل الذي بلغ سن النضج، حين يحاول أن ينجب من امرأة بلغت نفس السن دون أن يكون الحاكم قد جمع بينهما؛ إذ إن الطفل الذي يهبانه للدولة في مثل هذه الظروف، دون أن يكون القانون أو الدين قد باركهما، لا يكون بالنسبة إلينا إلا لقيطا. - هذا عين الصواب. - فإذا تجاوز الرجل أو المرأة سن الإنجاب للدولة، فأرى أن نترك للرجال حرية الاختلاط بمن يشاءون من النساء، فيما عدا بناته، وبنات بناته، أو أمه أو جدته، ونترك للنساء نفس الحرية، مع استثناء الأبناء والآباء والأحفاد والأجداد. ولكنا إذ نترك لهم تلك الحرية ، ينبغي أن ننبههم إلى أن يحرصوا كل الحرص على ألا ينجبوا للدولة أي طفل، فإذا لم تفلح احتياطاتهم، فليضعوا في أذهانهم أن يتخلصوا منه، لأن الدولة لن تستطيع أن تربي طفلا كهذا. - تلك تدابير حكيمة. ولكن على أي نحو يميزون آباءهم وبناتهم وغيرهم من الأقارب الذين ذكرتهم؟ - لن يستطيعوا تمييزهم قط. وإنما ينبغي أن ينظر الرجل، منذ الوقت الذي يبدأ فيه زواجه، إلى كل الأطفال الذين يولدون في الشهر السابع أو العاشر، الذكور منهم على أنهم أبناؤه، والإناث على أنهن بناته، وعلى هؤلاء الأطفال أن يدعوه بالأب، وعليه أن يعد أبناء هؤلاء أحفادا له، كما يعدونه هم جدا لهم، وامرأته جدة لهم. كذلك ينبغي أن ينظروا إلى الأطفال الذين يولدون في الفترة التي ينجب فيها آباؤهم وأمهاتهم على أنهم أشقاء وشقيقات لهم، وبهذا يمتنعون فيما بينهم، كما ذكرت، عن كل اختلاط جنسي. ومع ذلك فإن القانون يسمح بزواج الأخ من الأخت، إذا شاء الاقتراع ذلك، وإذا ما أيدته نبوءة دلفي. - هذا عين الصواب. - على هذا النحو، أو ما يشابهه، سيكون شيوع النساء والأطفال بين الحراس في الدولة.
8
وتتمكن زوجات الحراس، بعد تحررهن من مهمة تربية الأطفال ورعاية أسرهن، من مشاركة أزواجهن في تحمل أعباء حكم المدينة. ويوجه سقراط إلى جلوكون هذا السؤال: - هل توافق إذن على أن تشترك النساء مع الرجال في كل شيء، كما قلنا من قبل، أعني في شئون التربية والأطفال وحراسة بقية المواطنين، وأن على النساء، سواء ظللن في المدينة أم ذهبن إلى الحرب، أن يسهمن في حراسة الدولة، ويشتركن مع الرجال، كما تفعل إناث الكلاب حين تشارك ذكورها في الصيد والحراسة، وأن يتقاسمن معهم كل شيء؟ أتوافق على أن يفعلن كل هذا بقدر ما في وسعهن، وألا يتجاوز النظام الذي وضعته الطبيعة بين الرجل والمرأة، وذلك في الأمور التي خلقت للجنسين القدرة على التعاون فيها؟ - أوافق على ذلك.
9
ولا ينبغي أن يسمح للعلاقات بين الرجال والنساء أن تخل بحياة المجتمع. والواقع أن أفلاطون لا يعترف إلا بالحب بين أشخاص من نفس الجنس، ولكنه يشترط حتى في هذه الحالة أن يخلو الحب من العواطف المشبوبة: «إن الحب الصادق هو أن تحب بروح معتدلة ومتناغمة كل ما هو متسق وجميل.» ويقول سقراط لجلوكون: «وفي المدينة التي نقوم بتأسيسها، سوف نضع قانونا يمكن بمقتضاه أن يقبل المحب حبيبه، وأن يصاحبه ويعانقه كما لو كان ابنه، وذلك - إذا كان مقتنعا به - حبا في الجمال، ولكن علاقاته بالشخص الذي يتعلق به ستتوخى في جميع الأمور الأخرى ألا تثير شبهة تجاوز هذه الحدود. وإذا تصرف بصورة مخالفة، فسوف يجر على نفسه الاتهام بالذوق السيئ والسوقية.»
وهكذا تقوم الحكومة في دولة أفلاطون المثالية على عاتق طبقة من ذوي المواهب العالية من الرجال والنساء الذين تخلوا عن الملكية والامتيازات المادية، وأقبلوا على الزواج والإنجاب بما يتفق مع مصلحة الدولة، واحتقروا العواطف والمشاعر الأنانية. ولكن هناك بين الحراس أنفسهم من هم أصلح للحكم من غيرهم. فالذين تغلب عليهم الطبيعة الفلسفية سيصبحون حكاما، بينما يصبح الأقل منهم ذكاء والأكثر ميلا للرياضة العنيفة مساعدين أو جنودا، ويشكلون جيشا نظاميا محترفا: - وهكذا يتعين علينا، يا صديقي، أن نوسع نطاق الدولة إلى حد بعيد، بإضافة جيش كامل يخرج لملاقاة الأعداء ويذود عن ممتلكات الدولة ضد كل معتد، ويستولي على ما يمتلكه الأعداء. - ولم ذلك؟ ألا يستطيع المواطنون أن يتولوا ذلك بأنفسهم؟ - كلا، وذلك إذا ما كان المبدأ الذي اتفقنا عليه حين أسسنا الدولة صحيحا. فلعلك تذكر أننا اتفقنا على أنه من المحال على فرد واحد أن يجيد عدة حرف في آن واحد. - هذا صحيح. - ولكن أليست الحرب فنا وحرفة؟ - بلى. - وهي فن يتطلب من الانتباه ما تتطلبه حرفة الحذاء على الأقل؟ - بلا شك. - غير أننا لم نسمح للحذاء بأن يكون زارعا أو نساجا أو بناء، وإنما جعلناه يقتصر على صنع الأحذية كيما يتقن صنعته. كذلك جعلنا لكل صانع آخر حرفة واحدة، وهي التي أتقنها ومارسها طوال حياته، فاستبعدنا عنه كل حرفة أخرى، بحيث إنه لم يعد يدخر وسعا للوصول في حرفته إلى حد الكمال. فإن كان الأمر كذلك، ألا ترى أن من أعظم الأمور أهمية أن تمارس الحرب كما ينبغي؟ وهل تظن أن من السهل ممارسة هذه المهنة، بحيث يستطيع الزارع أو الحذاء أو أي صانع آخر أن يكون محاربا في نفس الوقت، على حين أن المرء لا يجيد لعبة النرد إلا إذا تدرب عليها منذ طفولته، ولم يقتصر على اللعب في أوقات فراغه؟ وهل يكفي أن يتناول المرء رمحا أو أي سلاح آخر، كيما يصبح في الحال جنديا مدربا في أي فرع من فروع الجيش، بينما نحن نعلم عن يقين أننا مهما تناولنا من أدوات في أي فن آخر، فلن نصبح صناعا أو رياضيين؛ إذ إن الأداة لن تجدي شيئا لمن لم يكتسب معرفة بكل فن ولم يتلق التدريب الضروري فيه.
10
وهناك فقرة في بداية «الجمهورية» تشير، على ما يبدو، إلى إيمان أفلاطون بأن المدينة المثالية بحق ستستغني عن وجود جيش؛ لأن الناس سيحيون حياة بسيطة، ولن يفكروا في التوسع في أرضهم لإشباع حاجاتهم، ولأن حب الرفاهية هو الذي يخلق الحروب. ولقد بين سقراط أن المدن تنشأ بسبب عجز الإنسان بحكم طبيعته عن الاكتفاء بنفسه، واضطراره للتعاون مع غيره من الناس، الذين لهم نفس الحاجات مع تفاوت قدراتهم، على تلبية هذه الحاجات. وهؤلاء الناس سيعيشون حياة يتمتعون فيها بالرفاهية والسلام: - فلنتأمل أولا على أي نحو سيعيش أولئك الناس، بعد أن نظمنا حياتهم على هذا النحو. ألن ينتجوا قمحا ونبيذا، ويصنعوا ملابس وأحذية، ويبنوا بيوتا؟ ألن يشتغلوا في الصيف وهم أنصاف عراة، دون أحذية، ويلبسوا في الشتاء ما يكفيهم من الملابس والأحذية؟ إنهم سيصنعون، من أجل طعامهم، دقيقا وشعيرا يخبزونهما ويصنعون منهما شطائر وأرغفة، يجلسون لأكلها إلى جانب قطعة من جذع شجرة أو أغصان مورقة نظيفة، ويضطجعون على أسرة مما يقطعونه من أخشاب، فرشت بالقش أو أعواد الريحان. وهم يولمون مع أطفالهم الولائم، فيحتسون النبيذ وقد اكتست رءوسهم من الأزهار تيجانا، ويسبحون في أغانيهم بحمد الآلهة. وهكذا يحيون معا حياة هنيئة، مع حرصهم على أن يتحكموا في عدد أطفالهم حسب مواردهم ، خشية إملاق أو خوفا من الحرب.
وهنا اعترض جلوكون قائلا: ولكنك قد أطعمت هؤلاء الناس خبزا جافا فحسب. - هذا صحيح، لقد نسيت الأطباق الحافلة، ولكن لا شك في أنه سيكون لديهم الملح والزيتون والجبن، وسيطبخون الجذور والخضر كما يفعل ملاحونا اليوم. أما الفاكهة فسيكون لهم منها التين والكمثرى والبندق، كما يقومون بصنع النبيذ ويشربون منه باعتدال. وبمثل هذا الغذاء تمضي حياتهم في سلام، وتصح أبدانهم ويصلون إلى الشيخوخة، فيورثون هذه الحياة لأبنائهم. - إنك لو كنت تنظم مدينة من الخنازير، لما جعلتهم يعيشون على نحو يخالف ذلك. - فماذا تود إذن أن تمنحهم إياه؟ - متع الحياة المألوفة. فلزام علينا، إن شئنا أن نجعلهم في رغد من العيش، أن نجلسهم على أرائك، ونطعمهم على مناضد، ونقدم إليهم من الطعام والحلوى ما نعرفه اليوم. - حسنا جدا، لقد فهمت الآن. فموضوع بحثنا ليس إذن مسألة قيام الدولة، وإنما قيام الدولة المترفة. وربما لم يكن في هذا البحث ضرر؛ إذ إن تأمل دولة كهذه يجعل من الأسهل علينا إدراك نشأة العدل والظلم. على أني أعتقد أن التركيب الذي رسمته للدولة هو التركيب الصحيح السليم. أما إذا شئت أن ترى دولة بلغت قمة الترف، فليس لدي اعتراض؛ إذ إنني أعتقد أن هناك من لا يرضون عن هذه الحياة البسيطة، وإنما يودون إضافة الأرائك والمناضد وغيرها من الأثاث، والحلوى والعطور والبخور والشطائر، وكل الأنواع الممكنة من هذه الكماليات. فهم لا يرون أن الضروريات تنحصر فيما أوضحته من مساكن وملابس وأحذية، وإنما يضيفون إليها اللوحات المرسومة وكل أنواع الزخارف، واقتناء الحلي والعاج وكل غال نفيس، أليس كذلك؟ - أجل. - إذن، فلنوسع دولتنا، ما دامت الصورة الأولى الصحيحة لم تعد كافية. ففي هذه الحالة تحتشد المدينة وتمتلئ بعدد وافر من الناس، لا يدعو إلى وجودهم فيها سوى الحاجات السطحية، ومن أمثالهم مختلف أنواع القناصة والصيادين، والمقلدون الذين يختص بعضهم بالأشكال والألوان، وبعضهم بالموسيقى، وهم الشعراء ومن يصاحبهم من المغنين ، ومن الممثلين والراقصين ومنظمي المسارح، وصناع مختلف الأدوات، وخاصة أدوات الزينة للنساء . وسنضطر إلى زيادة عدد الخدم، ولا إخالك تظن أننا لن نكون بحاجة إلى معلمين ومرضعات ومربيات، ووصيفات وحلاقين وطباخين ورعاة للحيوان، وهم الذين لم نكن بحاجة إليهم في دولتنا السابقة، وإنما أصبحوا الآن لازمين لتربية مختلف أنواع الحيوانات لمن شاء أكلها. أليس كذلك؟ - بلا جدال. - ولكن الحياة على هذا النحو تجعل وجود الأطباء ألزم كثيرا من ذي قبل؟ - أجل، ألزم بكثير. - ثم تصبح الأرض التي كانت تكفي لإطعام ساكنيها، أضيق وأقل من أن تكيفهم. ألا ترى ذلك؟ - هذا صحيح. - وعندئذ، ألن نضطر إلى أن نتعدى على أرض جيراننا، إن شئنا أن يكون لنا من الأرض ما يكفي للزرع والرعي؟ كذلك، ألن يضطر جيراننا بدورهم إلى التعدي على أرضنا، ما داموا قد استسلموا، بعد عبورهم حدود الضرورة، لشهوة التملك الجامحة؟ - هذا أمر لا مفر منه يا سقراط. - وإذن فسوف نشن الحرب.
11
ومن الغريب أن سقراط، على الرغم من أنه يبدو رافضا «لفرض الرقابة على مدينة تعاني من دستور مريض»، لا يحاول إقناع المستمعين لحديثه بأن يتخلوا عن رغبتهم في حياة أكثر راحة، وإنما يقبل النتائج المترتبة على هذه الرغبة، وهي الحرب والاحتياج إلى جيش دائم.
ويتناول أفلاطون بالتفصيل تربية الحراس، بل التربية بصفة عامة، وتعد الجمهورية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، رسالة عن التربية بجانب غيرها من الموضوعات. وتتوزع أقسام التربية، كما هو العرف السائد عند الإغريق، بين التربية البدنية، التي تتضمن التدريب العسكري، والموسيقى. أما عن الموسيقى، فيلاحظ لويس ديكنسون
Lowes Dickinson
أنه «يجب علينا أن نتذكر أن معنى الكلمة اليونانية كان أوسع بكثير من المعنى الذي نفهمه منها اليوم، إذ كان يضم جميع أنواع التثقيف الخلقي والجمالي والعقلي.» ومع ذلك فإن تربية حاكم المستقبل يجب ألا تنحصر في التربية البدنية والموسيقية، ويجب أن يدرب عقله على التفكير والارتفاع فوق الحواس عن طريق دراسة العلوم الرياضية، حتى يكون قادرا على تكريس نفسه لدراسة الفلسفة الحقة، التي يسميها الدياليكتيك (الجدل ): - إذن فمن الواجب تدريس الحساب والهندسة وكل العلوم التي تمهد لتعلم الدياليكتيك في سن الطفولة. ويجب أن نضفي على تلك الدروس صورة لا تنطوي على أي نوع من الإرغام. - لماذا؟ - لأن تعليم الحر ينبغي ألا يتضمن شيئا من العبودية. فالتدريبات البدنية التي تؤدى قهرا لا تؤذي البدن في شيء، أما العلوم التي تقحم في النفس قسرا فإنها لا تظل عالقة في الذهن. - هذا صحيح.
فاستطردت قائلا: وإذن فليس لك، أيها الصديق الكريم، أن تستخدم القوة مع الأطفال، وإنما عليك أن تجعل التعليم يبدو لهوا بالنسبة إليهم. وبهذه الطريقة يمكنك أن تكشف بسهولة ميولهم الطبيعية. - هذه خطة حكيمة حقا. - ألا تذكر، ضمن ما قلناه من قبل، أن علينا أن نجعل أطفالنا يشاهدون الحروب وهم على ظهور الخيل، حتى إذا ما زال خطرها اقتربنا بهم من ميدان المعركة لنذيقهم طعم الدم كما نفعل مع صغار الكلاب؟ - إنني لأذكر ذلك. - وإذن فسنفعل الشيء عينه في كل هذه الدراسات والتدريبات والمخاطر، بحيث نختار من يبدي فيها مزيدا من التفوق، لنضعه في قائمة منتقاة. - في أي سن؟ - في السن التي يترك فيها الأطفال مرحلة تدريبهم البدني الإجباري، إذ إنه خلال هذا الوقت، الذي يدوم ما بين سنتين وثلاث سنوات، يكون من المستحيل عليهم أن يفعلوا شيئا آخر، لأن الإرهاق والنعاس عدوان للدرس. كذلك فإن هذه المرحلة البدنية تنطوي على اختيار عظيم الأهمية، ندرك منه مدى قدرة كل منهم على تحمل أعمال البدن. - بالتأكيد. - وبعد ذلك، نختار من الشباب من بلغوا سن العشرين، ونضفي عليهم مزيدا من التكريم. وهكذا نلقنهم تلك العلوم التي عرفوها منفصلة في طفولتهم، في صورة متجمعة مترابطة، حتى يدركوا العلاقات التي تربطها بعضها ببعض، وتربطها بالوجود الحقيقي في الوقت نفسه. - لا شك في أن هذا هو النوع الوحيد من المعرفة الذي يرسخ في الأذهان بحق. - وهو أيضا خير معيار تميز به المواهب القادرة على دراسة الدياليكتيك؛ إذ إن الذهن القادر على النظر إلى الأمور نظرة شاملة، هو الأصلح للدياليكتيك. - إنني لأوافقك على ذلك. - وإذن فسوف تلاحظ هذه الصفات عن كثب، وتختار أولئك الذين يملكونها أكثر من غيرهم، والذين يثبتون أعظم قدرة على استيعاب العلوم، وأكبر قدرة على رباطة الجأش في الحروب وغيرها من الواجبات المفروضة عليهم. وعندما يبلغون سن الثلاثين، سنضفي عليهم مزيدا من التكريم، ونختبرهم عن طريق الدياليكتيك، باحثين بذلك عن أولئك الذين يمكنهم الارتقاء إلى الوجود الخالص سعيا وراء الحقيقة، دون معونة العين أو أي حاسة أخرى. وهذه، أيها الصديق، هي المرحلة التي يتعين علينا فيها أن نحتاط إلى أبعد حد.
12 - فإذا ما كرس المرء نفسه تماما لهذه الدراسة، وثابر عليها وحدها دون انقطاع، مثلما ثابر من قبل على تدريب جسمه، فهل يكفيه أن يخصص لها ضعف عدد السنين التي خصصها للتدريب البدني؟ - أتعني ست سنوات أم أربعا؟ - لنجعلها خمسا كي لا نختلف، وبعد ذلك سنعيدهم إلى الكهف الذي تحدثنا عنه، ونرغمهم على تولي المهام العسكرية وكل الوظائف التي يصلح لها الشبان، حتى لا يكونوا أقل خبرة من الباقين. وخلال عملهم في هذه المهام يمكنك أن تتحقق، مرة أخرى، مما إذا كانوا سيصمدون لكل المغريات التي تتجاذبهم من جميع الجهات، أم أنهم سينقادون لها. - وكم من الزمن تخصص لهذه المرحلة؟ - خمسة عشر عاما. وعندما يبلغون سن الخمسين، علينا أن نأخذ منهم أولئك الذين صمدوا لكل التجارب، والذين تميزوا عن كل من عداهم في الشئون العملية وفي المعرفة، فنسير بهم نحو الهدف النهائي. وعلى هؤلاء أن يرفعوا عين النفس ليتأملوا ذلك الذي يضفي النور على كل شيء. فإذا ما عاينوا الخير في ذاته، فإنهم سيتخذونه نموذجا ينظمون تبعا له المدينة والأفراد، وكذلك أنفسهم أيضا. وخلال ما تبقى لهم من العمر، يكرسون للفلسفة أكبر قدر من وقتهم، ولكن إذا ما جاء دورهم، فإنهم يتولون زمام السياسة، ويتناوبون الحكم من أجل المصلحة العامة وحدها، ويرون في الحكم ذاته واجبا لا مفر منه، أكثر من كونه شرفا. وبعد أن ينشئوا في كل جيل مواطنين آخرين على شاكلتهم، ليحلوا محلهم في رعاية الدولة، ينتقلون إلى سكنى جزر السعداء. أما الدولة فإنها تقيم لهم النصب التذكارية وتقدم من أجلهم القرابين، وتعدهم آلهة مباركين، إذا سمحت النبوءة «البيثية» بذلك، وإلا عدتهم نفوسا بشرية فيها نفخة من الروح الإلهية على الأقل. - إن الصورة التي قدمتها لحكامنا لرائعة بحق، وإنها لصورة يعجز عن صوغها أبرع مثال. - وهي تنطبق أيضا على حاكماتنا يا جلوكون؛ فلا تظن أن ما قلته يسري على الرجال دون النساء، بل إنه لينطبق عليهما معا، ما دام هؤلاء يتمتعن بالمواهب اللازمة.
13
لقد أوشك اهتمامنا حتى الآن أن ينصب على اختيار الحراس وتربيتهم والمنظمات التي تدبر شئونهم، لكي يؤهلوا للقيام بواجبهم في حكم المدينة والدفاع عنها. ولكننا لم نذكر شيئا عن الأمور التي تتعلق بالإنتاج والتوزيع، ولا عن الفلاحين، والصناع والتجار الذين لا تستغني عنهم الحياة في المدينة. والواقع أن أفلاطون لم يهتم بهم إلا قليلا، لأنه تصور أنه إذا وجدت الحكومة الصالحة، فإن سائر ما في الدولة يمكنه أن يعنى بنفسه. ولهذا فإن الجمهورية تعتبر وصفا للطبقة الحاكمة المثالية، أكثر مما هي وصف للدولة المثالية؛ لأنها تتكلم قليلا عن المنتجين الذين يبدو أنهم تركوا لتنظيماتهم القديمة. وبهذا تقع مهمة التشريع للأمور المتعلقة «بالعامة» على عاتق الفلاسفة: - ولكن خبرني، أيجدر بنا أن ننظم قوانين شئون الأسواق، كالمعاملات بين البائعين والمشترين، والعقود التجارية، والأمور المتعلقة بالاعتداء بالسباب أو القذف، وإجراءات رفع الدعوى في المحاكم، وتكوين القضاة، وجباية الضرائب ودفعها في الأسواق والموانئ، وبقية الشئون المتعلقة بإدارة الأسواق وتنظيم الطرق ومرور السفن وما شاكلها؟ - كلا، لست أرى ما يدعونا إلى أن نضع للأمناء من الناس قواعد يسلكون تبعا لها في هذه الأمور؛ إذ إن في وسع هؤلاء، أن يهتدوا من تلقاء أنفسهم إلى معظمها.
14
ويفتش المرء عبثا في «الجمهورية» عما يدل على كيفية تدبير طبقة المنتجين لشئون حياتهم، غير أن هناك لمحات قليلة تشير إلى أن الملكية الخاصة لم تلغ، وأن الزواج والحياة العائلية قد سمح بهما على الطريقة القديمة. ويبدو أن أرسطو كان على حق في نقده لأفلاطون ، لأنه لم يحدد وضع الهيكل الرئيسي للدولة الذي لا يتكون من الحراس فحسب، بل من مجموع المواطنين الآخرين. إن هؤلاء المواطنين سوف يفضلون في رأي أفلاطون أن يتركوا كل شئون الدولة في أيدي الحراس، وأن يزودوهم بالضروريات الأساسية للحياة في مقابل العمل الإداري الذي يتولونه نيابة عنهم.
وربما يكون أفلاطون، من وجهة نظر ماركسية، قد وقع في تناقض شديد لأنه لم يعط حراسه أي سلطة اقتصادية. فهم صفر الأيدي من الملكية، ولا يسمح لهم بلمس الذهب والفضة، وإذا تلقوا أجورهم على شكل سلع أو منتجات طبيعية، فمن الواضح أنها ستكون أجورا متدنية، لأن الانغماس في الترف محظور عليهم. أما المنتجون فيملكون السلطة الاقتصادية الكاملة، على الرغم من حرمانهم من أي سلطة سياسية. «والنتيجة الضرورية المترتبة على هذا» كما يقول أرسطو «هي أن تكون هناك دولتان في دولة واحدة، وأن تتبادل الدولتان الكراهية والعداوة.» وقد توسع ألكسندر جراي
Alexander Gray
في هذه الفكرة، فلاحظ أن «عصرا غرست فيه أهمية السلطة الاقتصادية، وما زالت تغرس، لن يجد صعوبة كبيرة في تحديد أي الدولتين المتبادلتين للعداوة سيخرج من السباق بأكبر فائدة.»
وإذا كان قيام أفلاطون بالفصل بين السلطة الاقتصادية والسلطة السياسية يبدو للوهلة الأولى أمرا غير واقعي، فمن الخطأ الاعتقاد بأن الحراس واقعون تماما تحت رحمة بقية المواطنين، الذين سيكونون في وضع يسمح لهم بأن يعرضوا الحراس للجوع لو أرادوا ذلك. وإذا لم تكن للحراس سلطة اقتصادية، فإنهم يملكون السلطة العسكرية؛ لأنهم المواطنون الوحيدون المدربون على خوض الحروب. وليس من الصعب التكهن بأن المزارعين إذا رفضوا إمدادهم بالطعام فسوف يسرع المساعدون بإجبارهم على ذلك. وهناك فقرات عديدة تبين أن أفلاطون لم يتخيل أن شئون جمهوريته المثالية ستسير دائما بسهولة ويسر، وأن المساعدين لن يكون من واجبهم الدفاع عن الدولة ضد العدوان الخارجي فحسب، بل سيكون عليهم أيضا أن يدافعوا عنها ضد المتمردين عليها من الداخل.
وعندما يبحث المرء، على سبيل المثال، عن أصلح مكان في المدينة لإقامة معسكراتهم، فإنهم لا يكتفون باختيار الموقع الذي يمكنهم من الرد على الهجمات الخارجية، وإنما يختارون الموقع الذي «يمكنهم كذلك من التصدي لأي خروج على القانون داخل المدينة».
وعلينا أن نتذكر أيضا أن الحراس يتمتعون، في نظر الشعب، بنوع من السلطة الدينية المقدسة؛ فهم مخلوقون من ذهب، ومفضلون على سائر الناس. والذي يثبت أن مثل هذه الأسطورة يمكن تصديقها، هو الاعتقاد الذي ساده لعدة قرون بأن الملوك هم ممثلو الإله على الأرض. وقد أدرك أفلاطون بوضوح أنه يمكن قيام الدولة إذا وضعت الطبقات المنتجة تحت سيطرة طبقة تدين بقوتها للهيمنة العسكرية والدينية. ولو استعرضنا التاريخ كله لرأينا أن وجود الدولة يتضمن تقسيم المجتمع إلى طبقات، ولكن قوة الطبقة الحاكمة لا ترجع بالضرورة إلى ثروتها الاقتصادية، وإنما ترجع إلى وجود أيديولوجيا تكسو هذه الطبقة برداء سلطة أعلى تدعمها القوة المسلحة.
لقد وصف أفلاطون بأنه «يعتبر من بعض النواحي أعظم الثوريين، كما يعد من نواح أخرى أكبر الرجعيين». ولعل الأدق من ذلك أن نقول إنه أكبر ممثل للنزعة الشمولية. فعلى الرغم من أن دولته المثالية يحكمها الفلاسفة، فليس فيها من الحرية أكثر مما لو خضعت لحكام الأقاليم. والواقع أن الحرية فيها أقل؛ لأن الفلاسفة أقدر من هؤلاء على سحق الحرية، وذلك بحكم أنهم أقدر على الكشف عن أي فكرة معارضة لأفكارهم. وهم على استعداد للسماح للمواطنين بقدر ضئيل من الحرية في أمور قليلة الشأن مثل التجارة، أما في شئون الفن والتربية، أي في كل ما يتعلق بالحرية العقلية، فهم قساة لا يعرفون الرحمة على الإطلاق. كما أنهم لا يسمحون بأي تجديد أو ابتكار في مجال التعليم لاعتقادهم بأن ذلك يمكن أن يؤدي إلى عواقب وخيمة: - إذن فعلى حراس الدولة أن يحذروا من أن يفسد أي شخص كما يشاء له هواه، لأن من واجبهم أن يكونوا في يقظة دائمة، لئلا يأتي أحد ببدع مضادة للنظام المتبع في تربية الجسم والنفس. فإذا ما قال الشاعر: «إن الناس يميلون خاصة إلى إحداث ما ينشده المغنون من أغنيات.» فليحرصوا كل الحرص على ألا يتوهم أحد أن الشاعر يقصد طريقة جديدة في الغناء، لا أغنيات جديدة، أو أنه يحض الناس على اتباع هذه البدعة. فليس لنا أن نطري قول الشاعر هذا، ولا أن نفسره على هذا النحو؛ إذ إن ابتداع طريقة جديدة في الموسيقى شيء يجب أن نحذره، ففي ذلك إفساد تام للمجتمع، إذا كان صحيحا ما يقول به دامون
Damon ، وما أومن به بدوري، من أن المرء لا يستطيع تغيير طرق الموسيقى دون أن يقلب معها الموازين الأساسية للدولة رأسا على عقب. - ينبغي أن تدرجني أنا أيضا ضمن أنصار هذا الرأي. - ففي ميدان الموسيقى هذا إذن يتعين على الحراس أن يكونوا يقظين في حراستهم. - من المؤكد أن خرق قوانين الدولة يتم في هذا الميدان بسهولة بحيث لا يشعر به أحد. - أجل، إنه ليتم باسم اللهو، دون أن يبدو على المرء أنه يرتكب شيئا ضارا. - تماما، فهذه هي الطريقة التي يحدث بها، إنه ليثبت أقدامه رويدا رويدا، ويتغلغل خلسة في عادات الناس وطباعهم، حتى إذا ما تمكن من نفوسهم، انتقل إلى المعاملات التي تسير عليها الحكومة بكل جرأة، بحيث لا يترك في النهاية شيئا إلا وقوض أركانه، سواء في الحياة الخاصة أو في الحياة العامة.
15
من الضروري في جمهورية أفلاطون أن تتماشى الموسيقى والأدب والعمارة والتصوير مع معايير أخلاقية معينة. ويتوقف الفن عند كونه تعبيرا عن الشخصية الفردية؛ لأن عليه أن يخدم مصالح الدولة وحسب. والدولة هي التي تحدد ما هو خير وما هو شر، وما هو جميل أو قبيح. ولهذا يجب أن تمنع الآلات الموسيقية والإيقاعات التي «تعبر عن الانحطاط والغرور، أو عن الجنون أو غيره من الشرور»، كما يجب أن يجبر الشعراء على أن «يطبعوا على قصائدهم صورة الخير وحده أو يمنعوا من قرض الشعر»، وإذا لم يستجيبوا لهذا فيجب أن يطلب منهم مغادرة المدينة. ولا بد أن يعبر التصوير والنسيج وأشغال الإبرة والعمارة والحرف الفنية الأخرى عن الإيقاع الجيد والانسجام، وإن كان من الواضح أن أفلاطون يعني بهما الإيقاع والانسجام اللذين تقرهما الدولة.
وقد أدرك أفلاطون إدراكا واضحا العلاقة بين الفن والأخلاق أو، كما نقول الآن ، بين الفن والسياسة. وعلى الرغم من زعمه أنه يدافع عن الحقيقة والجمال، فمن الواضح أنه يريد المحافظة على استقرار الدولة من التأثير الضار للفن الحر. ولهذا فإن عمارة المنازل، شأنها شأن القصيدة، يمكن أن تكشف عن اتجاهات معينة يصفها بأنها خيرة أو شريرة، ومؤيدة للدولة أو ثائرة عليها. لقد تعودنا، منذ أن نشأت الدول الشمولية الحديثة، على وجهة النظر التي تعتبر أن الفنانين يمكن أن يكونوا أعداء خطرين على الدولة، ولا يرجع ذلك فحسب للأفكار التي يعبرون عنها، وإنما يرجع إلى الشكل الذي يمكن أن يتخذه فنهم. وفي السنوات الأخيرة دمرت أو صودرت أعمال فنية؛ لأنها اعتبرت من مظاهر الانحلال البرجوازي، كما تمت «تصفية» كتاب وشعراء وموسيقيين بحجة أنهم مناهضون للثورة أو برجوازيون صغار. ولم يكن من قبيل المصادفة أن يبدأ وصف جمهورية أفلاطون وينتهي بالهجوم على حرية الفنان، وهو في الحقيقة هجوم على حرية الفكر؛ لأنه لم توجد في عصر أفلاطون كتب أو دور نشر، ولم يكن من الممكن أن تظهر أفكار الناس إلا من خلال التعليم الذي كانوا يقومون به أو من خلال إنتاجهم الأدبي والفني. إن المهمة الأولى التي تحرص عليها أي حكومة شمولية هي قمع تلك الحرية، ومحاولة جعل الفنان أداة في يد الدولة، الأمر الذي يؤدي حتما إلى ركود الفن وتدهوره في ظل النظم الشمولية. والفن لا يمكنه أن يصل إلى أسمى تعبير عنه إلا عندما يسمح له بأقصى قدر من الحرية، وهو ما يمكن أن يدل عليه ثراء الإنتاج الفني وتنوعه عند الإغريق. ولو كانت بلاد اليونان القديمة جمهورية شمولية كما تخيلها أفلاطون، بدلا من أن تكون اتحادا فيدراليا بين مدن حرة، لما استطاع رجال مثل هوميروس وسوفوكليس وأرسطوفان، وحتى أفلاطون نفسه، أن ينتجوا روائعهم الأدبية.
إن هذا في حد ذاته سبب كاف لأن يجعلنا نأمل، من صميم قلوبنا، ألا يتحقق أبدا في المستقبل نظام اجتماعي كالنظام الذي يصفه أفلاطون في الجمهورية . ولكن غياب الحرية العقلية ليس هو الشيء الوحيد المنفر في دولة أفلاطون المثالية. فالفكرة التي تقول إن كل إنسان قد وهب القدرة على القيام بمهمة واحدة، ومهمة واحدة فقط، مما أدى إلى التقسيم المصطنع للمواطنين إلى منتجين وجنود وحكام، هي فكرة بعيدة كل البعد عن أبسط الملاحظات النفسية. وإذا كان من المؤكد أن بعض الناس قد وهبوا قدرات تفوق قدرات غيرهم على القيام بمهمات معينة، فإن إنسانا واحدا بعينه يمكن أن ينجز أنشطة متعددة بنفس الكفاءة، وأن تؤدي اهتماماته المتعددة إلى إغناء شخصيته. ولا يستطيع أفلاطون أن يقنعنا كذلك بأن بعض الناس قد ولدوا «بطبيعتهم» لكي يتولوا الحكم، بينما ولد غيرهم لكي يكونوا محكومين؛ لأننا نجد على مر التاريخ أمثلة كثيرة لمجتمعات مزدهرة شارك كل أعضائها في النهوض بشئونها. ولا يملك المرء إلا أن يصفق إعجابا بإرازموس الذي يهزأ، تحت قناع الحماقة، بأفلاطون بسبب ثقته المفرطة في حكم الفلاسفة: «أضف إلى ذلك الثناء الشديد على عبارة أفلاطون الشهيرة: «سعيدة هي الدولة التي يكون فيها الفيلسوف أميرا، أو التي يكرس أميرها نفسه للفلسفة.» ولكنك لو أخذت رأي المؤرخين لوجدت أن أشد الأمراء جناية على دولهم هم الذين سقطت الإمبراطورية في عهدهم تحت رحمة بعض الذين عرفوا الفلسفة أو الأدب معرفة سطحية. والدليل الكافي على صدق هذا الرأي يقدمه أولئك الذين أطلق عليهم اسم كاتو؛ لقد كان أحدهم يزعج سلام الدولة باستمرار بالتهم المصطنعة التي لا يكف عن توجيهها. أما الآخر فقد قضى على حرية الإمبراطورية في الوقت الذي لم يكن يكف فيه عن الدفاع بكل ما أوتي من حكمة عن هذه الحرية. أضف إلى هؤلاء مجموعة الأشخاص الذين تسموا باسم بروتس أو كاسيوس، بل شيشرون نفسه، الذي لم يكن أقل إيذاء لروما من ديموستينس لأثينا. وإلى جانب هؤلاء أذكر لك أنطونينوس (الذي كان في نيتي أن أقدمه لك كمثل واحد على الإمبراطور الصالح، ولكني لا أستطيع أن أفعل هذا بغير مشقة.) فقد أصبح عبئا على رعاياه الذين أبغضوه، لا لسبب إلا لأنه كان فيلسوفا عظيما. وحتى لو سلمنا بأنه كان حاكما صالحا، فقد أضر بالدولة ضررا أشد من خلال ابنه الذي خلفه وراءه. ذلك لأن أمثال هؤلاء الرجال الذين انصرفوا للحكمة هم بوجه عام رجال سيئو الحظ، لا سيما في أولادهم، ويبدو أن الطبيعة هي التي دبرت هذا بفضل عنايتها، حتى لا تنتشر مصيبة الحكمة انتشارا أوسع بين البشر. ولهذا السبب يتضح لك لماذا كان ابن شيشرون ولدا منحلا، ولماذا كان أبناء سقراط - كما لاحظ البعض بحق - أشبه بأمهم منهم بأبيهم، أعني أنهم كانوا حمقى وبلهاء.»
ويمكن أن يتشكك المرء أيضا في فكرة أفلاطون عن التنظيمات الأسرية، التي يتعذر في رأيه أن تتوافق مع وجود دولة شمولية، بينما نجد من وجهة نظر علماء الاجتماع أن المجتمعات البدائية التي لم تظهر فيها الدولة تخلو بوجه عام من التنظيمات الأسرية. فالأسرة بعيدة كل البعد عن معاداة الدولة، بل هي ضرورية لاستقرارها؛ لأن الأطفال الذين تربوا على احترام سلطة الأب سيكونون أكثر استعدادا لتقبل سلطة الدولة. والنظم الشمولية الحديثة بدأت بمحاولة تحطيم الحياة الأسرية، سرعان ما رجعت إلى إقرار التنظيمات الأسرية، بعد أن تحققت من أنها تقدم أفضل ضمان لأمن الدولة.
وإذا كان أفلاطون قد استبد به الخوف من أن تفسد الثروة أو حتى مجرد الراحة نفوس حراسه، فلم يكن يدرك تمام الإدراك أن السلطة، كما يقول اللورد أكتون
Lord Acton «مفسدة، وأن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة». وليس في جمهورية المثالية شيء عن مراقبة سلطة الحكام، كما أننا لا نجد شيئا يمكن أن يمنع المساعدين (أو المحاربين) من التصرف مثل الأسبرطيين الذين كانوا، كما يقول بلوتارك، يبتهجون ابتهاجا شديدا بذبح عبيدهم.
إن من الأمور المحيرة أن تثير جمهورية أفلاطون كل هذا الإعجاب على مر العصور، كما أن من المفارقات الغريبة أن يكون على رأس المعجبين بها رجال تعارضت مبادئهم تماما مع مبادئ أفلاطون. لقد امتدحها شعراء كان أفلاطون سيطردهم من جمهوريته، وأثنى عليها ثوريون ناضلوا من أجل إلغاء العبودية، ويبدو أنهم لم يدركوا أن نظام أفلاطون قد قام على العبودية، وأطراها ديمقراطيون على الرغم من الحقيقة التي تقول إن المرء لا يستطيع أن يتصور حكما أشد استبدادا من حكم الحراس، كما نالت الاستحسان بوصفها نموذجا للمجتمع الشيوعي، مع أن من الواضح أن مشاعية السلع لا تسري إلا على الطبقة الحاكمة، وأن الملكية الخاصة متركزة في أيدي طبقة لا تملك - على العكس مما تقول به المذاهب الماركسية - أي سلطة سياسية.
إن التحمس الذي أبداه العديد من المفكرين المستنيرين لجمهورية أفلاطون يمكن تفسيره من ناحية بأنهم نسبوا إليه أفكارا تمنوا له أنه اعتنقها، ومن ناحية أخرى بأن هؤلاء المفكرين، الذين كانت خبرتهم قليلة عن الدول الشمولية، لم يتصوروا عيوب هذه الدول. ومن سوء حظنا أن أوهامنا عن مزايا الدولة الشمولية، مهما ادعت الحكمة، قد أصبحت قليلة. وأننا قد بدأنا نشعر بأن كل واحد منا يمكنه أن يكون أفضل حارس على نفسه. (2) بلوتارك (من حوالي 46م إلى حوالي 119م): «حياة ليكورجوس»
تنافس أسبرطة أثينا في تأثيرها على الفكر اليوتوبي، وكما اعتبرت أثينا مرادفة لجمهورية أفلاطون، فقد نظر إلى أسبرطة قبل كل شيء من خلال الصورة النموذجية التي قدمها بلوتارك في القرن الأول قبل الميلاد، عن ليكورجوس الذي تصفه الرواية التاريخية المأثورة بأنه هو الذي وضع تشريع أسبرطة. ويقول بلوتارك نفسه إننا «لا نعرف عنه شيئا يقينيا مؤكدا، وأقل ما نعرفه عنه هو العصر الذي عاش فيه»، بل ربما وجد شخصان باسم ليكورجوس، وعاشا في أسبرطة في عصرين مختلفين. ويزعم بلوتارك أن التنظيمات التي تنسب إلى هذه الشخصية شبه الأسطورية قد استمر العمل بها لمدة خمسمائة عام.
وسواء اعتمدت رواية بلوتارك على الحقائق التاريخية، أو كانت من وحي خياله، فليس لذلك أهمية كبيرة، إذ ينصب اهتمامنا هنا على تأثير القوانين والتنظيمات التي وصفها على الدساتير واليوتوبيات المثالية اللاحقة، ولم يكن لهذا التأثير أن يزداد قوة لو كان ليكورجوس قد وجد وعاش بالفعل.
كان ليكورجوس، قبل أن يتولى إدارة شئون أسبرطة، قد أمضى سنوات عديدة في التنقل بين كريت وآسيا ومصر ، حيث يقال إنه استطاع أن يحصل معرفة سياسية بأسلوب علمي.
على نحو ما يقارن الأطباء الأجسام الضعيفة والعليلة بالأجسام الصحيحة والقوية، «كذلك كان ليكورجوس محظوظا عندما كسب تأييد الأسبرطيين الساخطين على حكم الملوك، وتأييد الملوك أنفسهم على أمل أن يصبح الناس في ظل وجوده أقل وقاحة في معاملتهم لهم». ولكنهم سرعان ما اكتشفوا أنه لم يكن من محبي السلام، ولا من المصلحين المتزنين، وإنما كان يبيت النية على القيام بثورة كاملة؛ إذ كان من رأيه أن التغيير الجزئي وإدخال بعض القوانين لن يكون أمرا مجديا، لأنه من الضروري «كما في حالة الجسم المريض المعتل المزاج، الذي تصحح الأدوية مزاجه وتشكله من جديد، أن يبدأ نظاما جديدا في العلاج».
وقد استولى على السلطة عن طريق «الانقلاب» المألوف في أيامنا، وذلك إذا استثنينا استشارته لنبوءة معبد دلفي (والحكام المستبدون في عصرنا يلجئون بوجه عام إلى استشارة إحدى القوى الأجنبية). فقد أمر ثلاثين من المواطنين المسلحين بالظهور في الأسواق في وضح النهار «لإثارة الذعر في كل من يفكر في معارضته». ونجح في بث الخوف في نفس الملكين اللذين منحاه تأييدهما، ثم قام مباشرة بتشكيل مجلس للشيوخ مكون من ثمانية وعشرين عضوا (وهم الرجال الذين ساعدوه في مشروعه، أي في حزبه) بحيث تشكلت منهم، مع الملكين، هيئة من ثلاثين عضوا. وبعد ذلك أصدر أوامره - حرصا منه على سد أي فراغ - باختيار أفضل الرجال المرموقين من بين الشيوخ الذين بلغوا الستين من عمرهم، وتم بالفعل انتخابهم بإجماع الشعب.
أما مجلس الشيوخ، الذي كان من قبل يشارك في «سلطة الملوك، وكانت قوته بلا حد ولا قيد، بل كان يتمتع بسلطة مساوية لسلطة الملوك، فقد كان هو وسيلة إبقائهم (أي الملوك) ضمن حدود الاعتدال، فضلا عن أنه ساهم مساهمة فعالة في الحفاظ على الدولة. وقد كانت أحوال الدول قبل ذلك متقلبة ومضطربة، وكانت تميل حينا إلى السلطة التعسفية، وحينا آخر إلى الديمقراطية الخالصة، ولكن مثل هذا المجلس كان بمنزلة عامل استقرار، وحافظ على توازن الدولة ووضعها في وضع مأمون، وهكذا كان أعضاء المجلس الثمانية والعشرون يقفون في صف الملوك كلما وجدوا الشعب يتجاوز حدوده، كما كانوا من ناحية أخرى يقفون في صف الشعب كلما حاول الملوك أن يجعلوا سلطتهم مطلقة». ومع ذلك فلم يخبرنا أحد كيف تحلى مجلس الشيوخ بمثل هذه النزاهة التي تثير الإعجاب.
وكان يساعد مجلس الشيوخ في أعماله مجلس للشعب، لم يكن له حق المناقشة، بل سلطة قبول أو رفض ما يقترحه عليه مجلس الشيوخ والملوك، وأمر ليكورجوس (من خلال نبوءة معبد دلفي) أن يعقد الشعب اجتماعاته في الهواء الطلق، إذ كان من رأيه أن القاعات المغلقة «لا تعود على المجلس بأي فائدة، وإنما تعوق العمل، لأنها تشتت انتباه أعضائه وتشغلهم بالتفاهات، وذلك بتأمل التماثيل والصور والسقوف الفخمة والانشغال بالزخارف المسرحية».
وبعد أن اطمأن ليكورجوس على استقرار الحكم، وجه اهتمامه إلى المشكلات الاجتماعية. فقد صدمته الفروق الكبيرة بين الأغنياء والفقراء، وصمم على إعادة توزيع الأرض الزراعية. والواقع أن حالة عدم المساواة لم تصدمه، كما سنرى فيما بعد، لأسباب إنسانية خالصة بل لأسباب سياسية، فالثروة ذات تأثير سيئ على الأغنياء، كما أنها تزعزع استقرار الدولة، وهذا الموقف أبعد ما يكون عن موقف الاشتراكيين المحدثين، الذين يهتمون بالمعدة الخاوية للفقراء أكثر من اهتمامهم بالتأثير المفسد للثروات الطائلة على الأغنياء، ولكن ليكورجوس، رغم أنف هؤلاء الذين يريدون أن يجعلوه جدهم الأكبر، لم يكن هو حامي المعدمين والعبيد، كما أن إعادة توزيع الثروة قد تمت داخل الطبقة الحاكمة. لقد كان هدفه هو رفع «البرجوازية الصغيرة» و«الطبقة الرأسمالية» إلى نفس المستوى لتكوين بنية اجتماعية متجانسة وموحدة، ولم يكن هدفه على الإطلاق هو إلغاء الطبقات أو الطوائف. ولو أغفلنا كل ما سبق قوله لاكتسبت الرواية التالية نكهة شيوعية قوية:
كان التقسيم الجديد للأراضي الزراعية هو المشروع السياسي التالي والأكثر جرأة. فقد وجد ليكورجوس أن التفاوت الاجتماعي هائل، وأن المدينة تكتظ بالعديد من المعدمين الذين لا يملكون أرضا، بينما تتركز الثروة في أيدي فئة قليلة. ولما كان قد عقد العزم على أن يستأصل شرور الوقاحة والحسد والجشع والترف، وكل المفاسد المتأصلة في الدولة المتحكمة في مصيرها، وأعني بها الفقر والثراء، فقد أقنعهم بإلغاء كل التقسيمات السابقة للأراضي ليضع تقسيما جديدا يحقق المساواة الكاملة بينهم في الملكية وطريقة المعيشة. وإذا كانوا يطمحون إلى التميز، فعليهم أن يلتمسوه في الفضيلة، إذ لم يبق من اختلاف بينهم، إلا ذلك الذي يجلبه عار الأفعال الدنيئة، أو الثناء على الأفعال الخيرة. وقد وضع اقتراح ليكورجوس موضع التنفيذ، فخصص تسعة آلاف قطعة لإقليم أسبرطة، ووزعها على عدد كبير من المواطنين، وثلاثين ألف قطعة للسكان في بقية أنحاء أسبرطة. ويقول البعض: إنه خصص ستة آلاف للمدينة، وأن بوليدوروس أضاف ثلاثة آلاف فيما بعد، أما البعض الآخر فيقول: إن بوليدوروس ضاعف العدد الذي حدده ليكورجوس، وهو أربعة آلاف وخمسمائة قطعة. وكانت كل قطعة أرض تغل سبعين «بوشل»
16
من الحبوب لكل رجل، واثني عشر لكل امرأة، بالإضافة إلى كمية متناسبة من النبيذ والزيت. وقد رأوا أن هذه الحصة كافية للمحافظة على صحة الفرد وسلامة بدنه، وأنهم لا يحتاجون إلى شيء آخر أكثر من ذلك. وهناك حكاية تروى عن مشرعنا، فبعد عودته من جولة في الحقول التي تم حصدها، ورؤيته لأكوام المحاصيل المتساوية، ابتسم وقال لبعض مرافقيه: «ما أشبه أسبرطة بمزرعة جديدة مقسمة بين عدد كبير من الإخوة.»
وشرع ليكورجوس بعد ذلك في تقسيم الملكية المنقولة، ولكنه كان أقل نجاحا في إقناع الأسبرطيين، واضطر إلى اتخاذ إجراءات غير مباشرة جعلت المال يصبح بصورة أو أخرى عديم القيمة.
فقد بدأ بوقف تداول العملة الذهبية والفضية، وأمر باستخدام النقود الحديدية فقط، ثم قلل من كميات كبيرة وأوزان ضخمة من هذه النقود، بحيث تطلب تخزين عشرة «مينات»
17
مساحة حجرة كاملة، كما احتاج نقلها من مكانها إلى ثورين على أقل تقدير. ولما شاع هذا بين الناس اختفت من أسبرطة ألوان عديدة من الظلم. فمن ذا الذي يفكر بعد ذلك في أن يسرق أو يأخذ رشوة، ومن ذا الذي يخطر على باله أن يحتال على غيره أو ينهبه، إذا كان سيعجز عن إخفاء الغنيمة، ولا يشرفه امتلاكها ولا استخدامها حتى لو قسمت إلى قطع صغيرة؟ فقد سمعنا أن الأسبرطيين كانوا يعرضونها للحرارة ثم يغمسونها في الخل لكي يجعلوها صلبة غير قابلة للثني، ومن ثم غير صالحة لأي استخدام آخر. يضاف إلى هذا أنه استبعد المصنوعات الحرفية غير الضرورية التي لا تدر أي ربح، والواقع أنه لو لم يفعل ذلك لسقطت من تلقاء نفسها؛ لأن تداول العملة الجديدة كان كفيلا بأن يوقف الطلب عليها. ولم يكن من المستطاع أن يتم التعامل بعملتهم الحديدية في بقية أنحاء اليونان؛ إذ إنها أصبحت موضع السخرية والاحتقار، وترتب على هذا أن الأسبرطيين عجزوا عن شراء أي سلع أجنبية أو أي سلع مغرية، كما أعرضت السفن التجارية عن تفريغ حمولتها في موانئهم. وترتب على ذلك أيضا أن اختفى من بلادهم كل أثر للسوفسطائيين، وقارئي الطالع المتجولين، وأصحاب البيوت السيئة السمعة، وبائعي الحلي الذهبية والفضية، وذلك كله لسبب بسيط هو وقف التعامل بالنقود. وهكذا اختفى الترف من تلقاء نفسه، بعد أن فقد بالتدريج كل الوسائل التي كانت تعمل على ترويجه وتدعيمه، وحتى الذين كانوا يملكون (من أدوات الترف) كميات ضخمة لم يستطيعوا الاستفادة منها، إذ لم يكن في الإمكان عرضها بصورة علنية، ولكن كان من الضروري أن تقبع في حالة ركود في المخازن الخفية. ونتج عن هذا أن ظهرت براعة الصنعة في أثاثهم النافع والضروري، كالأسرة والكراسي والموائد، كما أن الكأس الأسبرطية المشهورة التي تسمى كوثون
Cothon ، كما يخبرنا كريتاس، كانت عالية القيمة، وخصوصا خلال الحملات العسكرية؛ ذلك لأن الماء الذي يوضع في هذه الكأس، بحيث تبقى هذه العكارة على الحواف، يصل نقيا إلى الشفتين. والحقيقة أن المشرع كان هو المسئول عن كل هذه الإصلاحات، إذ اتجه الصناع الذين لم يعد يطلب منهم أحد صنع الأشياء المثيرة لحب الاستطلاع، إلى إظهار براعتهم الفنية في الأشياء الضرورية.
وملاحظات بلوتارك عن الكأس الأسبرطية تكتسب طابعا حديثا، بحيث يمكن اعتبارها تعريفا لما نسميه اليوم «بالفن الوظيفي ». وعلى أي حال فقد ضيق على التعبير الفني في أسبرطة، والأمر التالي الذي أصدره ليكورجوس يعطي فكرة عن قسوة ذلك التقشف الأسبرطي الذي صار مضرب الأمثال: «وكانت هناك أوامر أخرى لمحاربة الفخامة والإسراف في النفقات، وتقضي بألا تشيد سقوف المنازل بأداة أخرى غير الفأس، ولا تصنع الأبواب إلا بالمناشير، وكما يروى عن إيبامينونداس
18
أنه قال في وصف مائدة الطعام في بيته: «إن الخيانة لا تختبئ تحت هذه المائدة.» فكذلك أدرك ليكورجوس قبله أن مثل هذا البيت لا يسمح بأي شكل من أشكال الترف والأبهة اللذين لا ضرورة لهما. والواقع أن من السخف أن يجلب الإنسان إلى مسكن شديد البساطة والتواضع أسرة ذات قوائم من الفضة، وأغطية من الأرجوان، وكئوسا ذهبية، بالإضافة إلى سائر النفقات التي تترتب على تلك الأشياء. ولكن الجميع لن يستغنوا عن توفير السرير المناسب للمكان، وغطاء السرير، وبقية الأدوات المنزلية، والأثاث الضروري ...»
والتقشف هو الطابع المألوف لمعظم اليوتوبيات، وقد رأينا أن أفلاطون يعتبر الاعتدال إحدى الفضائل الأساسية لمواطني جمهوريته. أما في أسبرطة فلم ينظر إلى التقشف كأحد المبادئ الأخلاقية فحسب، وإنما كان ضرورة حتمية، لأن أهل «لاكيديمونيا» عاشوا في حالة حرب دائمة، أي في حالة استعداد للحرب. وقد سبق ليكورجوس الدكتاتوريات الحديثة، عندما عرف تمام المعرفة أن النظم المستبدة لا يمكنها أن تعيش، إلا إذا جعلت من الحرب مؤسسة دائمة. ولم يكن توزيع الأراضي وتحقيق المساواة في الدخول مجرد ضرورة تحتمها اقتصاديات الحرب، وإنما كان الهدف منها هو رفع الروح المعنوية في أثناء الحرب. وقد أعيد اختبار فائدة هذه الإجراءات في السنوات الأخيرة، عندما رأينا رؤساء دول محافظين يتبنون تنظيمات من شأنها أن تفرض المساواة في المسئوليات والتضحيات التي لا يمكن الاستغناء عنها، للمحافظة على الروح المعنوية العالية في أثناء الحرب. والفارق الوحيد هو أن أسبرطة عبأت الأشخاص والثروات، وقننت التموين والطعام بشكل مطلق، ربما لم يسبق لأي بلد أن لجأ إليه في حالة الحرب.
ويبدو أن للصبر حدودا حتى عند الأسبرطيين، فقد تمردوا على ليكورجوس عندما أجبرهم على تناول طعامهم في وجبات مشتركة، وهنا نجد مرة أخرى أن الاعتبارات العملية احتلت المرتبة الثانية من حيث الأهمية.
ورغبة منه في القضاء الكامل على الرفاهية واستئصال حب الثروة، شرع ليكورجوس تنظيما ثالثا كان على درجة كافية من الحكمة والطرافة، وذلك هو استخدام الموائد العامة، حيث كان يفرض على الناس جميعا أن يأكلوا أنواعا معينة من اللحوم التي حددها القانون، كما منعوا في الوقت نفسه من تناول الطعام في بيوتهم على أرائك ومناضد غالية الثمن، وحرم عليهم أن يستعينوا بالقصاصين والطهاة، أو أن يسمنوا كالحيوانات النهمة بين جدران بيوتهم، لأن ذلك كله لن يفسد أخلاقهم فحسب، وإنما سيفسد أجسامهم أيضا، ولو تركوا للانغماس في كل أنواع الملذات، لاحتاجوا إلى ساعات نوم أطول، وحمامات ساخنة، ولنفس الرعاية التي يستلزمها المرض المزمن. كان تحقيق هذا شيئا عظيما بكل تأكيد، ولكن الأعظم منه هو تأمين الثروات من النهب والحسد، كما عبر ثيوفراسط،
19
بل تجريد الثروات من وجودها نفسه عن طريق اشتراكهم في الطعام وجلوسهم معا على موائد شحيحة. فأي نفع أو استمتاع بهذه الثروات، وهل هناك فرصة لاستعراض الأبهة والفخامة، حيث يجتمع الرجل الفقير مع الغني على مائدة واحدة؟ ومن هنا لوحظ أن بلوتوس، وفقا للمثل السائر، بقي أعمى في أسبرطة وحدها وظل كالشبح محروما من الحياة والحركة. ويجب أيضا أن نلاحظ أن تناول الوجبات في المنزل لم تكن له أي ميزة، كما أن كل من يأتي إلى الوجبات العامة دون شهية ولا يتناول طعامه أو شرابه مع المجموعة كانت تتم مراقبته بدقة، ويلومونه كشخص مسرف ومخنث ومتمرد على الوجبات العامة.
كان يجلس إلى كل مائدة خمسة عشر شخصا، وربما زاد العدد أو نقص عن ذلك قليلا. وكان يفرض على كل واحد منهم أن يحضر معه حصة من الطعام شهريا، وثمانية جالونات من النبيذ، وخمسة أرطال من الجبن، ورطلين ونصف الرطل من التين، وكمية قليلة من النقود لشراء اللحم والسمك. وإذا حدث أن ضحى أحدهم بالقطفة الأولى من الفواكه، أو ذبح غزالا ، فعليه أن يرسل جزءا منها إلى المأدبة العامة، وبعد تقديم التضحية أو الصيد يصبح حرا في أن يتناول عشاءه في بيته. ولكن كان يفرض على بقية المواطنين أن يوجدوا في أماكنهم المعتادة على الموائد العامة. كما كان الأطفال أيضا يشاركون في هذه الموائد العامة التي كانت شبيهة بالمدارس العديدة التي تعلمهم النظام وضبط النفس، وهناك يسمعون محاضرات تتعلق بنظام الحكم، وينشئون على الأساليب التربوية الحرة.
هذا التشدد نفسه، وتجاهل الحرية الفردية للمواطنين، كان أمرا ملازما لكل قوانين ليكورجوس، التي تولت شئون المواطن من المهد (بل قبل ذلك أيضا) إلى اللحد. وكان ليكورجوس يبدأ تربية الشباب «منذ النشأة الأولى، مع أخذ الحمل والميلاد في الاعتبار». ولهذا السبب لا يتم الزواج وفقا لميول الأفراد، بل وفقا لمصلحة الدولة. وعلى الرغم من أن الفكرة التي تقول بأن حب الأسرة لا ينبغي أن يحل محل حب الدولة، لم يعبر عنها بلوتارك في «حياة ليكورجوس» بنفس الوضوح الذي عبر عنه كامبانيلا في يوتوبياه المتأخرة «مدينة الشمس»، غير أنها تدل على أن وحدة المواطنين يجب ألا تفصم عراها الروابط القوية بين الرجل والمرأة. وكما كانت المساواة في توزيع الثروة سببا في استئصال الحسد، توقفت الغيرة عندما سمح الأزواج لزوجاتهم بمعاشرة رجال قادرين على إنتاج نسل يتمتع بصحة جيدة، وسمح للرجال، حتى بعد الزواج، بأن يعيشوا حياة العزوبة، فيناموا في المضاجع العامة ولا يلتقوا بزوجاتهم إلا لأجل الاتصال الجنسي فحسب.
وإليك التبرير الذي قدمه ليكورجوس للعلاقات غير الزوجية: «وبعد أن أقر أصول التواضع واللياقة الواجبة نحو الزواج، حرص كذلك حرصا شديدا على تخليص تلك الدولة من مشاعر الغيرة وانفعالاتها النسائية العقيمة، فجعل مما يشرف الرجال أن ينجبوا أطفالا بالاشتراك مع رجال من ذوي المكانة المرموقة، وأن يتجنبوا كل المظاهر العدوانية في تعاملهم مع زوجاتهم. وقد سخر من أولئك الذين يلجئون إلى الحرب وإراقة الدماء للانتقام ممن يتصلون بامرأة متزوجة، فسمح بأن يقدم الرجل المسن لزوجته الشابة شابا يوافق عليه ويتسم بالشرف واللياقة، وعندما تنجب طفلا من هذا النسب الكريم، يقوم بتربيته كما لو كان طفله. ومن ناحية أخرى، إذا أعجب رجل بامرأة متزوجة بسبب تواضعها وجمال أطفالها، يسمح له بأن يستأذن زوجها في التصريح له بالاجتماع بها، لأن زرع تربة جميلة يمكن أن يثمر أطفالا ممتازين من أبوين ممتازين. ويرجع هذا كله إلى أن ليكورجوس يعتبر أن الأطفال ملكا للدولة، قبل أن يكونوا ملك آبائهم، ولذلك لا يريدهم أن يأتوا من أبوين عاديين، بل أن ينحدروا من أفضل الرجال. كما أن ليكورجوس لاحظ غرور وسخف تلك الأمم الأخرى التي يجتهد فيها الناس في الحصول على أفضل سلالة من الخيول والكلاب، ولا يبخلون على ذلك بالجهد أو المال، بينما يغلقون الأبواب على زوجاتهم، ويمنعونهم من إنجاب أطفال من أحد سواهم، على الرغم من أنهم قد يكونون عاجزين واهني القوة. وكأن هؤلاء لا يفرقون بين الضرر والنفع، بين أطفال يولدون من أصول مريضة فلا يصلحون لشيء، فضلا عن تدمير آبائهم، وبين أطفال يولدون أصحاء أقوياء من أصول سليمة. هذه التعليمات التي كانت تؤمن إنجاب نسل صحيح، ومن ثم نافع للدولة، كانت في الحقيقة أبعد ما تكون عن تشجيع انحراف النساء الذي ساد في فترة تالية، ولذلك لم يعرف الزنا بينهن.»
وإذا كان ليكورجوس لم يؤيد الحب كما نفهمه بين الرجال والنساء، فقد بذل جهودا كبيرة لكي يجعل النساء جذابات للرجال من الناحية الجنسية، وقام بتنظيم حفلات راقصة عامة وتمرينات رياضية أخرى لشابات عاريات في حضور الشباب، لا لكي ينزع عن الجنس ما يكتنفه من الحنان والحساسية فحسب - وهو الأمر الذي يرتبط بخصوصية الحياة الزوجية - بل كذلك لأن هذه التدريبات كانت حافزا على الإقبال على الزواج. وإذا أخفق هذا في إحداث التأثير المرغوب في شباب أسبرطة، وأصروا على رفضهم للزواج، «فإن وصمات العار توضع على ظهورهم، ولا يسمح لهم بمشاهدة تدريبات العذارى العاريات، ويأمرهم القضاء بالمضي في الشتاء عراة حول الأسواق، وهم يغنون أغنية تعبر عن العقاب العادل الذي تلقوه جزاء عصيانهم للقوانين.»
لم يترك ليكورجوس، حتى بعد إتمام الزواج ، الاتصال الجنسي بين الأزواج يسير في مجراه الطبيعي، وإنما خطط له قواعد مدروسة: «ومن عاداتهم في الزواج أن يستولي العريس على عروسه بالعنف، ولا يتم اختيار العروس من بين صغيرات السن، بل بعد أن تكون قد بلغت سن النضج، ومن ثم تأتي المرأة التي تدبر شئون الزواج، وتقص شعر العروس حتى الجلد، وتلبسها ملابس الرجال وترقدها على الفراش وتتركها في الظلام. ويأتي العريس، الذي لم يذهب النبيذ بعقله، ولا أوهنت قواه حياة الرفاهية؛ لأنه واظب على تناول عشائه على المأدبة العامة، فيمضي في السر إلى عروسه ويفك الأحزمة التي لفت حولها ويحملها إلى فراش آخر. وبعد أن يمكث هناك وقتا قصيرا، يعود لمسكنه المعتاد لينام مع بقية الشباب، ويقضي يومه مع رفاقه، ويستريح معهم في أثناء الليل، ويزور عروسه في حذر شديد حتى لا تكتشف العائلة وجوده، وفي الوقت نفسه تمارس العروس كل ما لديها من حيلة لإيجاد الفرص الملائمة للقاءاتهما الحميمة، ولم يكن هذا يتم في فترة قصيرة فحسب، بل كان بعضهم ينجب أطفالا قبل أن يلتقوا بزوجاتهم في وضح النهار، ولم يكن هذا النوع من الاتصال الجنسي مجرد تدريب على الاعتدال والعفة فقط، وإنما كان يحافظ على نضارة أجسامهم ويساعد على ألا تنطفئ حرارة حبهم الأولى أو تخمد، ولأنهم لم يشبعوا رغباتهم مثل أولئك الذين يمكثون بصفة دائمة مع زوجاتهم، فقد كانت رغباتهم تظل متأججة ومتوهجة.»
هكذا نرى أن ليكورجوس قد اهتم بتنظيم إجراءات الزواج أكثر من اهتمامه باختيار الزوجين، فقد سمح لمواطنيه، على خلاف أفلاطون، في نطاق محدود باتخاذ قراراتهم بخصوص من يريدون أن ينجبوا منه أطفالا أصحاء على قدر من الجمال، وإذا تبين لهم أنهم ارتكبوا أي خطأ، فإن هذا الخطأ يمكن تصحيحه دائما؛ لأنه لا تترك للأب حرية تربية أي أطفال كما يريد، وإنما يلزم بحمل الطفل إلى مكان يدعى ليسكيه
Lesche ، لفحصه من قبل شيوخ القبيلة الذين يجتمعون هناك، فإذا كان الطفل قويا ومتجانس الأعضاء، يعطون الأوامر بتعليمه، ويحددون له قطعة من التسعة آلاف قطعة من الأرض الزراعية، أما إذا كان ضعيفا ومشوها، فيأمرون بأن يلقى به في مكان يدعى أبوثيتات
Apothetate ، وهو كهف عميق قريب من جبل تايجيتوس
Taygetus ؛ الأمر الذي يفهم منه أن حياته لن تكون نافعة له ولا للمصلحة العامة، ما دامت الطبيعة لم تمنحه منذ البداية القوة أو سلامة البنية.
ولم يكن للآباء، بطبيعة الحال، حرية تعليم أطفالهم كما يشاءون.
وما إن يبلغوا السابعة من العمر، حتى يأمر ليكورجوس بأن يسجلوا في مجموعات، حيث يخضعون جميعا لنفس النظام، ويمارسون التمرينات وألوان التسلية معا. ومن يفق زملاءه في الشجاعة والانضباط، يعين قائدا للمجموعة، ويتمثل به الباقون، ويطيعون أوامره، ويتحملون بصبر العقوبات التي ينزلها بهم، مما جعل نظامهم التربوي كله تمرينا على الطاعة. ويقوم كبار السن الموجودون معهم بتحين الفرص لإثارة الجدال أو الشجار بينهم، لكي يتسنى لهم أن يلاحظوا بدقة روح كل منهم، وثباته في النزال.
أما عن التعليم فلا ينالون منه إلا ما تدعو إليه الضرورة المطلقة. فقد هيئ نظام تعليمهم كله لإخضاعهم للأوامر، وتحمل المشاق، والقتال والغزو. ولهذا كان يزداد انضباطهم كلما تقدموا في العمر، فيقصون شعورهم تماما، ويمشون حفاة الأقدام، ويلعبون في أغلب الأحيان وهم عراة تماما. وتنزع ملابسهم الداخلية في سن الثانية عشرة، ويسمح لهم طوال العام برداء واحد، ولذلك كان من الطبيعي أن تبدو عليهم القذارة؛ إذ كان ترف الاستحمام والتطيب بالزيوت محظورا عليهم إلا في أيام معينة من السنة. وكانوا ينامون في جماعات، على أسرة مجدولة من عيدان القصب التي جمعوها بأيديهم، دون استخدام سكاكين، وأحضروها من ضفاف نهر أيروتاس
Eurotas ، وفي الشتاء يسمح لهم بأن يضيفوا إليها نباتات شائكة لتبعث فيهم بعض الدفء. وأما تعليم الأولاد الأكبر سنا فكان أشد قسوة، وإن لم يختلف كثيرا عن التعليم في بعض المدارس الإنجليزية العامة. في هذه المرحلة من العمر يحظى الأولاد الذين أبلوا بلاء حسنا برفقة كبار السن الذين كانوا يواظبون على الحضور إلى الأماكن التي يتدربون فيها على القوة والبراعة، لا كمراقبين عابرين، بل بصفتهم آباء لهم، أو حراسا وحكاما، بحيث لم يخل زمان ولا مكان من أشخاص يعلمونهم ويؤدبونهم. وبالإضافة إلى ذلك كان يعين واحد من أفضل وأقدر رجال المدينة مراقبا للشباب، فيسلم قيادة كل مجموعة لأحكم وأشجع شاب من أولئك الشبان الذين كان يطلق عليهم اسم الأيرين
Irens . وكان «الأيريني» هو الذي أمضى سنتين بعد تخرجه من فصول (أو صفوف) الأولاد. أما المليرين
Melliren
فكان واحدا من أكبر الأولاد سنا. ويقوم هذا الأيريني - الذي بلغ العشرين من عمره - بإصدار أوامره لمن يتولى قيادتهم في معاركهم الصغيرة، كما يجبرهم على الخدمة في منزله. ويرسل أكبرهم سنا ليجلب الخشب، وأصغرهم ليجمع الأعشاب الصالحة للطبخ، فيسرقونها حيثما وجدوها، إما بالحصول عليها خفية من الحدائق، أو بالزحف بمكر وحذر تحت الموائد العامة، وإذا قبض على أحدهم، جلد بقسوة لإهماله أو افتقاره إلى البراعة، وهم يسرقون أيضا كل ما يمكنهم الحصول عليه من الطعام، ويخططون لهذا بحذق ومهارة عندما يكون الناس نياما أو عندما يتراخون في الحراسة، فإذا اكتشف أمرهم لا يعاقبون بالجلد فقط، ولكن بالجوع أيضا. والواقع أن طعام العشاء الذي كان يقدم لهم كان هزيلا على الدوام، وذلك لتمرينهم على الشجاعة والتحمل ومقاومة الطمع والنهم.
ولم يهمل الأسبرطيون تربية النساء، ولكنهم وجهوها لإصلاح أبدانهن قبل عقولهن، فقد أمر ليكورجوس بأن تتدرب العذارى على الجري، والمصارعة، والرماية، وإلقاء الرماح؛ حتى تصبح أجسادهن قوية نشيطة، ويكون أطفالهن على شاكلتهن، ويقوين في المستقبل على تحمل آلام الوضع، والولادة في أمان. «وكان من حقهن أيضا أن يمدحن الرجال أو ينقدنهم، ويقال إنهن لم يستبعدن من التكريم بألقاب الشجاعة والشرف.» ومع ذلك فليس لدينا أي دليل على أنهن كن يشاركن مشاركة مباشرة في إدارة شئون الدولة، كما هو الحال في جمهورية أفلاطون، إذ يبدو أن السلطة القوية التي اكتسبنها في الماضي، بسبب اشتراك أزواجهن في الحملات العسكرية المتكررة، قد تم كبحها بدلا من تدعيمها.
وليس لدينا الكثير مما يمكن قوله عن تنظيم العمل في أسبرطة؛ لأن الأسبرطيين كانوا أساسا طبقة مترفة، وربما كانوا هم الأمة الوحيدة التي حرم فيها العمل من الناحية الفعلية، لقد انصرفوا إلى العمل غير المنتج مثل التدريبات العسكرية، والتعليم، والتعلم، والتجارة، أما مهمة تزويدهم بالاحتياجات اليومية فتركت للعبيد (أو الهيلوت
Helots ). والواقع أن المجتمع الأسبرطي كان يقوم على نظام العبيد، وأن المواطنين البالغين كانوا محرومين من العمل بأيديهم حتى لو أرادوا ذلك، وهذه حقيقة يتجاهلها كثير من المعجبين المتحمسين لأسبرطة.
استمر نظام الأسبرطيين الصارم حتى بعد أن بلغوا مرحلة النضج، فلم يكن أي إنسان يتمتع بالحرية في أن يعيش كما يريد، إذ كانت المدينة أشبه بمعسكر واحد كبير، يسمح فيه للجميع بأمور محددة، ويعرفون واجباتهم العامة، ويقتنع كل إنسان بأنه لم يولد لنفسه بل لبلده. وإذا لم تصدر لهم أوامر معينة، فإنهم يشغلون أنفسهم بمراقبة الأولاد وتعليمهم شيئا نافعا، أو يتعلمون هم أنفسهم ممن هم أكبر منهم سنا. وكان الاستمتاع بوقت الفراغ هو أحد الامتيازات الكبرى التي منحها ليكورجوس لمواطنيه، وكان ذلك نتيجة مترتبة على منعهم من ممارسة أي حرفة آلية. ولم يكن الأمر يستحق منهم أن يبذلوا جهدا كبيرا في زيادة ثرواتهم، ما دامت الثروة عندهم عديمة القيمة. أما العبيد (الهيلوت)، الذين كانوا يحرثون الأرض، فكانوا مسئولين عن تلبية الاحتياجات المشار إليها فيما سبق. ولدينا في هذا الصدد حكاية عن أسبرطي تصادف وجوده في أثينا أثناء انعقاد المحكمة، وسمع عن رجل حكم عليه بغرامة مالية بسبب الكسل. وعندما كان هذا الرجل المسكين في طريق عودته وهو في حالة معنوية سيئة، مصحوبا بأصدقائه الذين راحوا يواسونه، طلب من مرافقيه أن يدلوه على الشخص الذي أدين بسبب محافظته على كرامته. وهكذا وصل بهم الأمر إلى حد إسقاط كل اهتمام بالفنون الحرفية، وكل رغبة في الحصول على الثروة من اعتبارهم.
وكانت الدعاوى القضائية في أسبرطة ترفع عن أصحابها مقابل دفع مبالغ نقدية. ولم يعرف الأسبرطيون الغني ولا الفقير، وإنما كانوا متساوين في الأهلية، كما كانت لديهم وسائل ميسرة وغير مكلفة لتلبية احتياجاتهم القليلة. ولهذا نجدهم في أوقات السلم يقضون وقتهم في الرقص، والاحتفالات، والصيد، أو يلتقون للقيام بالتدريبات البدنية أو تجاذب أطراف الحديث. ولم يكن أحد دون الثلاثين يذهب إلى السوق، إذ كان ذووهم وولاة أمرهم يدبرون لهم كل احتياجاتهم الضرورية. ولم يكن التسكع في الأسواق شيئا يشرف كبار السن، بل كان الأليق بهم أن يقضوا معظم النهار في مدارس التدريب أو الأماكن التي تدور فيها الأحاديث.
وأما عن مسألة العبيد فقد حدت من إعجاب بلوتارك الشديد بليكورجوس، وجرائم القتل الجماعية التي تعرض لها «الهيلوت» على أيدي الشبان الأسبرطيين كنوع من الرياضة، حتى لو افترضنا أنها تمت بعد عهد ليكورجوس، تلقي ظلالا معتمة على تنظيمات أسبرطة المثالية. وقد اضطر بلوتارك إلى الاعتراف بأن الأسبرطيين، من بعض النواحي، كانوا يعاملون عبيدهم بطريقة غير إنسانية.
كانوا أحيانا يجبرونهم على الشرب حتى يسكروا، ثم يقودونهم إلى القاعات العامة، ليبينوا للشباب أضرار السكر، وكانوا يأمرونهم بأن يغنوا أغاني وضيعة، ويرقصوا رقصات مزرية، ويفرضون عليهم ألا يخالطوا أي إنسان مهذب ورقيق. وبهذه الأساليب الدعائية الفجة، يتم الفصل بين السلالتين.
ويقول بلوتارك إن «هؤلاء الذين يقولون إن الرجل الحر في أسبرطة كان يتمتع بالحرية إلى أبعد حد، وإن العبد كان يخضع للعبودية إلى أقصى حد، يبدو أنهم أحسنوا تقدير الفوارق بين الحالتين.» ويمكننا أن نوافق بلوتارك على الجزء الثاني من عبارته، ولكننا نشك فيما إذا كان الرجال الذين يستبعدون غيرهم، ويتعرضون لهم متى شاءوا بالإهانة والتعذيب أو القتل، يستحقون أن يوصفوا بأنهم رجال أحرار.
وليس عجيبا بعد ذلك أن نسمع بأن هؤلاء «الرجال الأحرار» كانوا هم أنفسهم في واقع الأمر سجناء في بلدهم: «ولم يكن يسمح لمن يرغبون في رؤية بلاد أخرى بالسفر خارج الحدود، خشية أن يتعودوا على عادات أجنبية، أو يتعرفوا على أشكال للحياة أقل انضباطا، أو على شكل مختلف من أشكال الحكم. كذلك منع الغرباء من دخول أسبرطة، ما لم يحددوا سببا مقنعا لمجيئهم لا بسبب خوفه من أن يحاكوا دستور تلك المدينة، أو يدخلوا إصلاحات على فضائلها، كما يقول توكيديديس، ولكن خشية أن يعلموا شعبه بعض الرذائل والشرور ؛ ذلك لأن زيارات الأجانب تقترن بظهور موضوعات جديدة للمناقشة، وكل مناقشة جديدة تؤدي إلى آراء جديدة، ومن هذه الآراء تنشأ مشاعر ورغبات جديدة يمكنها، مثل النشاز في الموسيقى، أن تسبب الاضطراب للحكومة المستقرة؛ ولذلك اعتقد ليكورجوس أن حماية المدينة من العادات الفاسدة وأساليب السلوك السيئة أجدى عليها من منع انتشار الوباء فيها.»
ولا يدهشنا أن ليكورجوس كان «مفتونا بجمال وعظمة نظامه السياسي»، وأنه فرح بعمله «فرحة الإله عندما فرغ من خلق العالم». فالواقع أن المشرع يفتقد القدرة على نقد القوانين التي وضعها، بقدر ما يتوقع من الشعوب الأخرى أن تخضع لهذه القوانين. والأكثر من ذلك مدعاة للدهشة هو التأثير الذي تركته أسبرطة فيما يسمى بالفكر التقدمي. فالثوريون، وأنصار حقوق الإنسان، والمصلحون والشيوعيون من هارنجتون إلى مابلي، ومن كامبانيلا إلى مارا، ومن نابليون إلى ستالين، قد حاولوا استلهام هذا النموذج الذي يعد أكمل نموذج للدولة الشمولية. (3) أرسطوفانيس
قبل أن نترك بلاد الإغريق، ينبغي علينا أن نلقي نظرة على اليوتوبيات الهجائية الساخرة لأرسطوفانيس؛ لأن تأثيرها في الفكر اليوتوبي كان في الواقع تأثيرا ثانويا، إذا قيس بتأثير اليوتوبيات التي تعرضت لسخريتها.
وتعطينا مسرحيات أرسطوفانيس فكرة عن كيفية تلقي عامة الناس لأفكار الفلاسفة الكبار. ولا بد أن رد فعلهم عليها كان شديد الاختلاف عن رد فعل التلاميذ في المدارس الثانوية؛ لأن هؤلاء على استعداد دائم لمناقشة الأفكار الجديدة وقبولها، بحماس الشباب وبعده عن التحيز.
ومع أن أرسطوفانيس يقدم مرآة مشوهة للرأي العام في عصره، فإننا نحس بنبرة الأصالة التي تتردد في مسرحياته. فشخصياته تتحدث عن شيوعية أفلاطون، كما يتحدث معظم الناس في أيامنا عن البلشفية (أو عن الفوضوية). ويحتمل أن يكون غالبية الإغريق القدماء، شأنهم شأن أغلبية الناس في العصر الحديث، قد نفروا من الشيوعية كوضع اجتماعي «تكون فيه النساء للجميع»، و«لا يمارس أحد أي عمل» و«يحصل كل إنسان على ما يشتهي من الشراب والطعام حتى يسكر ويصاب بالتخمة». ويضحك أرسطوفانيس على هذه الأفكار ويهزأ منها، ولكنه يقدم أحيانا بعض الحجج لمصلحة الشيوعية أفضل مما فعل أفلاطون نفسه. إن براكساجورا التي تتزعم ثورة النساء في سبيل إلغاء الملكية وإقامة مملكة الوفرة والرخاء، تمثل دور الداعية بصورة أكثر إقناعا من سقراط. وها هي ذي تصف لزوجها، بليبيروس، كيف ستعمل على إيجاد هذا المجتمع السعيد الحر:
براكساجورا :
إن القاعدة التي أعتزم أن أسنها وأعلنها للناس،
هي أن يصبح الجميع متساوين ويقتسموا بالتساوي
كل الثروات والمتع، ولا يتحملوا بعد اليوم،
أن يكون هناك غني وفقير،
أو أن يملك أحد الناس الحقول الواسعة الشاسعة،
ولا يملك الآخر ما يكفي لتجهيز قبر يدفن فيه،
وأن يكون تحت تصرف هذا مئات العبيد
ويكون ذاك بلا أحد يعينه على الإطلاق.
أريد أن أصلح كل هذه الأوضاع،
فيشارك الكل في كل النعم مشاركة الأحرار،
وأن أرتب حياة واحدة ونظاما واحدا للجميع.
بليبيروس :
وكيف ستدبرين هذا؟
براكساجورا :
سوف أحرص أولا
على أن تكون الفضة والأرض وسائر ما يملكه أي إنسان
مشتركا بين الناس وتحت تصرف الجميع،
بحيث يتألف منه رصيد واحد؛
ومن هذا الرصيد سنطعمكم وندير شئونكم، كما يفعل أحكم المدبرين لشئون البيت، فننفق عليكم، ونقتصد لكم، ونشملكم بالرعاية.
بليبيروس :
أما ما يتعلق بالأرض، فإني أفهمه تماما،
لكن ما العمل إذا كان الجل يستحوذ على نقوده في يده، ولا يملك مزارع يمكنك أن تريها، ولا يمكنه أن يمنعها عنك،
وإنما يمتلك الأوزان من الفضة والذهب؟
براكساجورا :
عليه أن يحضر كل هذا للمخازن.
بليبيروس :
لكن افترضي
أنه اختار أن يحتفظ به، وأخفى خبره عن الجميع؛
لا شك في أن هذا يعد حنثا لليمين، ولكن أي بأس عليه في أن يحنث باليمين؟
لقد كسبه في البداية عن هذا الطريق.
براكساجورا :
أوافقك على هذا.
لكنه سيصبح الآن عديم الفائدة، ولن يحتاج إليه بعد اليوم.
بليبيروس :
ماذا تقصدين؟
براكساجورا :
أقصد أن ضغط الحاجة سيتحرر منه الجميع،
وسيحصل كل فرد على كل ما يتمناه الإنسان،
على الكعك، وأرغفة الشعير، وثمار الجوز، والملابس الوفيرة،
والنبيذ، وأكاليل الزهور، والسمك،
فلماذا يحرص على الثروة التي حصل عليها بالغش والخداع ؟
إن كنت تعرف السبب، فأرجوك أن تشرحه لي.
بليبيروس :
إن الذين يملكون معظم هذه الخيرات
هم في اعتقادي أسوأ اللصوص على الدوام.
براكساجورا :
أوافقك، يا صاحبي، على أن ما تقوله يصدق على الأيام الخوالي،
ويسري على نظامكم العتيق الذي تم إلغاؤه.
ولكن ما الذي سيعود عليه من الاحتفاظ بثروته،
إن كانت كل الأشياء ستصبح مشاعا للجميع، هذا ما أرجوك أن تفسره لي.
بليبيروس :
إذا حاول شاب أن يظهر حبه لفتاة،
فلا شك أنه سيتودد إليها بالهدايا.
براكساجورا :
لا ... لا.
كل النساء والرجال سيكونون أحرارا ومشتركين،
ولن يكون ثمة زواج، ولا غير ذلك من القيود.
بليبيروس :
لكن ما العمل لو تطلع الجميع
للفتاة التي يزينها جمالها البديع؟
براكساجورا :
بجانب الجميل الذي تحفه الروعة والجلال
سيقف القزم والمشوه والقبيح؛
وقبل أن يحق لك التودد لفتاة هي آية في الجمال،
عليك أن تغازل العجوز الشمطاء والسليطة اللسان.
بليبيروس :
نجحت في تبديد أي شك يحوم حول النساء،
ولن تحرم بعد اليوم امرأة من أحد العشاق.
لكن ماذا عن الرجال؟
يخيل إلي أن الفتيات سيخترن الوسيم ويرفض القبيح.
براكساجورا :
بالطبع لن يسمح لفتاة بعقد أي ارتباط،
إلا بما يتوافق مع القواعد التي سنتها الدولة في قوانين،
فبجانب حبيبها الوسيم والطويل،
سيوضع القعيد والمعاق والضئيل،
وقبل أن يحق لها الحصول على الجميل،
عليها أن تمنح حبها للأخرق والقبيح.
بليبيروس :
إذن فهذا الأنف الذي يعرضه ليزيكراتيس،
سينافس فيما أعتقد أجمل وألطف الأنوف.
براكساجورا :
أجل هي خطة ديمقراطية بديعة،
وأسلوب شعبي لم يسبق إليه،
نسخر به من المنافقين والمغرورين،
اذهبوا الآن أيها المتعجرفون - هكذا سيقول الريفي العجوز -
قفوا جانبا، فقد جاء دوري اليوم في العشق والغرام.
بليبيروس :
لكن كيف، إذا أذنت لي، سيعرف الأطفال؟
وكيف يميز الأب أبناءه؟
براكساجورا :
لن يعرفوا أبدا، ولن يدله أحد عليهم،
فجميع الشبان سيكونون أبناء لجميع الشيوخ.
خريميسس :
ربما يلحقك أذى أشد من هذا بكثير.
بليبيروس :
وكيف هذا؟
خريميسس :
إذا ادعى أرسطيلوس الحقير أنك أبوه،
وهجم عليك ليقبلك.
بليبيروس :
آه. فليشنق! وعليه اللعنة ! سوف أشبعه ضربا.
خريميسس :
أظنك ستفوح برائحة النعناع.
براكساجورا :
لكن هذا، يا سيدي، هراء ، لن يحدث شيء مما تقول.
فهذا الوضيع قد ولد قبل صدور القرار،
ولن تلمسك قبلته بطبيعة الحال.
بليبيروس :
هذا المنظر يثير في نفسي الرعب والاشمئزاز.
لكن من الذي سيعمل في المزرعة؟
براكساجورا :
ستتركون العمل والشقاء للعبيد،
وسيبدأ عملكم، عندما يرخي الليل سدوله،
ويلقي بعشرة أقدام على وجه المزولة،
وتهرعون إلى تناول وجبة العشاء.
بليبيروس :
وملابسنا، ماذا عنها؟
براكساجورا :
لديكم في المخزن منها الكثير،
وعندما تبلى، سننسخ لكم منها المزيد.
بليبيروس :
يبقى شيء واحد. إذا رفعوا الدعوى علي،
فأين هو الرصيد الذي سأسدد منه الغرامة؟
أظنك لن تدفعيه من المخازن.
براكساجورا :
غرامة تدفع إذا أقيمت دعوى عليك!
ولماذا، باركك الله، وشعبنا لن يعرف شيئا
عن هذا الشيء الذي يسمى بالدعاوى؟
بليبيروس :
لا دعاوى. إني أتشكك في هذا.
وكيف بالله عليك سيتصرف شعبنا في معاشه؟
خريميسس :
أنت على حق. فالكثيرون سيأسفون على ذلك.
براكساجورا :
لا شك.
لكن عن أي شيء يمكن أن ترفع دعوى؟
بليبيروس :
هناك أسباب كثيرة، وسأكتفي بذكر واحدة،
إذا لم يدفع لك المدين، فكيف تتصرفين بالله عليك؟
براكساجورا :
إذ لم يدفع المدين. حسنا، لكن أخبرني يا صديق،
كيف توصل الدائن للنقود التي أقرضها له؟
أظن أن كل النقود قد وضعت في المخازن.
إنني أتشكك في الأمر، وأقولها بأسى شديد،
دائنك لص بكل تأكيد.
بليبيروس :
هذه إجابة مفحمة وملائمة.
لكن ماذا لو اضطر رجل إلى أن يدفع غرامة؟
لقد أفحمتك، فيما أظن.
براكساجورا :
أبدا، فسنوقف طعامه وشرابه إلى حين،
حتى يثوب لرشده ولا يسارع بالعدوان على الآخرين،
عندما يدفع من معدته ثمن تهوره اللعين.
بليبيروس :
وهل سيختفي اللصوص ولا يظهرون؟
براكساجورا :
وكيف يسرقون شيئا يتقاسمونه مع الآخرين؟
بليبيروس :
ألن توجد فرصة إذن لقاطع طريق،
يقابلك بالليل في الشارع ويجردك من معطفك الأنيق؟
براكساجورا :
لا، لن يحدث هذا سواء كنت نائما في بيتك على فراشك الوثير،
أو اخترت أن تخرج وتتمشى كأي عابر سبيل،
ولماذا يقترف أحد هذا العمل الوبيل،
وكل شيء متوافر للجميع؟
وافرض أنه ارتكب فعله المنكر الأثيم،
لا تقاومه ولا تصارعه، ولا داعي للضجيج والعويل،
فيمكنك أن تذهب للمخازن، وسيعطونك البديل.
بليبيروس :
وهل سنحرم أيضا من لعب القمار؟
براكساجورا :
وعلام تراهن؟ وماذا تكسب أو تخسر من الرهان؟
بليبيروس :
وكيف سنحيا؟ وما نوع هذه الحياة؟
براكساجورا :
حياة مشتركة للجميع في كنف الحرية والاستقلال،
تخلصت إلى الأبد من كل الحواجز والقضبان،
واندمجت الأنظمة الخاصة في نظام واحد كل الاندماج.
بليبيروس :
ووجبات طعامنا أين إذن ستقام؟
براكساجورا :
في كل ساحة محكمة ورواق ستقام
للمواطنين قاعة لتناول الطعام.
بليبيروس :
عظيم.
ولكن ماذا ستفعلين بمنصة الخطابة والخطباء؟
براكساجورا :
سأجعلها منصة للكئوس الكبيرة وأوعية الشراب،
ويصف عليها الغلمان ليرتلوا أمجاد الشجعان،
ويتغنوا بأفراح الانتصار في معارك الشرف والفخار،
ويعيروا الجبناء بالخزي والعار،
حتى يحمر وجه كل جبان ويغادر المكان،
دون أن يتوقف عن حشو معدته بطعام العشاء.
بليبيروس :
آه، سيكون هذا شيئا بالغ الروعة والجمال،
وماذا عن أماكن الاقتراع؟
براكساجورا :
هناك ينطلقون
إلى السوق في صفوف طوال،
وهناك أتخذ مكاني بجوار هارموديوس،
وأوزع بطاقات الاقتراع على كل الناس،
حتى يحصل كل فرد على قرعته بانتظام،
وينطلق بشجاعة الرجال ليضع علامة،
على الحرف الذي يدرج اسمه في قوائم الطعام. (عن برلمان النساء، الاكليزيوزاي)
لقد صممت دولة أفلاطون لبشر متفوقين، يحتقرون مباهج المائدة، والضحك، والشعر، والموسيقى والعشق. أما يوتوبيا براكساجورا فهي مصممة لأناس عاديين لا يؤمنون، لحسن الحظ، بأن من واجب النساء أو الرجال، الذين يكونون على قدر من الجمال، أن يتودد كل منهم للآخر لغرض واحد، هو إنجاب أطفال مثلهم، ولا يعتقدون أن الإنسان يصبح شريرا إذا ما استمتع ببعض مباهج الحياة المتواضعة. والشيوعية التي تدعو لها ليست هي شيوعية التقشف، بل الوفرة من «الكعك وأرغفة الشعير والملابس الفاخرة والنبيذ وأكاليل الزهور والسمك».
وقد وصف أرسطوفانيس بالرجعية؛ لأنه استهزأ بسقراط وأفلاطون. فقد قال عنه لويس ديكنسون، على سبيل المثال، إنه كان يدافع عن «الحياة الغريزية ... وعن الدين القديم، والعادات القديمة والتراث القديم»، كما رأى أن «السحب» تعبر عن جوهر النزعة المحافظة المستنيرة (أو النزعة الطورية ). ويميل المرء إلى الاعتقاد بأن أرسطوفانيس لم يدافع عن التنظيمات القديمة إلا لخوفه من أن تكون التنظيمات الجديدة، التي اقترحها فلاسفة تسلطيون، أسوأ من القديمة. فهو في «الطيور» لا يسخر فحسب من الميثولوجيا (الأساطير) اليونانية، ولكنه يسخر أيضا من السياسي المحبط الذي يسعى إلى السلطة، وينجح في استغلال الطيور لإرضاء طموحاته «الاستعمارية»، وقبل وصول المغامر الأثيني بيستيتريوس، كانت الطيور تعيش حياة بدائية إلى حد ما، ولكنها حياة سعيدة وحرة، وكان الوقت يمر عليها كأنه «يوم عرس دائم»، ويصف ملك الطيور حياتهم بهذه الكلمات: ... الوقت يمضي بنا ناعما رخيا،
والمال يقع خارج دائرة اهتمامنا؛ لأننا لا نتعامل به.
لدينا ساحات للألعاب الرياضية، ونقضي الصباح من أيامنا اللاهية،
مع الولائم واللقاءات في الحدائق،
وبذور الخشخاش وأشجار المر.
وأول مهمة تقع على عاتق السياسي والغوغائي الأثيني هي إيقاظ كبرياء الطيور، وإقناعهم بأنهم أسمى من الآلهة، وأن من واجبهم أن يحكموا الأرض. وينبري ملكهم الساذج للدفاع عن أفكار بيستيتريوس، ويطلب من الطيور أن يحتذوا مثال الأمم «المتحضرة»:
انظروا إلى الأرض! تطلعوا إلى الأمم المتنافسة،
وهي تموج بالحيوية والنشاط، وتقبل على علوم الهندسة والتحصينات،
للدفاع عن أوطانها وبيوتها، بهمة وطنية عالية،
فتحيط كل مدينة بسياج من الأسوار الشامخة البناء.
وتعدل خطط الهجوم القديمة بتصميمات جديدة،
وتصقل أسلحة الهجوم والدفاع حتى تبلغ أوج الكمال؛
وتجهز السفن الحربية وتسلحها، وتدرب الجيوش على النظام والانضباط.
وشرعت الطيور، التي دبت فيها الروح «القومية» في بناء مدينة في مجالها الجوي أكبر وأقوى من بابل، وتنجح في بث الخوف في نفوس الآلهة، ولكنها لا تجني شيئا من وراء ذلك؛ وأصبح عليهم أن يقضوا وقتهم في بناء صروح المدينة وتقويتها وحراسة أسوارها، بحيث لم تعد حياتهم «عرس زفاف دائم».
ومن الصعب ألا يتعاطف الإنسان مع سخرية أرسطوفانيس من مخططي المدن والأخلاقيين والفلاسفة، الذين قاومت أفكارهم الحياة الغريزية للناس. والحق أن مملكة الطيور، على الرغم من كل بساطتها، تبدو مكانا أكثر بهجة من جمهورية أفلاطون.
هوامش
الفصل الثاني
يوتوبيات عصر النهضة
ننتقل الآن من الدول المثالية اليونانية إلى دول عصر النهضة، ولا يعني هذا أن الفجوة التي امتدت خمسة عشر قرنا من الزمان قد توقف خلالها عقل الإنسان عن الاهتمام ببناء مجتمعات خيالية، فالاستقصاء الكامل للتفكير اليوتوبي ينبغي أن يصف مظاهره في عصر الإمبراطورية الرومانية، وفي الفترة التي أعقبته، والتي يطلق عليها بصفة عامة، وبغير حق، اسم العصور المظلمة. ويجد المرء في الكثير من الحكايات العجيبة لهذا العصر أن الحلم اليوتوبي يتخذ شكلا بدائيا مشابها لذلك الشكل الذي اتخذه في الأساطير اليونانية المبكرة.
ومع التفكير اللاهوتي للعصور الوسطى يتم إسقاط الدول المثالية على العالم الآخر، سواء بالطريقة الصوفية والفلسفية التي نجدها في مدينة الله
De Civitate Dei
للقديس أوغسطين، أو في الشكل الشعري البسيط الذي نلمسه في القصة التي يسردها الرحالة الأيرلندي الكبير القديس برندان.
1
فهذا الراهب الجسور يروي كيف جنحت سفينته إلى الشمال خلال إحدى رحلاته، وكيف وصل هو ورفاقه بعد خمسة عشر يوما، إلى بلدة رأوا فيها كاتدرائيات من البللور، وتتابع فيها النهار بعد النهار، بغير أن يخيم ظلام الليل، وكيف هبطوا على جزيرة كانت مقرا للمباركين. ومع أن اليوتوبيا في هذه الحكاية التي ترجع إلى القرن السادس، كانت تتطابق مع الجنة، فإن الجمع بين الرحلات الفعلية ورؤية جزيرة مثالية سيكون هو السمة المميزة للعديد من اليوتوبيات المتأخرة.
وإذا كان الكتاب اليوتوبيون لعصر النهضة يدينون بالشيء الكثير للفلسفة اليونانية، فإنهم مدينون أيضا للآباء المسيحيين واللاهوتيين المتأخرين. وأصول الحكم
De Regimine Principium
للقديس توما الأكويني الذي كتب في القرن الثالث عشر، يتضمن بعض الفقرات الجديرة بالاقتباس، لأنها تعبر عن أفكار تشترك فيها معظم يوتوبيات عصر النهضة. وأول هذه الأفكار أن السعادة الإنسانية تعتمد على المبادئ الأخلاقية كما تعتمد على الرفاهية المادية.
وهناك شرطان ضروريان لكي يحيا الفرد حياة طيبة. وأول هذين الشرطين وأكثرهما أهمية أن يسلك سلوكا فاضلا، لأن الفضيلة هي التي تتيح للإنسان أن يحيا حياة رضية. أما الشرط الثاني، وهو أمر ثانوي ويعد بمنزلة الأداة أو الوسيلة، فهو كفاية تلك الخيرات المادية التي يكون استخدامها ضروريا لكي يسلك المرء سلوكا فاضلا.
والاكتفاء الذاتي للمدينة مع المناطق الزراعية المحيطة بها هو المثل الأعلى الذي يطلب تحقيقه: «هناك إذن وسيلتان لتزويد المدينة بوفرة من المواد الغذائية. الأولى هي خصوبة التربة بحيث تمد الحياة البشرية بكل الضروريات. والثانية هي التجارة التي تساعد على جلب ضروريات الحياة إلى المدينة من أماكن مختلفة. ولكن من الواضح تماما أن الوسيلة الأولى هي الأفضل، لأن الشيء كلما سما قدره زاد نصيبه من الاكتفاء الذاتي، إذ إن كل ما يحتاج إلى غيره يكون لهذا السبب أدنى مرتبة. ولكن المدينة التي تزودها المناطق الزراعية المحيطة بكل حاجاتها الحيوية تكون أكثر اكتفاء من مدينة أخرى تضطر للحصول على هذه المؤن عن طريق التجارة. والمدينة التي تتوافر فيها المواد الغذائية من الأراضي التي تملكها تكون أكثر شرفا وكرامة من تلك التي تحصل عليها عن طريق التجار. وستكون كذلك أكثر أمنا؛ لأن استيراد المؤن الغذائية يمكن أن يمنع عنها، إما بسبب النتائج الوخيمة للحروب، أو لتزايد أخطار الطرق. وبهذا يمكن أن تهزم هذه المدينة نتيجة النقص في الطعام.»
وقد أدرك القديس توما الأكويني التأثير المدمر للتجارة على الجماعة: «كذلك إذا كرس المواطنون حياتهم لشئون التجارة فسيصبح الطريق مفتوحا لرذائل عديدة. فما دام الهدف من التجارة يقود بصفة خاصة إلى كسب المال، فإن ممارسة التجارة توقظ الجشع في قلوب المواطنين. والنتيجة هي أن كل شيء في المدينة سيعرض للبيع؛ وتدمر الثقة، ويفتح الطريق لكل أنواع الغش والخداع؛ وسيعمل كل فرد من أجل ربحه الخاص فقط ويحتقل المصلحة العامة: ستهمل رعاية الفضيلة، لأن الشرف، وهو المكافأة على الفضيلة، سيخلع على أي فرد. وهكذا تفسد الحياة المدنية في مثل هذه المدينة.»
لقد كان من المستحيل على كتاب عصر النهضة أن يتصوروا مجتمعاتهم المثالية بشكل كامل، على غرار تلك المجتمعات التي تصورها مفكرو الإغريق، لأن بنية المجتمع الماثل أمام أعينهم كانت مختلفة اختلافا أساسيا عن مثيلتها في اليونان القديمة. إن المدينة الأثينية أو الأسبرطية - بتقسيمها الصارم للسكان إلى مواطنين وعبيد، واقتصادها البدائي المعتمد في أغلبه على الزراعة - لم يكن من الممكن أن تنتقل إلى مجتمع القرن السادس عشر، من دون أن تخضع لبعض التغيرات الجذرية.
وكان التغيير الأهم متعلقا بالعمل اليدوي، فالعمل اليدوي في نظر أفلاطون كان مجرد ضرورة تقتضيها الحياة، ويجب أن يترك للعبيد والصناع والحرفيين، بينما تشغل الفئة الخاصة نفسها بشئون الدولة. وقد أثبتت تجربة المدينة الوسيطة، على العكس من ذلك، أن الجماعة كلها قادرة على حكم نفسها من خلال النقابات الحرفية ومجالس المدن، وكانت هذه الجماعة مكونة بأكملها من المنتجين. وهكذا اكتسب العمل وضعا مهما ومحترما لم يفقده تماما مع تفكك المؤسسات الجماعية.
إن جميع اليوتوبيين في عصر النهضة يؤكدون أن العمل واجب على كل المواطنين، وبعضهم، مثل كامبانيلا وأندريا، يؤكد أن كل الأعمال، حتى أكثرها وضاعة، جديرة بالتشريف والتكريم. ولم يكن هذا مجرد تعبير عن مبدأ، وإنما انعكس على المؤسسات التي منحت حقوقا متساوية للعامل والحرفي، والفلاح والمعلم سواء بسواء. وهذه المؤسسات اليوتوبية جردت العمل من طابع الارتزاق بإلغاء الأجور والتجارة، كما بذلت جهودا مضنية لجعل العمل محببا إلى النفوس عن طريق تخفيض عدد ساعات العمل. أضف إلى هذا أن هذه المؤسسات، التي تدهشنا بحداثتها، قد وجدت بالفعل في المدينة الوسيطة حيث لم يكن للعمل المأجور وجود بشكل فعلي، ولم يكن العمل اليدوي علامة على الدونية، بينما كانت فكرة «أن العمل يجب أن يكون محببا إلى النفوس» فكرة شائعة، أحسن التعبير عنها في تعليمات كوتنبرج الوسيطة التي تقول: «يجب أن يكون كل فرد سعيدا بعمله، ولا يجوز للمتعطل أن يستأثر بما حصل عليه غيره بالممارسة والعمل؛ لأن القوانين يجب أن تكون دروعا تحمي التطبيق والعمل.»
2
والفكرة اليوتوبية ليوم عمل قصير، وهي التي تبدو لنا اليوم - نحن الذين اعتدنا التفكير في الماضي بأساليب القرن التاسع عشر - فكرة أساسية، لا تبدو في الحقيقة فكرة جديدة إذا قارناها بالتعليمات التي أصدرها فرديناند الأول، بخصوص مناجم الفحم الإمبراطورية ، وحدد فيها يوم عمال المناجم بثماني ساعات. ويقول ثورولد روجرز
Thorald Rogers
إن العمال في إنجلترا في القرن الخامس عشر كانوا يعملون ثمانيا وأربعين ساعة في الأسبوع.
وفي خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر فقدت المدن استقلالها بالتدريج، وبدأ ازدهارها يضمحل، وسرعان ما ساد الفقر المدقع بصفة عامة بين فئات الشعب العامل. ولكن تجربة المدن الحرة لم تضع هباء؛ إذ استوعبت عن وعي أو غير وعي في بناء الدول المثالية.
نجحت يوتوبيات عصر النهضة على كل حال في إدخال بعض التجديدات المهمة. وكانت المدينة الوسيطة قد فشلت في أن تربط نفسها بطبقة الفلاحين، وكان هذا الفشل أحد الأسباب الرئيسية التي أدت إلى تدهورها. لقد بقي الفلاح في حالة العبودية، وعلى الرغم من أن العبودية كانت قد ألغيت في إنجلترا، فقد ظل الفلاحون في معظم البلاد الأوروبية يتحملون أوضاعا لا تختلف في قسوتها عن نظرائهم «الهيلوت» في أسبرطة. وقد أدرك الكتاب اليوتوبيون في القرنين السادس عشر والسابع عشر - كما فعل القديس توما الأكويني من قبل - أن المجتمع المستقر يجب أن يحقق التكامل بين المدينة والقرية، وبين الحرفيين والفلاحين، وأن الزراعة يجب أن تأخذ وضعا مشرفا ومتساويا مع الحرف الأخرى.
وربما كانت الأهمية التي أولتها الكتابات اليوتوبية للرعاية العلمية للأرض، قد أوحى بها نشاط الأديرة في هذا الميدان. وقد دخلت كل الأشكال الأخرى لحياة الرهبنة في تكوين المدن، كالالتزام بالجداول الزمنية الصارمة، وتناول الوجبات المشتركة، وتوحيد الزي والتقشف في الملبس، ومجموع الوقت المكرس للدرس والصلاة.
ولعل الأكثر أهمية من تجارب الماضي هو التأثير المباشر الذي أحدثته حركات عصر النهضة والإصلاح الديني على الفكر اليوتوبي. وقد كان هذا التأثير تأثيرا مركبا، فعلى الرغم من أن يوتوبيات توماس مور وكامبانيلا وأندريا تجسد إلى حد كبير روح عصر النهضة، فإنها تعد كذلك بمنزلة رد فعل لها.
لقد صاحب الحركة الفنية والعملية الرائعة لعصر النهضة تفكك المجتمع. فتأكيد فردية الإنسان، وتطوير ملكاته النقدية، وتوسيع نطاق المعرفة، قد عملت كلها على تدمير الروح الجماعية للعصور الوسطى، وقضت على حدة العالم المسيحي. بل إن عصر النهضة قد أدى أكثر من ذلك إلى تكوين طبقة «مثقفين» بالفصل بين العامل والتقني، والحرفي والفنان، وعامل البناء والمهندس. وبذلك ولدت أرستقراطية جديدة، لم تعتمد في البداية على الثروة والقوة، بل على الذكاء والمعرفة. وقد صرح يعقوب بورخارت (1818-1897م)، وهو المدافع الفذ عن عصر النهضة، بأن هذه الحركة كانت غير شعبية، وأن أوروبا أصبحت من خلالها ولأول مرة منقسمة إلى طبقات مثقفة وأخرى غير مثقفة.
عجل هذا التقسيم بتفسخ المجتمع. ولم تعد القوة الصاعدة للنبلاء والملوك تكبحها رقابة المجالس الشعبية، مما أدى إلى حروب منهكة ومستمرة. وتفككت الاتحادات القديمة ولم يحل شيء محلها. وساءت ظروف الشعب بشكل متزايد حتى وصلت إلى ذلك الفقر الفظيع الذي وصفته بدقة يوتوبيا مور.
كانت يوتوبيات عصر النهضة بمنزلة رد فعل للنزعة الفردية المتطرفة في هذا العصر، كما كانت (أي اليوتوبيات) محاولة لخلق وحدة جديدة بين الأمم. ولهذا الغرض ضحت بمعظم مكتسبات عصر النهضة، فقدم توماس مور العالم الإنساني وراعي المصورين وصديق إرازموس، قدم يوتوبيا تفتقر بشكل واضح إلى الفردية، من توحيد للمنازل والملابس، إلى الالتزام بروتين العمل الصارم، وغياب المظاهر الفنية غيابا تاما؛ وحلول الإنسان النمطي محل الإنسان المتفرد لعصر النهضة. وباستثناء رابليه، الذي ينفرد بوضع خاص به وحده، فإن كل الكتاب اليوتوبيين، مثلهم في هذا مثل مور، شديدو البخل في السماح بالحرية الشخصية.
وإذا كانت هذه اليوتوبيات تمثل رد فعل ضد حركة عصر النهضة، فإنها أيضا تستبق نتائجها المنطقية. لقد تم تطور الفردية عند الأقلية على حساب الأغلبية. وطبيعي أن الكاتدرائية التي يتم بناؤها وفقا لخطة تصورها فنان واحد، تعبر بوضوح عن فرديته أكثر بكثير من كاتدرائية يتم بناؤها بالجهود المشتركة للجماعة، ولكن العمال الذي ينفذون الخطة لن تكون لديهم فرصة كبيرة لتطوير شخصياتهم.
وفي المجال السياسي انتقل أيضا زمام المبادرة من الشعب إلى فئة من الأفراد. فقادة المرتزقة، والأمراء، والملوك، والأساقفة، هم الذين يتصرفون في شئون العدالة والحروب المأجورة، ويعقدون الأحلاف والمعاهدات، وينظمون أمور التجارة والإنتاج، أي كل المهام التي كانت تعهد للروابط والنقابات واتحادات الحرفيين أو مجالس المدن. وهكذا نجد أن النهضة التي سمحت بتطور الفرد، هي كذلك التي أوجدت الدولة التي أصبحت تقوم بإلغاء الفرد.
إن يوتوبيات عصر النهضة تحاول أن تقدم حلا للمشكلات التي تواجه مجتمعا في سبيله لاستحداث شكل جديد للتنظيم.
وكما سبق أن أشار لذلك بعض الباحثين، أعطى اكتشاف العالم الجديد دفعة جديدة للفكر اليوتوبي، ولكنه لعب دورا ثانويا فقط، ويمكننا أن نفترض، ونحن مطمئنون إلى هذا الافتراض، أنه لو لم يطلع مور على رحلات فسبوتشي، لاستطاع أن يتخيل مجتمعا مثاليا له شكل مختلف، وذلك مثل كامبانيلا أو أندريا اللذين لم يكترثا بالرجوع إلى كتب الرحالة قبل أن يصفا مدنهما المثالية. لقد جاء الدافع الرئيسي الذي حركهم جميعا من الحاجة إلى إحلال نظم أخرى جديدة محل الاتحادات والنظم الفلسفية والدينية للعصور الوسطى.
ونجد بجانب اليوتوبيات، كما وجدنا عند الإغريق تحت ظروف مشابهة، محاولات لإيجاد دساتير مثالية تسعى إلى حل المشاكل الاجتماعية من خلال الإصلاحات السياسية، بدلا من السعي إلى إقامة نظام اجتماعي جديد بالكامل. ومن أصحاب الدساتير المثالية في تلك الفترة جان بودان (1530-1596م) الذي ربما كان تأثيره بالغا جدا. لقد قاوم هذا الفيلسوف الفرنسي مقاومة شديدة إغراء الرغبة في بناء «جمهورية خيالية وبغير فاعلية مثل تلك التي تخيلها أفلاطون وتوماس مور مستشار إنجلترا». واعتقد بودان، مثل أرسطو، أن الملكية الخاصة والمؤسسات الأسرية يجب أن تبقى بغير مساس، ولكنه آمن أيضا بضرورة وجود الدولة القوية التي تكون قادرة على الحفاظ على وحدة الأمة. كانت فرنسا في الوقت الذي كتب فيه بودان جمهوريته (1557م) ممزقة بالحروب الدينية، وكانت قد بدأت تنمو فيها حركة تؤيد إنشاء دولة ملكية تكون من القوة بحيث تمنع الصراعات الدينية، وتسمح في الوقت نفسه بالحرية السياسية والدينية. وقد استجابت نظريات بودان لهذه الحاجات والمشاغل الملحة، وقرئت أعماله في كل أنحاء أوروبا. وقد قام هو نفسه بترجمة «الجمهورية»
la Républigue
إلى اللاتينية عام 1586م، بعد أن ترجمت بالفعل إلى الإيطالية، والإسبانية، والألمانية . ويبدو أن أفكاره لقيت اهتماما مماثلا في إنجلترا، فعندما حضر بودان لهذا البلد عام 1579م عقدت محاضرات خاصة في كل من لندن وكمبريدج لشرح كتابه.
لقد اقتصرنا في هذا القسم على تناول الأعمال التي يمكن أن توصف بأنها دول أو تجمعات مثالية خيالية، ولم نتناول تلك الأعمال التي تعتبر، مثل جمهورية بودان، رسائل وبحوثا عن الحكومة أو السياسة. ومع أن اليوتوبيات التالية قد تصورها مفكرون تأثروا تأثرا عميقا بأفكار عصر النهضة، إلا أنهم، في جوانب عديدة، يختلف بعضهم عن بعض اختلافا كبيرا. فتوماس مور يلغي الملكية، ولكنه يبقي على التنظيمات الأسرية وعلى العبودية. وكامبانيلا، على الرغم من أنه كاثوليكي مخلص، يريد إلغاء الزواج والأسرة. وأندريا يستعير العديد من أفكاره من مور وكامبانيلا، ولكنه يؤمن بضرورة إصلاح ديني جديد أعمق تأثيرا من الإصلاح الذي دعا إليه لوثر. وبيكون يريد أن يحتفظ بالملكية الخاصة والحكومة الملكية، ولكنه يعتقد أن سعادة الجنس البشري يمكن أن تتحقق من خلال التقدم العلمي. (1) سير توماس مور: «يوتوبيا»
عندما كتب سير توماس مور يوتوبياه تملكته لذة إيقاع قرائه في الحيرة والغموض. ويبدو أنه قد نجح بالقدر الذي يفوق توقعاته؛ لأنه حتى اليوم، وبعد مرور أكثر من أربعمائة عام على نشرها، وعلى الرغم من الشروح والتعليقات التي كتبت عنها، لا يزال هذا الكتاب، في رأي البعض، لغزا عويصا. فهل يعد عملا ساخرا ومسليا فحسب، أم هل يمكن المطابقة بين أفكار مور وأفكار سكان يوتوبياه؟ إن هذه الأمور ذات أهمية أكاديمية خالصة، ولكن ربما يساعد على فهم «يوتوبيا» فهما صحيحا أن نتذكر أنها كتبت في فترة انتقالية، كانت فيها حركة النهضة تؤذن بميلاد حركة الإصلاح الديني بكل ما هزها من اضطرابات اجتماعية وسياسية عميقة.
كان المأمول في تلك الفترة التاريخية إنجاز الإصلاحات الاقتصادية والدينية الملحة بالطرق السلمية. غير أن هذا الأمل تبدد بعد سنوات قليلة، واتضح أن الإصلاحات لا يمكن أن تتم إلا عن طريق العنف والصراعات المذهبية، ولم يعد في مستطاع مستشار إنجلترا الذي أدان الملحدين وحكم عليهم بالموت على المحرقة، كما قضي عليه هو نفسه أن يضحي بحياته في سبيل معتقداته الدينية - لم يعد في مستطاعه أن يتصور مجتمعا يراعى فيه التسامح الديني على أوسع نطاق.
وعلى الرغم من أن مور وضع كتابه في فترة الهدوء الذي يسبق العاصفة، فقد كان على وعي حقيقي بالمشكلات الاجتماعية والسياسية التي تتطلب حلا. ولكنه لم يكن مصلحا عمليا، والحل الذي قدمه كان حلا منفصلا انفصالا كاملا عن الواقع. كان هذا الحل بمنزلة حلم هروبي، كما كان في نفس الوقت وسيلة للسخرية من المؤسسات والحكومات التي عاش في ظلها.
إن «يوتوبيا» كتاب باحث متمكن، ويعكس قراءات مور الواسعة، ولهذا فإن المنابع التي نهل منها هذا الكتاب لا تحصى ولا تعد. وأكثر المؤثرات فيها وضوحا هي أعمال أفلاطون وبلوتارك، بجانب مدينة الله للقديس أوغسطين التي ألقى عنها مور محاضرات عامة، والتي يعتقد أنه أخذ عنها مفهوم العبودية باعتباره عقوبة ووسيلة للإصلاح وبديلا عن عقوبة الإعدام.
وقد اختلف الشراح اختلافا أشد حول الإطار العام ل «يوتوبيا» مور. ويفترض بصفة عامة أنها مستوحاة من تقرير «أميريجو فيسبوتشي» عن رحلاته التي نشرت عام 1507م. وقد ساعد مور نفسه على تصديق هذا الغرض، لأن بطل يوتوبياه هيثلوداي البرتغالي، الذي أخذ على عاتقه مهمة وصف دولة يوتوبيا يزعم أنه واحد من أربعة وعشرين رجلا تركهم فيسبوتشي وراءه في كاب فرو
Cape Frio
أثناء رحلته الرابعة. ويفترض أيضا أن جزيرة يوتوبيا اكتشفت في مكان ما بين البرازيل والهند. كذلك يقترح ج. س. ريتشاردز
G. C. Richards
في مقدمة ترجمته ل «يوتوبيا» إلى الإنجليزية الحديثة، أن مور قابل في أنتورب بحارا أعطاه وصفا لليابان، كما يبرز أوجه الشبه القائمة بين موقع وشكل جزيرة مور الخيالية وبين موقع اليابان وشكلها، وكذلك الشبه الكائن بين المظهر الجسماني لليابانيين ونظيره عند سكان يوتوبيا. وقد طرحت في السنوات الأخيرة نظرية جديدة ترجح أن يكون مور قد عرف حضارة الأنكا واتخذها نموذجا لدولته المثالية.
3
إن هذه النظريات جميعا لا تستبعد كل منها الأخرى بالضرورة. ولا تخطئ العين تأثير الكتاب اليونان والرومان في يوتوبيا مور، ولا تأثير القديس أوغسطين وآباء الكنيسة الذين درسهم بجد واجتهاد قبل قيامه برحلته إلى الأراضي الواطئة. وربما قابل في أنتورب بحارا أو مسافرا سمع منه حكايات مرتبطة بإمبراطورية الأنكا أو إمبراطورية اليابان، مما أوحى له بفكرته عن شكل يوتوبياه، وتنظيمها.
وليست «يوتوبيا» نسخة من دولة أفلاطون أو دولة بلوتارك المثالية، ولا هي وصف من الدرجة الثانية لحضارة الأنكا في بيرو قبل الغزو الإسباني. إنها عمل أصيل، استطاع فيه مور أن يؤلف بين ما تعلمه من الكتاب الكلاسيكيين، وما أدى إليه اكتشاف العالم الجديد وعصر النهضة من اتساع في الآفاق. وسواء جاء التأثير الأقوى على مور من قبل الفلاسفة الإغريق، أو من المعرفة غير الواضحة بنظم الحكم في حضارة الأنكا، فقد أجابت «يوتوبيا» عن كل الأسئلة والهموم التي كانت تشغل عصره وبلده.
تنقسم «يوتوبيا» إلى كتابين وضعا في أوقات مختلفة، ولكننا لا نعلم على وجه الدقة أيهما كتب قبل الآخر. ومن المحتمل أن يكون مور قد بدأ اكتشاف الكتاب الثاني، الذي يحتوي على وصف الدولة اليوتوبية، أثناء إقامته في الأراضي الواطئة في عام 1515م، عندما ذهب إليها عضوا في البعثة التي أوفدت إلى الفلندرز لتسوية ما وصفه «بالأمور الخطيرة المتنازع عليها مع شارل المعظم ملك قشتالة». وهناك قابل بيتر جيلز، صديق ومضيف إرازموس من حوالي (1466-1536م) الذي جمعته به الصداقة الوطيدة وأهدى له «يوتوبيا».
ولما رجع مور إلى لندن، استكمل كتابه وأرسله إلى إرازموس في الثالث من سبتمبر عام 1516م، راجيا منه أن يبذل مساعيه لنشره وتزويده بقدر الإمكان «بتوصيات من بعض الشخصيات المرموقة لا تقتصر على الشخصيات العامة المعروفة». وأنجز إرازموس المهمة، بمساعدة جيلز، وطبع الكتاب في لوفان وظهر في نهاية عام 1516م.
4
واستقبل الكتاب استقبالا رائعا، وسرعان ما تلت طبعته الأولى طبعتان أخريان، نشر إحداهما جيلز جورمون
Gilles De Gourmont
في باريس في أواخر عام 1517م، وأصدر الأخرى الناشر فروبن
Froben . من مدينة بازل (أوبال) في شهر مارس عام 1518م. ثم ظهرت طبعة جديدة في شهر نوفمبر عام 1518م.
وعلى الرغم من السعي المخلص لإرازموس لتقديم كتاب مور إلى الباحثين الأوروبيين الذين كان على اتصال بهم، فيبدو أنه لم يكن راضيا عنه كل الرضا. ولذلك اكتفى بتزويد الطبعة الثالثة بمقدمة تحولت فيها شكوكه إلى مجاملة رقيقة: «لقد أسعدتني دائما كتابات صديقي مور، لكن صداقتي الحميمة كانت تجعلني أسيء الظن بأحكامي. ولكنني أرى الآن أن جميع المثقفين بلا استثناء يؤيدون رأيي، بل إنهم يفوقونني في تقدير عبقرية الرجل الفذة - ولا يرجع هذا إلى زيادة حبهم له على حبي، بل إلى أنهم أكثر مني فطنة واستنارة - وإني لأميل الآن إلى تأييد حكمي عليه ولن أتردد في المستقبل عن التعبير عن رأيي.»
كان مور وإرازموس على اتفاق في وجهات نظرهما حول قضايا عديدة. فكلاهما مؤمن بضرورة إصلاح الكنيسة إصلاحا ليبراليا وإنسانيا بعيدا عن الانقسامات المذهبية، وكلاهما معجب بالفلسفة اليونانية إعجابا شديدا وكاره للمذاهب المدرسية، وقد هاجم كلاهما السلطة المستبدة لرجال الدين ونظام الحكم الملكي، كما آمنا بضرورة تخلي الإنسان عن أنانيته وشهواته وتكبره قبل التفكير في إيجاد المجتمع الأفضل. ولكن من المستبعد أن يكون إرازموس قد انجذب إلى «شيوعية الدولة» عند مور. فقد أثار في بعض أقواله الحكيمة هذا السؤال: «هل ينبغي علينا حرمان الأغنياء من ثرواتهم؟» وأجاب عليه قائلا: «لا، لأن كل الثروات تعوزها التقوى. إنني أريد منهم أن يتخلصوا بأنفسهم من ثرواتهم، أو على الأقل أن تنزع عنهم ثرواتهم ويظلوا مالكين لها وكأنهم لم يملكوها أبدا.» وهذا يمثل الموقف المسيحي التقليدي من الملكية، وإرازموس لا يزيد على أن يكون مجرد صدى للآباء المسيحيين. وكذلك أراد مور «تغييرا في القلب»، ولكنه آمن بأنه إذا أمكن تغيير المؤسسات عن طريق بعض المشرعين فإن ذلك سوف يعجل بالتقدم الأخلاقي للبشرية.
ويرجح أيضا ألا يكون إرازموس قد انجذب لمجتمع مور المنظم تنظيما دقيقا صارما، فهو مجتمع تشتم منه رائحة الأديرة بقوة، هذه الأديرة التي كتب (أي إرازموس) ضدها أكثر صفحاته قسوة. وإذا كان قد عارض الحياة المنظمة بشكل مصطنع، قد اعترض بنفس القوة على حرمان الإنسان من غرائزه وعواطفه الطبيعية لتحويله إلى آلية عقلية. إن رجال مور المثاليين هم بشر غير إنسانيين بتاتا، لأنهم غير قادرين على الإحساس بأي مشاعر ، غير تلك التي تمليها عليهم قوانين معينة، أو لأنهم ممنوعون من ذلك، إنهم جميعا يشبهون ذلك «الرجل الحكيم» الذي سبق أن سخر منه إرازموس في كتابه مدح الحماقة: «... فليهنئوا ما شاءوا مع رجلهم الحكيم هذا؛ ليتمتعوا به وليحبوه بغير منافس ويعيش معه في دولة أفلاطون وهي بلد المثل، أو في بساتين طنطالوس. ومن ذا الذي لا ينأى بنفسه عن مثل هذا الرجل ولا يفزع منه كما يفزع من حادث غير طبيعي أو من شبح؟ إنه رجل مات في كل إحساس بالطبيعة وبالمشاعر المألوفة، ولم يعد يحركه حب ولا شفقة إلا بقدر ما تحرك صوانا أو صخرة، رجل لا يفلت من رقابته شيء ولا يرتكب هو نفسه أي خطأ، ويسلط عينين كعيني لينكس
Lynx
5
على الآخرين، إنه يقيس كل شيء بمقياس دقيق، ولا يتسامح في شيء، ولذته الوحيدة مقصورة على التلذذ بنفسه؛ وهو الغني الوحيد، والحكيم الوحيد، والحر الوحيد، والملك الوحيد، وباختصار هو الرجل الوحيد الذي هو كل شيء، ولكن من وجهة نظره هو وحده، إنه لا يحرص على صداقة أي إنسان، لأنه هو نفسه لا يصادق أحدا، ويتصرف وكأنه يقوم بدور الآلهة، ويدين جميع تصرفات حياتنا ويستهزئ بها. ومع ذلك فمثل هذا الوحش هو حكيمهم الكامل. ولكن قل لي بربك أي مدينة يمكن أن تختاره حاكما لها، أو أي جيش يمكن أن يتمناه قائدا له؟ أي امرأة يمكن أن ترضاه زوجا لها، وأي إنسان يمكن أن يقبله ضيفا في بيته، وأي خادم يمكن أن يرغب أو يتحمل أن يكون سيده؟»
ويتضمن «مدح الحماقة» فقرات عديدة تدل على أن إعجاب إرازموس بأفلاطون لم يعم عينيه عن فلسفته التسلطية، وهي الفلسفة التي قبلها مور من ناحيته قبولا شبه تام.
ويعد الكتاب الأول من «يوتوبيا»، إلى حد ما، وصفا للظروف التي سادت إنجلترا في بداية القرن السادس عشر، ولكنه في الأساس مناقشة لمشكلتين شغلتا عقل مور في ذلك الوقت. كانت المشكلة الأولى مشكلة شخصية: هل ينبغي عليه الالتحاق بخدمة الملك، والأعم من هذا، هل ينبغي على الفلاسفة مساعدة الملوك بنصائحهم وخبراتهم، وبذلك يسعون لمصلحة الدولة؟ وتتعلق المشكلة الأخرى بإصلاح نظام العقوبات. فقد كان مور، من خلال عمله محاميا على معرفة وثيقة بالإجراءات المتبعة في إدارة شئون العدل، ولا بد أن الإفراط في تطبيق عقوبة الموت حتى على جرائم السرقة التافهة سبب له معاناة شديدة. لقد رأى أن هذه العقوبة أبعد ما تكون عن منع الجرائم التي ترتكب في حق الملكية، بأن هذه الجرائم في تزايد مستمر كل يوم ومن الطبيعي أن يجد من واجبه أن يبحث عن وسيلة أفضل للتصرف معها.
وتناقش هذه المسائل في حديث يجري بين بيتر جيلز ورفائيل هيثلوداي،
6
وهو فيلسوف وباحث، تتملكه الرغبة الحارة في اكتشاف البلاد الأجنبية، واكتشاف أفكار مور نفسه. وفي حديقة منزل مور، في أنتورب، يبدأ هيثلوداي بسرد روايته عن رحلاته وعن العادات التي صادفها بين الأمم الغريبة التي زارها. وبعد الاستماع إليه يعبر بيتر جيلز عن دهشته من أن رجلا بمثل هذه الخبرة بشئون العالم لم يفكر في الالتحاق ببلاط أحد الملوك، بحيث يمكنه أن يمتعه بمعرفته وخبرته بالبلاد والشعب، وأن يساعده بإسداء النصيحة، وبذلك يؤدي خدمة للمصلحة العامة.
ويرد عليه هيثلوداي بأنه لو فعل ذلك فلن يفقد فحسب استقلاله، بل لن يخدم كذلك المصلحة العامة عن طريق الالتحاق بخدمة الملوك، لأن «معظم الملوك يشغلون أنفسهم بأعمال الحرب والفروسية (وهي أمور لا تتوافر لي معرفتها ولا أرغب فيها) أكثر مما يشغلونها بأعمال السلم الشريفة، ويهتمون بوجه عام بالحصول على ممالك جديدة، سواء بالحق أو الباطل، أكثر مما يهتمون بأن يحكموا بالعدل الممالك التي يملكونها بالفعل.»
7
ويستطرد هيثلوداي في فضح الرذائل المنتشرة في بلاط الملوك وعدم اكتراثهم بمعاناة شعوبهم. وقد عرف أثناء زيارته لإنجلترا أن اللصوص يحكم عليهم بالإعدام في كل مكان، وأنهم يشنقون بسرعة مذهلة بحيث يتم في بعض الأحيان شنق العشرين منهم على مشنقة واحدة، ثم يلاحظ أن هذه الطريقة في التصرف مع اللصوص «تتعدى حدود العدالة، كما أنها ضارة بالمصلحة العامة، فهي عقوبة بالغة القسوة للسرقة، ومع ذلك فليست رادعا كافيا، فالسرقة وحدها ليست جرما كبيرا يعاقب عليه بالموت. كما أنه لا توجد عقوبة كفيلة بأن تمنع من السرقة أولئك الذين يفتقرون إلى حرفة أخرى يكسبون منها عيشهم ... إذ فرضت العقوبات الصارمة الرهيبة على اللصوص، في حين كان من الأفضل كثيرا تدبير بعض الوسائل ليكسبوا بها عيشهم، بحيث لا تدفع الضرورة القصوى بالإنسان لأن يسرق، ثم يموت نتيجة لذلك.»
8
وبدلا من توفير سبل كسب العيش لأفراد الشعب، فإن الرجال الذين يعودون من الحرب مشوهين ومعوقين أو عاجزين عن العمل بسبب التقدم في العمر، نجدهم مجبرين على السرقة والاستجداء، أو على التعرض للجوع، والنبلاء بدورهم، ليسوا أفضل حالا من الدولة في الوفاء بالتزاماتهم تجاه أولئك الذين خدموهم: «هناك ذلك العدد الكبير من النبلاء الذين لا يكتفون بأن يعيشوا عاطلين مثل ذكور النحل، معتمدين على عمل الغير وكدهم، وأقصد أولئك الذين يؤجرون أراضيهم والذين يسلبونهم كل صغيرة وكبيرة عن طريق رفع الإيجار، علما بأن هذه هي الناحية الوحيدة التي يمارسون فيها التقشف، أما فيما عدا ذلك فهم مسرفون لدرجة أن إسرافهم المفرط قد يؤدي بهم إلى الاستجداء، هؤلاء النبلاء لا يكتفون بأن يعيشوا هم أنفسهم فقط في تعطل، ولكنهم يجرون وراءهم قطيعا ضخما من الخدم العاطلين، ممن لم يتعلموا قط حرفة يكسبون منها عيشهم. هؤلاء الرجال، ما إن يتوفى سيدهم، أو يحل بهم المرض، حتى يطردوا شر طردة. فهؤلاء النبلاء يفضلون الاحتفاظ بالمتعطلين على الاحتفاظ بالمرضى، وفي كثير من الأحيان لا يستطيع وريث الرجل المتوفى أن يحتفظ بمظاهر العظمة التي كان عليها البيت من قبل، ولا أن يبقي على كل هذا العدد من الخدم الذي كان يحتفظ به والده في بادئ الأمر على الأقل. وهكذا نجد هؤلاء الأشخاص، في هذه المواسم العجاف، يكرسون جهودهم للتضور جوعا، إن لم يكرسوها للسرقة. وماذا في وسعهم أن يفعلوا غير ذلك؟ فبعد أن يتجولوا في الطرقات فترة من الزمن بحيث تبلى ملابسهم وتعتل صحتهم، ونتيجة لشحوب وجوههم وتمزق ملابسهم، لا يتنازل النبلاء باستئجارهم لخدمتهم، ولا يجرؤ المزارعون على تكليفهم بالعمل لديهم. ذلك أن هؤلاء يعرفون تماما أنه لا يصلح للعمل الجاد المخلص بالمنجل والفأس، في خدمة رجل فقير، ومقابل أجر ضئيل، ذلك الشخص، الذي كان يتقلب في أحضان النعيم بين البطالة واللذة، ويختال في الطرقات حاملا سيفه في غمده، وعلى وجهه نظرة التباهي والكبرياء، ظنا منه ألا مثيل له بين الناس.»
9
وتطويق الأراضي بوضع اليد عليها هو أحد الأسباب الرئيسية المسئولة عن فقر الناس وتشردهم: «إن أغنامكم التي اعتادت أن تكون أليفة معتدلة الطعام كما نما إلى سمعي، أصبحت شرهة مفترسة، تلتهم الرجال أنفسهم وتدمر حقولا ومنازل ومدنا بأكملها وتلتهم سكانها. ففي جميع تلك الأجزاء من المملكة التي تنتج أرفع أنواع الصوف ومن ثم أغلاها، لا يكتفي نبلاؤكم بالدخول والأرباح السنوية، التي كانت تدرها عليهم أراضي آبائهم وأجدادهم، ولا يقنعون بأن يعيشوا في بطالة وترف، ولا يفيدون الدولة في شيء، بل يجلبون عليها الضرر الأكيد، فلا يتركون أرضا للزراعة، ويقيمون الأسوار حول كل شبر من الأرض ويحولونها إلى مراع، ويهدمون المنازل، ويدمرون المدن، ولا يتركون مكانا قائما سوى الكنيسة التي يحولونها إلى حظيرة للأغنام. وكأنكم لم تفقدوا قدرا ليس بالقليل من الأرض التي تحولت إلى غابات، وساحات صيد، فيأتي هؤلاء الرجال الطيبون ويحولون جميع الأماكن السكنية والأراضي الزراعية إلى برار وقفار. وهكذا لكي يوصل رجل شره لا يعرف الشبع - بل هو وباء على بلاده - بين حقل وآخر ويحيطها بسور واحد، إما أن يطرد المستأجرون والزراع من الأرض، فيبعدوا عنها بالغش والاحتيال، أو بالعنف والقهر، وتنزع منهم حتى ممتلكاتهم، وإما أن يصيبهم السأم والوهن من كثرة الظلم والأذى، فيضطرون إلى بيع كل شيء. وهكذا بوسيلة أو بأخرى، لا يبقى هناك مفر من أن يرحل هؤلاء البؤساء المساكين، تاركين بيوتهم، الرجال والنساء، الأزواج والزوجات، الأيتام والأرامل، الآباء بأطفالهم الصغار، وأسرا بأكملها، كثيرة الأنفس، قليلة العتاد. فما أكثر ما تحتاج إليه الزراعة من أيد. وهكذا يسيرون بخطى ثقيلة من البيوت الوحيدة التي عرفوها واعتادوها، ولا يجدون لهم مأوى آخر يذهبون إليه، ويضطرون إلى بيع جميع ما تحويه بيوتهم، مما لا قيمة كبيرة له، حتى لو بيع في أحسن الأوقات، بأبخس الأثمان، عندما يطردون فجأة من بيوتهم. وهذا القليل سرعان ما ينفقونه وهم يتنقلون من مكان إلى آخر، فماذا يفعلون، بالله عليك، سوى أن يسرقوا، ثم تنفذ فيهم العدالة كما تقول فيشنقون، أو يتحولون إلى التسول. وحتى عندئذ فسيلقى بهم في السجن بتهمة التشرد، لأنهم يتنقلون من مكان إلى آخر دون عمل. وبالرغم من أنهم يرغبون أشد الرغبة في العمل، فليس هناك من يكلفهم به. فلم يبق هناك شيء من الأعمال الزراعية التي تدربوا عليها، إذ لم تبق أرض للزراعة.»
10
ومعاقبة السرقة بالإعدام ليست شيئا غير عادل وغير مؤثر فحسب، وإنما تؤدي كذلك إلى جرائم أكبر: «فمن المؤكد أنه ما من شخص لا يعرف كم من المضحك والضار بالدولة أن تفرض نفس العقوبة على اللص والقاتل. إذ يرى اللص أنه لا يقل تعرضه للخطر إن حكم عليه بأنه لص عما إذا حكم عليه بأنه قاتل، فهذه الفكرة وحدها كفيلة بأن تدفعه إلى قتل الرجل الذي كان سيكتفي بسرعته وفضلا عن أنه لن يتعرض لخطر أكبر إذا أمسك به، فإنه سيكون أكثر أمنا بالتخلص من الرجل، وأقوى أملا في تغطية جريمته إذا لم يترك وراءه من يروي أحداثها. وهكذا، بينما نحاول إرهاب اللصوص بالقسوة المتطرفة، فإننا نغريهم على الفتك بالمواطنين الصالحين.»
11
وأنسب طريقة لمعاقبة الجريمة هي تلك التي كانت شائعة عند قدماء الرومان الذين «كانوا عندما يدان الرجال بجرائم بشعة، كان يحكم عليهم بالعمل طوال حياتهم في المحاجر وبالبحث عن المعادن في المناجم، وبأن يظلوا دائما موثقين بالأغلال.»
12
أو بالطريقة التي لجأ إليها شعب البوليليريت
13
الذين يلزمون اللصوص برد الأشياء المسروقة إلى أصحابها ثم يحكم عليهم فضلا عن ذلك بالأشغال الشاقة. «وما لم تكن السرقة فادحة، فلا يحكم عليهم بالسجن، ولا يوثقون بالأغلال.» ولكي يمنعوهم من الهرب يرتدي الجميع على حد سواء ملابس من نفس اللون. أما شعر رءوسهم فلا يحلق تماما، بل يقص بشكل مستدير فوق الأذنين ويقطع طرف أذن منهما.
ويقترح هيثلوداي ضرورة اتباع هذه الطرق في إنجلترا، ويكرر مور، متأثرا بحكمة صديقه الحميم، نصيحة جيلز بأنه يجب أن يقنع نفسه بألا يزدري العمل في بلاط الملوك، ويستشهد بأفلاطون الذي يكن له هيثلوداي إعجابا شديدا: «يرى كاتبك الأثير، أفلاطون، أن الدول لن تتحقق لها السعادة في نهاية الأمر إن لم يصبح الفلاسفة ملوكا، أو يقبل الملوك على دراسة الفلسفة. فما أبعد هذه السعادة إن لم يتنازل الفلاسفة ولو بتقديم المشورة للملوك.»
14
ويرفض هيثلوداي هذا اللوم ويقتبس بدوره من أفلاطون ما يعزز وجهة نظره: «ليس الفلاسفة بهذه الغلظة، بحيث لا يقدمون المشورة بكل سرور. والواقع أن كثيرين منهم قد قاموا بذلك بالفعل في الكتب التي نشروها، لو كان الحكام على استعداد لتقبل مشورتهم السديدة. ولكن مما لا شك فيه أن أفلاطون قد أدرك مقدما أنه ما لم يتجه الملوك أنفسهم إلى دراسة الفلاسفة فلن يقروا مطلقا مشورة الفلاسفة الحقيقيين لأنهم قد تشبعوا بالأفكار الخاطئة التي أفسدتهم. وقد أدرك أفلاطون هذه الحقيقة من تجربته الخاصة مع الملك ديونيسيوس.»
15
إن هذه الفقرة تكاد تحمل طابع النبوءة، على الرغم من أن توماس مور لم يستطع أن يتنبأ بأن الملك هنري الثامن سيعامله بصورة تفوق في جحودها، حسب الرواية المعروفة، معاملة ديونيسيوس لأفلاطون. وهي كذلك فقرة مهمة لأنها يمكن أن تقودنا للاعتقاد بأن الدولة المثالية ليوتوبيا ينبغي أن يحكمها فلاسفة، ولكن هذه الفكرة لم تطور في الجزء الثاني من الكتاب، كما يبدو أنها تدل على أن تصور مور للدولة المثالية قد طرأ عليه التغير في الفترة التي تفصل بين تأليف الكتابين.
ويواصل هيثلوداي شجبه لولع الملوك بالحروب التي يخوضونها بطريقة تفتقر للأمانة، وذلك بعدم احترامهم للمعاهدات، وتحصيلهم للأموال بناء على ادعاءات زائفة وعن طريق غش العملة في بلادهم، فضلا عن لجوئهم إلى الدسائس والرشوة. ويمكن أن يجد الفيلسوف نفسه مضطرا إلى توجيه اللوم إلى الملك بسبب هذه الأعمال ، ولو فعل هذا فسوف يطرد على الفور. ويظل مور على عدم اقتناعه، ويصر على أن الفيلسوف، إذا كان سياسيا ماهرا، يمكنه أن يؤثر بعض التأثير في الأمراء. وتدفع هذه الحجة هيثلوداي إلى الكشف عن فكرته بأكملها؛ فالملوك لا يحتاجون فحسب إلى أن يكونوا فلاسفة صالحين لكي يحكموا حكما سديدا، وإنما يجب تغيير بناء المجتمع برمته: «إذا ما كنت لأعبر لك بصدق عن مشاعري القلبية، فإنه يبدو لي أنه حيثما وجدت الملكية الخاصة، وكان المال هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، فيكاد يكون من المستحيل تقريبا أن يسود المجتمع العدل أو الرخاء، إلا إذا حسبت أن العدل قائم حيث تتدفق أفضل الأشياء إلى أيدي أسوأ المواطنين، أو أن الرخاء يسود حيث تتقاسم قلة قليلة منهم كل شيء، وحتى هذه القلة لا تحقق درجة كبيرة من الثراء، في حين يعيش الباقون في شقاء تام. ولذا فطالما يجول بخاطري نظم اليوتوبيين البالغة الحكمة والقدسية، حيث تدبر الأمور تدبيرا سويا عن طريق عدد صغير جدا من القوانين، وتنال الفضيلة جزاءها. ومع ذلك فنظرا لعدالة التوزيع، يتمتع الجميع بالوفرة في كل شيء. ومن ناحية أخرى أقارن بين سياستهم وسياسة الشعوب الكثيرة في الأماكن الأخرى التي لا تكف عن إصدار القوانين، ومع ذلك فلا تحقق إحداها الحياة الصالحة، وحيث يسمي كل رجل كل ما يحصل عليه ملكا خاصا له، ومع ذلك لا تكفي جميع هذه القوانين التي تصدر يوميا ليحتفظ المرء أو يدافع عن - أو حتى يفرق بين - ما يخصه وما يخص شخصا آخر، وما يدعي كل بدوره أنه يخصه، وليس أدل على ذلك من تلك القضايا التي لا حصر لها، والتي تتجدد يوميا، ولا تنتهي أبدا، أقول إني عندما أتأمل هذه الحقائق، أصبح أكثر تحيزا لأفلاطون وأقل دهشة لرفضه وضع القوانين لأولئك الذين رفضوا تلك التشريعات التي منحت الجميع أنصبة متساوية من جميع السلع.
لقد أدرك هذا الفيلسوف الحكيم مقدما وبسهولة أن الطريق الوحيد الذي لا يوجه سواه لتحقيق الرفاهية للجميع هو تحقيق المساواة في جميع الأمور. وأشك في أن هذا يمكن مراعاته حيث تعد ممتلكات الفرد ملكا خاصا له. فعندما يهدف كل إنسان إلى الملكية المطلقة لكل ما تصل إليه يداه، فمهما عظمت كمية السلع، فإنها تقسم بين حفنة من الناس ويترك الباقون في فقر وعوز. وغالبا ما يحدث أن هذه الطبقة الأخيرة تستحق ما تتمتع به الأخرى من ثراء، فالأغنياء جشعون، لا ضمير لهم، ولا فائدة منهم، بينما الفقراء حسنو السلوك، مهذبون، بسطاء، وأكثر نفعا للدولة بعملهم اليومي عنهم لأنفسهم. وإني مقتنع تمام الاقتناع بأنه لن يمكن إجراء تقسيم عادل ومتساو للسلع، ولا أن تتحقق السعادة في الحياة الإنسانية ما لم تلغ الملكية الخاصة تماما. فما دامت باقية فسيظل الجزء الأكبر بكثير، والأفضل بكثير من الجنس البشري مثلا دائما بعبء ثقيل لا مفر منه من الفقر. أعترف بأنه من الممكن تخفيف هذا العبء بعض الشيء، ولكني أنكر أنه من الممكن التخلص منه تماما.
فقد يصدر قانون يقضي بألا يملك شخص أكثر من قدر معين من الأرض. وألا يكون لأي رجل دخل من المال يزيد على ما يحدده القانون. وقد تصدر تشريعات خاصة تحول بين الملك وزيادة سيطرته، والأغنياء وزيادة جشعهم، وتقضي أيضا بألا يكون الحصول على الوظائف العامة بالهدايا والوساطة، وألا تباع وتشترى، وألا تحمل شاغليها تكاليف شخصية باهظة (وإلا فسيكون الإغراء قويا لأن يسترد الشخص هذه التكاليف عن طريق النصب والنهب، وأن يعين بالضرورة لهذه الوظائف الأغنياء من الرجال بدل أن يشغلها الحكماء منهم).
أقول إنه بهذا النوع من القوانين تخفف هذه الشرور وتقل حدتها، كما يبقى على الأجسام المعتلة التي لا رجاء في شفائها بأنواع العلاج الطبي المتكررة، أما أن تشفى تماما وتعود إليها الصحة الكاملة، فهذا ما لا أمل فيه ما دام كل فرد سيدا لملكه الخاص. نعم، بينما تحاول إصلاح جزء ما، تزيد من وطأة المرض على جزء آخر، بحيث يؤدي شفاء عضو واحد بالتبعية إلى إصابة عضو آخر، ما دام لا يمكن إضافة شيء للواحد من دون أن يؤخذ من الآخر.»
16
ويعترض مور قائلا: «لا يمكن للبشر أن يعيشوا عيشة راضية إذا كانت كل الأشياء مشاعا بينهم.» ويرفض جيلز أن يصدق «أن أي أمة في ذلك العالم الجديد، يسودها نظام حكم أفضل من النظام السائد بيننا»، ولكي يثبت هيثلوداي فكرته نجده يشرع في وصف دولة يوتوبيا الحكيمة المزدهرة.
ويبدأ الكتاب الثاني بوصف الجزيرة ومدنها: «تمتد جزيرة يوتوبيا
17
عند منتصفها (حيث أعرض نقطة بها) مسافة مائتي ميل، ولا تضيق عن ذلك كثيرا في معظم أجزائها، ولكنها تضيق تدريجيا قرب طرفيها. ويكون هذان الطرفان دائرة يبلغ طول قطرها خمسمائة ميل، ويجعلان الجزيرة تبدو كالهلال، يفصل بين طرفيه مضيق عرضه أحد عشر ميلا. ثم يتسع المضيق فيكون بحرا عريضا. ولما كان اليابس الذي يحيط به من كل جانب يحجز الرياح، فإن الخليج يشبه بحيرة ضخمة، تميل إلى الهدوء أكثر مما تميل إلى الاضطراب، وهكذا يصبح الجزء الداخلي من البلاد كله تقريبا مرفأ يسمح للسفن بالمرور في جميع الجهات، مما يحقق فائدة كبرى للسكان. أما مدخل هذا الخليج فخطر غاية الخطورة لما ينتشر به من أجزاء ضحلة وصخور.
ومما يقال ويدل عليه مظهر الجزيرة، أنها لم تكن في وقت من الأوقات محاطة بالبحر. ولكن الملك يوتوبوس الفاتح الذي تحمل الجزيرة اسمه (بعد أن كانت تدعى أبراكسا حتى ذلك الوقت) والذي حول ذلك الشعب الفظ البدائي إلى هذه الدرجة من الحضارة والإنسانية التي تجعلهم الآن أرفع شأنا من جميع من عداهم من بني البشر تقريبا، أحرز النصر بمجرد نزوله إلى اليابس. ثم أمر بحفر مسافة خمسة عشر ميلا على الجانب الذي ترتبط عنده البلاد بالقارة وجعل البحر يجري حول البلاد.
وبالجزيرة أربع وخمسون مدينة كبيرة جميلة تتكلم جميعا بنفس اللغة، ولها نفس التقاليد والعادات، وتسودها ذات القوانين والنظم. وهي جميعا متشابهة أيضا في نظامها، ومتشابهة أيضا أينما وجدت وبقدر ما تسمح به طبيعة الأرض حتى في مظهرها. ولا تبعد مدينة عن الأخرى أكثر من أربعة وعشرين ميلا، ولا يفصل إحداها عن الأخرى أيضا أكثر من مسيرة يوم واحد.»
18
إن المدن تتشابه تشابها مملا، والعاصمة أموروت نسخة محسنة من مدينة لندن. ويدل الوصف التالي على الاهتمام الشديد بإصلاح أحوال المدن: «أما المدن فمن يعرف واحدة منها يعرفها جميعا، فكلها متشابهة بقدر ما تسمح به طبيعة المكان. ولذا سأصف لكم واحدة فقط (ولا يهم كثيرا أيها)، ولكن هل يوجد أجدر بذلك من أموروت؟ أولا لأنه ما من مدينة أخرى أكثر جدارة منها، ولأن المدن الأخرى تعترف لها بالرئاسة لأنها مقر اجتماع المجلس القومي أو دار الشورى، وثانيا لأني أعرفها أكثر من غيرها من المدن، لأنها المدينة التي عشت فيها خمس سنوات كاملة.
وتقع أموروت على سفح جبل قليل الانحدار، وهي مربعة الشكل تقريبا. ويبلغ عرضها حوالي ميلين ابتداء من نقطة أسفل قمة الجبل بقليل ثم على امتداد نهر الأنايدر، أما طولها بمحاذاة النهر فيزيد قليلا على عرضها ... ويصل المدينة بالجانب الآخر للنهر جسر أقيم لا من الأعمدة أو الكتل الخشبية بل من الأحجار، وله أقواس فخمة، ويقع في أبعد جزء من المدينة عن البحر، حتى تمر السفن بمحاذاة كل هذا الجزء من المدينة دون عائق. وهناك أيضا نهر آخر، ليس كبيرا جدا، ولكنه هادئ لطيف، وينبع من نفس الجبل الذي بنيت عليه المدينة وينحدر إلى وسطها حيث يصب في نهر أنايدر. وقد أحيط منبع هذا النهر ورأسه، الذي يقع على مسافة قريبة خارج المدينة بأسوار متينة، خشية أن يقوم الأعداء في حالة هجوم معاد، بقطعه أو تحويل مياهه أو تسميمها. ومن هذه النقطة توزع المياه عن طريق قنوات مصنوعة من الآجر إلى الأجزاء المختلفة من الجزء الأسفل من المدينة. وحيث لا تسمح طبيعة الأرض بذلك، تجمع مياه الأمطار في خزانات كبيرة وتؤدي نفس الغرض.
ويحيط بالمدينة سور عال عريض أقيمت عليه القلاع والأبراج على مسافات متقاربة، ويحيط بثلاثة جوانب من السور خندق جاف عميق عريض زرعت به الشجيرات الشوكية لتعيق المرور، أما على الجانب الرابع فيقوم النهر ذاته مقام الخندق. والطرق مهيأة جيدا للمرور وللوقاية من الرياح على حد سواء. أما المباني فأبعد ما تكون عن الضآلة والتواضع ومقامة بعضها بجانب بعض في صف طويل، يستمر طوال الشارع ويقابله صف آخر على الجانب المواجه. ويفصل بين واجهات المنزل المتقابلة شارع عرضه عشرون قدما. وخلف المنازل، وعلى طوال الشارع، حديقة فسيحة تحيط بالجوانب الخلفية للمباني من جميع الجهات. ولكل منزل بابان. يؤدي أحدهما إلى الطريق، والآخر إلى الحديقة. وبالإضافة إلى ذلك، فهذه الأبواب، التي تفتح وتقفل تلقائيا بمجرد أن تلمسها اليد، تسمح لأي شخص بالدخول. ونتيجة لذلك لا يوجد ما يعد ملكا خاصا في أي مكان. وبالفعل، يتبادل اليوتوبيون بيوتهم كل عشر سنوات عن طريق القرعة.
ويهتم اليوتوبيون اهتماما خاصا بالحدائق، فيزرعون فيها الكروم والفواكه، والأعشاب، والزهور، ويعنون بها فتزدهر، بحيث لم أر أبدا شيئا، أكثر إثمارا أو تنسيقا منها في أي مكان آخر. ويزداد حماسهم لرعايتها، ليس نتيجة لما يجدون في ذلك من متعة فقط، ولكن أيضا نتيجة للتنافس بين مجموعات منازل الشوارع المختلفة حول أجمل حديقة وأكثرها تنسيقا. وحقا لن تجد بسهولة في المدينة كلها شيئا أكثر نفعا أو مدعاة لسرور المواطنين. وهكذا يبدو أن مؤسس المدينة لم يهتم بشيء مثل اهتمامه بهذه الحدائق. فمما يقال إن الملك يوتوبوس ذاته قد وضع تصميم المدينة كلها في بادئ الأمر. ولكنه ترك للأجيال التالية أمر تزيينها وإتمام غير ذلك من التحسينات التي رأى أن حياة شخص واحد لا يمكن أن تكفي لها.»
19
والأرض هي المصدر الرئيسي للثروة في يوتوبيا، كما كان الحال في إنجلترا في ذلك الوقت، ويزرع سكان يوتوبيا أرضهم بمهارة، ولا يسمحون بأن يبور شبر واحد منها. ومع ذلك فليس عندهم طبقة خاصة من الفلاحين أو المزارعين، فثمة تكامل أو بالأحرى اندماج كامل بين عمال المدينة وعمال الريف، لأن كل مواطن يقوم بالعملين معا. وتصبح الزراعة شكلا من أشكال الخدمة العسكرية التي يؤديها كل مواطن لمدة عامين. وقد يبدو أن هذا الوقت أقصر من أن يكفي لاكتساب خبرة كافية في زراعة الأرض، لكن سكان يوتوبيا تدربوا على الزراعة وقتا طويلا قبل أن يلتحقوا ب «جيش الأرض»: «الزراعة هي العمل الوحيد الذي يقوم به الجميع، رجالا ونساء، دون استثناء، ويتعلمونها جميعا في طفولتهم عن طريق التلقين النظري في المدرسة من ناحية، وعن طريق الرحلات الزراعية التي يقوم بها إلى المزارع القريبة من المدينة للترفيه من ناحية أخرى. وهنا لا يكتفون بالمشاهدة فقط، بل يشاركون بالعمل الفعلي كلما سنحت الفرصة للتدريب البدني.»
20
ولا يزيد عدد أفراد العائلة في المدن على سبعة عشر فردا، ولكن عندما يرسل بعض أفرادها للعمل في الريف فإنهم يلحقون بمنازل ريفية لا يقل عدد أفرادها عن الأربعين: «توجد في جميع أنحاء المناطق الزراعية منازل ريفية مزودة بجميع أنواع الأدوات الزراعية. ويسكنها المواطنون الذين يجيئون للإقامة بها بالتناوب. ولا تضم أي أسرة ريفية في البلاد أقل من أربعين فردا من الرجال والنساء، بالإضافة إلى اثنين من العبيد الملحقين بالأرض. والجميع تحت رعاية رب الأسرة وربتها. وكلاهما شيخان وقوران. ولكل مجموعة من ثلاثين أسرة رئيس يدعى فيلارك.
ويعود من كل أسرة إلى المدينة سنويا عشرون من أفرادها، الذين قضوا سنتين في الريف. ويرسل من المدينة بدلا منهم عشرون آخرون. ويقوم بتدريبهم أولئك الذين قضوا سنة هناك وأصبحوا أكثر خبرة بشئون الزراعة. وهؤلاء بدورهم يدربون غيرهم في السنوات التالية. وبهذه الطريقة تتجنب البلاد أي خطر ينجم عن نقص كمية المواد الغذائية التي تنتج سنويا نتيجة الافتقار إلى الخبرة اللازمة، كما قد يحدث إذا كان الجميع في وقت من الأوقات حديثي العهد بالزراعة عديمي الخبرة بها. وبالرغم من أن هذا النظام الذي يقضي بتغيير الزراع هو القاعدة المتبعة، حتى لا يجبر فرد على غير إرادته على الاستمرار فترة أطول مما ينبغي، في مزاولة هذا النوع الشاق من العمل، غير أنه يسمح لكثير من الرجال الذي يميلون إلى الأعمال الزراعية، ويجدون متعة في مزاولتها، بالبقاء عدة سنوات. ويقوم هؤلاء الزراع بفلاحة الأرض، وتربية الماشية، وقطع الأخشاب ونقلها إلى المدينة عن طريق البر أو الماء، أيهما أسهل . ويربون أعدادا كبيرة من الدواجن بطريقة مدهشة. إذ لا يرقد الدجاج على البيض بل يحفظ الزراع عددا كبيرا منه في درجة حرارة معينة ثابتة، فتنبعث فيه الحياة ويفقس. أما الأفراخ فحالما تخرج من البيض، تتبع بني البشر وتنظر إليهم نظرتهم إلى الأم.»
21
وتتوثق العلاقة الحميمية بين المدينة والريف عن طريق التبادل الحر للبضائع والنزوح الدوري للمواطنين إلى الريف عندما يتطلب العمل ذلك: «أما ما يحتاجون إليه من أشياء لا توجد في الريف، فيرسلون في طلبها من المدينة، ويحصلون عليها دون مقابل من العاملين بالإدارة المحلية، دون القيام بأي مساومة. وتذهب إلى هناك أعداد كبيرة جدا كل شهر لقضاء يوم العطلة، وعندما يقرب وقت الحصاد، يخبر رؤساء المناطق الزراعية من الفيلارك موظفي البلدية بعدد المواطنين الذين يحتاجون إليهم من المدينة. ولما كانت جموع رجال الحصاد تصل سريعا في الوقت المحدد، فإنهم ينجزون الحصاد كله في يوم واحد.»
22
وجزيرة يوتوبيا بأكملها عبارة عن اتحاد فيدرالي مكون من المدن والريف المحيط بها: «ويأتي سنويا من كل مدينة إلى أموروت ثلاثة شيوخ ذوو تجربة، لمناقشة الأمور المتصلة بالمصلحة العامة للبلاد. وتعد هذه المدينة، لوقوعها وسط الجزيرة تماما، أصلح مكان لالتقاء السفراء من جميع أنحاء البلاد. أما الأراضي المحيطة فموزعة توزيعا عادلا بين المدن بحيث لا يقل ما يحيط بكل مدينة من كل جانب عن اثني عشر
23
ميلا، وقد يزيد في بعض الأماكن، كما هو الحال في المدن التي تفصل بينها مسافة أكبر مما تفصل بين غيرها. ولا تسعى أي مدينة من هذه المدن إلى توسيع رقعتها، لأن أهلها يعتبرون أنفسهم زراعا أكثر منهم ملاكا لها.»
24
ويتكون عدد سكان كل مدينة من حوالي مائة ألف نسمة، يقسمون لأغراض انتخابية وإدارية، إلى أربعة قطاعات، كما ينقسم كل قطاع إلى مجموعات مكونة من ثلاثين أسرة. وتنتخب كل ثلاثين أسرة سنويا حاكما لها تطلق عليه اسم السيفوجرانت. وكل عشرة سيفوجرانت بعائلاتهم يحكمهم ترانيبور ينتخب سنويا ولا يغير إلا لسبب معقول. والمجموع الكلي للسيفوجرانت، الذين يبلغ عددهم مائتي فرد ويشكلون نوعا من مجلس الشيوخ، يعين أمير المدينة من أربعة أشخاص سبق أن رشحهم الشعب، ويحتفظ الأمير بمنصبه مدى الحياة، ما لم يشك في نيته أن يصبح طاغية. ويساعد الأمير مجلس أو هيئة مؤلفة من عشرين ترانيبور أو اثنين من السيفوجرانت: «وتجري المشاورات بين الحاكم والرؤساء الأوائل (الترانيبور) مرة كل يومين، وأحيانا أكثر من ذلك، إذا اقتضى الأمر. وهم يتشاورون مع الأمير بشأن أمور الدولة. فإذا نشأ خلاف بين فردين من أفراد الشعب وقلما يحدث ذلك، فإنهم يسوونه دون إبطاء. وينضم إلى المجلس اثنان من الرؤساء، يتغيرون يوميا. ولا يعتمد أمر من أمور الدولة ما لم يناقش في المجلس ثلاثة أيام قبل صدور القانون. أما مناقشة الأمور المتصلة بالمصلحة العامة خارج مجلس الشعب فتعد جريمة من الدرجة الأولى.
25
ويقولون إن الهدف من هذه الأنظمة هو منع أي تآمر بين الحاكم والرؤساء الأوائل (الترانيبور)، أو منع أي ظلم أو استبداد بالشعب يؤدي بسهولة إلى تغيير نظام الدولة. ولذلك يعرض كل ما يعد أمرا مهما من أمور الدولة على مجلس الرؤساء، الذين يتشاورون بعد أن يعرض الأمر على جماعات الأسر، يعرضه كل رئيس على مجموعته، ثم يبلغون قرارهم إلى المجلس، وأحيانا يعرض الأمر على المجلس الأعلى للجزيرة كلها.»
26
ويبدو أن اختيار الحكام يتم بناء على الثقة التي تمنحها إياهم الأسر التي تنتخبهم، أكثر مما يتم على أساس معرفتهم ومواهبهم العقلية. ومع ذلك فهناك ما يدل على الاهتمام الخاص بالمعرفة عند اختيار الكهنة والترانيبور والأمراء، سواء اكتسبوا هذه المعرفة من العلماء أو من أرباب الحرف: «ويستمتع بهذا الإعفاء أيضا أولئك الذين سمح لهم الشعب، بناء على توصية من الكهنة، ونتيجة للاقتراع السري لرؤساء المدينة، بإعفاء دائم من العمل، ليتفرغوا لدراسة فروع المعرفة المختلفة دراسة تامة، أما إذا ثبت أن أحد هؤلاء الدارسين لا يحقق الآمال المعقودة عليه، فإنه يعاد ثانية إلى مصاف العاملين. ومن ناحية أخرى، كثيرا ما يحدث أنه حرفيا يقضي ساعات فراغه في الدراسة ويحقق باجتهاده تقدما ملموسا، فيعفى من عمله اليدوي، ويرفع إلى طبقة رجال العلم. ومن بين جماعة الدارسين هذه يختار أهل يوتوبيا السفراء والكهنة، والرؤساء الأوائل أو الترانيبور، وأخيرا الحاكم أو الأمير ذاته، والذي كانوا يدعونه في لغتهم القديمة بارزينيس، أما في لغتهم الحديثة فيسمونه آديموس.»
27
والأسرة في «يوتوبيا» ليست فقط هي الوحدة السياسية وإنما هي أيضا الوحدة الاقتصادية للمجتمع: «لما كانت المدينة تتكون من أسر، فالأسرة تتكون من أولئك الذين تربط بينهم رابطة الدم. فالفتيات، عندما تكتمل أنوثتهن ويتزوجن، يذهبن إلى بيوت أزواجهن، أما الأبناء الذكور، ثم الأحفاد، فيبقون في الأسرة ويخضعون لأكبر الآباء سنا، إلا إذا شاخ وخرف، وفي هذه الحالة يخلفه من يليه سنا. وحتى لا يزيد عدد سكان المدينة أو ينقص عن الحد المعين، فمن المقرر ألا ينقص عدد البالغين في كل أسرة عن عشرة أو يزيد على ستة عشر، وهناك ستة آلاف أسرة في كل مدينة، فيما عدا الأراضي المحيطة بها. أما فيما يتعلق بالأطفال تحت السن المحددة، فليس هناك عدد محدد، بالطبع. ويمكن مراعاة هذا الحد بسهولة عن طريق نقل أولئك الذين يزيدون على العدد المحدد في العائلات الكبيرة إلى تلك التي تقل عنه ...
يحكم الأسرة أكبر الأفراد سنا، وتسهر الزوجات على راحة أزواجهن، ويسهر الأبناء على راحة آبائهم، وباختصار يسهر الأصغر سنا على راحة الأكبر. وتقسم كل مدينة إلى أربع مناطق متساوية وفي وسط كل منطقة سوق لجميع المنتجات. وتحضر كل أسرة منتجاتها إلى مبان معينة بالسوق. ويوضع كل نوع من السلع في مخازن مستقلة. ومن هذه يأخذ رب كل أسرة كل ما يحتاج إليه هو وأسرته ويحمله معه دون دفع مال أو بديل.»
28
ويباشر جميع السكان، مع الاستثناءات القليلة التي ذكرناها بالفعل، حرفة نافعة، ولا يعود العمل عبئا ثقيلا عليهم بعد تخفيض ساعات العمل والسماح بفترة كافية لوقت الفراغ: «وإلى جانب الزراعة، التي يشترك فيها الجميع، يتعلم كل منهم حرفة معينة خاصة به. وهذه عادة إما نسج الصوف أو الكتان، وإما البناء أو صناعة المعادن أو النجارة. وأما بخلاف ذلك فلا توجد أعمال يقوم بها عدد يذكر ...
وغالبا ما يتعلم الشخص صناعة أبيه، التي يميل إليها ميلا طبيعيا، أما إذا استمالته صناعة أخرى، فإنه ينقل بالتبني إلى أسرة تزاول تلك الصناعة التي يميل إليها. ولا يحرص والده فقط، بل السلطات المعنية أيضا على أن يوضع تحت إشراف رب أسرة وقور شريف. نعم، وإذا رغب شخص، بعد أن يتعلم حرفة معينة، في أن يتعلم حرفة أخرى، سمح له بذلك. أما وقد تعلم الحرفتين، فله أن يمارس الحرفة التي يختارها، ما لم تكن المدينة بحاجة إلى واحدة منهما أكثر من الأخرى.
أما الوظيفة الرئيسية والوحيدة تقريبا لرؤساء المدينة أو السيفوجرانت، فهي أن يعملوا ويدبروا أمر المدينة بحيث لا يبقى رجل عاطلا، بل يمارس كل عمله بجد، ومع ذلك لا يرهق مثل دواب الحمل بالعمل المستمر، من الصباح المبكر حتى وقت متأخر من الليل. فمثل هذه الحياة أسوأ من حياة العبيد، ومع ذلك فتكاد تكون هي حياة العاملين في كل مكان، ما عدا يوتوبيا. أما اليوتوبيون فيقسمون اليوم إلى أربع وعشرين ساعة متساوية، يخصصون ست ساعات منها فقط للعمل: ثلاث ساعات قبل الظهر، يذهبون بعدها لتناول الغداء، ويستريحون ساعتين بعد الغداء، ثم يعاودون العمل ثلاث ساعات أخرى يتناولون بعدها العشاء. ولما كانت الساعة الواحدة تحسب ابتداء من الظهر، فهم يخلدون إلى النوم حوالي الساعة الثامنة، ويخصصون ثماني ساعات لذلك.
أما الأوقات التي تتخلل ساعات العمل، والنوم، والطعام، فيقضيها الشخص كما يشاء لا يضيعها في اللهو والبطالة، ولكنه يشغل وقت الفراغ بنوع آخر من النشاط، كل تبعا لميله الخاص. وتخصص هذه الأوقات عادة للنشاطات العقلية. فمن العادات المتبعة لديهم أن تلقى المحاضرات يوميا قبل بزوغ الشمس، ويكون الحضور إجباريا فقط لأولئك الذين اختيروا لتكريس أنفسهم للعلم. ولكن عددا كبيرا من جميع الفئات، ذكورا وإناثا، يحتشدون لسماع المحاضرات ، يسمع بعضهم هذه، والبعض الآخر تلك، كل وما يتفق وطبيعته وميوله. أما إذا أراد شخص أن يقضي هذا الوقت في العمل (كما هو الحال عند كثير من الأذهان التي لا ترقى إلى مستوى أي نوع من التدريبات العقلية العليا) فلا يحال بينه وبين ذلك، بل يمتدح بالفعل لأن في عمله فائدة للدولة. وبعد العشاء يقضون ساعة في الاستجمام، في الحدائق صيفا، والقاعات العامة التي يتناولون فيها الطعام شتاء، يعزفون الموسيقى أو يتسامرون.»
29
وهنا يتنبأ مور باعتراضات كثيرة يمكن أن تثار احتجاجا على تخفيضه لساعات يوم العمل، ويشرح كيف يتم ذلك بحجج تبين بوضوح أن فكرته ليست يوتوبية: «فقد يتبادر إلى الأذهان، لأنهم يخصصون ست ساعات فقط للعمل، أن ذلك سيؤدي إلى بعض النقص في الأشياء الضرورية. لكن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، لدرجة أن ذلك الوقت المذكور لا يكفي فقط لإنتاج كل ما هو مطلوب من أشياء، لا من ضروريات الحياة فقط، بل أيضا مما يجعل الحياة مريحة. وستفهمون هذه الظاهرة أيضا إذا تأملتم هذا الجزء الكبير من السكان الذي يعيش في البلاد الأخرى بدون عمل. فهناك أولا جميع النساء تقريبا، ويشكلون نصف العدد الكلي. أما حيثما تعمل النساء فيغط الرجال في النوم بدلا منهن. وفضلا عن ذلك فما أعظم وأكسل هذا الحشد من الكهنة ورجال الدين كما يسمونهم ... أضف إلى ذلك جميع الأغنياء وخاصة أصحاب الضياع ممن يسمون عادة الوجهاء أو النبلاء. أضف إليهم أتباعهم وأعني ذلك القطيع من الرجال المنتفخي الأوداج الذين لا يصلحون لشيء ... وأضف أخيرا المتسولين الأصحاء الأقوياء الذين يجدون في مرض من الأمراض حجة للبطالة. ومن المؤكد أنكم ستجدون أن أولئك الذين ينتجون بعملهم كل تلك الأشياء التي يحتاج إليها بنو البشر في حياتهم اليومية أقل بكثير مما كنتم تتصورون. والآن لنتأمل كم يبلغ من بين أولئك الذين يعملون، عدد القلة التي تشتغل بأعمال ضرورية. ففي المجتمع الذي يقاس كل شيء فيه بالمال، من الضروري أن يمارس الناس حرفا كثيرة، عديمة الجدوى وغير ضرورية ، ولا تخدم إلا الترف، والإفراط في الشهوات. فإذا ما وزع هذا العدد الكبير الذي يعمل الآن على ذلك العدد الصغير من الحرف، الذي يتناسب مع العدد الصغير من الضروريات والمنافع التي تتطلبها الطبيعة، فسينتج منه الأشياء بوفرة عظيمة بالضرورة، مما يؤدي دون شك إلى انخفاض الأسعار، بحيث لا يستطيع أصحاب هذه الحرف كسب عيشهم. أما إذا كلف بأعمال نافعة جميع أولئك الذين يشتغلون بأعمال غير نافعة، وكذلك كل ذلك الحشد من الكسالى والعاطلين، والذين يستهلك كل منهم من ثمرة أعمال غيره من العاملين ضعف ما يستهلكه اثنان من هؤلاء العاملين، (أقول) إذا كلف هؤلاء جميعا بالاشتغال بأعمال نافعة، فسترون بسهولة كيف يكفي قليل من الوقت، بل ويزيد لإنتاج جميع الأشياء المطلوبة، الضرورية منها والنافعة، نعم، بل حتى ما تتطلبه المتعة، ما دامت هذه المتعة صادقة وطبيعية.»
30
ويمكن تخفيض ساعات العمل، ليس عن طريق توزيع العمل بصورة أكثر عدلا ومساواة فحسب، بل بتجنب تبديد طاقة العمل: «وفضلا عن ذلك، هناك ميزة أخرى هي أنهم لا يحتاجون في معظم الحرف اليدوية إلى ذلك القدر من العمل الذي تحتاج إليه الشعوب الأخرى. ففي المقام الأول تتطلب إقامة المباني وترميمها أن يعمل كل هذا العدد الكبير بصفة مستمرة في البلاد الأخرى، لأن ما يبنيه الأب، يؤدي به إهمال الابن المسرف تدريجيا إلى السقوط. ونتيجة لذلك، فما كان يمكن أن يصان بالقليل من التكاليف، يضطر خلفه إلى إعادة بنائه مما يكلفه الكثير. وفضلا عن ذلك، فكثيرا ما يحدث أن يكلف بناء منزل شخصا ما مبلغا طائلا من المال، ثم يأتي فيجده لا يتفق وذوقه الخاص فيهمله. ويؤدي إهماله إلى سرعة تساقطه، فيبني بيتا آخر في مكان آخر بتكاليف لا تقل عن التكاليف الأولى. أما في بلاد اليوتوبيين، حيث تدبر الأمور كما ينبغي وترعى المصلحة العامة رعاية منظمة، فإن إقامة بيت جديد في مكان جديد حدث نادر، ذلك أنهم لا يكتفون بترميم أي تلف بمجرد حدوثه، بل يحرصون على تلافي حدوث التلف. فماذا تكون النتيجة؟ النتيجة هي أن تظل المنازل قائمة مدة طويلة جدا، بأقل قدر من العمل. ويجد البناءون والنجارون أنفسهم أحيانا بغير عمل تقريبا، فيما عدا ما يكلفون به في هذه الأثناء من قطع الأخشاب في منازلهم وقطع الأحجار وإعدادها، حتى إذا دعت الحاجة إلى إقامة بناء، تم ذلك بسرعة.»
31
وهناك كذلك نوع من التقشف تدعو إليه الضرورة، فلا يستطيع المرء أن ينعم بوقت الفراغ أن ينغمس في نفس الوقت في الإسراف في الملذات: «فيما يتعلق بالملابس أيضا، فما أقل الجهد والعمل الذي يحتاج إليه. ذلك أنهم من ناحية يرتدون أثناء العمل لباسا بسيطا من الجلد، يبقى سبع سنوات. وعندما يخرجون إلى الخارج يضعون فوقه رداء يغطي ملابس العمل الخشنة إلى حد ما. وهذا الرداء من نفس اللون في الجزيرة كلها، وهو لون الصوف الطبيعي. ونتيجة لذلك لا يحتاجون فقط إلى كمية أقل من الصوف عما يحتاج إليه غيرهم، بل إن ذلك يكلفهم أقل كثيرا. ومن ناحية أخرى، لما كانت الأقمشة القطنية تصنع بجهد أقل، فهي تستخدم بقدر أكبر. أما فيما يتعلق بالأقمشة القطنية، فكل ما يهم هو بياضها، أما الصوفية فما يهم هو نظافتها. ولا يقام وزن لرفع التيلة. وهكذا، بينما لا يكتفي الشخص في البلاد الأخرى بأربعة أو خمسة أثواب صوفية مختلفة الألوان، ومثل هذا العدد من الأقمشة الحريرية، بل لا يكتفي ذوو الأذواق المرهفة بعشرة منها، ففي يوتوبيا يقنع الرجل برداء واحد يظل معه سنتين عادة. وبالطبع ليس هناك ما يدعو لأن يرغب في أكثر من ذلك، إذ لو كان لديه أكثر من واحد لما كان أكثر وقاية من البرد، ولما بدا أحسن هنداما على الإطلاق. ومن هنا، فلما كانوا جميعا يمارسون أعمالا نافعة ويكتفون بقدر أقل من منتجات هذه الأعمال، فعندما تتوافر كل هذه السلع، فإنهم أحيانا يأخذون جمعا غفيرا من الناس لترميم أي طرق عامة تحتاج إلى ترميم. وفي كثير من الأحيان، أيضا، عندما لا يكون هناك شيء حتى من هذه الأعمال، فإنهم يصدرون بيانا للشعب بتخفيض ساعات العمل . ذلك أن السلطات لا تجبر المواطنين على القيام بأعمال غير ضرورية، لأن دستور دولتهم يهدف في المكان الأول إلى أنه فيما يتعلق بالمواطنين جميعا، وبقدر ما تسمح به حاجات الشعب، يجب توفير أكبر قدر ممكن من الوقت الذي يقضي في خدمة الجسد، وتخصيصه لحرية العقل وتثقيفه. فهم يعتقدون أن في ذلك سعادة الحياة.»
32
لقد رأينا أنه لا توجد بالفعل ملكية خاصة في يوتوبيا، لا نقود ولا أجور، فكل فرد يتسلم ما يحتاج إليه. وهنا يستبق مور مرة أخرى الاعتراضات الحتمية التي يمكن أن تثار ضد نظام كهذا، ويؤكد أن الشعور بعدم الأمان الاقتصادي هو الذي يدفع الناس إلى تكديس كميات من البضائع الصالحة للاستعمال بأكثر مما يحتاجون إليه بالفعل: «تتوافر كميات كبيرة من كل شيء، ولا يخشى من أن يطلب شخص أكثر مما يحتاج إليه. فلماذا يشك أحد في أن شخصا سيطلب كمية أكبر مما يحتاج إليه ما دام واثقا من أنه لن يفتقر إلى شيء على الإطلاق؟ فما لا شك فيه أن الجشع والطمع منشؤهما في كل نوع من الكائنات الحية هو الخوف من الحاجة ...»
33
لقد استبعد بناة الدول المثالية اليونانية المؤسسات الأسرية بوصفها مضادة لوحدة الدولة. وكان توماس مور «رب أسرة» أكثر بكثير من أن يتقيد برأي أثينا أو أسبرطة، ولكن لا بد أن يكون قد أدرك خطر الأسرة اليوتوبية، التي يرجع تماسكها إلى سلطة العضو الأكبر فيها والعمل المشترك بين أفرادها على تجانس الجماعة. ورغبته في تجنب هذا الخطر هي التي حملته على إدخال نظام الوجبات المشتركة، وإن لم يجعلها إجبارية كما فعل ليكورجوس. ويلاحظ فيما يتعلق بهذه الوجبات أن مور يلطف بعض الشيء من صرامة مبادئ التقشف التي كان يقول بها: «تجتمع الأسر الثلاثون أو السيفوجرانت كلها في الساعات المحددة للغداء والعشاء، يدعوها لذلك صوت نفير نحاسي، فيما عدا أولئك الذين يتناولون وجباتهم إما في المستشفيات وإما في بيوتهم. ولا يمنع أي شخص بعد أن يقدم الطعام للقاعات، من أن يأخذ طعامه إلى بيته من السوق ، فهم يعرفون أن أحدا لن يفعل ذلك دون سبب معقول؛ لأنه بالرغم من أنه لا يمنع شخص من تناول الطعام في بيته، فإنه لا يوجد شخص يفعل ذلك راضيا، إذ لا يعد هذا السلوك سلوكا سويا، ولأنه من الحماقة أن يتجشم المرء مشقة إعداد وجبة رديئة، بينما هنا وجبة ممتازة شهية معدة جاهزة في القاعة القريبة منه ...
ويجلس الأفراد إلى ثلاث موائد أو أكثر تبعا لعدد الجماعة. ويجلس الرجال وظهورهم إلى الحائط، أما النساء فيجلسن على الجانب الخارجي حتى إذا ما ألم بهن ألم أو قيء، كما يحدث أحيانا في حالة الحوامل من النساء، أمكنهن القيام دون إزعاج لأحد، والذهاب إلى المربيات. أما المربيات فيجلسن وحدهن مع الأطفال في حجرة للطعام مخصصة لهذا الغرض، لا تخلو في أي وقت من الأوقات من مدفأة وكمية من الماء النقي ومن المهود. وهكذا يمكن للنساء أن يرقدن أطفالهن.
وفي الأماكن المخصصة للمربيات يوجد جميع الأطفال حتى سن الخامسة. أما بقية الأطفال والشباب من كلا الجنسين ممن هم دون سن الزواج، فإما أن يقوموا بتقديم الطعام، وإما أن يقفوا بالقرب من الموائد في سكون تام، إن لم تتوافر لهم السن اللازمة أو القوة اللازمة. ويأكل أفراد كل من المجموعتين ما يقدم لهم على المائدة وليس لهم وقت آخر لتناول الطعام.
ويجلس الرئيس أو السيفوجرانت وزوجته وسط المائدة الرئيسية، وهو أعلى الأماكن، ومنه يتسنى لهما رؤية الجماعة كلها، إذ تقع هذه المائدة في وضع أفقي في الطرف البعيد لحجرة الطعام. وبجوارهما يجلس اثنان من أكبر الموجودين سنا، إذ يجلس دائما كل أربعة إلى مائدة. أما إذا كان هناك مكان للعبادة في المنطقة أو السيفوجرانتية، فيجلس الكاهن وزوجته مع السيفوجرانت ويرأس هو المائدة. وعلى الجانبين يجلس بعض الشباب، ثم بعض الشيوخ مرة أخرى، وهكذا في جميع أنحاء الدار، يجلس من هم في نفس السن معا، ولكنهم يختلطون مع من يختلفون عنهم في السن. ويقولون إن السبب في هذا النظام هو أن يحول سلوك الشيوخ الوقور المحترم بين الشباب وبين إباحية الحديث أو السلوك، فمن المستحيل أن يوضع شيء على المائدة أو يقال شيء دون أن يلاحظه الشيوخ في كل جانب. ولا تقدم صحاف الطعام بانتظام ابتداء من المائدة الأولى تليها ما بعدها، بل تقدم أولا إلى جميع الشيوخ الجالسين في أماكن بارزة. ثم تقدم أجزاء متساوية إلى الباقين. ويقتسم الشيوخ كما يرون، جزءا من أطايب طعامهم مع من يجلسون إلى جوارهم، عندما لا يتوافر في الدار ما يكفي منها للجميع. وهكذا ينال الشيوخ ما يستحقون من تكريم، ومع ذلك يحصل الجميع على نفس القدر من الاهتمام.
وتبدأ كل وجبة غداء أو عشاء بقراءة هادفة متصلة بالأخلاق وحسن السلوك على أن تكون قصيرة لا تؤدي إلى الملل. ويعرض الشيوخ، استمرارا لما قرئ، لمواضيع ملائمة للحديث، لا هي بالقاتمة أو المملة. ولكنهم لا يستأثرون بالحديث طوال فترة الطعام، بل يرحبون بسماع الشباب أيضا والواقع أنهم يستدرجونهم إلى الحديث عمدا، ليختبروا قدرة كل وشخصيته، مما يتكشف في جو المائدة الخالي من القيود. ووجبات الغداء لديهم قصيرة بعض الشيء. أما وجبات العشاء فأطول، لأن وجبة الغداء يتبعها عمل، أما وجبة العشاء فيتبعها النوم والراحة طوال الليل. ويظن اليوتوبيون أن هذه الراحة تساعد على سرعة الهضم. ولا يمر عشاء دون موسيقى، ولا تفتقر الحلوى إلى شيء من الأطايب. وهم يحرقون البخور، وينثرون العطور، ولا ينكرون شيئا يمكن أن يدخل السرور إلى قلوب الجماعة إلا ويعملونه. فهم شديدو الميل بشكل مفرط بعض الشيء إلى هذا الاعتقاد، وهو ألا يمنع نوع من أنواع المتعة لا ينجم عنه ضرر.»
34
ولم يكتف اليوتوبيون بإلغاء النقود والتجارة في التعامل فيما بينهم، بل نجحوا أيضا في تجريد الذهب والفضة والأحجار الكريمة من سحرها وقوتها المفسدة، واخترعوا طريقة فذة تمكنهم من الحفاظ عليها واستعمالها أحيانا في التجارة مع الدول الأجنبية، دون أن يضفوا عليها أي قيمة، حتى إنهم نظروا إليها باحتقار: «فبينما يأكلون ويشربون من آنية من الفخار والزجاج، رائعة الصنع ولكنها قليلة القيمة، فإنهم يصنعون من الذهب والفضة «القصاري» وأحط الأواني للاستعمال في كل مكان، لا في القاعات العامة فحسب، بل في المنازل الخاصة أيضا. وفضلا عن ذلك، فهم يستخدمون هذه المعادن عينها لصنع الأغلال والقيود الثقيلة التي يوثقون بها العبيد، وأخيرا، فإن كل من يرتكب جرما ويجلب العار على نفسه، يعلقون الحلي الذهبية في أذنيه، ويضعون الخواتم الذهبية حول أصابعه، والسلاسل الذهبية حول رقبته، أخيرا تاجا ذهبيا على صدغيه. وهكذا يجعلون، بكل وسيلة في متناول اليد، من الذهب والفضة علامة للعار والخزي. ونتيجة لهذه الطريقة أيضا، فبينما يعد فقد هذه المعادن في جميع الشعوب الأخرى سببا للحزن العميق وكأن في فقدها فقد أهم أسباب الحياة، ففي يوتوبيا إذا ما دعت الظروف إلى فقد جميع الذهب والفضة، فلن يشعر أحد بفقد مقدار مليم واحد. ويجمع اليوتوبيون اللآلئ أيضا من شاطئ البحر، والماس والعقيق من بعض الصخور، ولكنهم لا يخرجون للبحث عنها، فإذا وجدوها مصادفة، صقلوها، وزينوا بها صغارهم. ويفرح هؤلاء الصغار ويفخرون بهذه الحلي في السنوات الأولى من طفولتهم، ولكنهم ما إن يشبوا عن الطوق ويدركوا أن مثل هذه اللعب لا يلبسها إلا الأطفال، حتى يخلعوها خجلا، دون أن يأمرهم بذلك ذووهم، كما يفعل أطفالنا عندما يكبرون، ويلقون بعيدا بلعبهم ودماهم وبليهم.»
35
وكما يتوقع من دولة تؤدي فيها الأسرة مثل هذا الدول المهم، فقد روعي الحرص الشديد على استقرار الزواج بقدر الإمكان، وعلى الرغم من السماح بالطلاق فإن مرتكبي جريمة الزنا يعاقبون بفرض العبودية عليهم، وأحيانا الإعدام: «لا تتزوج المرأة قبل الثامنة عشرة من العمر. ولا يتزوج الرجل إلا بعد ذلك بأربع سنوات. فإذا أدين رجل أو امرأة بالمعاشرة سرا قبل الزواج، عوقب الاثنان أشد عقاب، وحظر عليهما الزواج حظرا تاما، ما لم يعف الحاكم عن جرمهما، وفضلا عن ذلك فإن كلا ربي الأسرة اللتين يرتكب فيهما هذا الخطأ يركبهما العار؛ لأنهما أهملا القيام بواجباتهما. ويعاقب هذا الخطأ بهذه القسوة لأنهم يعرفون مسبقا أنه ما لم يتوخ الحرص في منع الأشخاص من هذه المخالطة غير المقيدة، فلن ترتبط إلا القلة برباط الزواج، الذي يجب أن يقضي الشخص بمقتضاه الحياة برفقة شخص واحد، ويتحمل بصبر جميع المتاعب المرتبطة به.
وعند اختيار شريك الحياة يراعون بكل جدية وحرص عادة بدت لي غاية من الحماقة والسخف، ذلك أن سيدة وقورا محترمة ترى المرأة، سواء كانت عذراء أم أرملة، عارية لراغب الزواج، كما يقدم رجل عاقل راغب الزواج عاريا كذلك أمام الفتاة. لقد ضحكنا كثيرا لهذه العادة وحكمنا عليها بأنها عمل أحمق. أما هم فقد عجبوا، من الناحية الأخرى، من حماقة جميع الشعوب الأخرى. فعندما يشترون مهرا، حيث لا يتطلب الأمر إلا القليل من المال، يتوخى الشخص كل هذا الحرص، بحيث إنه بالرغم من أن المهر يكاد يكون عاريا تماما، فإنه لا يشتريه إلا إذا رفع عنه السرج وغيره من الأغطية، خوفا من أن يكون مصابا بمرض جلدي تخفيه هذه الأشياء. ومع ذلك فعندما يختارون زوجة، وهو عمل سيكون فيه سرورهم أو شقاؤهم طوال الحياة، يبلغ بهم الحرص درجة تجعلهم يحكمون على المرأة، وجسمها كله تقريبا مغطى بالملابس، بما لا يكاد يزيد على مساحة الكف منها، إذ لا يرى الرجل منها سوى الوجه، ويرتبط بها معرضا نفسه لخطر عظيم إن لم يتفقا معا إذا اكتشف بعد ذلك شيئا منفرا. فليس جميع الرجال من الحكمة بحيث يهتمون فقط بخلق المرأة، وحتى في زواج الحكماء من الرجال لا تعد محاسن الجسد إضافات هينة إلى فضائل العقل. فمن المؤكد أن تلك الملابس قد تخفي تحتها تشويها كريها قد ينفر الرجل تماما من زوجته، ذلك في الوقت الذي لم يعد الانفصال الجسدي أمرا مسموحا به. أما إذا حدث هذا التشويه بعد أن يتم الزواج، فمن واجب كل شخص أن يرضى بقدره، أما قبل الزواج فعلى القانون أن يحمي الشخص من أن يقع في شرك عن طريق الغش والخداع.
ومما جعل هذا الأمر أكثر أهمية لدى اليوتوبيين، أنهم الشعب الوحيد في تلك الأجزاء من العالم الذي يكتفي رجاله بزوجة واحدة، كما أن الزواج قلما يفصم لديهم إلا بالموت،
36
أو بسبب الخيانة الزوجية، أو ما لا يطاق من طباع منفرة. فإذا ما حدث ذلك للزوج أو الزوجة، صدر له إذن من المجلس بأن يتزوج ثانية. أما الطرف الآخر فيقضي بقية العمر يحمل وصمة العار، دون زواج. أما أن يترك الرجل زوجته دون رضاها ودون أن يكون لها في ذلك ذنب، لأن مكروها أصاب جسدها، فذلك ما لا يرتضون، ويرون أنه من القسوة أن تهجر الشخص وهو أشد ما يكون حاجة إلى السلوى، وأن كبر السن، الذي يصحبه المرض ويعد مرضا في ذاته، لا يجد سوى قدر ضئيل لا يعتمد عليه من الإخلاص.
ومع ذلك قد يحدث أحيانا ألا تتفق طباع زوجين بدرجة كافية، ويجد كل من الزوجين شخصا آخر يأمل أن يعيش معه حياة أسعد، ولذا ينفصلان بموافقة كل منهما، ويدخلان في ارتباطين جديدين، ولكن لا بد لهما من موافقة المجلس. أما المجلس فلا يسمح بأي طلاق قبل أن يبحث أعضاؤه وزوجاتهم الأمر بعناية. وحتى بعد ذلك فإنهم لا يرحبون بالموافقة على الطلاق لأنهم يعلمون أن عائقا سيقف في سبيل توثيق عرى الحب بين الزوج وزوجته، إذا كان هناك أمل في زواج جديد سهل.
أما أولئك الذين يخونون الرباط الزوجي فيعاقبون بأشد أنواع العبودية صرامة، فإذا كان الطرفان متزوجين، يطلق الطرفان المضاران، بموافقتهما، من الطرفين الخائنين ويتزوجان، أو يسمح لهما بالزواج بمن يريدان. أما إذا كان أحد هذين الطرفين اللذين أضيرا لا يزال يحب ذلك الشريك غير الجدير بالحب، فليس ممنوعا أن يظل الزواج قائما، بشرط أن يرضى هذا الطرف بمصاحبة الطرف الآخر ومشاركته العمل الشاق بعد أن يحكم عليه بأن يصير عبدا. ويحدث من وقت لآخر أن تثير توبة الواحد، وطاعة واجتهاد الآخر شفقة الحاكم فيعيد إليهما الحرية. أما معاودة ارتكاب نفس الخطأ فعقوبتها الموت.»
37
ولا بد أن مور كان سيئ الظن بتعقيدات النظام التشريعي والحيل التي كان يلجأ إليها المحامون، إذ نجده يتصرف معهم بأسلوب يتسم بالحدة والعنف: «وليس لديهم سوى القليل جدا من القوانين ، فالأشخاص الذين ربوا بهذه الطريقة لا يحتاجون إلا إلى القليل جدا منها. والخطأ الأساسي الذي يأخذونه على الشعوب الأخرى هو أن كتب القانون والتفسيرات التي لا حصر لها تقريبا لا تكفيهم. أما هم فيرون أنه ليس من العدل في شيء أن جماعة من الناس تفرض عليها قوانين إما أنها أكبر عددا من أن تقرأ كلها، وإما أنها أكثر غموضا من أن يفهمها أي شخص.
وفضلا عن ذلك فإنهم ينفون كلية من بلادهم جميع المحامين، الذين يتناولون القضايا بمهارة ويناقشون الأمور القانونية بدهاء. ويرون من الخير أن يقوم الشخص بالدفاع عن قضيته ويقول للقاضي ما سيقوله للمحامي. وهكذا يقل الغموض وتتكشف الحقيقة بسهولة أكبر، عندما يقوم شخص، لم يعلمه محام الخداع، بتقديم قضيته، ويزن القاضي بحذق كل جملة يقولها، ويساعد ذوي العقول غير المدربة على دحض اتهامات اللئام الكاذبة، وهذا ما يتعذر تحقيقه في البلاد الأخرى، نظرا للكمية الضخمة من القوانين البالغة التعقيد. أما اليوتوبيون فكل شخص منهم خبير بالقانون، أولا، لأن قوانينهم قليلة جدا. وثانيا، لأنهم يرون أن أوضح تفسيرات القانون هي أصح التفسيرات.»
38 «أما فيما عدا ذلك من جرائم (جرائم الخيانة الزوجية)، فليست لديهم عقوبات ثابتة يحددها القانون، بل يفرض المجلس العقوبة تبعا للجريمة، ودرجة شناعتها، أو احتمال الصفح عنها، كل على حدة. ويؤدب الأزواج زوجاتهم والآباء أبناءهم، إلا إذا كان الخطأ من الخطورة بحيث يصب في عقابه علنا فائدة للأخلاق العامة. وتعاقب أسوأ الأخطاء عادة بالعبودية.»
39
أظهرنا حتى الآن الجانب المشرق للحياة في يوتوبيا. فإلغاء الملكية والأجور، والربط العقلاني المتكامل للزراعة مع الصناعة، وتخفيض ساعات العمل، والفرص الممنوحة للتوسع في الدراسة، ربما تثير إعجابنا إلى حد كبير. ولكن ربما يكون من الصعب علينا أن ننجذب إلى الجدول الزمني الصارم الذي يتحكم في أوقات العمل ووقت الفراغ والنوم، إذ كيف يمكن - كما يقول رابليه - «أن يكون هناك تخريف أفظع من تسيير حياة الإنسان وتوجيهها على دقات جرس، لا على أساس حكمة الشخص وتمييزه؟» ومن الصعب أيضا أن تلائم أذواقنا الحديثة القوانين التي تتحكم في الزواج، كما أن من حق النساء أن يترددن أمام فكرة «طاعة الأزواج وخدمتهم» بوصفها لا تعبر تعبيرا دقيقا عن فكرتهن حول اليوتوبيا .
وتتضمن يوتوبيا مور، فضلا عن ذلك، بعض الملامح والسمات التي تسبب المزيد من الصدمات. وهناك طبقة العبيد التي لا تقارن في الواقع بمثيلتها في دولة ليكورجوس من حيث الكثرة أو قسوة المعاملة، إلا أنها نظام قائم على كل حال. ومع أن العمل لا يلقى على عاتق العبيد وحدهم، فالجماعة بأكملها تكلف بنوع من أنواع العمل النافعة، إلا أن المواطنين الأحرار يعفون مما يصفه مور «بالعمل القذر». ولا يشكل طبقة مغلقة كما في بلاد اليونان القديمة، ولكنهم يجندون بالطريقة التالية: «لا يصبح أسرى الحرب عبيدا، إلا إذا أسروا في معارك خاضها اليوتوبيون أنفسهم، كما لا يصبح أبناء العبيد عبيدا، ولا أبناء أي شخص آخر كان عبدا عندما أحضر من بلد أجنبي. فالعبيد عندهم، إما أولئك الذين حكم عليهم بأن يصبحوا عبيدا في بلادهم عقابا على جرائم منكرة ارتكبوها، وإما أولئك المحكوم عليهم بالموت في مكان آخر عقابا على خطأ ما. وينتمي العدد الأكبر إلى النوع الثاني. ويجلبون منهم الكثيرين، يشترونهم بأثمان بخسة أحيانا، ويحصلون عليهم دون مقابل أحيانا أخرى. وهم لا يلزمون هذا النوع من العبيد بالعمل الدائم فحسب، بل بالبقاء موثقين بالأغلال أيضا. أما العبيد من أبناء بلدهم فيعاملونهم بقسوة أشد، لأن سلوكهم يعد أكثر إثارة للأسى وأكثر استحقاقا للعقوبة الصارمة كمثل رادع، لأنهم، وقد ربوا تربية ممتازة في ظل حياة فاضلة، لم يتسن منعهم من الإجرام.
وهناك نوع آخر أيضا من العبيد. وهم أولئك الذين يعملون بأحط أنواع الأعمال وأشقاها في بلد آخر ويفضلون أن يصبحوا عبيدا في يوتوبيا. ويعامل هؤلاء الأفراد معاملة حسنة، ويكادون أن يعاملوا بنفس الرقة تقريبا التي يعامل بها المواطنون، فيما عدا أنهم يكلفون بقدر أكبر قليلا من العمل، نظرا لأنهم قد اعتادوا ذلك في بلادهم. فإذا أراد أحدهم الرحيل، وقلما يحدث ذلك، فلا يحتجزونه على غير إرادته ، ولا يتركونه يرحل خالي اليدين.»
40
وإذا كانت عقوبة الإعداد لا توقع إلا نادرا في يوتوبيا، فإن ذلك يرجع لأسباب نفعية أكثر منها إنسانية أو أخلاقية: «تعاقب أسوأ الأخطاء عادة بالعبودية، لأنهم يرون أن هذه العقوبة ليست أقل رهبة للجرم، وهي أكثر فائدة للدولة من الإسراع بإعدام المجرمين والتخلص منهم مباشرة، فعملهم أكثر فائدة من موتهم.»
41
ومن المدهش، إزاء المزايا الواضحة التي يكفلها هذا الأسلوب في التعامل مع العبيد، من وجهة نظر الحكومات، أنه لم يطبق على نطاق واسع إلا في عصرنا الحاضر. فالواقع أن التوسع في تطبيقه والنتائج التي تمخضت عنه لم تكن لتخطر على بال مور نفسه. فجيوش العبيد، التي تصل أعدادها إلى مئات الألوف، قد بنت في العشرين سنة الأخيرة قناة البحر البلطيقي، ومدت خطوط سكك حديد سيبريا، وأقامت منشآت هندسية في قلب سيبريا، وحفرت مناجم اليورانيوم، وشيدت المصانع تحت الأرض، وبالجملة أنجزت أعمالا خارقة يبدو بناء الأهرام بالقياس عليها أشبه بلعب الأطفال. وقد أثبتت التجربة، على كل حال، أن هذا الأسلوب يمثل أخطارا محققة، فعمل العبيد زهيد الأجر، لأن من الميسور إجبارهم على تناول طعام لا يشبع الجوع والعيش في ثكنات مزدحمة، كما لا تخفى مصلحة الحكومات في إنجاز هذا العمل في ظروف لا يتصور أن يقبلها إنسان حر. وقد كان من الطبيعي بعد ذلك أن يغري ذلك بعض الحكومات بتوفير أضخم جيش ممكن من العبيد، ولما كان عدد المجرمين - وبخاصة المتهمون بارتكاب الجرائم الكبرى - في العادة قليلا بالنسبة للعدد الإجمالي للسكان، فقد استلزم الأمر تدبير أسلوب ضاعف من عدد الجرائم.
إن عمل العبيد في «يوتوبيا» يعد عملا خفيفا بل ممتعا، إذا قورن بالعمل الذي قام به بعض العبيد في القرن العشرين. فالعبيد في يوتوبيا ينظفون القاعات التي تقدم فيها وجبات الطعام، ويذبحون الحيوانات للاستهلاك البشري، ويقومون بالصيد.
وفي مجتمع يسمح بالعبودية يكون «المواطن الحر» نفسه غير حر، فالأغلال التي تقيده أخف قليلا من تلك التي تكبل العبيد. ومن الأمور التي تعتبر جريمة، خروج مواطن من «يوتوبيا » لقضاء إجازة نهاية الأسبوع في الريف، دون الحصول على تصريح من «السيفوجرانت» و«الترانيبور»، وتصريح مرور من الأمير يشهد بمنحه حق التنقل ويحدد مدة غيابه. إذا جاوز شخص حدود إقليمه، وأمسك به وليس معه شهادة من الحاكم، فإنه يعامل باحتقار، ويعاد كهارب، ويعاقب بشدة. فإذا عاود بحماقة ارتكاب هذا الخطأ، استحق الحكم عليه بأن يصبح عبدا.
42
وهنا يساورنا الشك في أن سكان يوتوبيا أقل حرية وسعادة مما يصور لنا مور. فإذا كان الحكام والأمير يتمتعون بالحب والاحترام، وإذا كان الشعب راضيا عن مؤسساته، فما الحاجة لمعاقبة شخص يشعر برغبة ملحة في التجوال في أنحاء الريف؟ إن «يوتوبيا» تخبرنا في موضع آخر أن الرجال ملزمون بأن «يعيشوا في وضح النهار» لكي يتم التأكد من أنهم يؤدون واجباتهم العادية، الأمر الذي يبدو غير ضروري لو كان العمل الذي يؤدونه عملا يسيرا وممتعا بحق. ثم ما الذي يخيف الدولة من رعاياها المخلصين بحيث تمنعهم من الالتقاء على الشراب خشية أن يشكلوا أحزابا فيما بينهم؟
وتزداد شكوكنا قوة عندما نقرأ عن أسلوب إدارة سكان يوتوبيا للحروب. فهؤلاء الناس الذين يتمتعون بمشاعر الأبوة، والتواضع، والمرح، يتحولون إلى أبشع سياسيين ميكيافيليين متحجري القلوب عندما يخوضون الحروب. إنهم لا يستطيعون حتى الإيحاء بأن لديهم ما يحملهم على الدفاع عن بلدهم ضد العدوان، لأن بلدهم في موقع حصين يستحيل مهاجمته؛ فالحقيقة هي أنهم يخوضون حروبا عدوانية ويتبعون سياسة توسعية: «إذا زاد عدد السكان في الجزيرة كلها على الحد المعين، فإنهم يختارون عددا من المواطنين من كل مدينة ويقيمون لهم مستعمرة تخضع لقوانينهم على جزء من أرض القارة المجاورة لهم، في مكان تكثر فيه لدى السكان الأصليين الأرض غير المأهولة وغير المزروعة. وإن أراد السكان الأصليون أن يسكنوا معهم سمحوا لهم بالانضمام إليهم. وعندما يتم هذا الاتحاد، يندمج الفريقان معا تدريجيا وبسهولة ويتبعان نفس طرق الحياة ونفس العادات، بما فيه فائدة الشعبين. وباستخدام الأساليب التي يستخدمونها في بلادهم يجعلون الأرض تدر ما يكفيهما معا، تلك الأرض التي بدت من قبل لسكانها الأصليين فقيرة جدباء. أما إذا رفض هؤلاء السكان طاعة قوانين اليوتوبيين، فإنهم يطردونهم من الأرض التي اختاروها لأنفسهم. فإذا قاوموا، شنوا عليهم الحرب. فهم يعتبرون أن أعدل مبرر للحرب هو أن غيرهم منع استخدامها وتملكها بالرغم من قانون الطبيعة الذي يجيز لهم أن يعيشوا عليها.»
43
أما عن حروبهم الأخرى فيمليها عليهم ولاؤهم للأمم الصديقة المجاورة. وتقوم «يوتوبيا» بدور مشابه للدور الذي تقوم به القوى الكبرى في الوقت الحاضر، لأسباب إنسانية مزعومة. تبرر بها أطماعها القوية في الدول الصغرى. ومع ذلك فإن سكان يوتوبيا «يمقتون الحرب باعتبارها شيئا وحشيا»، و«يعتقدون أنه ليس هناك شيء يعوزه المجد أكثر من المجد الذي يأتي عن طريق الحرب». إنهم يفضلون أن تتم انتصاراتهم بفضل الدبلوماسية البارعة أو المناورات السياسية. بل لقد ذهبوا إلى حد تبني شيء شبيه بمشروع مارشال الدائم يمكنهم من توزيع الفائض من أغذيتهم مجانا على الأمم المجاورة. ومع أن مور لا يفسر لنا السبب الذي يدعوهم إلى التصرف بهذا الأسلوب الإنساني الخير، فربما تبين له أنه لا توجد أمة، مهما كان نظام حكمها صالحا، يمكن أن يراودها الأمل في التمتع بالرخاء والازدهار الدائمين إذا كانت تحيط بها أمم جائعة تسهل إثارة جشعها ...
إنهم يعلنون الحرب عندما تخفق الوسائل السياسية في تسوية المنازعات، ولكنهم حتى في هذه الحالة يعتمدون على أنشطة «الطابور الخامس» أكثر مما يعتمدون على المعارك الحربية. «فحالما تعلن الحرب، فإنهم يعملون في نفس الوقت على أن يقام سرا في أكثر الأماكن لفتا للأنظار في أرض الأعداء، عدد من اللافتات التي تحمل ختم الدولة لتكون ذات فاعلية أكبر، ويعدون في هذه اللافتات بمنح مكافآت ضخمة لأي فرد يقتل ملك الأعداء. وفضلا عن ذلك، يعدون بمنح مبالغ أقل، وإن كانت كبيرة أيضا، مقابل رءوس الأفراد الذين يذكرون أسماءهم في تلك اللافتات. أما هؤلاء الرجال، فهم أولئك الذين يعتبرونهم مسئولين، بعد الملك ذاته، عن الإجراءات العدائية التي اتخذت ضدهم. ومهما كانت المكافأة التي يحددونها لأي اغتيال، فإنهم يضاعفونها للرجل الذي يحضر إليهم أي طرف من الأطراف المحكوم عليهم حيا. ويقدمون نفس المكافآت، كما يتعهدون بتأمين حياة جميع الأشخاص المذكورين، إذا تحولوا إلى صفوفهم. وهكذا سرعان ما يدب الشك في أعدائهم نحو جميع الغرباء من ناحية، ويفقدون الثقة والولاء فيما بينهم، ويصبحون في حالة من الذعر التام والخطر العظيم من ناحية أخرى. ومن المعروف جيدا أنه كثيرا ما حدث أن مني الكثيرون منهم، وخاصة الملك ذاته بالخيانة على أيدي أولئك الذين وضعوا فيهم أكبر قدر من ثقتهم. فما أسهل ما تدفع الرشوة الناس إلى ارتكاب كل نوع من أنواع الجريمة.»
44
وهم يلجئون أيضا لاستخدام الإرهاب بذكاء، كما أنهم بارعون في حرب الدعاية: «إنهم يرون فيها (أي عادة المزايدة من أجل شراء الأعداء) انعكاسا لعمل جدير بالثناء، لأنه يعكس ما يتسمون به من حكمة، ينهون بواسطتها حروبا كبيرة دون معارك، أولا، ومن إنسانية ورحمة لأنهم بموت بضعة أشخاص مذنبين يشترون حياة الكثير من الأشخاص الذين لا ضرر منهم، ممن كانوا سيسقطون في القتال في كل من جانبهم وجانب الأعداء، ثانيا. إنهم يشفقون على جمهور الشعب من الأعداء كما يشفقون على أبناء شعبهم، فهم يعرفون أن عامة الشعب يخوضون الحرب لا بمحض إرادتهم بل مدفوعين إليها نتيجة جنون الملوك. فإذا لم تنجح هذه الخطة، بذروا بذور الفتنة على أوسع نطاق، وشجعوا الصراع ببث الأمل في الحصول على العرش في نفس أخ للملك أو نبيل من النبلاء.»
45
وبقدر ما يبخل أهل يوتوبيا في المعارك الحربية بحياة مواطنيهم، فإنهم يسرفون في التضحية بحياة المرتزقة الذين يجندونهم من أمة تدعى «الزابوليت»
Zapolets . وهنا يغتنم مور الفرصة للتنفيس عن احتقاره وكراهيته للسويسريين، الذين اعتادوا مساندة معظم جيوش المرتزقة في عصره: «ومهما بلغ عدد أولئك الذين يدفع بهم اليوتوبيون إلى الهلاك، فذلك لا يشغلهم مطلقا، لأنهم يعتقدون أنهم سيقدمون خدمة جليلة للبشرية كلها، إذا خلصوا العالم من تلك الشرذمة الفاسدة من حثالة البشر.»
46
ويطول بنا المقام لو أردنا أن نصف حروب سكان يوتوبيا بالتفصيل، ولكن يكفي القول بأنهم يعاملون أعداءهم بما لا يحبون أن يعاملهم به أحد. وقد صدم بعض المعجبين المتحمسين لمور بأسلوب تعامله مع الحروب، فافترضوا أنه لم يصف الحرب على النحو الذي ينبغي أن تتم به، وإنما استهجن في رأيهم أساليب الحروب عند معاصريه. ومع أن هذا الافتراض ينم عن حسن النية، فإنه في الواقع بعيد الاحتمال.
وعلى أي حال فمن المعقول أن نتوقع من مور وصفا لأسلوب عقلاني وعادل في شن الحروب. فالحرب، كما قال هو نفسه، شيء وحشي جدا، والوسيلة الوحيدة التي كان ينتظر منه أن يستعين بها للتعامل معها بطريقة إنسانية هي المطالبة بإلغائها جملة وتفصيلا.
ولا يتسع المقام للحديث عن الأفكار الدينية والفلسفية لسكان يوتوبيا. فمور، مثله مثل إرازموس والعديد من أصحاب النزعة الإنسانية في عصر النهضة، يؤمن بأن الإنسان مسيحي بالفطرة، وأن إيمانه لا يعتمد على الوحي الإلهي؛ لأن الدين ينبع من القلب ويكمن في محبة الله والإنسان، ولهذا ينبغي أن يوحد البشر لا أن يقسمهم إلى فرق وطوائف.
وسكان يوتوبيا لم يدخلوا في المسيحية، ولكن الغالبية العظمى منهم تعبدا إلها واحدا هو الذي يخلق العالم وهو الذي يحكمه. وهم يتسامحون مع مختلف المذاهب والعقائد، وقد اتخذوا شكلا بسيطا للعبادة يمكن أن يوحد بين الجميع. وهم يحترمون القانون الذي منحهم إياه ملكهم يوتوبوس، وهو أن «يكفل القانون لكل شخص حرية اعتناق الدين الذي يريده، ويسمح له بدعوة الآخرين إلى دينه، بشرط أن يؤيد الدعوة بالمنطق وبهدوء ووداعة، وألا يهاجم الأديان الأخرى بمرارة إذا لم تنجح حججه، وألا يستخدم العنف، ويمتنع عن السب. فإذا ما عبر عن آرائه بعنف وحماس متطرف، عوقب بالنفي أو بأن يصبح عبدا.»
47
وينتخب الشعب الكهنة، كما ينتخب الحكام، في اقتراع سري، فهم (أي الكهنة) رجال شديدو التقوى، ولهذا «فإنهم فئة قليلة»، لا يزيد عددهم على الثلاثة عشر في كل مدينة، ويخصص كل واحد منهم لمعبد. وليست لهم سلطة زمنية، إذ تنحصر مهمتهم في نصح الشعب وتحذيره. وإذا لم تتبع نصائحهم فإنهم يحرمون «الأشرار العتاة من ممارسة طقوس العبادة». ويستطيع الكهنة في يوتوبيا أن يتزوجوا وأن يشاركوا في الحروب، كما لا تمنع النساء من تقلد مناصب الكهنة.
هذا إذن هو دستور تلك الدولة التي لا تقتصر، في رأي رفائيل هيثلوداي، على أن تكون هي «أفضل دولة في العالم، وإنما هي الدولة الوحيدة التي تستحق ذلك الاسم عن جدارة. فالملاحظ في كل مكان آخر أن الناس عندما يتحدثون عن الثروة المشتركة (أي الدولة أو المجتمع)، فإنما يعني كل واحد منهم ثروته الخاصة فحسب، ولكن حيث تنعدم الملكية، يسعى الجميع بكل جهدهم للمصلحة العامة.» والواقع أن هذه دعوة جريئة، ونحن نفضل أن نسجل إعجابنا بمور بسبب إدانته للمجتمع في عصره، أكثر من إعجابنا بمجموعة القوانين التي قام بصياغتها والمؤسسات التي رسم معالمها. (2) توماسو كامبانيلا: «مدينة الشمس»
بعد تسعين عاما ظهرت يوتوبيا أخرى لراهب فيلسوف وشاعر ومنجم يؤمن إيمانا متعصبا بأفكاره. وليس في مدينة الشمس لكامبانيلا شيء من أناقة أسلوب مور الأدبي ودعابته اللطيفة، لأنه - على خلاف مور - لم يكتب على طريقة الإنسانيين ذوي الثقافة الرفيعة، وإنما كتب بعقله وأطرافه التي كانت لا تزال تتألم من تعذيب محاكم التفتيش.
ولد جوفان دومينيكو كامبانيلا في عام 1568م، في ستيلوبكالاريا، وهي ولاية إيطالية لا تزال محتفظة إلى اليوم بغموضها وأسرارها بالنسبة للإيطاليين أنفسهم، وترفض بعناد أن تندمج في أوروبا. ولد كامبانيلا في أسرة فقيرة، وعندما استدعي أبوه للشهادة في إحدى محاكمات ابنه المشهور، اعترف ببساطة آسرة: «لقد سمعت أن ابني كتب كتابا في نابولي، وقال لي الجميع إنني رجل محظوظ، والآن يقول الجميع إنني رجل تعس، أما أنا فلا أستطيع القراءة ولا الكتابة.»
وضع كامبانيلا في الدير وهو لا يزال طفلا، وعندما بلغ الرابعة عشرة من عمره داخل النظام الدومينيكاني أطلق عليه اسم توماسو. وقد صرح بعد ذلك بأنه اختار حياة الرهبنة ليشبع رغبته في الدراسة، ولم يخترها تلبية لنداء الدين. وسرعان ما ظهرت شخصيته المستقلة وراح يهاجم المناهج والمذاهب المدرسية. وعندما بلغ الثامنة عشرة اطلع على أعمال برناردينو تيليزيو (1508-1588م) فيلسوف عصر النهضة الكبير، وتحمس تحمسا شديدا لأفكاره إلى حد أنه ترك الدير ليزوره في كوزينسا
Cosenza ، ولكنه وصل إليها بعد وفاة تيليزيو مباشرة. وبعد ذلك بفترة قصيرة، وعندما كان يقيم في دير ألتومونته
Altomonte ، التقى حبرا يهوديا (رابي) ترك في نفسه تأثيرا عميقا بمواهبه التنبئية ومعرفته بعلم التنجيم. وربما كان هذا اللقاء هو السبب في تعلقه الشديد طوال حياته بالتنجيم والتنبؤ. ولا ريب في أن التأليف الغريب بين الأفكار العقلانية والعلمية وبين الاعتقاد الخرافي في الظواهر الخارقة للطبيعة - وهو الذي يميز العديد من مفكري عصر النهضة - يتجلى بشكل ملحوظ في كل كتابات كامبانيلا.
وسرعان ما لفتت أفكاره الفلسفية أنظار السلطات الدينية. وكانت إيطاليا في أواخر القرن الخامس عشر قد تخلت عن ذلك التسامح مع الأفكار الجديدة الذي طبع بطابعه المرحلة المبكرة لعصر النهضة. فقد سلب الإصلاح الديني الكنيسة الكاثوليكية سلطتها على جزء كبير من أوروبا الغربية، وأعلنت حالة من الحصار في الدول التي بقيت تحت سيطرتها (أي سيطرة الكنيسة). ووقعت إيطاليا في قبضة الإصلاح المضاد فلم يفلت أحد، من البابا إلى أصغر راهب مجهول، من مراقبة محاكم التفتيش. واستدعي كامبانيلا في عام 1590م للمثول أمام محكمة دومينيكية لاستجوابه عن كتاباته التي دافع فيها عن تيليزيو. وبعد ثلاث سنوات، وبينما كان مقيما في الدير الدومينيكاني في بولونيا، سرق البوليس السري للبابا كل مخطوطاته. وطالب كامبانيلا، الذي اشتبه في الفاتيكان، باستعادة مخطوطاته، ولكنهم أنكروا معرفتهم بالأمر. ومع ذلك، فقد عثر على هذه المخطوطات بعد ذلك بثلاثين سنة في أرشيف الأبرشية المقدسة. وفي عام 1594م اتهم كامبانيلا بالإلحاد بسبب أفكاره المتعلقة بحيوية الكون، وقدم لمحكمة التفتيش في روما التي عجزت عن إثبات التهمة، ولكنها أمرته بالبقاء في روما تحت المراقبة. ورجع في عام 1597م إلى نابولي، حيث اصطدم مرة أخرى بالسلطات الدينية، وأجبر على الاعتكاف في دير ستيلو.
وشاع الاعتقاد في ذلك الوقت بأن نهاية القرن ستجلب معها تغيرات عميقة، بل وصل الأمر إلى حد التكهن بأن نهاية العالم قد اقتربت. وتأثر كامبانيلا تأثرا شديدا بهذه الشائعات، وشعر بأن الاضطرابات التي سادت نابولي تحت الحكم الإسباني، وأن بعض الأحداث التي وقعت في ذلك الحين كالفيضانات والزلازل وظهور المذنبات هي الدليل على اضطرابات اجتماعية وشيكة الحدوث. وتسلط على عقله حلم غريب، فتصور أن التغيرات القادمة ستؤدي إلى إصلاح كامل للمجتمع، وأن اللحظة قد حانت لإقامة جمهورية عالمية، وأن كالابريا - وهي موطنه الأصلي - ستكون تحت قيادته هي نقطة انطلاق هذه الحركة. وصمم الفيلسوف، الذي اكتفى حتى الآن بمحاربة الأفكار القديمة في كتاباته، على أن يتحول إلى رجل عمل.
اعتقد كامبانيلا بضرورة النهوض بالإصلاح على ثلاثة مستويات: تحسين ظروف الشعب على المستوى الاجتماعي، وتولي إسبانيا قيادة توحيد العالم على الصعيد السياسي، وإصلاح الكنيسة في المجال الديني. ولم يتصور كامبانيلا الإصلاح على طريقة كالفن أو لوثر، اللذين أرادا الانسلاخ عن هيمنة الكنيسة في روما، وشجعا بذلك التطلعات القومية. لقد كان كامبانيلا كاثوليكيا مخلصا، وأراد أن يوحد العالم تحت لواء الإيمان الكاثوليكي. وأرجع هزائم الكنيسة الكاثوليكية إلى ولائها للمذاهب الإسكولائية (المدرسة) القديمة، واعتقد أنها لن تستعيد سلطتها ولن تقويها بممارسة الاضطهاد الديني، بل بقبول الأفكار الفلسفية الجديدة فحسب. ولذلك سعى إلى تحديث الكنيسة لا إلى إصلاحها.
وربما تصلح جمهورية كالابريا التي خطط لتأسيسها لأن تكون نموذجا ونقطة انطلاق لإقامة جمهورية عالمية. والواقع أن كامبانيلا لم يكن، كما وصف أحيانا، إيطاليا ذا نزعة وطنية. وإذا كان قد تآمر ضد إسبانيا، فقد فعل هذا في سبيل إقامة هذه الجمهورية العالمية المقدسة تحت القيادة الروحية للكنيسة الكاثوليكية. وعلى الرغم من تمرده على السلطات الإسبانية، فإنه كان مؤمنا بأن إسبانيا هي القوة الوحيدة القادرة على تحقيق الجمهورية العالمية.
وأخذ كامبانيلا يبشر في كنيسة ديرستيلو بأن لحظة التمرد قد حانت، ونجح في إقناع بعض اللاجئين السياسيين الذي لاذوا بالدير، وبعض الرهبان أيضا بأن الجمهورية العالمية المقدسة ستقوم قبل نهاية العالم، وأن من الضروري إيجاد «الدعاة» و«الرجال العمليين» القادرين على تحقيقها، وأن ألسنة الرهبان وأسلحة الشعب يمكن أن تتحرك لوضع قوانين ومؤسسات جديدة لعالم أفضل. وقد تجسدت بعد ذلك في «مدينة الشمس» بعض الإصلاحات والقوانين التي دعا إليها في ذلك الوقت.
اكتشفت المؤامرة وقبض على كامبانيلا ورفاقه. وتم ترحيلهم عن طريق البحر إلى نابولي في الثامن من شهر نوفمبر عام 1599م، وكان بعض رفاق كامبانيلا مقيدين بالأغلال على ظهر سفن شراعية، وذلك على مرأى من أهالي نابولي الذين تجمعوا في الميناء لاستقبالهم عند وصولهم.
وأضيفت تهمة الهرطقة إلى تهمة التآمر على إسبانيا، وحكم بالإعدام على عشرة من بين مائة وأربعين رجلا تم اعتقالهم (وكان بينهم أربعة عشر راهبا). واحتجز كامبانيلا الذي كبلت ساقاه بالأغلال لمدة خمسة شهور في زنزانة رطبة ومظلمة، وتعرض لألوان مختلفة من التعذيب المخيف، وانتزعت منه بعض الاعترافات التي سمحت لمحكمة التفتيش بأن توجه إليه تهمة الهرطقة. وقبل بدء المحاكمة بأسابيع قليلة أشعل النار في زنزانته، وأخذ يتكلم ويتصرف بطريقة توحي بأنه فقد عقله. ولن نعرف أبدا على وجه اليقين إن كان قد تظاهر بالجنون، كما يعتقد معظم المؤرخين، أو إن كان التعذيب الرهيب قد ذهب بعقله بالفعل.
وفي العاشر من مايو عام 1600م استؤنفت المحاكمة، ولم يحمه جنونه من أن يعذب مرة أخرى بقسوة أشد، وفي إحدى المرات استمر التعذيب لمدة أربع وعشرين ساعة بغير انقطاع. وسجل هذيان كامبانيلا وصراخه، الذي دونه أحد موظفي محاكم التفتيش، ما زال محفوظا حتى اليوم، ويعتبر بحق وثيقة مروعة ومرعبة. وقد رفض هذه المرة الإجابة عن أي أسئلة، واستمر في التصرف كالمجانين. وتشككت محكمة التفتيش في ادعائه للجنون، ولكنهم أصروا على مواصلة تحقيقاتهم، ولم يتمكنوا من الحكم عليه بالإعدام لأن ذلك كان معناه الحكم على روحه باللعنة والهلاك. وبعد محاكمة استمرت عاما كاملا، حكم عليه بالسجن مدى الحياة.
بعد هذه المحاكمة مباشرة، أي في عام 1602م، كتب كامبانيلا «مدينة الشمس». ويعتقد بصفة عامة أن هذا الكتاب قد وضع باللاتينية في تاريخ لاحق، وعلى الرغم من تجاهل الظروف التي تم فيها تأليف الكتاب للمرة الأولى فقد وصف بأنه حلم غريب وشاذ، وبأنه منفصم انفصاما كاملا عن الواقع . والحقيقة أن مدينة الشمس مرتبطة ارتباطا وثيقا بمحاولة كامبانيلا الفاشلة لإقامة جمهورية كالابريا. ولم ينجح التعذيب ولا المحاكمات في تحطيم روحه، وربما يكون قد كتبها كنوع من التحدي، أو ليشرح ببساطة ماذا كان يمكن أن يحدث لو قدر له النجاح في محاولته. ومن المحتمل أيضا أنه كان يأمل في الهرب، وأنه سعى بهذه الطريقة لكسب التأييد والمساندة في محاولة جديدة للهرب. وقد قال بنفسه بعد ذلك إنه حاول السيطرة على حراسه ببعض الممارسات السحرية التي بهرتهم وأثرت فيهم تأثيرا كبيرا. وقد ساعدوه على تهريب مخطوطاته إلى خارج السجن، وربما يكونون قد فكروا في مساعدته على الهرب لو لم يتم نقله إلى قلعة أخرى. والظاهر أن كامبانيلا اكتسب شعبية كبيرة في عصره، ورويت القصائد الغنائية التي كتبها في زنزانته في كل أنحاء نابولي. ودلت كتابته ل «مدينة الشمس» بالإيطالية لا باللاتينية، على أنه لم يعتبرها عملا أكاديميا، وإنما أراد لها أن تقرأ بشكل واسع بقدر الإمكان.
لقد قيل مرارا إن كامبانيلا لم يهتم أدنى اهتمام بإضفاء طابع واقعي على مدينته المثالية. والحقيقة أننا لا نعرف منها شيئا عن المكان الذي تقع فيه، ولا كيف وصل إليها الملاح الذي يروي القصة. وهذا أمر يمكن فهمه لو وضعنا في اعتبارنا أنه كان يعظ ويحرض ويدبر المؤامرات ويواجه التعذيب لكي يقيم جمهورية مثالية في مسقط رأسه كالابريا. ولم يشأ أن ينظر قراؤه إلى كتابه وكأنه رواية خيالية، أو أن يتخيلوا المدينة المثالية في بلد بعيد أو في بلد أجنبي، وإنما أراد أن يتصوروها حولهم وأن يعتبروا أنفسهم مواطنيها. ولم يكن كامبانيلا يفتقر إلى الخيال والمواهب الشعرية التي تجلت في قصائده الغنائية وأشعاره التي كتبها طوال حياته، ومع ذلك فإن «مدينة الشمس» عمل جاف ومجدب، وهي أشبه بمنشور أو برنامج عمل سياسي؛ لأن هذا في الواقع هو المقصود منها.
بقي كامبانيلا سجينا في نابولي حتى شهر سبتمبر عام 1626م، ثم حصل على حريته بفضل القنصل الإيطالي في مدريد. وبعد شهر من خروجه من السجن، قبض عليه مرة أخرى، وجاء الأمر بالقبض عليه في هذه المرة من البابا، وتم احتجازه في الفاتيكان لمدة ثلاث سنوات. وتمتع بعد إطلاق سراحه بفترة هدوء نسبي استمرت حتى عام 1633م، عندما بدأ الإسبانيون في اضطهاده من جديد ، حيث اعتبروه مسئولا عن سياسة البابا أوريان الثامن المؤيدة لفرنسا. ومن المحتمل أن هذه الشكوك كان لها ما يبررها، إذ تخلى كامبانيلا عن أمله في توحيد إسبانيا للعالم كما كان يحلم بذلك، واعتقد أن فرنسا يجب أن تحل محلها. واضطر في عام 1636م للهرب إلى باريس، حيث عاش تحت حماية ريشيلو ولويس الثالث عشر، واستطاع أن ينشر أعماله وأن يحاضر في السوربون على الرغم من معارضة الفاتيكان. ثم جاء الموت أثناء إقامته في أحد الأديرة في اليوم الحادي والعشرين من شهر مايو عام 1639م.
حقق كامبانيلا شهرته من خلال حياته المأساوية ويوتوبياه «مدينة الشمس» أكثر مما حققها عن طريق أعماله الفلسفية التي تحتل، في الواقع، مكانة مهمة، إن لم تكن شديدة الأهمية، في فلسفة عصر النهضة المتأخر. وما زالت ذكراه حية بين الناس في موطنه الأصلي في كالابريا، ويقال إنه يظهر في الأحلام ليكشف عن الكنوز المخبأة، وهي حكاية خرافية كان من الممكن أن ترضي الفيلسوف الذي كان يحب أحيانا أن يعتبره الناس ساحرا ونبيا.
كتب كامبانيلا معظم مؤلفاته في السجن، تحت ظروف غير إنسانية على الإطلاق، وقد قال فيما بعد إنه كان يصارع الموت بالعمل. وصودر عدد كبير من مخطوطاته، كما دمر سجانوه بعضها، وهذا يفسر إلى حد ما سبب وجود طبعات كثيرة لمعظم أعماله، حتى إن بعضها تمت كتابته أكثر من خمس مرات. وقد كتبت «مدينة الشمس» للمرة الثانية بالإيطالية في عام 1611م، وللمرة الأولى باللاتينية بين عامي 1613م و1614م، ثم عدلت هذه الطبعة وروجعت للمرة الرابعة باللاتينية في عامي 1630م و1631م. وتختلف الطبعات اللاتينية اختلافا تاما عن الطبعات الإيطالية، ليس من حيث الأسلوب فحسب، والذي تم صقله وتهذيبه في الطبعات المتأخرة، وإنما بسبب تغير أفكاره تغيرا شديدا أثناء فترة سجنه . فقد أصحبت «مدينة الشمس» مع مرور السنين أكثر تسلطية وأكثر مهادنة لأفكار الكنيسة. وعلى سبيل المثال لم تلغ مشاعية السلع والنساء، ولكن آباء الكنيسة - كما يعبر عنهم النص - أخذوا في تبريرها، بالإضافة إلى أن الحرية الجنسية فرضت عليها قيود شديدة، كما أن التنجيم أصبح يشغل حيزا أقل أهمية في الطبعات المتأخرة، ربما بسبب الحرب التي كان الفاتيكان يشنها على المنجمين.
لم يكن كامبانيلا ثوريا أبدا، بل كان مصلحا متمردا، وعندما تخلت عنه روح التمرد أصبح مهادنا (للنظام القائم). لقد كافح في شبابه وفي أثناء السنوات الأولى من سجنه في سبيل أفكاره الفلسفية الجديدة وتأسيس نظام أفضل للمجتمع. ولكنه - مع مرور السنين عليه في السجن - أخذ يسعى لاستعادة حريته بمحاولة جعل أفكاره مقبولة من قبل السلطات، وفي نهاية حياته طمح أن يصبح كاردينالا في الكنيسة التي اضطهدته وكتب قصائد يتملق بها ملك فرنسا وريشيليو.
كتب كامبانيلا النسخة الأولى من «مدينة الشمس» في شبابه عندما كان جسده مقيدا وعقله لا يزال حرا، ولهذا تعد هذه النسخة من الناحية اليوتوبية أصدق بكثير من الطبعات الأخرى. ثم غشيت رؤيته سحب الخوف من السجن الدائم وإحساسه بضرورة مهادنة السلطات. والمهم على أي حال أن «مدينة الشمس» قد عرفت على نطاق واسع عن طريق نسخها اللاتينية. ولا بد أن هذه النسخ وصلت إلى ألمانيا عام 1619م، لأنها تركت أثرا واضحا في «مدينة المسيحيين» لأندريا التي نشرت في ذلك العام. وربما يكون سكيوبيوه
Scioppio ، وهو باحث ألماني تحول إلى الكاثوليكية وتزعم حركة الإصلاح المضاد، هو الذي حملها معه إلى ألمانيا. وقد بذل هذا الرجل جهدا كبيرا لإطلاق سراح كامبانيلا من سجنه، وسافر من إيطاليا إلى ألمانيا ومعه مخطوطاته لمقابلة الإمبراطور وكسب تأييده لقضيته. ونشرت «مدينة الشمس» لأول مرة عام 1623م في فرانكفورت، وقد نشرها توبياس أداني
Tobias Adani ، وهو قاض ألماني نشر معظم أعمال كامبانيلا بين عامي 1617م و1629م. ولم تظهر الترجمة الإنجليزية (التي قام ت. و. هاليداي
T. W. Halliday ) إلا في عام 1886م، عندما صدرت ضمن كتاب «الدولة المثالية» لهنري مورلي
Henry Morley
وليس هناك أي إشارة إلى الطبعة اللاتينية، التي اعتمدت عليها هذه الترجمة، التي امتلأت بالأخطاء بحيث جعلت النص في بعض الحالات خاليا من أي معنى. ويصف مورلي بعض الفقرات التي أسقطت من الأصل بأنها «حذف لبعض التفاصيل التي يمكن الاستغناء عنها في موضع واحد أو موضعين». ويبدو أن هذا الحذف قد أملاه الحس الفيكتوري بالانضباط واللياقة أكثر من الاعتبارات الخاصة بالحيز.
وقد ترجمنا الفقرات التالية عن طبعة النسخة الإيطالية الأولى التي نشرت في إيطاليا في عام 1905م، وضمت في هوامشها الاختلافات في النص يبن الطبعتين اللاتينيتين الصادرتين في عام 1623م و1637م. وقد ذكرت هذه الاختلافات كلما وجدت أنها ذات أهمية خاصة.
ويوضح العنوان الكامل للطبعة الأولى مدى التطابق بين مدينة الشمس وبين حلم كامبانيلا بجمهورية مسيحية: (3) «مدينة الشمس» أو «حوار عن الجمهورية»
وفيه عرض لفكرة إصلاح الجمهورية المسيحية طبقا للوعد الذي وعد به الله القديسة كاترينا والقديس بردجيه.
ويدور الحوار بين الفارس هوسبيتالر وبحار من جنوا يصف المدينة المثالية التي زارها خلال إحدى رحلاته. وتقع المدينة بالقرب من تابروبان
Taprobane ، فوق سهل مترامي الأطراف يقع تحت خط الاستواء مباشرة:
البحار: فوق هذا السهل المنبسط يرتفع تل أقيم عليه الجزء الأكبر من المدينة، ولكن دوائرها تمتد إلى ما وراء قاعدة هذا التل الذي يصل اتساع حجمه إلى حد أن قطر المدينة يبلغ ميلين أو أكثر، ومحيطها ما يقرب من سبعة أميال. ولأن المدينة مبنية على منحدر، فإن عدد بيوتها أكبر مما لو كانت قد بنيت فوق السهل.
والمدينة مقسمة إلى دوائر مسماة بأسماء الكواكب السبعة، ويمر المرء من دائرة إلى أخرى خلال أربعة شوارع وأربع بوابات تتجه صوب الجهات الأربع للأرض. وقد نظمت بحيث إذا تم اقتحام الدائرة الأولى، فإن الأمر سيتطلب جهدا أكبر لاقتحام الثانية، وجهدا أكبر منه لاقتحام باقي الدوائر، حتى لتقتضي الضرورة مهاجمتها سبع مرات قبل التمكن من الاستيلاء عليها. ولكنني مقتنع بأن من المستحيل الاستيلاء حتى على الدائرة الأولى، لأن أسوارها شديدة السمك ومحصنة تحصينا قويا بالأبراج والمدافع والخنادق المحيطة بها من الخارج.
وعند الدخول من البوابة الشرقية التي غطيت بالحديد ويمكن رفعها وخفضها وفقا لخدعة عبقرية، يرى المرء مساحة مستوية يبلغ عرضها خمسين خطوة بين السورين الأول والثاني، ويجد قصورا مصفوفة حول السور بطريقة تظهرها كأنها قصر واحد، ثم إنها مدعمة من أعلى بعمودين، كما في أروقة الرهبان في الأديرة، ولا يمكن رؤية أي مدخل، لوقوعها جميعا على الجانب المقعر للقصور، والحجرات جميلة ومقسمة بحوائط قليلة السمك، ولها نوافذ على كلا الجانبين المقعر والمحدث للمبنى. ويبلغ سمك الحائط المحدب ثمانية أشبار، وسمك المقعر ثلاثة، ولا يكاد سمك الحوائط الداخلية يزيد على شبر واحد.
وهكذا يدخل المرء إلى الدائرة الثانية، التي هي أضيق من الأولى بخطوتين أو ثلاث خطوات، فيرى الحوائط الثانية المزودة بأروقة للنزهة، كما يرى من الداخل حائطا آخر يطوق القصور، وفي منتصف الطريق الصاعد إلى المباني يوجد معرض مدعم بعمودين ويحتوي على صور جميلة. ومن هذا الطريق يصل المرء إلى الدائرة الأخيرة، وتكون الأرض مستوية باستمرار، إلا حين يمر المرء من خلال الأبواب المزدوجة بسبب الحوائط الداخلية والخارجية، وعند الانتقال من أحدها إلى الآخر يصعد المرء بضعة سلالم يصعب الانتباه إليها، لأنها ترتفع في اتجاه مائل بحيث يتعذر ملاحظة ارتفاعها.
وعلى قمة التل مساحة كبيرة مسطحة أقيم فوقها معبد من طراز فني عجيب.
وبعد أن يصف البحار المعبد يعبر الفارس هوسبيتالر عن رغبته في معرفة نظام الحكم في المدينة:
البحار: لديهم أمير مقدس يسمى
O ،
48
ومعناه في لغتنا الميتافيزيقي. وهو رئيسهم الروحي والزمني ويرجع إليه في كل الأمور.
ويساعده ثلاثة أمراء من رتب متساوية، وهم بون، وسين، ومور، وتعني أسماؤهم القوة والمعرفة والحب.
والقوة مسئول عن كل الأمور المتصلة بالحرب والسلام والفنون العسكرية، وهو يملك السلطة العليا في الحروب، وليس يخضع إلا ل
O
ويعتني بالحكام العسكريين، والمحاربين والجنود والذخيرة والتحصينات.
والمعرفة مسئول عن جميع العلوم وعن الدكاترة والأساتذة المتخصصين في الفنون الحرة والآلية. ويساعده عدد من المشرفين أو القضاة مساو لعدد العلوم، وهم المنجم، وعالم الكونيات (الكوزموجرافيا)، والعالم في الهندسة، والفيزياء، والبلاغة، والنحو، والطبيب، والعالم في السياسة، والأخلاق، وليس لديه سوى كتاب واحد يحتوي على جميع العلوم ويقرأ على الشعب كله حسب التقليد المتبع عند الفيثاغوريين.
والمعرفة هو الذي أمر بأن تغطى جميع الحوائط والجدران الداخلية والخارجية للمعارض برسوم تصور كل العلوم. وعلى الحوائط الخارجية للمعبد وعلى الستائر - التي تسدل في أثناء العظات الدينية لحصر الصوت داخل المعبد - توضع صور للنجوم ووصف لكل منها في ثلاثة أبيات من الشعر. وعلى الحائط الداخلي للدائرة الأولى ترسم كل الأشكال الرياضية، التي يزيد عددها على تلك التي اكتشفها إقليدس وأرشميدس، ويرفق كل شكل من هذه الأشكال بشرح واضح. وعلى الجانب الخارجي للحائط خريطة للعالم كله، وبجوارها لوحات لكل إقليم، مع الأماكن والعادات والقوانين الخاصة به، بالإضافة إلى أبجديتها التي توضع أبجديتها مقابلة لها.
وفي داخل الدائرة الثانية توجد كل الأحجار الكريمة والأحجار العادية، والمعادن والفلزات، مصورة وعلى الطبيعة، مع شرح لكل نوع منها في بيتين من الشعر. أما خارج الدائرة فتوجد كل أنواع البحيرات، والبحار، والأنهار، والأنبذة، والزيوت والسوائل الأخرى، مع شرح لفوائدها وأصلها وكيفياتها. وهناك أيضا أوعية تحتوي على سوائل مختلفة يمكن أن تشفي من جميع الأمراض، ويبلغ بعضها مائة عام وعمر البعض الآخر ثلاثمائة عام.
49
وفي الدائرة الثالثة توجد كل أنواع الأعشاب والأشجار في العالم، ويصور بعضها على الحوائط، وبعضها الآخر ينمو بالفعل في سلال مملوءة بالتراب، توضع فوق الأفاريز مع شروح تبين المكان الذي عثر عليها فيه لأول مرة، وفوائدها، وأوجه التشابه بينها وبين النجوم، والمعادن وأجزاء من الجسم البشري، واستعمالاتها في الطب. وخارج السور توجد كل أنواع الأسماك الموجودة في الأنهار والبحيرات، مع شرح أنواعها، وطريقة معيشتها وتكاثرها، وكيفية حفظها، بالإضافة إلى استعمالاتها وأوجه التشابه بينها ويبن الأجرام السماوية والكائنات الأرضية سواء من الناحية الفنية أو الطبيعية.
وداخل الدائرة الرابعة توجد صور لكل أنواع الطيور ووصف لأنواعها، وأحجامها وعاداتها، كما أن لديهم عنقاء حقيقية. وخارج الدائرة توجد كل أنواع الحيوانات، والزواحف والثعابين والتنانين، والديدان والحشرات مثل الذباب وذباب الثيران وغيرها ووصف لخصائصها وسمومها وفوائدها التي تفوق كثيرا ما نتصور.
وداخل الدائرة الخامسة توجد لديهم كل أنواع الحيوانات التي تعيش على الأرض، ومن المدهش حقا رؤية كل هذه الأنواع المختلفة التي لا تعرف منها جزءا واحدا من الألف. والأنواع ذات الأحجام الكبيرة مصورة خارج الأفاريز
Ravelins ، أما الخيول وحدها فكم هناك من سلالات متنوعة منها. وما أبرع الأوصاف المكتوبة عن هذه الصور الجميلة من أبيات شعرية مرفقة بها!
وداخل الدائرة السادسة نجد لديهم كل الفنون الآلية مع الاختراعات التي توصلوا لها بأنفسهم والطرق المختلفة التي استخدمت بها في شتى أنحاء العالم. وخارج هذه الدائرة رسمت صور جميع المخترعين في القانون والعلم والفنون العسكرية. وقد وجدت بينهم موسى وأوزيريس وجوبيتر وعطارد وكثيرين غيرهم. وفي مكان عظيم الشرف وجدت السيد المسيح والاثني عشر حواريا الذين يحظون بتقدير كبير منهم، وهناك أيضا وجدت قيصر والإسكندر وبيروس
50
وعظماء الرومان جميعا.
51
وقد أظهرت تعجبي من معرفتهم الواسعة بالتاريخ، فأخبروني أنهم يعرفون لغات كل الأمم، لأن من عادتهم إرسال السفراء إلى جميع بلاد العالم لتعلم ما لديها من خير أو شر، وقد حصلوا من ذلك فوائد جمة.
وهناك أيضا معلمون يدرسون هذه الأمور، ويتعلم الأطفال دون مشقة، وقبل أن يتموا العاشرة من عمرهم يكونون قد تعلموا جميع العلوم عن طريق السرد التاريخي.
والحب هو المسئول عن الإنجاب، وهو الذي يجمع بين الرجال والنساء بالطريقة التي تجعلهم ينجبون سلالات سليمة، وهم يسخرون منا؛ لأننا نهتم غاية الاهتمام بتحسين نسل الكلاب والخيول بينما نهمل جنسنا البشري. ويعتني الحب أيضا بتعليم الأطفال، وبالأدوية والعقاقير والزراعة وجمع محاصيل الفواكه والحبوب والأعشاب، وكل ما يتعلق بالغذاء والكساء وعلاقات الحب بين الجنسين. وليساعده في عمله عدد كبير من المعلمين والمعلمات المكرسين لهذه الفنون.
ويعنى «الميتافيزيقي» بكل هذه الأمور بالتعاون مع بقية الأمراء الثلاثة الذين يستشيرونه في كل شيء، إذ لا يتم شيء من دونه، وكل ما يقرره يوافقون عليه ...
وسنرى في الفقرة التالية أن كامبانيلا، على الرغم من تأثره الشديد بأفلاطون وبلوتارك، قد ذهب أبعد منهما لأنه يلغي الملكية بالنسبة للمجتمع كله لا لطبقة واحدة فحسب:
كل الأشياء مشتركة بين السكان، ويقوم القضاة بالإشراف على إدارتها. ولا يقتصر الاشتراك على الطعام، بل يشمل المعرفة والمباهج والمسرات وأوجه التشريف والتكريم، بحيث لا يستطيع شخص أن ينفرد بتملك أي شيء.
وهم يقولون إن الملكية قد نشأت عن المعيشة في بيوت منفصلة وتملك الزوجة والأولاد، وأنها هي الأصل في حب الذات. فالأب الحريص على أن يهيئ لابنه الثروة والترف، إما أن يسعى للاستحواذ على الثروة العامة، وذلك إذا كان قويا وجريئا، وإما أن يصبح جشعا ومنافقا إذا كان ضعيفا. ولو جرد الناس من حب الذات لما بقي إلا الحب الذي يجمع بين أعضاء المجتمع.
وهنا يتدخل الفارس بطرح الاعتراض الشائع: «في هذه الحالة لن يرغب أحد في القيام بأي عمل، بل سينتظر من الآخرين أن يقوموا به.» وذلك كما جاء في اعتراض أرسطو على أفلاطون. ويرد عليه البحار قائلا:
لا يمكنني أن أناقش هذه الفكرة، وكل ما أستطيع أن أقوله لك هو أنهم يحبون وطنهم حبا صادقا عجيبا. بل إن حبهم لوطنهم أعظم من حب الرومان لبلادهم، لأنهم ذهبوا في التخلي عن الملكية إلى حد أبعد منهم بكثير. وأعتقد أن القسيسين والرهبان عندنا لو استغنوا عن العائلات والأصدقاء، وعن أي طموح إلى المناصب العليا، لأصبحت ملكياتهم أقل (مما هي عليه) وتشربوا بروح القداسة والإحسان للجميع ...
ويحرص القضاة أشد الحرص على ألا يأخذ أحد أكثر مما يأخذه غيره أو أكثر مما يستحق، ومع ذلك فإن كل فرد يأخذ كل ما يحتاج إليه، وتتجلى الصداقة في أثناء الحروب والإصابة بالمرض أو في الدراسة، عندما يتعاون بعضهم مع بعض ويعلم بعضهم بعضا. ويدعو جميع الشبان بعضهم بعضا بالأخوة، أما من يكبرونهم بخمسة عشر عاما فيدعونهم بالآباء، ومن يصغرونهم بخمسة عشر عاما بالأنباء. ويحرص القضاة، الذين يراقبون كل شيء بعناية، على ألا يصيب الأخ أخاه بأي أذى.
الفارس: وكيف؟
البحار: يوجد بينهم من القضاة بقدر ما يوجد بيننا من الفضائل. والأسماء التي تطلق عليهم هي التحرر، والشهامة، والعفة والصلابة، والعدالة الجنائية والمدنية، والاجتهاد والصدق، والرحمة، والعرفان بالجميل والإحسان. ويختار كل واحد من هؤلاء وهو لا يزال يعد صبيا، وذلك عندما يظهر منه في المدرسة أنه يميل إلى فضيلة معينة. ولما لم يكن بينهم لصوص أو قتلة، ولا اغتصاب أو انتهاك للمحارم أو زنا كما هو الحال بيننا، فإنهم يتهم بعضهم بعضا بالعقوق أو سوء النية (عندما يرفض أحدهم الاستمتاع بإحدى المسرات البريئة) أو بالخداع الذي يبغضونه أكثر من بعضهم للطاعون. والذين تثبت إدانتهم (بإحدى هذه التهم) يحرمون من المائدة المشتركة ومن معاشرة النساء، وذلك إلى أن يرى القاضي أنهم قد أصلحوا أنفسهم ...
وتحتل دراسة العلوم في مدينة الشمس مكانة مهمة، ولكن العمل اليدوي ينال في نفس الوقت تقديرا عاليا:
يتعلم كل فرد جميع أنواع الفنون ... وبعد بلوغ الثالثة من العمر يتعلم الأطفال اللغة وحروف الأبجدية بالمشي حول الحوائط في أربعة صفوف، يقودهم أربعة من كبار السن الذين يتولون التدريس لهم. ويعودون حتى سن السابعة على السير حفاة الأقدام وبشعور غير ممشطة، ويؤخذون في جولات حول الورش الخاصة بالحرف المختلفة - كالخياطين والنقاشين والصائغين ... إلخ - لكي يكتشفوا ميولهم واستعداداتهم. وبعد سن السابعة يتلقى الأطفال دروسا في العلوم الطبيعية ... وعندما يصبحون أكبر سنا يدرسون الرياضيات والطب وغيرهما من العلوم، وهم يتناقشون بصفة مستمرة ويتنافسون فيما بينهم، وقد يصبحون قضاة متخصصين في أحد العلوم أو الفنون الآلية التي برعوا فيها ...
ويذهب الأطفال أيضا إلى الريف ليتدربوا على العمل في الحقول والمراعي، وكل من درس منهم معظم الفنون ومارسها بإتقان يعتبر على درجة عالية من النبل. إنهم يسخرون منا، نحن الذين نحقر من شأن عمالنا ونضع في صفوف النبلاء أولئك الذي لم يتعلموا حرفة، بل يعيشون كسالى متبطلين ويحتفظون كذلك بأعداد كبيرة من الخدم الكسالى المتراخين، مما يدفع بالجمهورية إلى الخراب.
لقد طالما قورن وضع ال
O
أو الميتافيزيقي بوضع البابا، ولكن الفقرة التالية تبين أنه إذا كان كامبانيلا قد صاغ هذه الشخصية على نموذج البابا، فإنه نموذج بابا مثالي، أشبه بالفيلسوف (أي بكمبانيلا نفسه) منه ببابوات عصره: «لا يستطيع أحد أن يصبح
O
إذا لم يكن ملما بتواريخ الشعوب وطقوسها وقرابينها وقوانينها، ثم يجب أن يكون على دراية بجميع الفنون الآلية، وأن يتعلم منها كل يومين فنا جديدا (وإن كانت الخبرة وممارسة الرسم والتصوير تجعل من السهل عليهم معرفتها جميعا)، وعليه أن يعرف جميع العلوم، كالرياضيات والفيزياء والتنجيم، كما أنه ليس في حاجة إلى معرفة لغات كثيرة لأن لديه مترجمين. والأهم من ذلك كله هو أن
O
يجب أن يكون ميتافيزيقيا ولاهوتيا ضليعا، وأن يكون متمكنا من معرفة أصل كل فن وعلم والأدلة التي تثبت صحتهما، وأوجه التشابه والاختلاف بين جميع الأشياء، وموضوع العالم ومصيره وانسجامه، وقوة الله ومعرفته وحبه وسائر الأمور جميعا. وينبغي عليه أن يعرف كل أنواع الكائنات الحية وعلاقتها بالموجودات السماوية والأرضية والبحرية، وأن يقوم بدراسة متأنية للمتنبئين والمنجمين. ولهذا فإنهم يعلمون سلفا من هو الذي سيصبح
O ، كما يعلمون أنه يجب أن يتخطى الخامسة والثلاثين لكي يتسنى له الحصول على مثل هذا المركز، وأن يستمر في شغل منصبه حتى يتم العثور على رجل يفوقه علما وقدرة على النهوض بأعباء الحكم.»
الفارس: ومن ذا الذي يمكنه أن يبلغ هذا المستوى من المعرفة؟ وكيف يمكن لأي إنسان متخصص في كل العلوم أن يكون ماهرا في الحكم؟
البحار: سألتهم هذا السؤال فأجابوا قائلين: «إننا متأكدون أكثر منكم من أن الرجل المتعلم يملكن القدرة على الحكم، لأنكم تضعون الجهلة في مراكز السلطة لمجرد أنهم ولدوا نبلاء، أو تم انتخابهم من قبل حزب قوي. ولكن
O
الذي يحكمنا قد اطلع على قدر واسع من العلم الذي يمنعه من أن يكون قاسيا أو شريرا أو طاغية. ولا شك في أن حجتك صحيحة بالنسبة للبلاد التي تفكر فيها، حيث يعتبر الإنسان متعلما إذا كان يعرف من قواعد النحو أو المنطق أكثر مما عرف أرسطو أو غيره، لأن ذلك الإنسان لا يحتاج إلا إلى ذاكرة العبيد، كما يصاب بالتبلد لأنه لا يستمد ملاحظاته من الوقائع بل من الكتب، وتنحط روحه بتأمل الأشياء الميتة، فلا يعرف كيف يدبر الله كل شيء، ولا يفهم سنن الطبيعة وعادات الأمم المختلفة ...
ونحن نعي كذلك تمام الوعي أن الذي يقتصر علمه على علم واحد، لا يعرف في الحقيقة هذا العلم نفسه ولا أي علم سواه، وأن الذي تظهر موهبته في علم واحد ويحصل معرفته من الكتب وحدها، إنما هو إنسان غبي لا يحسن شيئا. ولكن هذا لا يقلق العقول التي تكتسب المعرفة بسهولة ويسر، كما هو مفترض في عقل
O . أضف إلى هذا أن العلوم في مدينتنا يتم تعلمها بسرعة شديدة، حتى إن المرء يمكنه أن يتعلم هنا في سنة واحدة أكثر مما يتعلمه الناس عندكم في عشر سنوات ...»
وقوانين «مدينة الشمس» المتعلقة بالعلاقات الجنسية لا يمليها إلا الحرص على إنجاب سلالة سليمة تتمتع بالصحة. والواقع أن كامبانيلا يذهب في آرائه عن تحسين النسل إلى أبعد مما ذهب إليه أفلاطون، ويعتقد أن القضاة ينبغي أن يساعدهم الأطباء والمنجمون. وزيادة في الاحتياط يتوجه المصلون إلى الله بالدعاء سائلين أن يمنح المدينة ذرية معافاة. ولعل أكثر ما يصدم (القارئ) هو مدى بعد كامبانيلا عن الالتزام بالأخلاق المسيحية المتشددة التي تدين أي اتصال جنسي لا يكون الغرض منه هو الإنجاب، وكذلك فكرته عن أضرار الكبت الجنسي بالشباب وضرورة تجنبه، وهي فكرة مثيرة وتبدو حديثة جدا: «ولا يسمح لامرأة بأن تسلم نفسها لرجل قبل أن تبلغ التاسعة عشرة من عمرها، كما يجب أن يمتنع الرجل عن الإنجاب قبل بلوغه إحدى وعشرين سنة ... أما قبل هذه السن فيسمح له بمعاشرة المرأة الحامل أو العقيم لتلبية حاجاته الجسدية. وتبلغ الرئيسات سرا عن أولئك الذين تمعن فينوس في تعذيبهم، ويستجبن لرغباتهم، ولكن ليس قبل إخبار كبير القضاة الذي يكون كذلك طبيبا كبيرا ... وإذا اكتشف أنهم يرتكبون جريمة اللواط، فإنهم يؤنبون تأنيبا شديدا ويحكم عليهم بأن يربطوا أحذية حول رقابهم لمدة يومين، بما يعني أنهم قد أخلوا بالنظام ووضعوا أقدامهم حيث كان يجب أن يضعوا رءوسهم.»
52
وإذا امتنعوا عن الجماع حتى سن الحادية والعشرين، تقام الاحتفالات وتنشد الأغاني لتكريمهم. وعندما يتدربون على القتال، يتحرر النساء والرجال من ثيابهم، كما كان يفعل الإغريق، بحيث يستطيع القضاة أن يكتشفوا العاجز عجزا جنسيا من بينهم، وأي الأعضاء يناسب كل منها الآخر. وبعد أن يغتسلوا جيدا يهيئون للجماع كل ثلاث أمسيات، وتزوج النساء الطويلات والجميلات للرجال الطوال والفضلاء، والنحيفات للبدينين لتحقيق نوع من التوازن، ويذهب الجميع إلى الفراش بأمر القاضي والرئيسة، ولا يشرعون في الجماع حتى يهضموا طعامهم، ثم يبدءون في الصلاة، ويتأملون صورا جميلة لرجال هم محط أنظار النساء. وبعد ذلك يتوجهون نحو النوافذ ويدعون الرب في السماء أن يهبهم ذرية صالحة. وينامون في صوامع حتى تحين ساعة التزاوج، وعندئذ تفتح الرئيسة أبواب الصومعتين في تلك الساعة التي حددها المنجم ...
وإذا لم تحمل امرأة من رجل معين، فإنها تستبدل به رجلا آخر، وإذا وجد أنها عاقر، فيمكنها أن تصحب أي رجل تشاء، ولكنها تحرم من الشرف الذي يمنح للنساء المتزوجات، سواء في الموائد المشتركة أو في المعبد، ويتم هذا لمنع أي امرأة من أن تجعل نفسها عقيما لكي تمارس الجنس على هواها.
وتشارك النساء في «مدينة الشمس» في الأعمال التي يقوم بها الرجال، وإن كن يكلفن بمهام أخف. ويتدربن على استعمال السلاح تحت إشراف أساتذتهن من المعلمين والمعلمات، وذلك لكي يتمكن «في حالة الضرورة» من مساعدة الرجال في المعارك الدائرة بالقرب من المدينة.
وتؤدي التدريبات العسكرية دورا مهما في حياة سكان «مدينة الشمس»، ولكنهم لا يشتبكون في حروب تستهدف غزو بلاد أخرى. فهم لا يشنون الحرب (التي يخرجون منها دائما منتصرين) إلا إذا تعرضوا للإهانة أو تعرضت مدينتهم للسلب والنهب، وهم كذلك يبادرون إلى مساعدة الأمم التي تعاني من اضطهاد أحد الطغاة، لأنهم يدافعون دائما عن الحرية. وهم على النقيض من مواطني جمهورية أفلاطون، لا يحتقرون الأمم التي تقل عنهم استنارة، وإنما يؤمنون بأن «الأرض كلها سوف تحتذي بهم في الوقت المناسب وتعيش عيشة متفقة مع عاداتهم وتقاليدهم، ولهذا يحرصون دائما على البحث عن الأمم التي تتفوق على غيرها في الفضل والتقدم.»
وتحظى الزراعة منهم بالتقدير العظيم ويتبعون فيها الأساليب العلمية. وعلى الرغم من وجود عدد قليل من ضعاف العقول المنصرفين تماما إلى الأعمال الزراعية، فإن جميع مواطني المدينة يقومون بالعمل في الحقول. وهم يمضون إلى أعمالهم مدججين بالسلاح «رافعين الأعلام زاحفين على أصوات الطبول والأبواق» ... ولا يتركون شبرا واحدا من الأرض بغير حرث، ويستخدمون عربات مزودة بأشرعة تدفعها الرياح حتى ولو كانت تهب في اتجاه عكسي، وذلك بواسطة اختراع عجيب لعجلات تدور داخل عجلات.
وهناك إلى جانب هذا عدد آخر من الاختراعات الطريفة في مدينة الشمس. وتعد يوتوبيا كامبانيلا أول اليوتوبيات التي أعطت دورا قياديا للعلوم الطبيعية، كما أنها هي أول يوتوبيا تلغي عمل العبيد، وتعتبر أن العمل اليدوي، مهما بدا وضيعا، هو واجب مشرف. ومع ذلك فإن الحرية في «مدينة الشمس» قليلة، كما في غيرها من اليوتوبيات. ويمكن أن يحكم على النساء بالموت إذا ثبت أنهن يستعملن أدوات الزينة أو يلبسن أحذية بكعوب عالية، بالإضافة إلى أن الجرائم التي ترتكب في حق حرية الجمهورية، أو تقترف في حق الذات الإلهية أو القضاة الكبار يعاقب عليها كذلك بالإعدام. ومع ذلك كله فإن كامبانيلا، وهذا أمر طبيعي، يلغي السجون كما يحرم التعذيب في مدينته المثالية. (4) فالنتين أندريا (1586-1654م): «مدينة المسيحيين»
نشرت «مدينة المسيحيين» لأندريا في عام 1619م، أي بعد سبعة عشر عاما فقط من كتابة كامبانيلا لمدينة الشمس، ومع هذا فهي أشبه بيوتوبيات الإصلاح الاجتماعي في القرن التاسع عشر، منها بيوتوبيا راهب كالابريا. ويشترك فالنتين أندريا، الباحث والعالم الإنساني الألماني، في أمور كثيرة مع صاحب مصانع القطن والمصلح الكبير روبرت أوين،
53
وربما كان هذا هو السبب في أن مدينته المثالية تبدو أقرب إلى نفوسنا من الأحلام غير الواقعية لمور وكامبانيلا. ولا يكتب أندريا بخيال وأصالة واحد من أصحاب الرؤى، وإنما يناقش المشكلات التي عرفها معرفة حميمة، ولديه حلول مباشرة لها وهو لا يخلو من النبرة الوعظية والتبشيرية التي تميز معظم المصلحين. وقد وضع كتابه على هيئة رسالة موجهة لأولئك الذين يمكن أن يتمنوا اللجوء إلى مدينته المثالية، كما أن أسلوبه أقرب إلى أسلوب كتب التعبئة الروحية والمعنوية منه إلى القصة التي تهدف إلى الهدايا أو التسلية.
ولد أندريا في عام 1586م، وأتاح له شمول تعليمه وكثرة رحلاته أن يطلع اطلاعا واسعا على فكر عصر النهضة وكتابات علمائه وأدبائه. كانت الثورة المعرفية قد تحققت، وتم إلحاق الهزيمة بالمنهج الأرسطي، ولكن مهمة وضع منهج تربوي وتعليمي يحل محله لم تكن قد اكتملت بعد. وقد كرس أندريا معظم حياته لهذه المهمة، بل وضع مخططا لإصلاح النظام التربوي والتعليمي وهو لا يزال طالبا في الجامعة، ثم نشر بعد ذلك عددا من المؤلفات التربوية التي لقيت اهتماما كبيرا واستطاع - بوصفه معلما - أن يضع بعض أفكاره موضع التنفيذ، وأن يرسم أول برنامج للمدرسة الثانوية المنظمة تنظيما جيدا.
بيد أن اهتماماته الواسعة جاوزت مجال التربية والتعليم واتجهت لتخطيط مشروعات عامة للإصلاح الاجتماعي حاول كذلك أن يضعها موضع التنفيذ. ويخبرنا الأستاذ هيلد - الذي صدر ترجمته الإنجليزية ل «مدينة المسيحيين» بمقدمة بالغة الأهمية عن أعمال أندريا وتأثيره - أنه حاول، بعد أن أصبح عميدا وموجها عاما في مدينة «كالف» على نهر «ناجولد»، أن يؤسس نظاما اجتماعيا على غرار النظام الذي وصفه في مدينة المسيحيين: «لقد جعل من جماعة المؤمنين التي تضم رعايا كنيسته نقطة انطلاق أنشطته المتعددة، كما جعل من الأطفال موضوعه ومادته ثم امتدت جهوده إلى الطبقة العاملة في المدينة، سواء كانوا من أتباع كنيسته أو من خارجها. وأسس كذلك جمعية للتكافل الاجتماعي لرعاية عمال النسيج وورش الصباغة ودعمها باكتتابات المتطوعين من رعاياه وأصدقائه.»
ولعل تجربة أندريا المباشرة في الإصلاح الاجتماعي هي التي كان لها الفضل في أن تتخذ يوتوبياه، ذلك الطابع الواقعي الذي تفتقده اليوتوبيات التي استلهمها. وقد كان لمشروع برنامجه التربوي، الذي وصفه بعناية في «مدينة المسيحيين»، تأثير كبير في «كومينيوس»
54
الذي اعترف صراحة بأنه تلميذ أندريا، وفي بعض الكتاب الإنجليز مثل هارتليب ، ودروري، وملتون وغيرهم، ممن اهتموا مثله بالإصلاح الاجتماعي. كما أثر أيضا في صمويل جون، الذي تشبه يوتوبياه «سوليما الجديدة» يوتوبيا أندريا شبها ملحوظا.
55
ولكن الكتاب لم يحقق على أي حال نفس الشهرة التي نالتها يوتوبيا كل من مور وكامبانيلا، فلم تظهر الترجمة الألمانية إلا في عام 1741م، ولم تترجم إلى الإنجليزية إلا في عام 1916م، ولم تفلح في التعجل بترجمتها تلك الرسالة التي بعث بها روبرت بول إلى صمويل هارتليب، في سنة 1647م، وتمنى فيها أن تترجم «مدينة المسيحيين» إلى الإنجليزية، كما عبر فيها عن تخوفه من عدم ظهور هذه الترجمة إلا بعد ثلاثمائة سنة وفي نيويورك بالذات.
وربما يرجع إهمال هذا العمل، من ناحية، إلى اضطراب ظروف العصر الذي ظهر فيه، ومن ناحية أخرى إلى جفاف أسلوبه. وقد يضاف إلى هذين السببين سبب آخر، وهو الاتهام الذي وجهه إليه بعض الكتاب بأنه مجرد نسخة من «يوتوبيا» توماس مورو «مدينة الشمس» لكامبانيلا. ولكن أوجه الشبه هذه في معظمها سطحية، ومشروع برنامجه التربوي الذي يشغل القسم الأكبر من الكتاب، مشروع أصيل ومبتكر تماما. وإذا كان تأثير الكتاب الإغريق في أندريا - وذلك على خلاف اليوتوبيات السابقة - تأثيرا ضئيلا لا يكاد يحس به القارئ، فإن تأثير مدينة العصور الوسطى شديد القوة. ففكرته عن الأخوة، واحترامه للحرف اليدوية، وموقفه من العمل والتجارة، والأهمية التي يوليها للصنعة والأسرة، تذكرنا كلها بنظام الطوائف والنقابات الحرفية التي ازدهرت ازدهارا عظيما في المدن الألمانية في العصر الوسيط.
وقد كان لمدينة جنيف، التي زارها أندريا في شبابه وتركت في نفسه انطباعا قويا، تأثير جديد كل الجدة في مدينته المثالية. فقد أعجب أيما إعجاب بالمستوى الأخلاقي الرفيع الذي وصل إليه أهالي جنيف، وقال عنه في سيرته الذاتية: «لو لم يمنعني اختلاف العقيدة (من الإقامة في جنيف) لدفعني الانسجام الذي يوحد عاداتهم وأخلاقهم على عدم مغادرة ذلك المكان أبدا.»
ولم يتبن أندريا تعاليم كالفن (المتشددة)، ولكنه أيد من كل قلبه صرامة القواعد الأخلاقية التي فرضها على سكان مدينة جنيف، ولعله قد تمنى أن يعيش حتى يشهد إصلاح الكنيسة اللوثرية إصلاحا جديدا مستمدا من روح «كالفن الحديدي». وهذه فقرة أخرى من سيرته الذاتية تبين مدى اعترافه بفضل زيارته لجنيف: «عندما كنت في جنيف اكتشفت اكتشافا مهما لن تموت في نفسي ذكراه ولا الشوق إليه إلا بموتي. فلم يقتصر ما وجدته هناك على المجتمع الحر حرية مطلقة، وإنما وجدت مفخرة الرقابة على الأخلاق التي تقضي كل أسبوع بعقد اختبارات منتظمة لأخلاق المواطنين وأبسط تعدياتهم على الأصول الواجب مراعاتها. وبذلك بواسطة المشرفين على المجالس المحلية أولا، ثم أعضاء مجلس الشيوخ ثانيا، وأخيرا عن طريق القضاة وتبعا لما تتطلبه كل حالة على حدة. والنتيجة هي منع كل جرائم السب، والقمار، والبذخ، والشجار، والحقد، والغش، والخداع، والتبذير السفيه، وما أشبه ذلك، ناهيك عن الخطايا الأفدح التي لا حاجة لذكرها. هذا النقاء الخلقي، يا له من زينة مجيدة على تاج الدين المسيحي. إن علينا أن نذرف أمر الدموع ونندب حظنا بسبب انعدام هذا النظام في بلادنا وإهماله إهمالا يوشك أن يكون تاما، وعلى كل أصحاب الخلق القويم أن يبذلوا غاية جهدهم حتى ترد الحياة عندنا لمثل هذا النظام.»
وسوف نرى في فصل قادم كيف بدت رحلة كاتب آخر من كتاب اليوتوبيا، وهو «الراهب بغير عباءة» جابرييل دي فوانيي، إلى المدينة التي أثارت كل هذا الإعجاب في نفس أندريا. فهذا «المجتمع الحر» الذي تعقد فيه «الاختبارات كل أسبوع بانتظام لمراقبة أخلاق المواطنين»، لا بد أنه كان موحشا وكئيبا وقت زيارة أندريا له. والوسيلة التي كانت تتم بها المحافظة على «نقاء الأخلاق» في جنيف تعطينا فكرة عما كان يمكن أن تبدو عليه يوتوبيا أندريا لو أنها لم تختف من مخيلته. ففي عام 1562م، كما يخبرنا أحد المؤرخين، أحرق اثنا عشر رجلا وهم أحياء، بسبب اتهامهم بممارسة السحر، وأغرقت امرأة في نهر «الرون» لارتكابها جريمة الزنا، وحكم بالإعدام على أحد مواطني جنيف من الطبقة الوسطى بسبب هذه الجريمة نفسها، كما حكم على شخص يدعى جاك شابيلاز بقطع لسانه بعد أن اعترف بأنه قد لعن الرب وأنه أكل الشيطان وإن لم يستطع أن يبتلع قرونه. وكان هذا الشخص قد سبقت إدانته وعقابه بسبب تهمة مشابهة ...
وإذا كانت روح عصر النهضة تعبر عن نفسها بقوة في آراء أندريا عن التربية والتعليم، فإن عقلية المصلحين الدينيين هي التي توجه نظرته الأخلاقية. ولا تتضمن حرية سكان «مدينة المسيحيين»، شأنهم في هذا شأن سكان جنيف، حق إنكار وجود الله. وقد فرضت التعليمات التي أصدرها كالفن في عامي 1609م و1617م على جميع سكان جنيف أن يحضروا العظات الدينية بانتظام، ونجد هذا الإلزام نفسه في مدينة أندريا المثالية، كما نجد فيها الرقابة على الكتب، وتفتيش المنازل، وفرض العقوبات الصارمة على الزنا، ومع أن المصلح الألماني يبدي شيئا من الرحمة والإنسانية فيما يقوله عن عقوبة الإعدام، وعن قسوة الشريرين الذين يعاقبون أكثر مما يصلحون، فإن أقواله عن الجرائم التي تقترف في حق الذات الإلهية، وضرورة معاقبتها بأقسى مما تعاقب به أي جريمة أخرى، يتردد فيها صوت النذير المخيف.
ربما كان في إمكاننا أن نحس بميل أقوى نحو «مدينة المسيحيين» لأندريا، لو كانت مبادئه الدينية قد سمحت له بقدر أكبر من التعاطف مع المشاعر الإنسانية، ولو سمح كذلك للطبيعة البشرية بأن تعبر عن نفسها دون أن تتهم في كل لحظة بالسقوط في حبائل الشيطان. ولكن الواقع أن المؤلف يذكرنا من سطر إلى آخر بمدى الشر الذي وصل إليه الإنسان. «فكل إنسان»، كما يحذرنا أندريا، يحمل معه الشر المتوطن والمتأصل، بل الشر الفطري الموروث من الأبوين ويعدي به رفاقه عدوى مسمومة لا ينجو منها حتى أولئك الذين كرسوا حياتهم لله تكريسا تاما، وإنما تشق طريقها كالعاصفة بكل ألوان الشر والخديعة والغلظة والفظاظة، وتستبد بأولئك الناس فلا يستطيعون لها دفعا طوال حياتهم ومهما تقلدوا أرفع المناصب المشرفة.
ولكي يبعد أندريا الشيطان عن سكان مدينته، فإنه يقرن أوصافه لأخلاقهم وعاداتهم بعظات مطولة يمكن أن نقول عنها إن «قراءة عظة واحدة منها تغني عن قراءتها جميعا». ويندر أن نجد موضوعا لا يعطيه الفرصة لتقديم مواعظه، فحتى الأطباق والصحون في مدينته الإلهية مزودة بالأفكار الورعة التقية. وهذه المواعظ تشغل من الكتاب حيزا شديد الاتساع، مما يجعلنا نطمع في عفو القارئ إذا ذكرنا واحدة منها من الموضوع الأثير لدى أندريا، وهو «النور». فهو يتخذ من إضاءة الشوارع ذريعة عجيبة للحديثة عنه، وبعد أن يقرر بإيجاز شديد أن سكان مدينة المسيحيين «لا يسمحون لليل بأن يكون مظلما ، وإنما يضيئونه بمصابيح مشتعلة، وذلك لتوفير الأمن للمدينة، ومنع التسكع في الشوارع، وجعل الحراسة الليلية شيئا غير منفر»، نراه يستطرد في الخطبة الطويلة عن الدلالة الرمزية للنور: «سوف يطيب لهم أن يناضلوا بهذه الطريقة لكي يقاوموا مملكة الشيطان المظلمة وألاعيبه المريبة، وسوف يتوقون إلى تذكر أنفسهم بالنور الأبدي. أما ما يتوقعه عدو المسيح من هذا العدد الكبير من الشموع، فعليه أن يراه بنفسه، ولكن علينا نحن ألا نتهيب من أي نظام يقلل من خوف إنسان يعمل في ظلام الليل، ويزيح الحجاب الذي تحرص أجسادنا كل الحرص على أن تغطي به الفسق والفجور ... آه لو صحت عزيمتنا على الاتجاه نحو النور، إذن لما بقيت هناك فرصة لكل أنواع الخسة ولا لهذا العدد الكبير من الأوغاد الأفاقين. ليت نور قلوبنا يتوقد بصورة مستمرة، وليتنا نكف عن محاولاتنا المتكررة لمخادعة عين الله التي ترى كل شيء. والآن والظلام يتخذه العالم ذريعة ليفتح أبوابه بكل أنواع الحقارة والدناءة، بينما ينشر العمى فوق الأشياء التي يخجل منها، فماذا عسى أن يكون الموقف عندما يعود المسيح وتبدد شمسه كل ضباب، ويظهر فساد العالم الذي يحميه (الظلام) بكل هذه الأغطية، وعندما تصبح شهوات القلوب، ورياء الشفاه، وما قدمته الأيدي من عمل سيئ وكل ما اقترفه من الفحش عارا عليه وسخرية في نظر المباركين المنعمين؟»
إن هذه الفقرة تعبر تعبيرا كاملا عن شخصية أندريا. وإذا كانت طيبته وحدبه على مواطنيه، بجانب حسه العملي، قد حملته على المطالبة بإضاءة المدينة لتوفير الأمن وتخفيف العبء عن حراس الليل، فإن مشاعره الأخلاقية والدينية قد جعلته يتجاوز هذه الاعتبارات العملية. ويشعر قارئ يوتوبياه أن حبه للناس يدفعه إلى الثقة بهم بصفتهم كائنات حساسة وقادرة على أن تعيش حياتها بأمانة وشر، ولكن تدينه يقول له إن الإنسان شرير ويحتاج إلى الهداية والموعظة والتحذير والوعيد إذا اقتضت الضرورة، وذلك لحمايته من الوقوع في الإثم والخطيئة. وهذا هو الذي جعل مدينته المثالية تركيبة عجيبة مؤلفة من الطوائف الحرة والاستبداد الديني، والمسئولية الشخصية والخضوع الكامل للدين .
وربما يكون وصف «مدينة المسيحيين» بأنها جماعة مثالية أكثر منها مجتمعا مثاليا هو الوصف الأدق لها. وعلى الرغم من أن أندريا يصف الجزيرة التي تقع فيها بأنها عالم مصغر، وأن المدينة تحتوي على كل عناصر الدولة، فإنه لم يتصور أن سكانها قد وجدوا فيها بطريق المصادفة، وإنما اعتقد أنهم تجمعوا عن قصد وألفت بينهم مجموعة من المثل والمبادئ. ويتبين من المقدمة التي كتبها أندريا لمدينة المسيحيين أنه قد حاول تكوين جمعية سرية لتنفيذ الإصلاح الديني، الذي احتل مكانا عزيزا من قلبه، هذه الأخوة
56 (التي توصف بوجه عام بأخوة الصليب الوردي)
57
قصد بها نخبة قليلة، ولم تستجب لرغبة الشعب الذي اشتاق للعثور على ملاذ يجد فيه الراحة والأمان وسط فظائع العصر واضطراباته. وقد جاء وصف الجماعة الكبرى لمدينة المسيحيين تلبية لهذه الرغبة.
وسواء كانت أخوة الصليب الوردي تنظيما أسطوريا خالصا أو كان علينا أن نقتنع بالمبررات التي قدمها أندريا لمشروعه الخاص بمدينة مثالية، فإن الأمر في الحالين لن يخرج عن دائرة التأمل والتخمين. ولو أخذنا كلام أندريا بشكل حرفي لكان الهدف من مدينة المسيحيين هو أن تصبح نموذجا لجماعة يمكن أن تنشأ بمجرد أن يتجمع عدد كاف من الناس لهذا الغرض. وهذه هي الطريقة التي تصور بها كل من أوين وفورييه، بعد ذلك بقرنين، تكوين جماعتيهما المثاليتين. ومع ذلك فإن أندريا يبدأ سرد قصته بفصل مجازي خالص جعل الكثيرين يعتقدون أن كتابه ليس إلا مجرد أمثولة. وها هي ذي الفقرة التي لا تخلو من جمال شعري: «بعد أن تجولت كالغريب على الأرض، وواجهت بالصبر ألوان المعاناة من الطغيان والسفسطة والنفاق ، وفتشت طويلا عن إنسان فلم أعثر على طلبتي، قررت أن أنطلق مرة أخرى فوق البحر الأكاديمي برغم ما نالني منه من الأذى. ولما أن ركبت سفينة الخيال الطيبة، غادرت الميناء مع الكثيرين غيري، وعرضت حياتي وشخصي لآلاف الأخطار التي تلازم الرغبة في المعرفة. وظلت الظروف مواتية لرحلتنا فترة قصيرة من الزمن، ثم هبت عواصف الحسد والافتراء المعادية وأهاجت علينا البحر الإثيوبي وقضت على كل أمل في طقس هادئ. وبذل الربان والبحارة بمجاديفهم قصارى جهدهم، ولم يستسلم حبنا العنيد للحياة، وحتى السفينة نفسها قاومت الصخور، لكن قوة البحر تثبت دائما أنها هي الأقوى. وفي النهاية بعد أن فقدنا كل أمل وتأهبنا استعدادا للموت - بحكم الضرورة وليس بتأثير شجاعة الروح - تهاوت السفينة وسقطنا في الماء. ابتلع البحر بعضنا وجرف البعض الآخر إلى مسافات بعيدة، بينما حمل القليلين، الذين استطاعوا العوم أو وجدوا ألواحا خشبية يطوفون عليها، إلى جزر مختلفة متناثرة في أنحاء البحر. ونجا القليلون جدا من الموت، وألقي بي أنا وحدي، بغير رفيق واحد، إلى جزيرة صغيرة جدا، بدت أشبه بقطعة من بساط مرج أخضر.»
هبط الرحالة على جزيرة «كفار سالاما» التي كانت «غنية» بحقول القمح والمراعي الخضراء والأنهار والجداول المتدفقة، مزدانة بالغابات والكروم، ممتلئة بالحيوانات، كأنما هي عالم كامل في صورة مصغرة.
وقبل أن يؤذن للرحالة بالدخول إلى المدينة تم استجوابه من قبل ثلاثة ممتحنين. وأندريا هو أول من جعل الدخول إلى يوتوبياه مشروطا باجتياز اختبار معين، ولعلنا نحس بالامتنان نحو موظفي مكاتب الهجرة في هذه الأيام لأنهم ليسوا مدققين تماما مثل موظفي مدينة المسيحيين ...
ويقنع الممتحن الأول بأن الرحالة ليس بدجال، ولا شحاذ، ولا ممثل مسرحي. ويختبر الثاني خلقه ومزاجه، ويحرص الثالث على أن يعرف - ضمن أمور أخرى كثيرة - إن كان قد أحرز تقدما في «ملاحظة السماوات والأرض، والتمعن في بحث الطبيعة، والأدوات الفنية، وتاريخ اللغات وأصلها، وتجانس العالم في مجموعه ...»
ومع أن الرحالة لم يكن مستعدا تمام الاستعداد للإجابة عن هذه الأسئلة، إلا أنهم يسمحون له بدخول المدينة لأنه جاء معه «بسجل طاهر نظيف وكأن البحر نفسه قد غسله من أدرانه».
والمدينة صغيرة ولكنها محكمة، وقد تم بناؤها كوحدة واحدة يؤدي كل قسم من أقسامها وظيفة محددة. وهي تنم عن حب التناسق الكامل الذي طبع بطابعه العمارة في عصر النهضة: «والمدينة على شكل مربع تبلغ مساحة ضلعه سبعمائة قدم، وهي محصنة تحصينا متينا بأربعة أبراج وسور، وتطل لهذا السبب على الجهات الأربع للأرض ... وفيها صفان من الأبنية، يصلان إلى أربعة صفوف إذا أضفت مقر الحكومة والمخازن، وهناك شارع عمومي واحد، وكذلك سوق واحد، ولكنه على درجة عالية من التنظيم. وإذا قست المباني، مبتدئا بالشارع الممتد في قلب المدينة والبالغ عرضه عشرين قدما، وجدت أعدادها في تزايد مستمر من الخمسة إلى المائة. وعند هذه النقطة يوجد معبد دائري، يبلغ طول قطره مائة قدم ... وجميع المباني مكونة من ثلاثة طوابق تؤدي إليها شرفات عامة ... وهي مبنية بالطوب الحجري المحروق، وتفصل بينها حوائط عازلة ومضادة للحريق، بحيث لا تستطيع النيران أن تخربها تخريبا شديدا ... وجميع الأشياء من حولك تبدو شديدة التشابه، فلا بذخ ولا قذارة، والهواء المنعش والتهوية متوافران. ويعيش هنا ما يقرب من أربعمائة مواطن في ظل الإيمان والسلام الساميين. وخارج الحوائط (المحيطة بالمباني) خندق مملوء بالأسماك يمكن الاستفادة منه حتى في أوقات السلم. وتوجد في الأماكن المفتوحة وغير المستعملة حيوانات مفترسة، يحتفظ بها للأغراض العملية لا للفرجة والتسلية. وتنقسم المدينة بأكملها إلى ثلاثة أقسام، واحد لإمدادها بالغذاء، والثاني للتدريب العسكري والرياضي، والثالث للكتب. أما باقي الجزيرة فهو مخصص للزراعة والورش الصناعية.»
ولا يقوم تنظيم «مدينة المسيحيين» على أساس العائلة الأبوية كما في مدينة أمورات (في يوتوبيا مور)، أو على جماعة الرهبان في الدير كما في مدينة الشمس (في يوتوبيا كامبانيلا)، وإنما تنقسم إلى أقسام تبعا لنوع العمل الذي يتم في كل قسم منها. ففي الطرف الخارجي للمدينة نجد الأقسام المخصصة لإنتاج الغذاء وتخزينه، وكذلك للصناعة الثقيلة. والقسم المواجه للشرق يضم منطقة المزارع التعاونية، وهو مقسم إلى جزأين يوجد في أحدهما المزارع، وفي الآخر (حظائر) تربية المواشي. والقسم المواجه للجنوب تشغله الطواحين والمخابز، والمواجه للشمال توجد به محلات اللحوم والمخازن، أما القسم المتجه ناحية الغرب فهو مخصص للحدادة.
ويقسم المهنيون في داخل المدينة إلى أربعة أقسام: «فكما أن المدينة ذات أربعة أركان، فكذلك يتعامل السكان مع أربع مواد خام: المعادن، والأحجار، والأخشاب، والمواد المطلوبة للنسيج، مع مراعاة فارق واحد، وهو أن المهن التي تتطلب قدرا أكبر من المهارة والمقدرة الفطرية يخصص لها المربع الداخلي، بينما يخصص المربع الخارجي أو المربع الأكبر لتلك المهن التي يسهل إنجاز العمل فيها.»
وقد تبع المعماريون المحدثون هذا التخطيط الوظيفي للمدن، كما أثار إعجاب واحد من الخبراء الثقات في تخطيط المدن، وهو الأستاذ «لويس ممفورد» الذي يقول عنه: «... إن أصحاب اليوتوبيات في القرن السابع عشر قد استبقوا بتخطيطهم للأحياء الصناعية لمدينة المسيحيين، أفضل النظم التي تطبق اليوم بعد قرن من البناء العشوائي. فتقسيم المدينة إلى مناطق، والفصل بين الصناعات الثقيلة والصناعات الخفيفة، وتجميع المؤسسات الصناعية المتناظرة، وتزويد المدينة بمنطقة زراعية قريبة منها، كل ذلك يجعل مدننا الغنية بالحدائق مجرد نسخ متأخرة من مدينة المسيحيين.»
وبالرغم من كل هذه الحداثة التي وصفت بها «مدينة المسيحيين»، فقد قامت إلى حد ما على مثال المدنية الوسيطة التي يقول عنها الأستاذ «كروبوتكين» إنها تقسم عادة إلى أربعة أحياء، أو إلى خمسة أو سبعة أحياء ممتدة من المركز، وكل حي يلائم التجارة أو المهنة المعينة التي تغلب على سكانه، وإن لم يمنع هذا من وجود سكان أوضاع اجتماعية ومهن مختلفة.
والإدارة المحلية للمدينة تعتمد على هذا التقسيم تبعا للمهنة. ففي القسم الشرقي، أي في حي المزارع، يهيمن برج عال على المباني، وتحت قبة هذا البرج «يتجمع المواطنون الذين يعيشون في هذا الجزء من المدينة كلما دعتهم الأوامر والتعليمات إلى ذلك، ويتشاورون معا في الشئون الدينية والشئون المدنية». ومن هذا يتبين لنا أن «الطائفة المهنية» تعتمد على العمل الذي يؤديه العامل وعلى المكان الذي يعيش فيه.
ويتولى شئون الحكومة مجلس مؤلف من ثلاثة رجال لأنهم، على الرغم من اعترافهم بمزايا الحكم الملكي، يفضلون أن يتركوا هذا الشرف للسيد المسيح، كما أنهم يسيئون الظن ولديهم الأسباب التي تحملهم على ذلك، بحكم البشر لأنفسهم. ويحكم القسم المركزي للدولة ثمانية رجال، يعيش كل منهم في أحد الأبراج الكبيرة ويعاونه ثمانية مساعدين موزعين على الأبراج الصغيرة. وهناك أيضا أربعة وعشرون مستشارا منتخبين من قبل المواطنين. ولا يدين أعضاء المجلس الثلاثي والموظفون الكبار والمستشارون بمناصبهم للمولد أو الثروة، بل لفضائلهم السامية وخبرتهم بالشئون العامة، والحب والاحترام الذي يوحون به. والدين هو الذي يحكم الدولة، وثمة لوح مزدوج، نقشت حروفه بالذهب، ودونت عليه عقيدتهم التي يؤمنون بها، وأهداف الحياة اليومية وقواعدها، لأنهم «شعب المسيح الذين يتفق دينهم مع دين الحواريين وتدار دولتهم وفقا لشريعة الرب».
وليس في هذه الجمهورية المسيحية ملكية خاصة. وكل إنسان يتسلم من الجماعة كل ما يحتاج إليه: «لا أحد يملك أي نقود، ولا يتم أي تعامل بالنقود الخاصة، ومع ذلك فالجمهورية لها خزانة خاصة لها. ومن هذه الناحية ينعم السكان بالسعادة التي لا تعد لها سعادة، إذ لا يتفوق إنسان على إنسان بحكم الثروات التي يمتلكها، بل يمتاز الواحد منهم على الآخر بفضل قوته وعبقريته، وتنال الأخلاق القويمة والتقوى أسمى آيات الاحترام.»
ويحتل العمل مكانا مشرفا في مدينة المسيحيين. وعلى الرغم من أن أندريا يحذو حذو كامبانيلا في إلغاء العبودية وإدانة الظلم الذي تنطوي عليه إعانة العاملين للمتعطلين، فإنه يذهب أبعد منه حين يبين أن العمل الكريه نفسه يمكن ألا يكون عبئا على صاحبه إذا أداه في جو مشبع بالمساواة والحرية: «وهم يعملون ساعات قليلة جدا، ومع ذلك فإن إنجازهم لا يقل عن الإنجاز الذي يتم في أماكن أخرى، إذ يعتبر الجميع أن من العار على أي واحد منهم أن يأخذ من الراحة والفراغ أكثر مما هو مسموح به. وإذا صح في الأماكن الأخرى أن عشرة من العاملين لا يستطيعون إلا بالكاد أن يعولوا متعطلا واحدا، فليس من الصعب أن نصدق أن العمل مع هؤلاء الناس نوع من وقت الفراغ الممتع للأفراد. ومع ذلك فإنهم جميعا يمضون إلى أعمالهم بطريقة تدل على أنهم يفيدون أجسادهم (بالعمل) ولا يؤذونها. وحيث لا توجد عبودية، فلا شيء يرهق جسد الإنسان أو يضعفه.»
ونجده في موضع آخر يهاجم التحيز المسبق ضد العمل اليدوي: «وهناك أيضا واجبات عامة يلتزم بها جميع المواطنين، كالمراقبة، والحراسة، وحصاد الغلال والكروم، وأعمال الطرق ، وتشييد المباني، وتجفيف الأراضي، وكذلك بعض الواجبات الأخرى، كالمساعدة في المصانع، التي تفرض على الجميع بالتناوب طبقا للعمر والجنس، ولكنها لا تتكرر كثيرا ولا بصفة دائمة. ومع أن بعض ذوي الخبرة يكلفون بالقيام بجميع الواجبات، إلا أنه إذا طلبت المساعدة من الرجال، لم يبخل على الدولة بخدماته وقواه. والمشاعر التي نحملها لبيوتنا، يحسون بها نحو مدينتهم التي يعتبرون بحق أنها بيتهم. ولهذا السبب لا يخجل أحد منهم من القيام بأي خدمة عامة، ما دامت غير منفرة أو ثقيلة على نفسه. وهكذا يتم إنجاز أي عمل في الوقت المناسب وبغير صعوبة، حتى العمل الذي يبدو شديد الإرهاق، لأن عزيمة العدد الأكبر من العاملين تمكنهم بسهولة من تجميع أو توزيع، أعظم قدر ممكن من الأشياء. ومن منا لا يعترف - ما دمنا جميعا نريد أن نبتهج ونستمتع بالامتيازات وأسباب الراحة التي تقدمها لنا الجماعة - بأن الجهد والعمل يرزحان عادة على أكتاف القلة، بينما يسمح للأغلبية بالتبطل المستمر والجشع والنهم؟ ومن ذا الذي يمكنه، على العكس من ذلك، أن ينكر أن كل مواطن، حسب موقعه ووضعه، مدين للجمهورية بأفضل جهوده، وأن عليه أن يعترف بذلك، لا بلسانه فقط، بل كذلك بيديه وكتفيه؟ وأن المتهالكين على الملذات، مدفوعين بالحساسية والرقة الزائفتين، يستنكفون من لمس الأرض، والماء، والحجارة، والفحم وأشباه ذلك، ويظنون أن من عوامل الأبهة أن يمتلكوا الخيول والكلاب والبغايا وغير ذلك من المخلوقات للترويح عن أنفسهم.»
وبينما اعتقد «مور» أن بعض الحرف ذات تأثير مهين على أصحابها، نجد أندريا يقول إن «الرجال الذين يقومون بالأعمال الشاقة في مدينة المسيحيين لا يصبحون شرسين غلاظ الأكباد، وإنما يحتفظون برقة قلوبهم، فالحراس ليسوا نهمين بل معتدلون، ولا تفوح منهم الروائح الكريهة بل تبدو عليهم النظافة التامة ... وهناك حي يقع في شمال المدينة ويخصص للمذابح ... وهذه المنطقة لا توحي بالتوحش أبدا، في حين أن الناس في أماكن أخرى يصبحون خشنين قساة القلوب لتعودهم كل يوم على سفك الدماء، أو التعامل مع اللحوم والدهون وجلود الحيوانات وما شابه ذلك .»
ويبين أندريا أيضا أن العمل ليس عقابا مفروضا على الإنسان، وذلك إذا تم إنجازه كنوع من تزجية الفراغ، «وبينما يهلك الواحد منا من التعب والجهد المرهق، فإن قواهم تتجدد بمراعاة التوازن الكامل بين العمل والفراغ، بحيث لا يقبلون على أي عمل لا يهيئ لهم السرور والبهجة ...»
ولا يؤمن أندريا، على خلاف أفلاطون، بضرورة الفصل بين العمل اليدوي والعمل العقلي، بل يؤكد واجب كل فرد في القيام بهما معا: «... إن الحرفيين عندهم متعلمون بصورة تكاد أن تكون كاملة. فالتعليم الذي تتصور الشعوب الأخرى أنه سمة مميزة لفئة قليلة من الناس (وإن كان بالفعل هو السمة المميزة لأغلبية كبيرة منهم، إذا اعتبرت أن تراكم الخبرات نوع من التعليم) ينبغي في رأي سكان المدينة أن يحصله جميع الأفراد. وهم يقولون في هذا الصدد إن الشخص الأوحد لن تمنعه دقة الدراسة الأدبية ولا مشقة العمل من إتقانهما والتفوق فيهما إذا تلقى القدر الكافي منهما.»
وآراؤه عن تطبيق العلم على الصناعة آراء مهمة وطريفة. فالعلم لا يفيد الإنتاج وحده، وإنما يسمح أيضا للعمال أن يفهموا ما يعملون وأن يزيد إقبالهم على العمل واهتمامهم به: «والقسم المخصص للحدادة، توجد في أحد جانبيه سبع ورش معدة لصهر المعادن وطرقها وخلطها وتشكيلها، وفي الجانب الآخر سبع محلات مخصصة لأولئك العمال الذين يصنعون الملح، والزجاج، والآجر، والخزف وسائر المصنوعات التي تتطلب نارا دائمة الاشتعال. وهنا تلاحظ في الواقع نوعا من اختبار الطبيعة لنفسها، فكل ما تحتويه الأرض في أحشائها يخضع لقوانين العلم وأدواته، ولا يساق الناس إلى عمل لم يألفوه كما يساق القطيع من الحيوانات، بل يتم تدريبهم قبل ذلك بوقت طويل على المعرفة الدقيقة بالأمور العلمية، ويبتهجون بالاطلاع على كوامن الطبيعة. وإذا لم يصغ الشخص هنا إلى صورة العقل ويمعن النظر في أدق عناصر الكون الأصغر. فهو في رأيهم لم يحقق شيئا. وما لم تقم بتحليل المادة عن طريق التجربة، وتصلح عيوب المعرفة باستخدام أدوات أكثر كفاءة، فأنت في نظرهم عديم القيمة ... وهنا يمكن للإنسان أن يرحب بالكيمياء ويتفحصها عن كثب، وأقصد بها الكيمياء الصادقة الأصيلة، والحرة الفعالة، على حين أن الكيمياء المزيفة تخلب لب الإنسان في الأماكن الأخرى وتتسلط عليه من وراء ظهره. ذلك أن من عادة الكيمياء الحقيقية أن تهتم بالفحص الدقيق، وتستعين بكل طرق الاختبار، وتلجأ لاستخدام التجارب. وباختصار أقول إننا نجد هنا العلم العملي.»
أما كيف يتم الإنتاج في «مدينة المسيحيين» بغرض الاستعمال لا الربح، فهذا هو الذي يشرحه أندريا بقوله: «ويجري عملهم (أو «استخدام أيديهم»، كما يفضلون تسميته) بطريقة محددة مرسومة، وتوضع كل المنتجات في معرض عام. ومن هنا يتسلم كل عامل من المخزن المختص أي شيء يحتاج إليه في عمله طوال الأسبوع، لأن المدينة بأكملها أشبه بورشة واحدة تضم كل أنواع الحرف. ويقيم المسئولون عن هذه الواجبات في أبراج أصغر تقع في أركان السور، وهم يعلمون مقدما ماذا يجب أن يصنع، والكمية المطلوبة منه، والشكل الملائم له، ويبلغون الميكانيكيين بهذه الأمور. وفي حالة توافر المخزون من المواد في المعرض، يسمح للعمال بإشباع رغبتهم في العمل وإطلاق العنان لعبقريتهم المبدعة.»
وإذا كان سكان «مدينة المسيحيين» قد بلغوا درجة كافية من الحكمة تجعلهم لا ينتجون أكثر مما يستطيعون استعماله، فإنهم يحمون أنفسهم أيضا من الحاجات غير الضرورية. ولا تحتاج العائلات، بحكم صغرها، إلى منازل كبيرة، وإنما تعيش في شقق صغيرة، ولا تحتاج كذلك إلى الخدم إلا في المناسبات النادرة. ولما كانت المساواة بينها مطلقة، فإنها في غنى عن التباهي على بعضها البعض بالترف الذي لا داعي له: «وجميع المنازل تقريبا مبنية على طراز واحد، وتتم صيانتها وتنظيفها بعناية حتى لا تشوبها أي شائبة . ويتكون المنزل العادي من ثلاث غرف، وحمام، وجناح للنوم، ومطبخ، ويفصل بين هذين حاجز خشبي. والجزء الأوسط داخل الأبراج به منور صغير ونافذة واسعة، حيث ترفع الأخشاب والأشياء الثقيلة الوزن بواسطة بكرات ... وتقوم الدولة بصيانة المنازل على نفقتها، ويتخذ المفتشون الاحتياطات اللازمة لكي لا يخرب شيء أو يبدل بسبب السهو أو الإهمال.
ولا وجه للتعجب من ضيق المساكن؛ فوجود عدد قليل جدا من الاشخاص الذين يعيشون فيها، يستلزم كذلك أثاثا قليلا جدا. أما غيرهم من الشعوب التي تعيش في مساكن تنم عن الزهو والبذخ، وتتكون عائلاتها أيضا من عدد قليل جدا من الأشخاص، وتكدس قطع الأثاث تكديس فظيعا، فلا يمكنها أبدا أن توسع على نفسها في المكان. إنها تثقل على غيرها كما تثقل على نفسها، ولا أحد يمكنه أن يصف أشياءهم الضرورية، بل ولا وسائل راحتهم، إلا بأنها كتل جامدة لا تحتمل.
ويمكننا الآن أن نحدس بنوع الأثاث. والواقع أنه يقتصر على الأثاث الضروري إلى أقصى حد، وحتى هذا الأثاث الضروري قليل للغاية ... هناك الأطباق الضرورية لمائدة الطعام والأواني الكافية للطبخ. وما الذي يدعوك للحصول على أعداد كبيرة من هذه الأشياء ما دمت تستطيع أن تحصل من المخزن العمومي على كل ما ترغب فيه بصورة معقولة؟
وهم يلبسون بذلتين فقط، إحداهما للعمل، والأخرى للإجازات، وهما موحدتان بالنسبة لجميع الفئات. وشكل الملبس يدل على الجنس والعمر، كما يصنع من الكتان أو الصوف تبعا لفصل الصيف أو فصل الشتاء على الترتيب، واللون واحد بالنسبة للجميع، وهو الأبيض أو الرمادي الفاتح، ولا أحد يتعامل مع الخياطين، ونظرا لأن الأطفال الذين شبوا عن الطوق ينشئون في مكان آخر، فإن العائلة تتكون في معظم الأحوال من أربعة أو خمسة، وفي حالات أقل من ستة، (وفي المتوسط) من الأب والأم وطفل أو طفلين. واللجوء إلى الخدم من الرجال أو النساء شيء نادر وغير ملحوظ، إلا في حالة رعاية المرضى، والوضع، والعناية بالرضع. والزوج والزوجة يشتركان في القيام بالواجبات العادية في البيت، كما يقومان ببقية الواجبات في المحلات العامة.»
وعلى خلاف معظم اليوتوبيات، لا توجد وجبات مشتركة في مدينة المسيحيين، ولكن هذا لا يؤدي لأي نوع من التفرقة بينهم؛ لأنهم يطبقون نظاما موحدا في التموين: «إنهم جميعا يتناولون وجباتهم الخاصة، ولكن الطعام يتم الحصول عليه من المخزن العمومي، ولأن من المستحيل في الغالب تجنب التذمر والفوضى عندما يكون عدد المشاركين في الوجبات كبيرا جدا، فإنهم يفضلون أن يتناول الأفراد طعامهم في بيوتهم. وكما أن الطعام يوزع طبقا لفصول السنة، فإن حصصه تحدد أسبوعيا تبعا لعدد العائلات. ولكن حصة النبيذ تغطي نصف العام، أو لفترة أطول من ذلك إذا سمحت الظروف. وهم يحصلون على حاجتهم من اللحم الطازج من محل اللحوم، ويأخذون منه القدر المعين لهم. والسمك ولحم الطرائد وجميع أنواع الطيور توزع عليهم وفقا لحصة كل واحد منهم، مع أخذ الوقت والسن في الاعتبار. ولديهم في العادة أربعة أطباق، تعدها النساء بعد غسلها بعناية، وتباركها بتلاوة كلمات حكيمة وورعة. ولكل إنسان الحق في استضافة من يشاء، ويمكن أن يشارك الضيوف بأطباقهم، فإذا كان الضيف أجنبيا، يطلبون من المحلات العامة تزويدهم بما هو ضروري.»
لقد كان أحد أسباب إلغاء الوجبات الخاصة في اليوتوبيات السابقة، هو أن تتفرغ النساء للقيام بمهام أكبر، كالتدريب العسكري على سبيل المثال. وكانت المرأة اليوتوبية، من أفلاطون إلى كامبانيلا، امرأة قوية قوة خارقة.
58
ولكن أندريا يعطيها دورا أنثويا خالصا، وإن لم يعاملهن معاملة «الفيكتوريين». إنه يريد أن تحافظ المرأة على مكانتها، وإذا كان يرفض أن تشارك في «التصويت»، فإنه يمنح البنات نفس حقوق الأولاد في الالتحاق بالتعليم العالي بالكليات: «تستفيد الزوجات من المعرفة التي حصلناها من المدرسة. وكل ما تنجزه الصناعة البشرية باستخدام الحرير والصوف أو الكتان، هو مادة الفنون التي تمارسها النساء كما هو في متناول أيديهن. لهذا يتعلمن الخياطة، والغزل، وأعمال الإبرة، والنسيج، والزخرفة بشتى أنواعها. ونسيج السجاد هو عملهن اليدوي، وتفصيل الملابس عملهن المنتظم، وغسيل الثياب واجبهن. وفضلا عن ذلك فهن يدبرن شئون البيت والمطبخ ويقمن بتنظيفهما. ومهما تكن طبيعة الدراسة التي تلقينها فهن يتطورن ويتحسن، بفضل مواهبهن العقلية، لا لكي يتعلمن فحسب، بل لكي يقمن في بعض الأحيان بالتعليم. وليس لهن في الكنيسة ولا مجلس الشورى صوت (مسموع)، ومع ذلك فهن يقمن بتشكيل مبادئ التقوى والأخلاق، ويتألقن بالهبات التي حبتهن السماء. إن الرب لم يضن على بنات هذا الجنس بشيء، ما دمن يتمسكن بالتقوى والورع، فمريم المباركة إلى الأبد هي أمجد قدوة لهن. ولو قرأنا تواريخ (الشعوب) لما وجدنا فضيلة واحدة لما تتخلق بها المرأة، ولا فضيلة واحدة لم تتفوق فيها، وإن كان من النادر أن تفهم الكثيرات منهن قيمة الصمت. والنساء (في مدينة المسيحيين) لا يتزين إلا بالزينة التي ذكرها (القديس) بطرس، ولا سيادة لهن إلا على الشئون المنزلية، ولا يسمح لهن بالقيام بأعمال الخدم (وهو شيء ستدهشون له) إلا إذا اقتضت ذلك ظروف المرض أو بعض الحوادث الطارئة. ولا تخجل امرأة من أداء واجباتها المنزلية، ولا تتعب أيضا من تلبية حاجات زوجها. كذلك لا يتصور أي رجل، مهما تكن الوظيفة التي يشغلها، أنه أسمى من أن يقوم بأي عمل مشرف، لأن الحكمة والعمل لا يتعارضان على الإطلاق إذا توخى المرء الاعتدال.»
وآراء أندريا عن الزواج أكثر تحفظا من اليوتوبيات السابقة. فالزواج لا يتم وفقا لمبدأ تحسين النسل، وإنما يتم استجابة للميول المتبادلة (بين الطرفين)، وذلك إذا لم يقابل بالرفض من العائلة والدولة: «لا يوجد مكان يمكن أن يوفر الأمن لإتمام الزواج فيه أكثر من هذا المكان. ولما كان خاليا من الشذوذ المرتبط بعادة تقديم العرس للمهر، ومن قلق الحاجة إلى الخبز اليومي، فلا يبقى إلا الحفاظ على قيمة الفضائل وأحيانا على قيمة الجمال. ويسمح للشباب البالغ من العمر أربعة وعشرين عاما أن يتزوج من فتاة لا يقل عمرها عن ثمانية عشر عاما، بشرط موافقة الأبوين، ومشاورة الأقارب، وتصديق القانون، ومباركة الرب. وهم يحترمون صلة الرحم احتراما كبيرا. وأهم العوامل التي تؤخذ في الاعتبار عند الارتباط الزوجي هي في الأغلب تجانس الطباع والاستقامة، بالإضافة إلى عامل آخر يندر أن نجده في أي مكان آخر، وهو تزكية التقوى (للعروسين). وأعظم الأخطاء هي الخيانة الزوجية التي تفرض القوانين على مرتكبيها عقابا قاسيا. ولكن حرصهم على تغيير الظروف (التي تساعد عليها) يمكنهم من القضاء على الخطايا. ويتم الزواج في الغالب بلا نفقات ولا ضوضاء، وهم لا يتوقعون على الإطلاق أي حماقة أو سفه دنيوي (في أثناء الاحتفالات بالزفاف التي تتم ...) بغير سكر على الإطلاق، مما تبدأ به عادة كل المراسم المقدسة في الأماكن الأخرى، وإن كانوا لا يستغنون عند إتمام الزواج من التراتيل والتهاني المسيحية. وليس لدى العروس أو لديهم ما يهدونه سوى وعود المسيح، والقدوة الطيبة المتمثلة في الأبوين، والمعرفة التي اكتسبها العروسان، والفرح والبهجة بالسلام. ويزود العروسان، مع المنزل، بالأثاث الذي يتم تسلمه من المخزن العمومي. وبهذا الأسلوب المقتصد يلخصون بشكل مأمون وسريع قصص الصلب، والعقاب، والعذاب، والتطهر وسائر ما اعتدنا أن نصف به الزيجات المشئومة لدينا.»
والهدف من الزواج هو الإنجاب، وهنا يختلف أندريا عن كامبانيلا في أنه لا يسمح بأن تكون العلاقات الجنسية من أجل المتعة وحدها: «وهم يشيدون بتعفف الزوجين ويقدرونه إلى أقصى حد، بل إنهم يشجعون عليه، حتى لا يؤذوا أنفسهم أو يصابوا بالضعف نتيجة الإسراف في المعاشرة. وإنجاب الأطفال (في رأيهم) أمر مقبول وطبيعي، ولكن المجون عار. وإذا كان غيرهم يعيشون مع بعضهم البعض كالحيوانات، فعليهم أن يخجلوا حتى من الماشية التي (لا تخلو علاقاتها) من قدر من التحفظ. وأن يراعوا السماء أولا قبل أن يراعوا الأمور الدنيوية خلال علاقات الحب والتعاون المتبادلة بينهم. وهكذا يعتقد مواطنو مدينة المسيحيين أن الزنا والتلوث قد لا يخلو منهما الزواج نفسه. فيا لأولئك الشهوانيين الذين لا يخجلون من ارتكاب الخطيئة في ظل الممارسات الشرعية وغير الشرعية!»
والدين هو النغمة الأساسية في التربية والزواج على السواء. ولا ينشأ الأطفال ليصبحوا جنودا للدولة، بل لكي يصبحوا مسيحيين صالحين. ولما كانت العائلة والدولة مرتبطتين مع الدين في وحدة واحدة. فليس ثمة ما يدعو لفصل الأطفال عن آبائهم، ونظرا لأن المواطنين جميعا متساوون، فإن نظام التربية هو نفس النظام بالنسبة لجميع الأطفال من البنين والبنات.
تطورت الآراء الخاصة بالتربية تطورا هائلا خلال عصر النهضة، وتم إنشاء عدد كبير من الأكاديميات والكليات، في إيطاليا على وجه الخصوص، التي تلقى فيها أبناء وبنات الأرستقراطيين والأغنياء تربية شاملة متحررة. ولكن أندريا لم يشغل نفسه بتربية أقلية صغيرة متميزة، أي بأبناء الأمراء والتجار والأثرياء الذين يستطيعون توفير المعلمين الخصوصيين لأبنائهم وإلحاقهم بالمدارس الخاصة. ولهذا السبب يخلو برنامجه التربوي من ذلك السحر الذي يشع من نظام تربية أهل «ثيليما» المحظوظين، وإن تميز عنه بأنه بقي في متناول الجميع.
لم تكن الأغلبية العظمى من مدارس عصره قد تأثرت أدنى تأثر بأفكار عصر النهضة، وكانت الحاجة ماسة إلى إجراء تغييرات جذرية، لا في مناهج التربية فحسب، بل في المدارس ذاتها وفي مهنة التعليم. وبقيت الظروف في عصر أندريا هي نفس الظروف التي استنكرها «إرازموس» استنكارا شديدا في كتابه «مدح الحماقة»: «ومعلمو اللغة (...) الذين يتضورون جوعا في مدارسهم وتنم هيئتهم عن القذارة الشديدة - هل قلت مدارسهم؟ بل هي بالأحرى أديرة أو إصلاحيات أو سلخانات - وقد أفنوا أعمارهم وسط الصبية حتى أصابهم الصمم من ضجيجهم، والتصقت بهم العفونة والعطن. ومع ذلك يتصورون أنفسهم أذكى وألمع من جميع الناس، ويتلذذون تلذذا شديدا بتخويف مجموعة من الأولاد المخيفين، بأصواتهم المدوية كالرعود، ونظراتهم العابسة المتجهمة، وتعذيبهم لهم بالضرب بالمساطر والعصي والسياط، وكأنهم وهم متبلدون أمامهم بلا عقل، يقلدون الحمار في جلد الأسد.»
والمدرسة في «مدينة المسيحيين» ذات حجرات واسعة جميلة: «كل شيء مفتوح، مشمس، وسعيد، حتى إنهم، عن طريق تأمل الصور، يجذبون الأطفال، ويشكلون عقول الأولاد والبنات، ويوجهون النصح للشباب. وهم لا يحترقون في (لهيب شمس) الصيف، ولا يتجمدون في الشتاء، لا تزعجهم الضوضاء، ولا تخفيهم الوحدة وكل ما يهدر في الأماكن الأخرى في الترف ولهو القصور، يكرس هنا للتسلية المحترمة والاهتمامات الشريفة، وهو استثمار (للوقت والجهد) لن تجد في أي مكان آخر أفضل منه ولا أكثر ربحا.»
وإلى جانب العناية بالمظهر الذي تبدو عليه المدرسة، فإن اختيار المعلمين ينبغي أن يحظى بعناية أكبر. «ومعلموهم ليسوا من حثالة المجتمع البشري، ولا هم ممن لا يصلحون للوظائف الأخرى، وإنما اختارهم جميع المواطنين. إنهم أشخاص لهم مكانتهم في الجمهورية، كما يصلون غالبا إلى أعلى المراكز في الدولة. والمعلمون الذين تقدموا في السن وعرف عنهم التمسك بالفضائل الأربع وهي عزة النفس، والتكامل، والنشاط، والسخاء، يتحتم عليهم أن ينهضوا بمسئولياتهم كأناس أحرار يتحلون بالشفقة، والمعاملة اللطيفة، والنزعة المتحررة، ويتجنبون التهديد والعنف والصرامة.»
وهم يحرصون على تدريب جميع الأطفال من الجنسين وعندما يتمون السادسة من عمرهم يسلمهم الآباء للدولة. ويتناولون الطعام وينامون في المدارس، ولكن الآباء يمكنهم أن يزوروا أطفالهم كلما شاءوا، حتى لو لم يسمح لهم برؤيتهم. وتتم العناية بالمساكن التي يعيشون فيها بنفس الطريقة التي اتبعت مع المدارس، وذلك لتهيئة الظروف «الصحية» لهم. «وهم يحرصون على أن يكون الطعام شهيا وصحيا، وتكون الأرائك والأسرة نظيفة ومريحة، والملابس وكل ما يكسو الجسم نظيفا. ويغتسل التلاميذ كثيرا ويستعملون مناشف من الكتان للتجفيف. ويمشط الشعر لمنع أي شيء غير نظيف من التجمع فيه. وإذا أصيب الجلد أو الجسد بالأمراض، فإن المصابين يعتنى بهم في الوقت المناسب، كما يتم عزلهم لتجنب انتشار العدوى.»
والتربية في مدينة المسيحيين موجهة لتحقيق ثلاثة أهداف، أولها، بطبيعة الحال، هو «عبادة الله بروح خالصة مخلصة»، وثانيها هو «السعي نحو الأخلاق الفاضلة العفيفة»، والثالث هو «تنمية القوى العقلية». ومن الواضح أن أندريا لم يتصور التربية بالمعنى الضيق الذي نفهمها به اليوم، وهو تحصيل المعرفة، فهو يتم بتشكيل عقل الطفل وشخصيته وتنمية ملكاته أكثر من اهتمامه بحجم المعلومات التي حصلها.
ويتابع الأولاد والبنات نفس الدروس، وإن لم يكن ذلك في نفس الوقت، فالأولاد يتلقون دروسهم في الصباح، والبنات بعد الظهر. ويكرس بقية وقتهم للتدريب اليدوي وفنون التدبير المنزلي والعلم. وتتولى المربيات مع العلماء مهمة التعليم.
وتقسم المدرسة إلى ثماني قاعات مطابقة للأقسام الثمانية للتعليم. والقسم الأول هو مدرسة الفنون، التي تقسم بدورها إلى ثلاثة أقسام تبعا لعمر التلاميذ . ويبدأ أصغر التلاميذ سنا بدراسة النحو واللغات، ويتعلمون «تسمية جميع أنواع الأشياء والأفعال بثلاث لغات هي العبرية واليونانية واللاتينية»، ولكن أندريا يؤكد لنا أنهم يحرصون على ألا يحملوا المخلوقات الرقيقة الهشة فوق طاقتها، وأن التسلية الحرة أمر مسموح به.
والتلاميذ الأكثر نضجا يتعلمون الخطابة، ليتمكنوا من تفنيد جميع أنواع الحجج طبقا لقواعد هذا الفن. ومع أنهم يتعلمون كيف يزينون خطبهم بعدد قليل من «زهور الأناقة»، فإن الاهتمام بالقوة الطبيعية يفوق عندهم الاهتمام بالشكل المصطنع. أما التلاميذ الذين بلغوا مرحلة كافية من العمر فيتعلمون كذلك اللغات الحديثة لا لكي يستزيدوا من المعرفة، بل ليستطيعوا الاتصال بشعوب كثيرة على الأرض، سواء الميتة منها أو الحية، ولا يضطرون لوضع ثقتهم في كل من يزعم أنه عالم. ولكن الاهتمام بدراسة اللغات لا ينبغي أن تكون له الأولوية على حساب الاهتمام باستخداماتها، فالمهم هو ما يريد المرء أن يقوله، وهذا شيء يمكن التعبير عنه أيضا باستخدام لغة الأم: «إذا توافرت الاستقامة والأمانة، فلا يهم كثيرا بأي لسان يعبر عنهم، وإذا غابا، فلن يزيد الإنسان فضلا حين يرطن باليونانية أو اللاتينية.»
ويلتحق الطلبة الذين حققوا بعض التقدم بالقسم الثاني، حيث يتلقون محاضرات في المنطق، والميتافيزيقا، والثيوصوفيا.
59
ويجب أن يستخدم المنطق كوسيلة لا كغاية في ذاتها: «ولا يصح أن يتباهى العامل الماهر بالمزولة أو المسبار، ما لم يكن في مقدوره أن يعرض عمله على الناس.» وفي دراسة الميتافيزيقا والثوصوفيا بصرف النظر عن أي اهتمام بالأشياء العينية الملموسة، أو بالبحث والابتكار، وتكتسب المعرفة عن طريق «التوجه للشمس الإلهية والصعود إلى الرب».
وفي القاعة الثالثة نرجع مرة أخرى إلى العلوم الأقل سرية، كالحساب والهندسة والجبر، وهي التي تنمي الملكات العقلية وتساعد على حل المسائل العلمية باجتهاد ملحوظ. وهنا أيضا يتلقى الطلاب علم الأعداد الصوفية الذي لعب دورا بالغ الأهمية في فلسفة عصر النهضة. فقد تصور المخططون لعصر النهضة أن من المستحيل ألا يكون الله، وهو المخطط الأول، قد نظم العالم وفقا لقواعد ومقاييس متناسقة. ومن المؤكد أن المهندس الأعظم ، كما يقول أندريا، «لم يخلق هذه الآلية (الميكانيزم) المهولة بطريق المصادفة العشوائية، ولكن بحكمته العميمة أكملها بالمقاييس والأعداد والنسب، وأضاف إليها عناصر الزمن المتميزة بالتجانس العجيب.» وهذه الخطة المثيرة للإعجاب لا يمكن اكتشافها «ببوصلات الفلسفة البشرية»، بل عن طريق الوحي الإلهي وحده، الذي ليس من السهل الإحاطة بأسراره. ويجب التزام نفس الحذر عند التنبؤ بالمستقبل، فلا ينكر أندريا قيمة التنبؤات، ولكنه ينبه إلى أن الله قد احتفظ لنفسه (بالعلم) بالمستقبل، ولم يكشف عنه إلا لعدد محدود من الناس وعلى فترات متباعدة جدا.
وتشترط معرفة الحساب والهندسة لدخول القسم الرابع المخصص للموسيقى. والموسيقى في مدينة المسيحيين تتطلع لمحاكاة الموسيقى السماوية ولا تشجع «جنون الرقص، وعبث الأغاني الشعبية، وصخب العربدة البشعة. وقد طردت كل هذه الأشياء من الجمهورية ولم يعد يسمع عنها. وآلاتهم الموسيقية، التي يملكون عددا كبيرا ومتنوعا منها ويعزف عليها كل فرد تقريبا ببراعة، يتم تكييف أنغامها مع الآلات الإلهية كما تطوف جوقتهم الموسيقية، المخصصة كذلك للموسيقى الدينية الجادة، بشوارع المدينة مرة كل أسبوع، بالإضافة إلى أيام العطلات.»
ويخصص القسم الخامس للفلك والتنجيم «الجديرين بالجنس البشري كأي فن آخر». فلا يليق بالإنسان «أن ينظر إلى السماء بغفلة لا تقل عن غفلة الحيوان». والذين لا يعرفون قيمة التنجيم في الشئون البشرية، أو ينكرونه بحماقة وغباء، يجب أن يحكم عليهم بحفر الأرض وزرع الحقول، لأطول فترة ممكنة، وفي أسوأ طقس ممكن. ولكن التنجيم هنا أبعد ما يكون عن القيام بالدور الأساسي الذي قام به في «مدينة الشمس». ويقول «سكان مدينة المسيحيين» إنهم لا يطمئنون للاعتماد على النجوم في كل شيء «من اللحظة الأولى للوجود والميلاد، ولا للتسليم بالقضاء في الحياة والموت ابتداء من هذه اللحظة؛ ولهذا يؤكدون بدلا من ذلك أنهم يبحثون عن الوسيلة التي يمكنهم بها أن يتحكموا في النجوم، كما يتخلصون بالإيمان الصادق من نير العبودية لها إذا وجد.»
وفي القاعة السادسة يتعلمون الفلسفة الطبيعية والتاريخ المدني والكنسي. وهم يرون أن معرفة العوالم المختلفة والمخلوقات التي تعيش فيها يجب أن تقترن بمعرفة أحداث المأساة البشرية. ويؤكد أندريا الحاجة (الشديدة) لمعرفة الحقيقة التاريخية، ولكنه يحذر أيضا من أولئك الذين لا يرون إلا شرور الجنس البشري، والجرائم الفظيعة، والحروب البشعة، والمذابح المرعبة، ويتجاهلون بذور الفضيلة، وكرامة الروح البشرية، (والعهود الطويلة) التي توافر فيها السلام والاستقرار. «وهناك باحثون تدفعهم الجرأة الكافية على إنكار هذه الحقائق واعتبارها من قبيل الخرافات، والواقع أنهم يستحقون هم أنفسهم بجدارة أن تروى عنهم الخرافات ...»
لقد رأينا كيف اهتم مشروع أندريا التعليمي بأكمله بالتربية الأخلاقية بقدر اهتمامه بنشر المعرفة. وعلى الرغم من هذا فقد خصص القسم الخامس للأخلاق، بحيث تتضمن دراسة جميع الفضائل الإنسانية من الناحيتين النظرية والعملية، بالإضافة إلى فن الحكم والمحبة المسيحية، كما أكد أن أقيم الخصال الإنسانية هي المساواة، والرغبة في السلام، واحتقار الثروة.
والمدرسة الأخيرة مخصصة للاهوت، ويتلقى فيها الطلاب دروسا عن الكتاب المقدس وما فيه من جوانب «القوة، والبلاغة، والتأثير، والعمق»، كما يدرسون اللاهوت العملي الذي يتعلمون منه كيفية الصلاة والتأمل. ولديهم كذلك مدرسة للتنبؤ، لا لتعليم التكهن بالمستقبل، بل لاختبار أولئك الذين حباهم الله موهبة التنبؤ، وملاحظة مدى اتساق الروح التنبئية وصدقها.
وبجانب القاعات الثماني التي انتهينا من وصفها توجد حجرتان لدراسة الطب وحجرتان أخريان لدراسة التشريع. والدراسة الأخيرة أكاديمية بحتة، إذ ليست هناك حاجة للمحامين في مدينة المسيحيين. ومع ذلك فلم يختف المحامون والموثقون، لسبب أو لآخر، من المدينة، إذ يخبرنا أندريا أنهم يعهدون إليهم بنسخ أي شيء يحتاجون إليه، وذلك حتى لا يركنوا للكسل والفراغ.
وليس هناك ما يثير الدهشة في أن يعطي أندريا للكيمياء والعلوم الطبيعية والتشريح والرياضيات والفلك قدرا كبيرا من الأهمية، إذ كانت هي العلوم التي لا يخطر على بال رجل من رجال عصر النهضة أن يتجاهلها، إلا إذا تصورنا أن الإغريقي كان يمكنه أن يتجاهل الموسيقى والرياضة البدنية ويسقطها من نظام التعليم. غير أن المدهش حقا هو ذلك الموقف الحديث والعقلاني الذي يتخذه أندريا في عرضه لمنهج التعليم. فالمختبرات التي يصفها ليست مخصصة لكبار العلماء كما هو الحال في بيت سليمان الذي نجده عند بيكون، وإنما هي متاحة للطلاب، إذا كانت قد نظمت بطريقة جذابة إلى أقصى حد ممكن، فلم يكن ذلك لمجرد «العرض»، بل لأن «دخول العلم (إلى العقل) من خلال العينين أكثر سهولة من دخوله عن طريق الأذنين، كما أنه يكون محببا إلى النفس في الظروف الراقية المهذبة أكثر منه في الظروف المتدنية الكريهة. والذين يتصورون أن التعليم لا يتم إلا في الكهوف المظلمة وبملامح متجهمة، إنما يخدعون في الحقيقة أنفسهم.»
ويعد أندريا أول من أدخل تعليم الفنون التصويرية في خطة مشروعه التعليمي والتربوي. ففي مدينة المسيحيين «ستوديو» (مرسم) أو «محل متسع جدا لفن التصوير»، ولا تقتصر أهمية الرسم والتصوير والنحت على تزيين المدينة بالصور والتماثيل الجميلة والنافعة، بل يتعداه إلى تشجيع التعليم الفني، لأن «الذين يمارسون العمل بالفرشاة يدخلون أي مكان ومعهم عيونهم المجربة، وأيديهم المدربة على المحاكاة، كما يجلبون معهم ما هو أهم من ذلك، وهو الحكم المنصف المتمرس على الأشياء، بعيدا عن العقم أو التدني.» ومع ذلك فإن المرء معرض للوقوع في حبائل الشيطان حتى وهو يستعمل الفرشاة، ولهذا «ينبه على الفنانين في مدينة المسيحيين تنبيها مشددا بأن يحرصوا على الطهر حتى لا يسمموا أعين الأبرياء بصور غير طاهرة ...»
وقد اهتم أندريا، بجانب اهتمامه بإصلاح التعليم، بتكوين «كلية» أو جمعية يمكن أن تضم جميع العلماء وتزودهم بالوسائل الضرورية للقيام ببحوثهم. وقد وضع في رسالته «الشهيرة» - التي نشرت في عام 1614م وتم توزيعها مخطوطة قبل ذلك في عام 1610م - معالم خطة للبحث العلمي، وقدم فيها نموذجا لكلية أو جمعية من الباحثين يمكنها القيام «بإصلاح عام» للعالم المتمدن بأسره. وقد بين الأستاذ «هيلد»، في المقدمة التي صدر بها ترجمته الإنجليزية «لمدينة المسيحيين»، كيف أثرت آراء أندريا في الكتاب والفلاسفة الذين أسسوا الجمعية الملكية في لندن. ويحتمل أيضا أن يكون بيكون قد اطلع على أعمال أندريا، وأن تكون هذه الأعمال قد أثرت في فكرته المبتكرة عن «بيت سليمان».
وتقدم «مدينة المسيحيين» وصفا موجزا للكلية السابقة الذكر، ولا يتضح من هذا الوصف إن كانت مؤلفة من جميع الراغبين في القيام بالدراسات والبحوث، أو إن كانت مقصورة على فئة قليلة مختارة: «وها هو الوقت قد حان للاقتراب من المقام الذي يقع في قلب المدينة، وهو الذي يمكنك بحق أن تدعوه مركز نشاط الدولة ... هنا يستقر الدين، والعدل، والعلم، من هنا تحكم المدينة، وبلسانهم تنطق الفصاحة. إنني لم أر في حياتي مثل هذا القدر العظيم من الكمال البشري مجتمعا في مكان واحد.»
وإذا كنا لا نعرف على وجه الدقة ما هي طبيعة الكلية أو خصائصها، فإن أندريا يقدم لنا من ناحية أخرى وصفا مفصلا وملموسا للمكتبة، ومستودع الأسلحة، والمختبرات، والحدائق النباتية الملحقة بها.
وفي المختبر المخصص لعلم الكيمياء تفحص «خصائص المعادن، والمياه المعدنية، والخضراوات، بل وحياة الحيوانات، كما تصفى، ويضاف إليها، وتوحد فيما بينها، وذلك خدمة للجنس البشري ولمصلحة الصحة العامة ... هنا يتعلم الناس كيف يتحكمون في النار، ويستغلون الهواء، ويفحصون الماء، ويختبرون الأرض». وهناك صيدلية يجد المرء فيها مجموعة مختارة بعناية من كل ما هو متوافر في الطبيعة «لا للمحافظة على صحة الناس فقط، ولكن للعمل على تقدم التعليم بوجه عام». ولديهم كذلك مكان مخصص للتشريح، حيث يتم تشريح الحيوانات، لأن سكان مدينة المسيحيين يعلمون شبابهم عمليات الحياة والأعضاء المختلفة، وذلك (من خلال ملاحظة) أجزاء الجسم الطبيعي وهم يبينون لهم التكوين العجيب للعظام، ولديهم لهذا الغرض عدد غير قليل من الهياكل العظمية من أنواع مختلفة، كما يصفون لهم تشريح الجسم البشري، وإن كانوا لا يفعلون هذا إلا نادرا، لأن العقول المفرطة في الحساسية تشمئز من مشاهدة العذاب الذي نقاسيه.
ويحظى مختبر التاريخ الطبيعي بأعظم قدر من العناية. وهنا نجد أن التاريخ الطبيعي - كما كان الحال في مدينة الشمس - يصور على الحوائط بالتفصيل وبأكبر قدر من الإتقان والمهارة: إن الظواهر المختلفة التي تحدث في السماء، ومناظر الأرض في المناطق المختلفة، والأجناس البشرية المتعدد، والصور التي تمثل الحيوانات، والأشكال المعبرة عن النمو، وأصناف الأحجار والجواهر النفيسة، كل هذه ليست متاحة ومسماة بأسمائها فحسب، بل إنهم يشرحونها أيضا ويعرفون بطبيعتها وصفاتها. ولكن المختبر لا يحتوي فقط على صور توضيحية، وإنما هو كذلك متحف منظم تنظيما جيدا، وتحفظ فيه جميع العينات الطبيعية التي يمكن أن تكون نافعة أو مضرة لجسم الإنسان، فضلا عن وجود خبير كفء يتولى شرح استعمالاتها وخصائصها. ويدين سكان «مدينة المسيحيين» من يستمدون معرفتهم من الكتب وحدها، «ويترددون عندما يواجهون عشبة صغيرة ...»
وتؤدي الرياضيات بطبيعة الحال دورا مهما، وهناك ورشة «أثرية» للأدوات الفلكية، وقاعة نفيسة للرياضيات «تضم الرسوم البيانية للسماوات، بالإضافة إلى قاعة مشابهة للطبيعيات تحتوي على الرسوم البيانية للأرض».
وإذا كنا قد لاحظنا أن الحرب أو الاستعدادات للحرب تلعب دورا مهما في اليوتوبيات التي سبق الكلام عنه، فإن «مدينة المسيحيين» تذكرهما باختصار شديد: «أما عن الأسلحة (...) فموقفهم منها أكثر ميلا إلى التشكك والنقد. وعلى الرغم من أن (بقية بلاد) العالم تمجد الحرب تمجيدا شديدا، (وتفتخر) بالمحركات الميكانيكية، والمراجم وغيرها من الآلات والأسلحة الحربية، فإن هؤلاء الناس يشعرون بالفزع من كل أنواع الأدوات المميتة أو المتعاملة مع الموت والمكدسة بأعداد كبيرة جدا، ويعرضونها على الزوار وهم يستنكرون قسوة البشر. ومع ذلك فإنهم يحملون الأسلحة - وإن يكن ذلك على غير رغبتهم - لكي يتقوا بها شرورا أعظم، كما يوزعونها على الأفراد ليلجئوا إليها في الظروف الطارئة والحالات المفاجئة.»
وقبل أن نترك «مدينة المسيحيين» نود أن نقتبس الفقرات التالية التي تعبر تعبيرا جيدا عن الطابع المثالي لجماعة أندريا: «ربما يهمك أن تعرف ما هي الفائدة التي ستعود على إنسان - يتصف بالأخلاق الحميدة والمواهب الممتازة - من الحياة في هذه المدينة، على الرغم من أنك لم تسمع شيئا عن المكافآت. حسن! إن المواطن المسيحي في هذه المدينة المسيحية يحل المشكلة بمنتهى السهولة، ففي رضا الله عنه ما يكفي من المجد والكسب ... ورضا الضمير عما قدمه من خير، وكرامة الطبيعة التي قهرت الظلام، وعظمة السيطرة على الانفعالات، وفوق كل شيء الفرحة الطاغية، التي يستحيل التعبير عنها، بصحبة القديسين، كلها تتملك الروح المهذبة وتتغلغل فيها بعمق بحيث لا تترك مجالا للخوف من التخلي عن الملذات الدنيوية.»
وعلى هذا النحو أيضا يمكننا أن نقول عن العقوبات، إنه لا حاجة إليها في مكان يضم معبد الرب المقدس، ودولة مختارة لا تستطيع فيها الحرية المسيحية أن تعيق الأوامر، ناهيك عن التهديدات، وإنما تتوجه طائعة نحو المسيح. ومع ذلك فلا بد من الاعتراف بأن اللحم البشري
60
لا يمكن الانتصار عليه تماما في أي مكان؛ ولهذا فإنه لم يستفد من التحذيرات المتكررة (وفي حالات الضرورة من التقويم الجاد) فلا بد من إخضاعه بالجلد بالسياط. وهناك لهذا الغرض أنواع مناسبة ومختلفة من العلاج، ويتم اختيارها بحيث تصلح لجميع الأفراد. والحق أن العلاج يصبح ميسورا لو تحرر المرء من شهواته الجسدية، أو استبدل العصا الغليظة بنغزات العشق والشبق. إن الوقاية من سهولة ارتكاب الناس للخطيئة هي فن الفنون. ومن جهة أخرى، ما أقبح أن يصب المرء جام غضبه على أولئك الذين يستعجل خرابهم بإلقاء الحجارة عليهم ... وعلى كل حال فإن قضاة مدينة المسيحيين يحرصون في هذا الصدد على إنزال أقصى أنواع العقاب بتلك الآثام التي تقترف في حق الرب، والأقل منها قسوة بتلك التي ترتكب ضد الناس، وأخفها جميعا بالجرائم التي تضر بالملكية. وما أشد اختلاف (بلاد) العالم التي تعاقب اللص المسكين بأقصى مما تعاقب المجدف أو الزاني! ولما كان المواطنون المسيحيون يلزمون الحذر دائما من إراقة الدماء، فإنهم لا يوافقون على أن تكون عقوبة الإعدام شكلا من أشكال العقاب، وعلى العكس من ذلك نجد العالم، الذي يخضب يديه دائما حتى بدم الأخ، يتطوع بإصدار أول حكم يخطر على باله، متوهما بهذه الحيلة أنه لم يمد يده إلى سيف ولا حبل ولا عجلة ولا نار، وإنما استعان بأحد خدام القانون. وليشهد علي المسيح (إذا قلت) إن الحكومات تسير بالتأكيد على المنطق السليم حين تحول الفسقة إلى لصوص، وغير المتعففين إلى زناة، والمتسكعين إلى قتلة، والمحظيات إلى ساحرات شريرات، وذلك لكي يتسنى لها أن تجد الإنسان الذي تتقرب بدمه إلى الله. إن قطع الفروع الأولى للرذيلة واقتلاع جذورها لأكثر إنسانية من بتر سوقها الناضجة. ذلك أن أي إنسان يستطيع أن يدمر إنسانا، غير أن أفضل الناس هو الذي يستطيع أن يصلح. (5) فرانسيس بيكون: «أطلنطا الجديدة»
هناك بعض الشك فيما إذا كانت «أطلنطا الجديدة» تعتبر مجتمعا مثاليا أو وصفا لمعهد علمي مثالي، ولكن المؤكد أن يوتوبيا بيكون ليست متعددة الجوانب مثل يوتوبيا مور أو كامبانيلا. والواقع أن وصف هذه «الخرافة» في العنوان الفرعي بأنها شذرة ناقصة، يمكن أن يدفعنا إلى الاعتقاد بأن المعهد العلمي العالي، أو بيت سليمان، لم يكن سوى تنظيم علمي واحد بين تنظيمات أخرى كان بيكون ينوي أن يقدم وصفا لها. ويقول الدكتور «رولي»
Dr. Rawley
وهو القسيس الملحق بقصره والقيم على تركته الأدبية، إن فخامة اللورد «تصور أنه قد وضع بهذه الخرافة إطارا للقوانين السائدة في أفضل شكل للدولة أو للمجتمع يمكن تخيله، ولكن إحساسه بأن هذا العمل يمكن أن يستغرق منه وقتا طويلا، جعله ينصرف عنه إلى إشباع رغبته في جمع التاريخ الطبيعي، وهي المهمة التي كان يفضلها ويعطيها الأولوية عليه.»
وسواء اتجهت نية بيكون إلى كتابة الجزء الثاني من «أطلنطا الجديدة» أم لا، فقد كان من المستبعد عليه أن يغير الطابع الأساسي لمجتمعه، وهو إعطاء العلم والعلماء الدور الرئيسي فيه. وكما فعل أفلاطون، الذي وصف بالتفصيل القوانين التي تحكم حياة الحراس، ولم يذكر إلا القليل عن الطبقات الأخرى (في جمهوريته)، كذلك نجد بيكون لا يهتم إلا بالتنظيمات الخاصة بحراسه، وهم أعضاء بيت سليمان، وبالعمل الذي يقومون به، ولكنه لا يكاد يقول شيئا يذكر عن حياة بقية الناس (في مجتمعه). ومع ذلك فإن ما لم يقله لا يقل أهمية عما قاله، وليس هناك ما يشغله هو وأفلاطون إلا الطبقة الحاكمة، لأنها في رأيهما هي الطبقة الوحيدة التي تستحق الاهتمام. وبهذا المعنى يمكن أن تعد «أطلنطا الجديدة» مجتمعا مثاليا.
لقد حاز عمل بيكون الإعجاب لكونه أول وصف يقدم لمعهد علمي كامل يقوم على أساس العلم التجريبي. وسواء أكان مشروعه في حقيقة الأمر هو الأول من نوعه، أم كان قد اقتبسه من كتابات أندريا وكامبانيلا، أو من الأكاديميات العلمية التي نشأت في إيطاليا خلال عصر النهضة، فقد أثارت هذه المسألة حولها خلافا طويلا. وبغير الدخول في تفاصيل الخلاف، يمكننا أن نقرر باطمئنان أن فكرة إقامة معهد مختص بالبحث العلمي كانت فكرة شائعة عندما خطط بيكون مشروعه، وأن أهمية العلم التجريبي كانت محل تقدير العديد من الفلاسفة الذين سبقوه. ولو نظرنا إلى عمله في سياق ما تم إنجازه في أيامه لتبين لنا، كما يلاحظ هارالد هوفدنج
Harald Hoffding
أن «هذا الرجل، الذي طالما وصف بأنه مؤسس العلم التجريبي، قد لا يستحق حتى أن يسمى باسم موسى الذي رأى الأرض الموعودة. صحيح أنه كان يملك نوعا من البصيرة التنبئية، وأنه كثيرا ما عبر تعبيرا ملهما عن أفكار أنارت مسيرة البحث الإنساني، وكان بالإضافة إلى ذلك على وعي كامل بموقفه المعارض للنزعة المدرسية، غير أن الأرض الموعودة كانت قد فتحت بالفعل - وإن لم يشعر بذلك - بفضل دافنشي وكبلر وجاليليو. إنه يعلن في تواضع أنه ليس محاربا، بل مجرد داعية محرض على القتال. ولكن الرواد الذين وضعوا أسس العلم التجريبي الحديث لم يكونوا في حاجة إلى سماع صوت البوق الذي نفخ فيه لكي يحفزهم على النضال.»
وإذا كان بيكون قد نال الثناء والتقدير العظيم لأصالة أفكاره الفلسفية، فلم ينكر أحد أنه كان أول فيلسوف تطلع إلى تجديد المجتمع عن طريق العلم. وقد ألقي عبء هذا التجديد في اليوتوبيات السابقة على عاتق التشريع الاجتماعي، أو الإصلاحات الدينية، أو نشر المعرفة، وحتى عندما كان العلم يحتل مكانا مهما، كما في مدينة الشمس أو مدينة المسيحيين، لم يكن يتم اختيار الحكام على ضوء معرفتهم فحسب، بل على أساس فضائلهم الدينية والأخلاقية. والواقع أن للعلماء في أطلنطا الجديدة «سلطة» تفوق سلطة الملك، ولم يكن بيت سليمان جمعية تابعة للملك وتحت رعايته، كالجمعية الملكية التي استلهمت فكرتها منه. وإنما كان دولة داخل الدولة، ولديه موارد مالية غير محدودة تحت تصرفه، وله وكلاء سريون، كما له الحق في أن يحجب أسراره عن بقية أفراد الجماعة. أضف إلى هذا أن بيكون يعتبر مجددا بفضل الأهمية القصوى التي أعطاها للعلوم الطبيعية. فقد خطا خطوة إلى الأمام في اتجاه التخصص الذي بدأ يحتل مكانه في عصر النهضة ويؤذن بانتهاء عهد «الإنسان الموسوعي» الذي يهتم اهتماما متساويا بالفلسفة والفن والعلم والأدب.
وعلى الرغم من أن «أطلنطا الجديدة» تشغل حيزا ضئيلا من إنتاج بيكون الضخم، فربما صح ما قيل عنها من أنه «وضع من نفسه في هذا العمل أكثر مما وضع في أي عمل آخر». لم يكن بيكون فيلسوفا أخلاقيا مثل مور، ولا مصلحا دينيا مثل أندريا ولا فيلسوفا موسوعيا مثل كامبانيلا، لقد كان سياسيا شديد التحمس للعلم، وأطلنطا الجديدة هي في الواقع «حلم تعويضي» يتحد فيه العلم والقوة ويمسكان بزمام أعلى سلطة في الحكم. إنه الحلم بمختبرات هائلة، وأعداد كبيرة من المساعدين، وموارد مالية ضخمة، وهو شبيه بحلم أي عالم يناضل وحده بأجهزة قاصرة، ويحبطه التمويل والمساعدون. ولكنه كذلك حلم رجل سياسي محبط، أخفق إخفاقا ذريعا - برغم مواهبه وعدم افتقاره إلى الثقة بنفسه - في أن يحصل على القوة أو السلطة التي تمناها.
كان بيكون على اقتناع كامل بأن تحقيق مشروعاته الفلسفية والعلمية يحتاج منه إلى أن يكون في أحد مراكز السلطة، ولهذا اتجهت جهوده إلى السياسة. ولكن السلطة جذبته إليها كغاية في ذاتها. وقد اتحدت السلطة والمعرفة في «أطلنطا الجديدة» بصورة مثالية، ولكن تعطشه في حياته الخاصة للسلطة والمجد عوق مشروعه العلمي أكثر مما ساعده. ولنرجع مرة أخرى إلى هوفدنج الذي يقول: «لقد وجد أمامه عملا عظيما يتطلب تحقيقه وسائل قوية. وأعجب بميكافيللي واعتقد مثله أن الغاية تبرر الوسائل التي لم يكن، يشعر بأي حرج في اختيارها فقد كانت الوسائل عنده، كما كانت عند ميكيافيللي، هي صاحبة اليد العليا فوق الغاية، وكان على الغاية بدورها أن تكرس تلك الوسائل أو تجعلها مقدسة.»
تعد أطلنطا الجديدة بمنزلة توضيح لعبارة بيكون الشهيرة «المعرفة قوة»، ولكنه إذا كان قد نجح في إثبات أن العلم يستطيع أن يمكن البشر من السيطرة على الطبيعة، فقد افترض أكثر مما أثبت أن العلم - بتلبيته لحاجات الإنسان - يمكن أن يزيد من سعادته بشكل آلي. والواقع أن هيمان بيكون بالعلم سلاحا لتحسين أحوال البشر يستبق التصور الحديث عن التقدم، وهو تصور مادي أكثر منه تصورا مثاليا، ويفترض أن السعادة تتوقف على إشباع الحاجات المادية المتزايدة. وقد رأى أفلاطون والكتاب اليوتوبيون من بعده، على العكس من ذلك، أن تضاعف حاجات الإنسان يمثل عقبة في طريق حريته وسعادته.
كتبت «أطلنطا الجديدة» حوالي عام 1624م، ونشرت بعد وفاة بيكون عام 1627م. وقد وضعها في أول الأمر باللغة الإنجليزية، ثم قام بترجمتها بعد ذلك إلى اللغة اللاتينية. وقد ظهر النص الإنجليزي في المجلد الذي ضم كتابه «غاية الغايات» أي في المكان الذي حدده له بيكون بنفسه، إذ كان هدفه من وصف بيت سليمان هو شرح النتائج العملية التي تنبأ بأنها سوف تترتب على دراسة التاريخ الطبيعي.
والدين الذي تدين به أطلنطا الجديدة للتصورات السابقة عن المجتمعات المثالية ليس كبيرا، على الرغم من أن أصل هذه الخرافة مستوحى من أسطورة قارة أطلنطا التي جاء ذكرها في محاورة طيماوس لأفلاطون، وفي محاورته الناقصة كريتياس. وليس هناك دليل حاسم على أن بيكون قد اطلع على مدينة الشمس، ولكنه يشير إلى كامبانيلا في أحد خطاباته، كما أن هناك العديد من أوجه التشابه في التفاصيل بين الكتابين. ومن المحتمل أيضا أن يكون بيكون قد قرأ مدينة المسيحيين لأندريا، وإن كانت أطلنطا الجديدة تختلف اختلافات مهمة في كل تنظيماتها الرئيسية عن اليوتوبيات السابقة. فلم تلغ فيها الملكية الخاصة والنقود والفروق الطبقية، وبالرغم من جو الصرامة الذي يسود معظم اليوتوبيات التي ذكرناها حتى الآن، فلم يتعب بيكون أبدا من وصف الملابس الفاخرة، والخوذات، والأحذية، والمعاطف، والجواهر النفيسة والأرائك الفخمة، بجانب عدد وفير من التفاصيل المملة بقدر ما هي سطحية.
ويكتفي بيكون بتقديم لمحات قليلة عن التنظيمات الاجتماعية والسياسية لبنسالم، وهو الاسم الذي يطلقه على هذا البلد المثالي. ولاحظ الأستاذ ألفرد ب. جوف
Alfred B. Gough
أن روح الحركة أو التقدم الذي يغلب على الحياة العقلية للأمة، بدا غائبا بشكل كلي عن حياتها السياسية والأخلاقية، فشكل الحكومة ملكي، وقد استمرت على هذه الحال لمدة ثلاثة آلاف عام على الأقل، والقوانين الأساسية للمملكة التي أقامها الملك سليمان قبل ألف وتسعمائة عام ما زالت سائدة.
ويقوم المجتمع على أساس العائلة الأبوية، وعلى الرغم من أنه لا يخبرنا كيف يقضي أفرادها حياتهم اليومية، فإن هناك فقرة طويلة تصف أدق التفاصيل عن الاحتفال الفخم الذي تقيمه الدولة على نفقتها، تكريما للرجال الذين وصل عدد الأطفال الذين أنجبوهم وتعدوا الثالثة من عمرهم إلى ثلاثين طفلا (تكافئ الحكومات الحديثة بصفة عامة الأم التي لها عائلة كبيرة أكثر مما تكافئ الأب)، ويحترم الزواج احتراما شديدا ولا يمكن فك روابطه، وعلى الرغم من سخرية بيكون من اقتراح مور بأن يرى الرجال والنساء بعضهم البعض قبل الزواج وهم عراة من الملابس، فإنه يسمح بتنظيم اختبار لهم عن طريق الوكلاء.
وهذه فقرة يشرح فيها أحد سكان بنسالم للرحالة موقفهم من الجنس وعاداتهم المرتبطة بالزواج: «سوف تدرك أنه لا توجد تحت قبة السماء أمة تداني أمة بنسالم في الطهر أو في الخلو من التلوث والعفونة. إنها عذراء العالم، وأذكر أنني قرأت في أحد كتبكم الأوروبية عن ناسك مقدس اشتاقت نفسه أن ترى روح الفسوق، وهناك ظهر له حبشي صغير قبيح وكريه، ولو طلب أن يرى روح الطهر في بنسالم، لظهرت له في صورة ملاك وسيم جميل، إذ ليس بين البشر الفانين عقول تفوق في جمالها وروعتها عقول هذا الشعب العفيف. فلتعلم إذن أنه لا توجد عندهم بيوت دعارة ولا فسق، لا مومسات ولا أي شيء من هذا القبيل. بل إنهم ليشمئزون منكم أيها الأوروبيون لأنكم تسمحون بمثل هذه الأمور. وهم يقولون إنكم في أوروبا قد أبطلتم الزواج، لأنه يوصف علاجا للمعاشرة الجنسية غير الشرعية، والمعاشرة الطبيعية هي فيما يبدو الحافز على الزواج. ولكن عندما يتوافر لناس علاج أكثر ملاءمة لإرادتهم الفاسدة، فإن الزواج في هذه الحالة يكاد أن يكون مستبعدا. ولذلك فلديكم عدد لا يحصى من الرجال الذين لا يتزوجون، بل يفضلون حياة العزوبة الماجنة غير الطاهرة على الخضوع لنير الزواج، والذين يقدمون على الزواج يفعلون ذلك في سن متأخرة بعد أن تكون سنوات شبابهم وقوتهم قد ولت. وعندما يتزوجون بالفعل لا يكون الزواج في نظرهم إلا صفقة تعقد، حيث يبحثون عن شراكة، أو نصيب معلوم، أو شهرة، أو أي مطمع من هذا القبيل، لا عن الزواج المخلص بين الرجل والمرأة كما شرع في الأصل. ولا ينتظر أيضا ممن بددوا معظم قواهم بهذا الشكل الحقير أن يقدروا قيمة الأطفال (وهم من جنس آبائهم) كما يفعل الرجال الطاهرون. وربما يرجى أن تتعدل الأحوال أثناء الزواج لو أمكن التغاضي عن هذه الأمور بحكم الضرورة فقط، ولكنها تبقى على ما هي عليه كتحد سافر للزواج. ومما يزيد الأمور سوءا أن الرجال المتزوجين الذين يترددون على الأماكن المشبوهة أو على بيوت البغايا لا تفرض عليهم عقوبة أشد من العزاب. أضف إلى ذلك أن عادة التغيير الفاسدة، والتلذذ بالقبلات الخادعة (حيث تتحول الخطيئة إلى فن) تجعل الزواج شيئا سخيفا، ونوعا من العبء الثقيل أو الضريبة الباهظة. وهم يسمعونكم تدافعون عن مثل هذه الأشياء، بحجة أنها تحميكم من شرور أكبر، كالزنا، وفض بكارة العذارى، والشذوذ الجنسي وما شابه ذلك. ولكنهم يردون عليكم بأن هذه حكمة منافية للطبيعة والعقل، ويصفونها بأنها هدية لوط، الذي عرض بناته على ضيوفه لكي يصرفهم عن الفساد، وهم يضيفون إلى ذلك أن العائد من هذه الأفعال غير مجز؛ لأن نفس الرذائل والشهوات باقية وستزيد على ما كانت، لأن الشهوة غير الشرعية مثل الفرن، إذا أوقفت اللهب تماما انطفأ، وإذا أعطيته أي منفذ تأججت ناره، أما عن الحب بين الذكور فإنهم لا يقربونه، ولن تجد في العالم صداقة وفية وصادقة كما تجد عندهم. وعموما (كما قلت سابقا) فإنني لم أقرأ عن مثل هذه الطهارة عند أي شعب آخر. إنهم يرددون قولهم المألوف بأن الإنسان المحروم من الطهر لا يستطيع أن يحترم نفسه، كما يقولون إن احترام الإنسان لنفسه، بجانب الدين، هو أهم لجام يكبح جماح كل الرذائل.
ولديهم كذلك العديد من قوانين الزواج الحكيمة والممتازة، فهم لا يسمحون بتعدد الزوجات، وتقضي تعليماتهم ألا يتزوج أحد أو يعقد قرانه حتى يمر شهر على تاريخ اللقاء الأول. والزواج دون موافقة الوالدين لا يعطيهم الحق في إبطاله، ولكنهم يسلبون من الورثة حق الميراث؛ لأن الأطفال الذين يكونون ثمرة هذه الزيجات لا يسمح لهم بأن يرثوا أكثر من ثلث ميراث الوالدين. وقد قرأت في كتاب لأحد كتابكم عن بعض الدول المزعومة التي يسمح فيها للزوجين، قبل عقد قرانهما، بأن يرى كل منهما الآخر وهو عاري الجسد. وأهل بنسالم يكرهون هذا التقليد، لأنهم يعتقدون أن المرأة أو الرجل إنما يجلب على نفسه الاحتقار إذا رفض إتمام الزواج بعد التعارف بهذه الطريقة، ولأن سبب الرفض غالبا ما يرجع إلى العيوب الكثيرة الخفية في أجساد الرجال والنساء، فلدى أهل بنسالم طريقة أكثر تمدنا (لمواجهة هذه المسألة)، فهناك بالقرب من كل مدينة بركتان (يطلق عليهما اسما آدم وحواء)، حيث يسمح لأحد أصدقاء الرجل، أو لإحدى صديقات المرأة، بأن يروهما وهما يغتسلان عاريين.»
ومن القوانين العديدة الحكيمة التي وضعها الملك سليمان لشعب بنسالم، نجد أن القوانين الوحيدة (التي اهتم بيكون بوصفها) تتعلق بمنع الاتصال بالبلاد الأجنبية، والمعاملة الحذرة للرحالة الذين يتفق وصولهم إلى بلدهم. والإنجاز الأكبر لهذا الملك، برغم ذلك، هو إقامة نظام أو جمعية، أطلق عليها اسم بيت سليمان. وقد كان يطلق عليها كذلك أحيانا اسم معهد أعمال الأيام الستة، «وأمثل المؤسسات على وجه الأرض»، و«مصباح هذه المملكة»، وخصصت «لدراسة أعمال الرب ومخلوقاته» ... لاكتشاف الطبيعة الحقيقية لكل الأشياء بما يضاعف من مجد الرب الذي أبدعها، ويزيد من الثمار التي يجنيها البشر من استخدامها.
وقد أصدر الملك أمرا آخر يسمح لطلاب هذا المعهد بجمع المعلومات الخاصة بعملهم: «لما حرم الملك على شعبه الإبحار إلى أي جزء لا يخضع لتاجه، وضع مع ذلك هذا القانون الذي يقضي بأن تنطلق من هذه المملكة كل اثني عشر عاما سفينتان في عدة رحلات، وأن تحمل كل من هاتين السفينتين إرسالية مكونة من ثلاثة طلاب أو إخوة من بيت سليمان، على أن تكون مهمتهم الوحيدة هي تزويدنا بمعلومات عن شئون وأحوال البلاد التي أرسلوا إليها، وبخاصة فيما يتعلق بالعلوم، والفنون، والصنائع والاختراعات التي توصل لها العالم كله، مع تكليفهم بأن يحضروا الكتب والأدوات، والنماذج من كل نوع: ويجب أن تعود السفن بعد إنزال الإخوة على شواطئ ذلك البلد، وأن يبقى هؤلاء الإخوة في الخارج حتى وصول إرسالية جديدة، ولا تحمل السفن إلا مخزون المؤن، وقدر من المال يكفي لكي يشتري الإخوة الأشياء السابقة، ومكافأة الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يستحقون أن يكافأوا. وعلي الآن أن أخبرك كيف أن البحارة العاديين يحظر عليهم أن يكتشفوا على الأرض (التي ينزلون بها) وكيف أن أولئك الذين يتحتم عليهم البقاء على الشط لأي مدة ممكنة، ينتحلون أسماء أمم أخرى، ويكتمون سر الأماكن المحددة التي تتجه إليها هذه الرحلات، والأماكن المحددة التي تتجمع فيها الإرساليات الجديدة، وغير ذلك من الظروف المحيطة بهذا العمل، ولكنني لن أسترسل (في هذه التفصيلات) التي يمكن أن تضيق بها. غير أنك ترى من هذا أننا نحرص على التبادل التجاري، لا من أجل الذهب، والفضة، أو المجوهرات، ولا من أجل الحرير، والتوابل أو أي شيء آخر يقصد به الراحة المادية، وإنما نحرص عليها إكراما لمخلوق الله الأول، الذي كان نورا، لكي يستمد النور من تقدم وازدهار كل أجزاء العالم.»
هذه هي المرة الأولى التي نجد فيها العلم محاطا بمثل هذه السرية، كما أن هذه الفقرة تتردد فيها نبرة حديثة كل الحداثة. إن علماء بنسالم يقومون بالتجسس لمصلحة دولتهم أو معهدهم، ومع أنهم يفرغون العالم من كل اختراعاته وأفكاره الجديدة فهم لا يعطون شيئا في المقابل. لم يعد العلم ملكا للجنس البشري بل لدولة خاصة. وهذا تصور مألوف اليوم، حيث يقل الحرص على حراسة الذهب والفضة عن الحرص على حماية الأسرار النووية، ولكنه كان في أيامه يمثل نوعا من القطيعة مع التقاليد العالمية التي دعا إليها أصحاب المذهب الإنساني في عصر النهضة.
ويحيط جو السرية نفسه حتى ببيت سليمان. فوصول أحد آباء المعهد إلى المدينة حدث مهم، لأن أهلها لم يروا واحدا منهم طوال الاثني عشر عاما الماضية، و«إذا كان يأتي علنا، فإن سبب مجيئه سر.»
صحيح أن الأب الأعلى لبيت سليمان يستقبل أحد زوار المدينة ويعطيه وصفا مطولا عن الثروات التي يضمها بيت سليمان يختتمه بقوله: «باركك الرب يا بني، وبارك الرب هذا التقرير الذي قدمته لك. إنني أجيز لك نشره، وذلك لخير الأمم الأخرى، لأننا نعيش بالقرب من قلب الرب، وأرضنا غير معروفة.» ويتضح من التقرير أنه لا يفشي أي سر، وأنه يقصد التأثير في ضيفه أكثر مما يقصد مساعدته على فهم أسلوب العمل في تلك المؤسسة. وقد رأينا في مدينة المسيحيين كيف كان الزائر يطاف به حول المعهد أو المدرسة ولا يكتم عنه شيء، بحيث نفهم من ذلك أنه كان يستطيع أن يوجه ما يشاء من الأسئلة. أما هنا فنحس بأننا في عرض كبير، وأن رجل الاستعراض خارج الخيمة يثير فضولنا بوصف خلاب وباهر الألوان لما يحدث في الداخل، ولكن من المحظور علينا أن نختلس النظر من خلال شق في الستارة ... ويا لبيكون من رجل استعراض بارع. إن الاختراعات توصف بغير نظام ولا منهج، ولكن لهدف واحد هو إثارة الدهشة في نفس القارئ. ولقد اندهش الكثيرون بالفعل، وتحدثوا عن رؤيته التنبئية الخارقة للعادة، غير أن معظم الاختراعات التي يصفها كأعمال تم إنجازها كانت قد شغلت انتباه فلاسفة وعلماء عصر النهضة، بجانب الكثيرين الذين سبقوهم بفترة طويلة. ونذكر على سبيل المثال محاولة اختراع آلة طائرة قام بها حوالي عام 880م العالم الأندلسي أبو القاسم عباس بن فرناس،
61
وكذلك ليوناردو دافنشي الذي اشتهر بإبداعه لتصميم غواصة. وقد ذكر (مؤرخ عصر النهضة) يعقوب بوخارت أن ليون باتيستا ألبرتي في القرن الخامس عشر، «أثار الإعجاب الشديد بآلة التصوير الغامضة (أو الغرفة المظلمة) التي بين من خلالها كيف تطلع النجوم والقمر فوق تل صخري، وكيف تغوص مناظر طبيعية شاسعة مع جبال وخلجان في منظور معتم، وتنطق مسرعة على سطح الماء في الظل أو في ضوء الشمس المشرقة.» أما المكتبات، وحدائق النباتات، وحتى حدائق الحيوانات، فضلا عن إرسال الوكلاء لجمع المخطوطات من البلاد الأجنبية، فقد كانت كلها تعبيرا عن سمات عصر النهضة في إيطاليا.
ومما يزيد أطلنطا الجديدة تشويقا للقارئ الحديث أنها تهتم غاية الاهتمام بالتطبيق العملي - بل الصناعي - للاكتشافات العلمية. ووصف بيكون للمنتجات الغذائية البديلة والمواد المصنعة ربما يدفئ قلوب العديد من علماء الصناعة المعاصرين: «لدينا كهوف واسعة وعميقة على مسافات مختلفة في باطن الأرض، ينحدر أعمقها مقدار ستمائة قدم، وبعضها محفور تحت تلال وجبال عظيمة، بحيث إنك لو حسبت عمق التل، وعمق الكهف معا، لتجاوز عمق بعضها ثلاثة أميال. وقد وجدنا أن عمق التل مساو لعمق الكهف إذا قسناه من السطح، وكلاهما بعيد عن الشمس وأشعة السماء والهواء الطلق. ومن هنا نطلق على هذه الكهوف اسم الإقليم المنخفض، ونستخدمها في كل عمليات التخمير والتجفيف، والتبريد، وحفظ الأجساد (من التلف)، كما نستفيد منها كذلك في تقليد المناجم الطبيعية وإنتاج المعادن الصناعية الجديدة، وذلك عن طريق تركيبات ومواد نستعملها ونخزنها هناك لعدة سنوات.
ولدينا كذلك بيوت للعطور، ألحقنا بها معامل لاختبار الذوق. ونحن نستخرج عددا من الروائح التي تبدو غريبة، فننتج بعض الروائح التي نستخلصها من مركبات مختلفة عن عناصرها الأصلية، كما نقوم أيضا بعمليات متنوعة لاصطناع الأذواق أيضا، لدرجة أنها تخدع ذوق أي إنسان ... وفي هذا البيت أيضا مبنى مخصص للفواكه المحفوظة، حيث نصنع كل أنواع الحلوى الجافة والرطبة، وأصناف النبيذ المختلفة، والألبان، والمرق، والسلطات، وذلك بتنوع شديد يفوق ما لديكم منها.»
ويشير بيكون إلى اكتشافات أخرى مثل الحركة الدائمة، وأنواع الإكسير الذي يطيل العمر، والتولد التلقائي الذي شغل الكيميائيين والفلاسفة لعدة قرون ولم يتخلوا عنه إلا عندما تبين أنه يستند إلى تصور خاطئ للعلم.
ويعتمد تنظيم البحث العلمي على التقسيم الصارم للعمل: «أما عن وظائف الباحثين عندنا، فلدينا اثنا عشر باحثا يبحرون للبلاد الأجنبية تحت أسماء الدول الأخرى (لأننا نخفي اسم بلدنا)، ويجلبون لنا الكتب وملخصات البحوث، ونماذج التجارب العلمية التي تمت في جهات أخرى، وهؤلاء نطلق عليهم اسم تجار النور.
ولدينا ثلاثة مهمتهم جمع التجارب من كل الكتب، وهؤلاء نسميهم المعدين.
ولدينا ثلاثة باحثين يجمعون تجارب الفنون الآلية كلها، وكذلك العلوم الحرة أيضا، والممارسات التي لم تطبق في الفنون. وهؤلاء نطلق عليهم اسم الرجال- السريين.
ولدينا ثلاثة يحاولون إجراء تجارب جديدة يعتقدون هم أنفسهم أنها تجارب صالحة، وهؤلاء نطلق عليهم اسم الرواد أو المستكشفين للمناجم.
ولدينا ثلاثة يصنفون التجارب الأربع السابقة في عناوين وجداول، وذلك لإلقاء المزيد من الضوء عليها لاستخلاص الملاحظات والبديهيات منها. وهؤلاء نطلق عليهم اسم المصنفين.
ولدينا ثلاثة يعكفون على تجارب زملائهم، ويتفننون في استخلاص الفوائد منها لمنفعة الإنسان في حياته ومعرفته، سواء لخدمة العمل أو لاستنباط الأدلة والبراهين الواضحة للتثبيت من العلل والأسباب، وابتكار وسائل التنبؤات الطبيعية، واكتشاف مزايا وأجزاء الأجسام بطريق ميسرة وواضحة. وهؤلاء نطلق عليهم اسم مقدمي المهور أو فاعلي الخير.
وبعد عقد لقاءات ومشاورات مختلفة بين جميع الباحثين، لتدارس الجهود والتجميعات السابقة، تجد لدينا ثلاثة ينكبون عليها لتوجيه الأنظار لتجارب جديدة تلقي ضوءا أسمى وتكون أكثر نفاذا في صميم الطبيعة من التجارب الأولى. وهؤلاء نطلق عليهم اسم المصابيح.
ولدينا ثلاثة آخرون يقومون مباشرة بإجراء التجارب الموجهة على هذا النحو، ويكتبون عنها التقارير، وهؤلاء نطلق عليهم اسم الملقحين.
وأخيرا لدينا ثلاثة يرفعون الاكتشافات السابقة التي تم التوصل إليها عن طريق التجارب إلى مستوى الملاحظات الكبيرة، والبديهيات، والحكم المأثورة. وهؤلاء نطلق عليهم اسم مفسري الطبيعة.
ولدينا أيضا، كما ينتظر منك أن تتصور هذا، مبتدئون وصبية تحت التمرين، حتى لا ينقطع تواصل المستخدمين والموظفين السابقين، بجانب عدد كبير من الخدم والسعاة من الرجال والنساء.»
إن هذا التخصص في العمل العلمي ينطوي على أخطار معينة، كما أشار إلى ذلك الأستاذ أ. ب. جوف
A. B. Gough
في المقدمة التي كتبها لطبعة أطلنطا الجديدة التي نشرت عام 1924م: «عندما واجه بيكون هذه المشكلة الجديدة لتقسيم العمل التي دفعته إليها تجربته الخاصة، ارتكب - كما كشف التاريخ اللاحق - خطأ غريبا وهو توزيع المراحل المختلفة في المسار العام للبحث العلمي، لا العلوم المختلفة، على باحثين مختلفين. صحيح أنه ينبغي أن يكون هناك دائما باحثون أو مشاركون ثانويون من فئات مختلفة، كالمستكشفين، والجامعين، والباحثين الميدانيين للطبيعة ... إلخ، الذين يجمعون المواد، بجانب الطلبة والمساعدين الذين يجرون التجارب الأولية البسيطة، والحاسبين والإحصائيين الذين يستخلصون النتائج الرياضية والتفاصيل الأخرى، والمحررين الذين يجمعون ويلخصون ويراجعون نتائج البحوث العلمية التي تجري في مناطق مختلفة من العالم وتنشر في الحوليات والمجلات، والفنيين الذين يقومون بتطبيق الاكتشافات العلمية على الأغراض العملية. إن أمثال هؤلاء العاملين يمثلون بعض الفئات التي نجدها عند بيكون. ولكن وظائفهم لا يمكن وصفها أو تحديدها بشكل دقيق صارم. «فالمصابيح» أو «مفسرو الطبيعة» كثيرا ما أطلق عليهم اسم «مقدمي المهور» أيضا. وقد اخترع ديفي
Davy
مصباح الأمان، وأدخل كلفين
Kelvin
تحسينات على الإبرة المغناطيسية البحرية وعلى التلغراف. وكلما ارتفع مستوى العمل، زادت أهمية العامل الشخصي الذي تجاهله بيكون في الغالب. والواقع أن تنظيم بيت سليمان، شأنه شأن نسق بيكون المنطقي الذي يعكسه ويعبر عنه، تنظيم مسرف في آليته وعدم مرونته بحيث لا يمكن أن يسمح للعبقرية بحرية الحركة. وليس هناك مكان في بنسالم لعالم مثل كوبرنيكوس، أو نيوتن، أو داروين أو باستير، ولم يكن في استطاعتهم أبدا أن يصبحوا مفسرين للطبيعة لو لم يكونوا قد انشغلوا باستمرار بأعمال شديدة التواضع. ومما يدعو إلى الدهشة أن نجد الدولة حريصة على إسناد تنفيذ البحوث العلمية لثلاثة - لا أكثر ولا أقل - من الموظفين المنظمين بشكل مذهل، مع أن هذه البحوث في حقيقة الأمر تتويج لإنجاز دءوب كلف أندر وأسمى العبقريات العلمية عمرا كاملا.»
وأكثر ما يثير الدهشة هو أن هؤلاء «الموظفين» يخولون الحق في إخفاء أسرار اكتشافاتهم عن الدولة، على نحو ما يشرح الأب الأعلى لبيت سليمان في قوله: «... ونحن نتشاور حول أي الاختراعات والتجارب التي اكتشفناها يمكن أن يسمح بنشره، وأيها يحظر نشره، ونقسم جميعا على التعهد بالسرية والتكتم على تلك الاختراعات والتجارب التي نرى من المناسب أن تبقى سرا، على الرغم من أننا نكشف عن بعضها أحيانا للدولة، ونحجب عنها البعض الآخر.»
واليوم بعد أن أصبح لدى معظم الدول معاهد علمية ومحطات أبحاث وأصبحت تحتفظ بجيش من العلماء الذين يتقاضون مرتبات هائلة، فإننا ندرك أن من المستحيل أن توجد في داخل الدولة جمعية تتمتع بكل الامتيازات التي تصورها بيكون. إن ازدواجية السلطة شيء مستحيل، فإما أن يكون العلماء أدوات في يد الدولة، كما هو الحال اليوم، وإما أن يحكموا الدولة، كما فعلوا في بنسالم.
وأطلنطا الجديدة لم تعد تجذبنا اليوم إلا قليلا، لأننا أصبحنا نعيش جميعا في بيت سليمان، كما تتملكنا الدهشة، مثل بيكون، من الثورات والمعجزات التي يحتوي عليها. وقد بدأنا نتحقق بالتدريج من أن المعرفة والتقدم العلمي ليسا مرادفين للسعادة الإنسانية، كما بدأنا نشك في أن المؤيدين المتحمسين للتقدم لم يهتموا اهتماما حقيقيا بسعادة الجنس البشري، بل بالقوة التي تمنحها لهم هذه المعرفة وهذا التقدم. وهذا هو الذي يفسر سبب استرسال بيكون في الحديث بالتفصيل عن ألوان الشرف، والامتيازات والقوة التي يتمتع بها أعضاء بيت سليمان، وإيجازه إيجازا شديدا في كلامه عن السعادة التي جلبوها للشعب. ونحن اليوم في موقف أفضل يسمح لنا بأن نقدر أخطار «العلم الذي يفتقر إلى الضمير»، وأن مجرد التفكير في «إساءة» استغلال الطاقة النووية ربما يعني نهاية حضارتنا، يحرم العلم من هالته السحرية. لم يعد العالم هو «فاعل الخير» للبشرية، وإنما يقوم على غير إرادته بدور مشئوم، كما يغلب عليه أحيانا الشعور بالذنب. (6) فرانسوا رابليه (1490-1553م): «دير تيليم»
ربما يصعب علينا مقاومة الإغراء الشديد بضم «دير تيليم» لرابليه إلى يوتوبيات «عصر النهضة»، وذلك على الرغم من علمنا التام بأن الأمانة تمنعنا من وصفها بأنها مجتمع مثالي. ولكننا سنحاول، في هذه المرة وحدها، أن نتبع القاعدة التي سار عليها أهل تيليم و«نفعل ما نشاء». والواقع أننا لن نفعل هذا بغير مسوغ، لأن جماعة رابليه الخيالية تجسد روح عصر النهضة بصورة أكمل من كل اليوتوبيات التي درسناها حتى الآن.
ورابليه نفسه نموذج لإنسان عصر النهضة. فمعرفته الموسوعية، وإعجابه العميق بالأدب الإغريقي، وكراهيته للمذاهب المدرسية، ومسيحيته الوثنية، واحتقاره لحياة الرهبنة، وعشقه للحرية والجمال، كانت كلها سمات مميزة للإنسانيين الإيطاليين. إنه شغوف مثلهم بالمعرفة شغفا شديدا، ولم يكتف بدراسة الأدب والفلسفة، بل أضاف إليهما الطب والقانون. وهو كذلك ، مثل معظم الإنسانيين، لم يهتم «بالمسائل الاجتماعية». لقد كان تمرده تمردا فرديا محضا، ولم يربط بينه وبين التمرد على النظام الاجتماعي. أحس بالشرور التي تجتاح المجتمع في عصره، ولكنه يحاول أن يبحث عن أسبابها أو يقترح وسائل العلاج لها. ولم تكن النهضة في الحقيقة حركة إصلاح، بل كانت حركة تمرد قام بها أفراد سعوا إلى تحقيق الحرية لأنفسهم قبل كل شيء. والواقع أن الإنسانيين، على الرغم من الاسم الذي يطلق عليهم، لم يهتموا بالإنسانية، وإنما تركز اهتمامهم على فرديتهم الخاصة ووسائل التعبير عنها. لقد كانوا يضيقون ضيقا شديدا بأي تدخل في شئونهم من قبل السلطات المدنية أو الدينية، كما كانوا يحسون إحساسا عميقا بحقوقهم، لكنهم لم يناضلوا في سبيل حرية الجماهير أو حقوقها.
وليست «دير تيليم» مجرد وصف لبلاط أو معهد مثالي، ولا هي مجرد بيت ريفي كما تصور الأستاذ «ممفورد». إنها يوتوبيا الأرستقراطية الجديدة لعصر النهضة، وهي الأرستقراطية التي قامت على الذكاء والمعرفة لا على القوة أو الثروة. ورابليه يصف فيها كيف ينبغي أن تكون حياة هؤلاء الرجال والنساء الذين يتميزون بالأصل الطيب والتربية الراقية، ويتمتعون بالموهبة والصحة. إنهم ليسوا في حاجة إلى قوانين أو محامين، ولا سياسة أو وعاظ، ولا مال أو مرابين، ولا دين أو رهبان، وهم في غنى عن أي قواعد تتحكم فيهم، لأنهم يعرفون كيف يستغلون وقتهم أفضل استغلال ممكن فيما يفيدهم ويمتعهم، ولا يحتاجون إلى التقيد بأي قيود أخلاقية تفرض عليهم من الخارج، لأنهم بطبيعتهم أمناء مفطورون على المشاعر النبيلة، كما أنهم قادرون على الاستمتاع بالحرية الكاملة والمساواة الكاملة بين الرجال والنساء.
ولا يستكثر أي جمال أو ترف على رجال ونساء يعدون، إذا جاز التعبير، زهرة الإنسانية. فهم يعيشون في قصر يفوق في روعته قصور «التورين»، ويرتدون أفخم الثياب، ولهم راع يمتلك فيما يبدو موارد مالية غير محدودة، ويخدمهم جيش من الخدم والصناع الحرفيين الذين يزودونهم بكل ما يحتاجون إليه: «... كان هناك صف من البيوت التي تحف بها غابة تيليم ويبلغ امتدادها مسافة نصف فرسخ، وهي بيوت شديدة الأناقة والنظافة يسكنها الصناع المختصون بصياغة الذهب وصقل الجواهر والأحجار الكريمة، والمشتغلون بالتطريز والحياكة والتذهيب ونسيج القطيفة والسجاد وصنع جراب الأسلحة، وكل منهم متفرغ لحرفته التي وهبها لخدمة أولئك الرجال والنساء المرحين الذين ذكرناهم، وهم الرهبان والراهبات من الطراز الجديد ...»
والتعليم الذي يتلقاه أهل تيليم من النوع الذي يلائم أمراء المستقبل أو رجال البلاط والحاشية، وهو شبيه بنظام التعليم الذي وضعه كاستيليونه لرجل البلاط المثالي في عصر النهضة.
62 «ينبغي على رجل البلاط أن يكون ملما بجميع الألعاب الرياضية النبيلة، ومنها الجري، والقفز، والسباحة، والمصارعة، ويجب قبل كل شيء أن يتقن الرقص، وأن يكون بطبيعة الحال بارعا في ركوب الخيل. وعليه أن يتقن عدة لغات، وأهمها اللاتينية والإيطالية، كما يجب أن يكون مطلعا على الأدب ولديه إلمام بالفنون الجميلة ...»
هذا التعليم الذي يتلقاه الأخوات والإخوة المرحون من رهبان «دير تيليم» وراهباته يمكن أن يبلغ مستوى عاليا من الكمال الفردي، ولكنه منفصل انفصالا غريبا عن أي غرض نفعي. ويبدو أن أهل تيليم لم يشغلوا أنفسهم بتعلم أي مهنة أو حرفة نافعة، بل بأن يكون لديهم مجموعة من الخدم تحت تصرفهم مدى الحياة. ويستبعد عليهم أيضا أن يستمتعوا بأي عمل لا يخرج في النهاية عن كونه مجرد تدريب بدني أو عقلي ولا يهدف على الإطلاق لتحقيق شيء مفيد.
ولا بد من الاعتراف بأن الحياة في دير رابليه، على الرغم من روعتها وأبهتها، سرعان ما تصبح حياة مملة، وأن السأم سيزحف على نفوس أهل تيليم كما زحف على نفوس عدد كبير من الأمراء ورجال الحاشية الذين عاشوا في بلاط كثير من القصور الفخمة. ولا بد أن نتذكر أيضا، لكي نكون منصفين لرابليه، أن جماعته المثالية ليس فيها ملك ولا أمير ينتظر من يتملقه أو يسليه.
بقي أن نقول إن الملاحظات السابقة كان من الممكن الاستغناء عنها، لو لم ينس معظم الذين تحمسوا لعبارة رابليه المشهورة «افعل ما تريد»، أنه لم يقصد بها إلا أولئك الذين يقول عنهم إنهم: ... مفعمون بالحيوية ، والظرف، والصحة، والنشاط،
والمرح، والذكاء، والفرح، والابتهاج،
متأنقون، مهذبون، ميالون للدعابة والمجون،
وباختصار هم سادة رقيقون
وبالحب والاعتزاز جديرون ... والسيدات من ذوات الأصل الكريم،
حلوات، ساحرات، بالجمال والشباب مشرقات،
طبيعيات، محبوبات، خلوقات، وسيمات،
رقيقات، رائعات، ودودات،
خفيفات، مرحات، فاضلات، مؤنسات،
حنونات، أنيقات، ساطعات،
ناضجات، نادرات، غاليات،
فاتنات، مغريات، كاملات،
حكيمات، ودودات، رائعات
بالعذوبة والنضارة آسرات.
ويبقى «دير تيليم» - على الرغم من الشروط القاسية للقبول فيه، ومن إسراف أهله في التعلق بالترف - قصة خيالية أو «فانطازيا» ممتعة ومبهجة، ويؤسفنا أن نكتفي هنا باقتباس الفصلين التاليين:
كيف أمر جاركانتوا بإنشاء الدير للراهب؟
هنالك لم يبق إلا الراهب وحده، الذي أراد جراكانتوا أن يجعله رئيسا لدير إشبيلية، ولكنه رفض هذا العرض، وكان بإمكانه أن يعطيه دير بورجي أو دير القديس فلونت - الذي كان أفضل منه - أو كليهما لو شاء ذلك، ولكن الراهب رد عليه ردا قاطعا بأنه لن يتولى شئون الرهبان ولن يتحمل مسئوليتهم، إذ كيف أستطيع (كما قال بنفسه) أن أحكم غيري وأنا لا أملك أمر نفسي، وإذا تصورت أنني قدمت لك في الماضي أو يمكن أن أقدم لك في المستقبل أي خدمة ترضيك، فأذن لي بأن أقيم ديرا يوافق تفكيري وخيالي - وأعجب جارجانتوا بالفكرة التي سرته سرورا شديدا، فعرض عليه إقليم تيليم الذي يقع بالقرب من نهر اللوار ويمتد مسافة فرسخين في غابة بور - هووا العظيمة، وعند ذلك طلب الراهب من جارجانتوا أن يؤسس نظامه الديني المخالف لكل الأنظمة الأخرى. قال له جارجانتوا: أول شيء ينبغي عليك الانتباه إليه هو ألا تبني حائطا حول الدير الذي تزمع إنشاءه؛ لأن جميع الأديرة الأخرى مسورة بحوائط قوية وأسوار منيعة. قال له الراهب، ولم يكن ذلك بغير مبرر (إذ رأى أن الحائط والسور مترادفان): حيثما وجد سور أمامي وسور خلفي فقد وجد الهمس، والحسد، والتآمر الذي لا ينتهي. ولما كانت بعض الأديرة في العالم قد جرى العرف فيها بأن أي امرأة تدخله (وأعني بذلك كل امرأة طاهرة شريفة) تكلف مباشرة مسح الأرض التي مشت عليها، فقد صدرت الأوامر بأن أي رجل أو امرأة سبق لهما الدخول في الأنظمة الدينية، وشاءت المصادفة أن يدخلا هذا الدير الجديد، فلا بد من غسل جميع الغرف التي عبراها وتنظيفها تنظيفا تاما، ولما كان كل شيء في الأديرة الأخرى يوجه ويحدد وينظم بالساعة، فقد أصدر أمره بإخلاء المبنى الجديد من أي ساعة أو مزولة، وأن ترتب كل ساعاتهم حسب المناسبات والظروف العارضة، والسبب في هذا (كما قال جارجانتوا) هو أن الخسارة الكبرى في رأيه، تأتي من عد الساعات، إذ ما الفائدة التي تعود على الإنسان من وراء ذلك؟ وهل في الدنيا بلاهة أعظم من أن يوجه الإنسان حياته وينظمها على صوت جرس، لا على ضوء تقديره وفطنته؟
أضف إلى ذلك أنهم في ذلك العهد لم يقبلوا دخول أي امرأة في الأديرة، إلا إذا كانت مصابة بالعمى أو العشى، مشلولة أو عرجاء، تعسة الحظ أو مشوهة، بلهاء أو متبلدة الذهن، منحرفة أو فاسدة، ولم يسمحوا كذلك لأي رجل بدخوله إلا إذا كان عليلا أو منحرفا، وضيعا قليل الأصل أو سكيرا نكدا مشاكسا، هنا قال الراهب لنرجع إلى موضوعنا، فأي نفع يرجى من امرأة لا هي جميلة ولا هي طيبة؟ أجابه جارجانتوا بقوله: لكي تصبح راهبة، ورد عليه الراهب قائلا: وتحيك القمصان والثياب؛ وهكذا صدرت التعليمات بألا تقبل امرأة في هذا النظام الديني (الجديد) إلا إذا كانت جميلة، متناسقة الملامح، حلوة الطبع، ولا يقبل كذلك أي رجل لا يكون وسيما، جذابا، لطيف المعشر.
ولأن أديرة النساء لم يكن يدخلها الرجال إلا بالحيلة، أو سرا أو عن طريق التسلل، فقد تقرر ألا تعيش فيه (أي في الدير الجديد) نساء في غيبة الرجال، ولا رجال في غيبة النساء.
ولأن الرجال والنساء جميعا، الذين كانوا يقبلون في تلك الأنظمة الدينية بعد إتمام تعليمهم واجتيازهم سنة الاختبار المحدد لهم، كان يفرض عليهم أن يقيموا هناك طوال أيام حياتهم، فقد قضت الأوامر بأن كل من يقبل في الدير (الجديد) من النساء أو الرجال، يكون له الحق الكامل في أن يغادره آمنا راضي النفس، وفي أي وقت يشاء.
وأخيرا، (ولما كان المعتاد) أن يقسم الأتقياء من الرجال والورعات من النساء ثلاثة أيمان يتعهدون فيها بالمحافظة على العفة، والفقر، والطاعة، فقد وضعت القواعد وسنت القوانين التي تعطي الحق لكل من يدخل الدير (الجديد) في أن يتزوج زواجا شريفا، وأن يتملك الثروة ويعيش حرا على هواه. أما من ناحية التوقيت المناسب لترسيم الأشخاص في النظام الجديد، وعدد السنوات التي تحدد صلاحيتهم لذلك سواء بالزيادة أو النقصان، فقد تقرر أن تقبل النساء من العاشرة حتى الخامسة عشرة، وأن يقبل الرجال من الثانية عشرة حتى الثامنة عشرة.
طريقة الحكم والمعيشة في تيليم
لم يقضوا كل حياتهم (أي سكان دير تيليم) مقيدين بالقوانين واللوائح والقواعد، بل وفق هواهم وإرادتهم الحرة. كانوا ينهضون من فراشهم حين يطيب لهم ذلك، ويأكلون، ويشربون ويعملون، وينامون وقتما يحبون ويجدون في أنفسهم الاستعداد لذلك. لم يكن أحد يقوم بإيقاظهم من النوم، أو يفرض عليهم تناول الطعام أو الشراب أو مزاولة أي عمل آخر، فبذلك أوصى جارجانتوا. ولم يطلب منهم، في ظل النظام الدقيق الذي يحكم حياتهم، سوى مراعاة قاعدة واحدة: «افعل ما تشاء.»
لأن الرجال الأمراء، كريمي المولد والنشأة، الذين تلقوا تربية حسنة، وخالطوا رفاقا أمناء، مدفوعون بحكم الفطرة والغريزة والحوافز التي تحركهم، نحو الأعمال الفاضلة كما أنهم معصومون من الرذيلة، وهذا هو الذي يطلق عليه اسم الشرف. وهؤلاء الرجال أنفسهم، حين يتعرضون للقمع ويخضعون للقهر، يتحولون عن ذلك الاستعداد النبيل الذي جذبهم فيما مضى إلى الفضيلة، وينفضون عنهم قيد العبودية الذي كبلهم به الطغيان الغاشم، لأن من طبيعة الإنسان أن يتوق للممنوع ويرغب في المحظور.
بهذه الحرية دخلوا في تنافس محمود، جعلهم جميعا يقبلون على ما يسعد أي واحد منهم، فإذا قال أحد الشبان أو إحدى السيدات تعالوا نشرب، شربوا جميعا، وإذا قال أحدهم دعونا نلعب، لم يتخلف واحد منهم عن اللعب، وإذا قال أحدهم هيا ننطلق إلى الحقول، ذهبوا جميعا معه، وإذا رغبوا في الخروج لصيد الصقور أو الحيوانات، امتطت السيدات صهوات الجياد اللطيفة، وجلسن على السروج الفخمة، وفوق أكفهن الرقيقة المغطاة بالقفازات أنواع مختلفة من الصقور الصغيرة، بينما تحمل أكف الشبان أنواعا أخرى. والتعليم الذي تلقوه هو أنبل تعليم، فلا واحد منهم ولا واحدة منهن إلا ويقرأ ويكتب ويغني، ويعزف على آلات موسيقية متنوعة ويتكلم خمسا أو ست لغات مختلفة، ويؤلف فيها كل ما هو طريف من الشعر والنثر، ولم ير أحد أبدا مثل هؤلاء الفرسان البواسل، ولا يعرف أحد مثل ما عرف عنهم من النبل والكبرياء، والبراعة والمهارة، سواء في مشيتهم أو على ظهور الخيل، ولا شاهد أحدا يفوقهم خفة وحيوية، ورشاقة وسرعة، أو حذقا في استعمال كل أنواع الأسلحة. ولم ير أحد سيدات يفقن (سيدات تيليم) حسنا ونضارة، أو رقة ودماثة خلق، أو براعة في استخدام اليد والإبرة، وفي كل عمل نبيل حر تتحلى به بنات هذا الجنس (اللطيف). ولهذا فعندما يحين الوقت الذي يفصح فيه أي واحد من أهل الدير المذكور - سواء يطلب من والديه أو لأي سبب آخر - عن رغبته في مغادرته، فإنه يصطحب معه إحدى السيدات، التي اختارها من قبل لتكون خليلته، وذلك بعد أن يعقد زواجهما. وإذا كانا قد عاشا في دير تيليم وألف بينهما الوفاء والحب، فإنهما يستمران على هذا الحب والوفاء، ويوثقان عراه، ويحلقان به إلى أسمى الذرى في ظل الحياة الزوجية، كما يستمتعان بهذا الحب المتبادل حتى آخر يوم من أيام عمرهما، فلا يقل في عنفوانه وتوهجه عما كان عليه في أول يوم من أيام زواجهما.
هوامش
الفصل الثالث
يوتوبيات الثورة الإنجليزية
بينما شهد القرن السابع عشر تدعيم سلطة الحكومات المطلقة، عارض القسم الأكبر من الشعب الإنجليزي بعزم وتصميم الحكم الملكي المطلق، وخضع الملوك لرقابة البرلمان. وفي الوقت الذي أعلن فيه لويس الرابع عشر في فرنسا أن «الدولة هي أنا»، سيق شارل الأول في إنجلترا إلى المشنقة. ولم يلق مذهب الحق الإلهي للملوك، الذي سمح لملوك فرنسا بسحق الحرية السياسية والدينية، تأييدا كبيرا لدى الشعب الإنجليزي الذي آمن، على النقيض من ذلك، بأن السلطة الحاكمة يجب عليها احترام الحقوق الثابتة للفرد، وأن من الضروري وضع حدود معينة لسلطة رئيس الدولة.
وبينما حاولت الحكومة المثالية التي تصورها جيمس هارنجتون
James Harrington (1611-1677م) أن تجمع بين وجود دولة قوية واحترام الحقوق السياسية للمواطنين، أنكر كل من توماس هوبز
Thomas Hobbes (1588-1679م) وجيرارد ونستنلي
Gerrard Winstanley (1609-1660م)، لأسباب متعارضة، إمكان اقتسام السلطة بين الدولة والشعب.
وسوف نتكلم هنا باختصار شديد عن تنين (ليفياتان
Leviathan ) هوبز وأوقيانوسة
Oceane
هارنجتون، فعلى الرغم من الإشارة إليهما في كثير من الأحيان على أنهما يوتوبييان، فإن أدق وصف للكتاب الأول هو أنه بحث عن الحكومة، أما الثاني فينتمي إلى فئة الدساتير المثالية أكثر مما ينتمي إلى الحكومات المثالية. ومن ناحية أخرى سنتناول بالتفصيل «قانون الحرية» لونستنلي، لأنه من جهة قد لقي التجاهل بصفة عامة، ولأنه من جهة أخرى يجسد روح الثورة الإنجليزية في أكثر أشكالها شعبية وثورية.
لقد قام «ليفياتان» توماس هوبز، الذي نشر عام 1651م، على تأكيد حق الدولة في السلطة المطلقة، وأنكر امتلاك الإنسان لأي «حقوق طبيعية». وذهب هوبز إلى أن الإنسان ليس كائنا اجتماعيا بطبيعته، وليس مزودا بالحس الأخلاقي، وإنما الدولة هي التي وضعت نهاية «حرب الجميع ضد الجميع». وقد منح الملوك الأوائل - بحكم العقد المبرم - السلطة المطلقة على بقية الشعب، ومن واجب الأجيال التالية أن تحترم هذا العقد، ومن يخالفه يدان بارتكاب أبشع جريمة. وأيد هوبز الملكية المطلقة باعتبارها أفضل أشكال الحكومات، وذهب إلى أن الفرد ملزم بالخضوع الكامل لهذه الحكومة، كما أنكر على الكنيسة أي سلطة زمنية دنيوية ، وحتم على الدولة أن تعترف بالدين وتتولى تعليمه. والواقع أن اسم «الليفياتان» (التنين) كما يقول ف. أ. لانجيه
F. A. Lange ،
1
ملائم ملاءمة تامة لهذا الوحش، أي الدولة التي تحكم دون مراعاة لأي اعتبارات سامية، وكأنها إله أرضي ينظم على هواه القانون والعدل، والحقوق والملكية، بل ويحدد بشكل تعسفي مفاهيم الخير والشر، وذلك مقابل حماية حياة أولئك الذين يركعون على أقدامهم ويقدمون له القرابين.
كتب هارنجتون كتابه «أوقيانوسة» (عام 1656م) بعد إعدام شارل الأول، في وقت بدا فيه أن من الممكن التوصل إلى إصلاحات حاسمة لحل المشكلات الاقتصادية والسياسية التي كانت إنجلترا تعاني منها. وبينما اهتم «قانون الحرية»، الذي ظهر قبله ببضع سنوات قليلة (1652م)، بشكل أساسي بتحسين ظروف العمال الزراعيين المعدمين، تعرض «أوقيانوسة» لتحسين أوضاع الطبقة الوسطى. فقد كان حق «الإخوة الكبار» في الميراث بكامله يركز الملكية في أيدي قلة من الشعب يتناقص عددها باستمرار، كما كان يحكم التوازن الاقتصادي للملكية في البلاد، ويوجد طبقة من المتطفلين تتكون بشكل أساسي من رجال الدين والمحامين، وتمثل الملاذ الوحيد «للأبناء الأصغر».
آمن هارنجتون باستحالة وجود سلطة سياسية من دون سلطة اقتصادية، وأراد أن يبسط هذه السلطة الاقتصادية على قطاع كبير من السكان عن طريق تطبيق قانون زراعي، يحدد حجم ملكية الأرض بالمساحة التي تدر دخلا سنويا يقدر بثلاثة آلاف جنيه. ويستلزم هذا التوازن الجديد للملكية أن تحافظ عليه حكومة جمهورية يشغل جميع مناصبها رجال يختارون بالاقتراع ويزاولون أعمالهم لفترة محدودة، كما يستلزم وجود نظام المجلس المزدوج، بحيث يخصص أحد المجلسين للمناقشة والآخر للتصويت. وقد قام هذا التقسيم الغريب على افتراض وجود تفرقة مهمة بين القدرة على «الابتكار» والقدرة على «الحكم» وعلى أن الفصاحة تمثل خطرا على الدولة الديمقراطية. إن «الرجال الأحرار»، أي أصحاب الملكية، هم وحدهم الذين يحق لهم المشاركة في حكومة الدولة (الكومنولث)؛ أما «الخدم» التابعون لغيرهم اقتصاديا فلم يكن في استطاعتهم الاشتراك في شئون الدولة. ومع ذلك فمن الممكن أن يرتفع الخدم، على خلاف العبيد في بلاد الإغريق القديمة، بفضل مجهودهم إلى منزلة الرجال الأحرار.
تأثر هارنجتون تأثرا كبيرا ببلوتارك وأفلاطون وأرسطو، وقد قال بنفسه إنه «لم يكتشف أوقيانوسة في عالم الخيال، وإنما وجدها في سجلات الفطنة القديمة.» ولكنه، كما أشار ه. ف رسل
H. F. Russel
في بحثه عن هارنجتون وكتابه أوقيانوسة، عمل من طراز مختلف عن جمهورية أفلاطون أو يوتوبيا مور، «لم يكتب للسماوات ولا لبقعة ليس لها وجود على الأرض، وإنما كتب لإنجلترا، كما أن مؤلفه لديه آراء محددة وواضحة عن احتياجات بلده، وقد حفزه حبه للصور الحية أن يقدم هذه الآراء في شكل سماه بالرواية السياسية الخيالية ... والكتاب، إذا جرد من زخارفه المجازية، يمكن أن ينظر إليه بوصفه دستورا مدونا بحروف مكبرة ...»
وعلى الرغم من أن هارنجتون أهدى «أوقيانوسة» إلى كرومويل
2 - الذي يعتبر بطل الرواية، كما أسندت إليه المهمة الكبيرة، وهي أن يحقق لإنجلترا ما حققه ليكورجوس لأسبرطة - فإن الكتاب صودر في أثناء وجوده في المطبعة، تنفيذا لقانون جديد يحظر نشر «الكتب والكتيبات الفاضحة». ومع ذلك فقد سمح بنشره بعد عام من ذلك التاريخ، أي في عام 1656م، وسرعان ما استقبل استقبالا شعبيا كبيرا، على الرغم من أن أنصار كرومويل حاولوا قدر طاقتهم السخرية منه. وحظيت أوقيانوسة، كما بين رسل، باهتمام كبير في أمريكا، وتجسد عدد كبير من أفكار هارنجتون في دساتير المستعمرات الأمريكية في فترة التجديد وإعادة البناء، وبخاصة في دستور بنسلفانيا.
لقد شارك هارنجتون دعاة المساواة في الإيمان بأن الحرية السياسية يجب أن ترتكز على «ملكية الأرض»، ولكنه قصر هذه الحرية على فئة الملاك الزراعيين «الجنتلمن» الذين أراد أن يجعلهم «حراسا» على الطبقات العاملة. (1) جيرارد ونستنلي (1609-1660م): «قانون الحرية»
ساءت ظروف العمال الإنجليز في غضون القرن ونصف القرن الذي يفصل يوتوبيا مور عن قانون الحرية لونستنلي، وعلى الرغم من التوسع في التجارة والصناعة، كان القرن السابع عشر، على حد تعبير ثورولد روجرز
Thorold Rogers ، «فترة بؤس متزايد بين جماهير الشعب والمستأجرين، إذ أثرت فيه قلة قليلة من الأغنياء، بينما سقطت الأغلبية في براثن الفقرة المدقع والدائم.» وازدادت البطالة والتشرد نتيجة للتطويق المستمر للأراضي، وحرم المستأجرون الملتزمون من قطع الأرض التي كانوا يزرعونها في الحقول المفتوحة، كما حرم العمال المعدمون من حق رعي أغنامهم وجمع حطب الوقود من الأراضي التي كانت على المشاع. وفي عهد هنري الثامن، سعت الطبقة الحاكمة إلى سحق السخط الشعبي بتشديد قسوة القوانين ضد المتسولين والمشردين، فأمرت بوضع علامة حرف «ر» على ظهور الذين يعتقلون منهم لأول مرة، وإذا عادوا مرة أخرى للتسول أو التشرد «يحكم عليهم بالموت دون الرجوع إلى الكنيسة.»
وعلى الرغم من قسوة هذه الإجراءات، فإن حالات التشرد والسرقة أخذت في الازدياد، والسبب في ذلك، كما قال مور، أنه عندما «تفرغ معدة هؤلاء تصبح حادة، ويسرقون بشكل أكثر حدة، وماذا بإمكانهم أن يفعلوا غير ذلك؟» كان في إمكانهم أيضا أن يتمردوا، وقد تمردوا بالفعل، فحطموا الأسيجة والحواجز التي طوقت الحقول التي كانت على المشاع، وتتابعت ثورات الفلاحين واحدة تلو الأخرى على فترات قصيرة. وقامت كذلك حركات سياسية للبحث عن علاج لبؤس الشعب. ومع سقوط الملكية وظهور «المستقلين» بزغ الأمل في إنجاز إصلاحات جذرية، ولكن هذا الأمل كان قصير العمر. وامتد السخط إلى الجيش فتم طرد الجند بالجملة لقمع تمردهم. وحتى الكثيرون من أنصار حركة المساواة، الذين دافعوا عن الإصلاحات الدستورية السياسية، بدءوا يفقدون ثقتهم في «البرلمان طويل الأمد»، وهو الذي سيطر عليه ملاك الأراضي الذين لم يفعلوا شيئا يذكر لتخفيف وطأة الفقر المتزايد الذي أحدثته الحرب الأهلية، ولم يبدوا أي اهتمام بأسر أولئك الذين شوهوا أو قتلوا بسبب الخدمة في جيشهم. وتأكد ل «الجناح الأيسر» من أنصار المساواة أن إصلاح الوضع الاقتصادي متوقف على إصلاح ظروف الفلاحين، ودعوا إلى إعادة كل الأراضي المشاع إلى العمال المعدمين وإلغاء تأجير الإقطاعيين للأراضي بأسعار زهيدة.
وحوالي عام 1648م انطلقت حركة «الأنصار الحقيقيين للمساواة» أو حركة الحفارين
Diggers ، وهي الحركة التي تجاوزت حتى مطالب أكثر المؤيدين للمساواة تطرفا. لقد وجدوا أن لا شيء غير القوة يمكن أن يرد للفلاحين الأرض التي فقدوها، وتحدوا أحيانا حق القلة في الملكية الخاصة للأرض . وتضمن هذا تغييرا كاملا في بنية المجتمع، إذ لا يكفي، كما عبر جيرارد ونستنلي، الذي أصبح قائدا ومنظرا لحركة الحفارين، «أن تنقل سلطة المنتصر من يد الملك إلى أيدي رجال آخرين ما زالوا محتفظين بالقوانين القديمة.»
وفي بداية عام 1649م نقلت «سلطة المنتصر» من يد الملك. فقد أعدم الملك، وتم تطهير مجلس العموم من «أعضائه الأشرار»، وكلفت مجالس الدولة بإدارة الشئون العامة لإنجلترا. ولكن الحفارين أخذوا على عاتقهم تغيير «القوانين القديمة». وفي السادس عشر من أبريل عام 1649م وصل إلى علم مجلس الوزراء أن «نفرا من المتمردين المشاغبين» يقودهم «رجل يدعى إفرارد، كان يعمل في الجيش ثم طرد منه» بدءوا يحفرون على هضبة سان جورج في سري
Surrey «ويزرعون الأرض بالجزر الأحمر والأبيض والفاصوليا»، وانزعج مجلس الوزراء من نشاط الحفارين، على الرغم من أن عددهم لم يتجاوز العشرين أو الثلاثين، حتى أنه أصدر تعليماته إلى اللورد فير فاكس
Fair Fax ، وهو القائد العام للقوات المسلحة للكومنولث، بأن يرسل قوة من الفرسان لتفريق المتظاهرين، ومنع مثل هذه الأعمال في المستقبل. ولكي يبرروا مخاوفهم، أضافوا قولهم: «على الرغم من أن الزعم بوجودهم هناك يبدو أمرا بالغ السخف، فإن تجمع هذا الحشد قد يكون بداية أحداث تترتب عليها عواقب وخيمة وشديدة الخطورة، ويمكن أن يقلق سلام وهدوء الكومنولث.»
هكذا شغلت حركة الحفارين الصغيرة، في فترة تاريخية مهمة، اهتمام مجلس وزراء الدولة وقائد القوات المسلحة للكومنولث. ولو عرف كلاهما الأسباب التي دفعت الحفارين لاحتلال هضبة سان جورج لزادت مخاوفهم على ما كانت عليه. وقد سجل جيرارد ونستنلي هذه الأسباب قبل أن يبدأ الحفارون نشاطهم: «إن العمل الذي سنشرع فيه هو حفر هضبة جورج والأراضي البور المحيطة بها، وغرس بذور الذرة لنأكل خبزنا بعرق جبيننا.» «والدافع الأول لذلك هو أن نعمل باستقامة، ونجعل الأرض كنزا مشتركا للجميع، سواء الغني منهم أو الفقير، ويأكل كل فرد ولد في هذا البلد من أمه الأرض التي أنجبته وربته، وطبقا للمبدأ الذي يحكم الخليقة.»
أما عن جيرارد ونستنلي، الذي ظهر في تلك الفترة كواحدة من قاعدة الحركة، فلم يعرف عنه شيء يذكر حتى عام 1648م عندما نشر أربعة كتيبات معبرة عن بعض الآراء اللاهوتية الجريئة التي اتهم بسببها، من قبل بعض وزراء الكنيسة المتشددين، بإنكار وجود الله والكتاب المقدس والشرائع الإلهية. ويحتمل أن تكون هذه الكتيبات قد وضعت قبل اتصاله بوليم إفرارد و«أنصار المساواة الحقيقية»، لأنها لا تكشف عن أي اهتمام بالقضايا الاجتماعية، وإن كان ونستنلي قد وجد في ذلك الوقت من الأسباب ما دفعه إلى التفكير في مظالم المجتمع. لقد كان تاجرا وحرفيا صغيرا يعيش كأحد المواطنين الأحرار في مدينة لندن، ولكن الحرب الأهلية دمرته كما دمرت كثيرين غيره، وكما قال بعد ذلك في خطاب موجه لمدينة لندن: «كان لي وضعي المحترم فيك ... وبغش أبنائك وتفننهم في السرقة في البيع والشراء، وبسبب تحمل أعباء الجنود في بداية الحرب، سلبت من وضعي وتجارتي، واضطررت لقبول معونة الأصدقاء لأعيش في الريف.»
وفي يناير 1649م نشر «القانون الجديد للاستقامة»، الذي وصفه ه. ن. بريلزفورد
H. N. Brailsford
بأنه «أكثر كتبه دلالة على شخصيته ... فهو في الواقع بيان شيوعي مكتوب بلهجة عصره.» وهو كذلك، كما أشار جورج وودكوك
G. Woodcock
إلى أنه يكشف عن وعي بالمشاكل الاجتماعية، سبق فيه أي مفكر اجتماعي إنجليزي قبل جودوين
Godwin ، وقد استنكر الملكية الخاصة للأرض استنكارا شديدا يتجلى في قوله: «دع الناس يقولوا ما يريدون، فما دام هناك أمثال هؤلاء الحكام الذين يدعون أن الأرض أرضهم، وما داموا يضعون أيديهم على ملكيتي الخاصة وملكيتك، فلن يحصل عامة الشعب على حريتهم، ولن تخلو الأرض من المتاعب والمظالم والشكاوى التي تغضب الخالق باستمرار ...
إن الإنسان الذي هو من لحم ودم يحكم بأن من العدل والصواب أن يملك بعض الرجال خيرات الأرض، أو يوصفوا بأنهم رجال أثرياء، سواء حصلوا على هذه الثروة بطريق الصواب أو الخطأ، وأنهم يستحقون أن يكونوا هم السادة ويحكموا الفقراء، بينما ينبغي على الفقراء أن يصبحوا خدما، بل عبيدا للأغنياء. ولكن الإنسان الروحي الذي هو إنسان مسيحي، يحكم طبقا لنور العدل والعقل بأنه يجب أن يكون لكل البشر الحق في مورد رزق كاف وفي الحرية الكافية ليعيشوا فوق هذه الأرض؛ وأنه لا ينبغي أن يكون هناك عبد ولا مسئول في جبله المقدس.»
وقد نادى كذلك بنهاية استغلال الإنسان لأخيه الإنسان: «لن يحصل إنسان على أرض تزيد مساحتها على قدرته على استثمارها بنفسه، أو بمشاركة آخرين يكدحون معه بحب، فيعملون معا، ويأكلون الخبز معا، مثل كل العشائر والعائلات في إسرائيل، بحيث لا يعطون أجرا ولا يأخذون أجرا.»
وعلى الرغم من ثورية آراء ونستنلي، فإنه لم يحرض الشعب على العنف أو تجريد الأثرياء من أملاكهم. لقد أراد أن يستولي الفقراء على الأراضي البور ويزرعوها معا: «ودع عامة الشعب الذين يقولون إن الأرض ملكنا، وليست ملكي، دعهم يعملوا معا، ويأكلوا الخبز معا في الأراضي المشاع وفوق الجبال والتلال.»
واضطهد اللوردات والعسكر وملاك الأراضي حفاري هضبة سان جورج خلال العامين التاليين، فضربوا، وسلبت منهم أدواتهم الزراعية، وأزيلت منازلهم، وأتلفت محاصيلهم، وحطمت عرباتهم. وقبض على بعضهم وحوكموا، وعندما عجزوا عن دفع الغرامات الثقيلة المفروضة عليهم، أخذت منهم أملاكهم الهزيلة. وبعد مضي عام واحد لم يتبق سوى قلة ضئيلة من الحفارين، الذين أقاموا، كما يقول ونستنلي، «أكواخا صغيرة قذرة مثل حظائر الحيوانات ليرقدوا فيها ... وزرعوا أراضي متفرقة بالقمح والشعير، ولم يجبرهم شيء على التقاعس سوى الحاجة للطعام الذي لم يعد يكفيهم الآن، فهم فقراء مساكين، تحملوا أعباء النفقات المختلفة منذ أن بدءوا حركتهم.»
هزم الحفارون على الرغم من شجاعتهم وصمودهم. وقد بذل ونستنلي كل ما في وسعه للدفاع عنهم، وبين في كتيبات عديدة شديدة اللهجة عدالة مطالبه ونواياهم السلمية، وناشد الجيش والبرلمان ومدينة لندن وقف اضطهادهم.
وبعد إخفاق مغامرة هضبة سان جورج في أن تكسب أي تأييد أو تتحول إلى حركة جماهيرية، كما كان يأمل روادها، نشر ونستنلي عام 1652م كتابه «قانون الحرية» الذي قدم فيه مشروع حكومة (كومنولث) مثالية. وقد تم تأليف الكتاب بعد أقل من أربع سنوات من نشر كتيبه الأول، وفي غضون هذه الفتوة القصيرة تطورت آراؤه الدينية والسياسية تطورا سريعا، وتحولت من النزعة الصوفية والدينية إلى نوع من الإلحاد العقلي، ومن الدعوة للإصلاح الزراعي إلى الدعوة للمزارع الجماعية الكاملة. وكان ونستنلي قد بدأ يفقد إيمانه بالوسائل التي عقد عليها الأمل هو ورفاقه لتحقيق المجتمع الأفضل. وكان الحفارون قد تصوروا أنهم سيستطيعون، عن طريق شرح أهدافهم ومن خلال النموذج الذي قدموه، أن يقنعوا الشعب بزراعة الأراضي البور بشكل جماعي مشترك، كما اعتقدوا أن ملاك الأراضي أنفسهم ربما أبدوا استعدادا للتخلي عن أراضيهم، ولم يلجئوا في مقاومتهم إلى العنف ، ولم يستخدموا القوة في الدفاع عن أنفسهم ضد الجنود والمزارعين الأغنياء الذين هاجموهم.
ويبدو أن فشل تجربة هضبة سان جورج قد أدى بونستنلي إلى الإيمان بأنه من المستحيل على الشعب، ما دام الجيش ضده، أن يمسك بزمام الأرض ويعمل بها كالرجال الأحرار. وربما كان هذا هو السبب الذي جعله يفتتح «قانون الحرية» برسالة إلى كرومويل، الذي كان في ذلك الوقت هو القائد الأعلى للجيش، وكان في استطاعته، أكثر من أي شخص آخر، أن يقوم بتنفيذ إصلاحات بعيدة المدى. ويتضح من مضمون ولهجة الرسالة أن أمل ونستنلي في أن ينفذ كرومويل البرنامج المطروح في كتابه كان أملا ضعيفا، وأنه اكتفى بأن يبلغه بما «ينبغي» عليه أن يفعل حتى يكون في موقف أفضل يساعده على نقد ما «يمكن» أن يعمل، ولم يكن ونستنلي ليكتب إلى كرومويل بهذه الطريقة لو أنه اعتقد حقا أنه هو المحرر والمشرع للمستقبل.
إن العمل الذي ينتظر أن تقوم به من جانبك هو التخلص من قوة المضطهد وشخصه معا، وأن تحرص على وضع الملكية الحرة للأرض وللحريات في أيدي العامة المظلومين في إنجلترا ... والآن وأنت تملك سلطة الأرض في يديك، يجب عليك أن تقوم بأحد أمرين: أولهما هو أن تجعل الأرض تحت تصرف عامة الشعب المضطهدين، الذين وقفوا معك ودفعوا مرتباتهم للجيش، وعندئذ تفي بما جاء في الكتب المقدسة وبما تعهدت به، وتنال الشرف الذي تستحقه.
وثانيهما أن تعمد إلى نقل «سلطة المنتصر» من يد الملك إلى أيدي أناس آخرين، مع الاحتفاظ بالقوانين القديمة على ما هي عليه، وعندئذ ستحمل حكمتك وشرفك للأبد وزرا ثقيلا، وفي هذه الحالة إما أن تفقد نفسك، وإما أن تضع للأجيال القادمة أسس عبودة أفظع من كل ما عرفت.
كان ونستنلي مفكرا اجتماعيا جادا، وقد منعته حدة وعيه من أن يتصور أن عمل رجل واحد يمكن أن يغير المجتمع. وقد تحقق من أن الثورة التي تأتي من القمة ستكون ثورة عقيمة إذا ظلت نظرة الإنسان العقلية والأخلاقية على ما هي عليه. ولكنه كان مقتنعا اقتناعا تاما بأنه إذا نفذ المسيح أو «انتشر النور» في عقول الناس فسوف يتوقفون عن الرياء والظلم، وسوف يظهر للوجود مجتمع جديد. لقد شغف، كما يقول بريلزفورد «باقتباس نبوءات الكتاب المقدس التي تؤكد أن النصر «للمحتقرين المهانين في الأرض»، وتدعو الأغنياء إلى البكاء والعويل، وهو يتنبأ بأن تتم هذه الثورة قبل أن تمر عجلات سنوات عديدة ... وكان يتوقع أن تتحقق الثورة التي أرادها من خلال التغيير الذي ستحدثه «روح العقل في قلوب البشر».»
وقد رفض ونستنلي، على الرغم من كل اقتباساته من الكتاب المقدس ومن اللغة التوراتية التي يستخدمها، جميع الأسس التي يستند إليها التشدد الديني، فهو لا يؤمن بوجود إله شخصي، ويذهب إلى أبعد من ذلك حين يوحد بين الله والعقل. وقد قرر ذات مرة أن يستخدم كلمة العقل بدلا من كلمة الله في كتاباته (ثم تراجع عن هذا القرار). كما سبق (المعاصرين) بفكرته عن «المسيح الاشتراكي» عندما أعلن أنه (أي المسيح) كان «المدافع الصادق المخلص عن المساواة»، ولكنه لم يقصد بذلك شخصيته التاريخية بل «قوة النور المنتشرة منه». وأدان ونستنلي أيضا الاعتقاد بالمعجزات، والجنة والنار، كما تشكك في البعث الجسدي بعد الموت، وأنكر مذهب الخطيئة الأولى. فالإنسان في رأيه قد ولد خيرا وحرا، و«روح النور الكامنة فيه تعشق الحرية وتمقت العبودية»، ولكن النظام الاجتماعي القائم على الفساد والبؤس هو الذي أفسد طبيعته.
ألغى توماس مور، ومعظم كتاب اليوتوبيا من بعده، الملكية الخاصة خشية تأثيرها المفسد وخطرها المدمر على وحدة الدولة. وقد ألغى ونستنلي أيضا الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكن على أساس أن «الحرية الحقيقية» لن يكون لها وجود ما دام الناس لا يتمتعون بالحرية الاقتصادية، كما أعلن، واضعا نصب عينيه أن الأرض هي المصدر الرئيسي للثروة: «إن الحرية الحقيقية لمجتمع الكومنولث تكمن في الاستمتاع الحر بالأرض، وإن الأفضل للإنسان ألا يكون له جسد على الإطلاق من ألا يكون لديه الطعام الذي يحتاج إليه (جسده). ومن ثم كان احتكار الإخوة للأرض من دون إخوتهم هو الاضطهاد والعبودية ، وكان التمتع بثمار هذه الأرض هو الحرية الحقيقية.» ومن حرية التمتع بثمار الأرض تستمد كذلك حرية العقل، لأنني واثق - كما يقول بنفسه - من أن «البحث الصحيح في ألوان العبودية الكامنة في العقل - كالرياء، والغرور، والنفاق، والحسد، والخوف، واليأس، والجنون - إنما يؤكد أنها جميعا تنجم عن العبودية الخارجية التي تفرضها فئة من الناس على فئة أخرى.» وقبل الشروع في تعريف حكومة الكومنولث الحقيقي، نجد ونستنلي يدين الحكومة الملكية المرتكزة على الملكية، معبرا بذلك عن إيمانه بأن «الملكية هي السرقة».
إن الحكومة الملكية تسيطر على الأرض بأفانين الاحتيال في البيع والشراء، وبذلك تمثل رجل المتاعب والمنازعات الذي تكون يده ضد كل رجل، ويد كل رجل ضده. ولو نظرت إلى هذه الحكومة في أفضل أحوالها لوجدت أنها حكومة مريضة تشبه مدينة بابل إلى حد بعيد، فهي تضج بالفوضى والاضطراب، لأنها تعبر عن إرادة الجشع والغرور لدى المنتصر الذي يستعبد الشعب المهزوم.
هذه الحكومة الملكية هي التي تحول المناجل والمحاريث إلى رماح وبنادق وسيوف وأدوات للحرب، وذلك لكي يتسنى له (أي لملك هذه الحكومة) أن يأخذ حق أخيه الأصغر الذي وهبه إياه الخالق بالميلاد، ويزعم أن الأرض له وليست لأخيه، إلا إذا استأجر أخوه الأرض منه، وفي هذه الحالة يعيش متعطلا على هواه من جهد أخيه.
وهذه الحكومة يمكن أن تسمى بحق حكومة قطاع الطرق الذين سرقوا الأرض بالقوة من الإخوة الأصغر، ومنعوها عنهم كذلك بالقوة. وهي حكومة تريق الدماء، لا لتحرر الشعب من الظلم، بل لتملك وتحكم شعبا مضطهدا مظلوما ...
ولكن حكومة الكومنولث تحكم الأرض دون شراء وبيع، وبذلك تصبح رجل سلام، وتعيد السلام والحرية القديمين. وهي تمد المقهورين والضعفاء والبسطاء بحاجتهم من مواد الغذاء، كما تمد الأغنياء والحكماء والأقوياء سواء بسواء. وهي تحول السيوف والرماح إلى مناجل ومحاريث، وتجعل الإخوة الكبار والصغار رجالا أحرارا في الأرض.
3
وسوف تختفي كل أشكال العبودية والقهر التي فرضها على البشرية الملوك، والإقطاعيون والمحامون، وملاك الأراضي ورجال الدين، ستختفي كلها بفضل هذه الحكومة، إذا راعت الحق والاستقامة في قوتها وفي اسمها جميعا.
ذلك لأن هذه الحكومة هي التي ستستعيد بحق الحريات المفقودة، وبهذا تصبح بهجة لكل الأمم، ونعمة على الأرض كلها. لأن هذا هو الذي يمحو لعنة الملوك، ويجعل أورشليم القدس ممجدة في الأرض. ولهذا فلتنظروا جميعكم، يا من تدعون إلى الدين والأمور الروحية، انظروا إلى أي روح تدعون؛ لأن دعوتكم ستمثل أمام المحكمة.
وإذا تربعت حكومة الكومنولث على العرش فلن يستطيع طغيان ولا قهر أن ينظر في وجهها ويواصل حياته. لأن الظلم عندما يقع على الإخوة بيد الإخوة، فذلك دليل على أن هذا لا يمكن أن يحدث في ظل حكومة كومنولث، بل في ظل حكومة ملكية، وأن الظلم قد اتخذ من اسم صانع السلام معطفا يخفي تحته جشعه وغروره وقهره.
ولا يمكن أن تكون حكومة الكومنولث من عمل مشرع أو مخلص «لأن هذه الحكومة لا تعتمد على إرادة شخص أو أشخاص بعينهم ... كما أن المشرع الكبير لحكومة الكومنولث هو روح الاستقامة الشاملة التي تسكن الجنس البشري، وتنهض الآن لتعلم كل إنسان أن يعامل غيره كما يجب أن يعاملوه، وهي لا تهتم كذلك باحترام الأشخاص، وقد قتلت هذه الروح (أي روح الاستقامة الشاملة) حب الذات، ودفنت أنانية الفريسيين في مزابل حقدهم طوال السنوات الماضية.»
وتنبع قوانين الكومنولث الحقيقي من «الحماية المشتركة» (التكافل) أو ما يدعوه كروبوتكين
Kropotkin
4 «التعاون المتبادل»، وهو «مبدأ كامن في كل إنسان يسعى لخير الآخرين كما يسعى لخير نفسه»: «هذا هو جذر شجرة الحكام، وقانون الاستقامة والسلام؛ وكل القوانين الخاصة التي تم اكتشافها بالخبرة والتجربة، ولا بد من تطبيقها لتحقيق الرعاية والحماية المشتركة، وهما من أغصان تلك الشجرة وفروعها؛ ولأن الجهل يمكن أن ينتشر بين مختلف أنماط البشر، فقد نقش هذا القانون الأصلي في قلب كل إنسان، وليكون مرشده أو قائده، حتى إذا أعمى الجشع والغرور أحد الموظفين وتحكم الجهل فيه، أمكن أن ينبهه شخص أقل منه شأنا إلى أنه قد ضل الطريق؛ لأن الحماية المشتركة والسلام هما أساس الحكم في كل الحكومات.»
ومهمة الحكام في الكومنولث الحقيقي هي «حفظ القانون العام، الذي هو جذر الحكومة الصحيحة، وبسط الحماية السلام على كل فرد، والتخلص من كل المبادئ والمصالح الأنانية التي تدفع على الطغيان والظلم، وتدمر السلام العام.»
دعا ونستنلي في «القانون الجديد للاستقامة» إلى المجتمع الذي لا يحتاج إلى محامين أو حكام؛ لأن الموظفين المنتخبين هم الذين يتولون شئون الإدارة في حكومته المتخيلة. ولم يفارقه إيمانه بأن «كل فرد يملك سلطة بين يديه يستبد بالآخرين»، ولذلك اتخذ احتياطات كبيرة لكي يضمن ألا يقع هذا الاستبداد، فيجب أن يتمتع كل موظفي الكومنولث بثقة الشعب وأن يتم انتخابهم بحرية. وأول حلقة في سلسلة الحكم هي أن يكون الحاكم أبا يحكم عائلته، ويدلل ونستنلي على صحة رأيه (ولكن بشكل غير مقنع!) بأن أطفاله هم الذين اختاروه، «لأن الضرورة هي التي دفعت الأطفال الصغار إلى اختياره بالإجماع لا بطريق آخر.» والحلقات الأخرى في السلسلة هم الموظفون الذين يتم انتخابهم من قبل الدائرة أو الإقليم أو المقاطعة أو الوطن.
ولما كان ونستنلي مقتنعا تمام الاقتناع بأن «السلطة مفسدة»، وخاصة إذا ما استمرت فترة طويلة، فلذلك نراه يدعو إلى اختيار موظفين جدد كل عام:
إذا شغل الموظفون العموميون مناصب القضاء لفترات طويلة، فسوف تبدل حالهم من الالتزام بالتواضع والشرف والمعاملة الرقيقة لإخوانهم، إلى أناس تخيم على قلوبهم سحب الجشع والغرور والمجد الزائف. وعلى الرغم من أننا نجدهم عند بداية تقلدهم لمناصب الحكم يتحلون بالروح العامة، وينشدون الحرية للآخرين كما ينشدونها لأنفسهم، فإنهم مع الاستمرار لفترات طويلة في هذه المناصب التي تجلب لهم الشرف والمجد، يتغير حالهم ويصبحون أنانيين يسعون لتحقيق مصالحهم، لا للدفاع عن الحرية العامة، وذلك كما أثبتت التجربة في هذه الأيام، طبقا للقول المأثور، أن المناصب الكبرى في الدولة والجيش تغير أحوال أعذب الرجال.
والطبيعة تعلمنا أن الماء يفسد إذا بقي راكدا لفترة طويلة، في حين يحتفظ الماء الجاري بعذوبته ويكون ملائما للاستعمال العام.
وكما تقضي ضرورة التكافل والحماية المشتركة بأن يتحرك الشعب في إطار القانون، وأن يختار الموظفون أنفسهم بدعوة الشعب، بل بالصراخ بأعلى صوت في آذان وعيون إنجلترا لاختيار موظفين جدد وتغيير القدامى منهم، وانتخاب موظفي الدولة كل عام، وذلك للأسباب التالية:
أولا:
لمنع شرورهم، فعندما يتملك التكبر والشبع أحد الموظفين، تعمي عيناه وينسى أنه خادم للكومنولث، كما يبذل كل جهده ليرتفع فوق إخوته؛ وغالبا ما تكون سقطاته كبيرة، والدليل على ذلك سقوط الملوك المتجبرين والأساقفة ... وغيرهم من موظفي الدولة.
ثانيا:
لمنع تغلغل الظلم والقهر إلى الكومنولث مرة أخرى، فعندما يستفحل تكبر الموظفين وشبعهم، يتزايد حرصهم على الإبقاء على مجدهم وعظمتهم، ولو على حساب الفقر والضنك الذي يمرغ إخوتهم في الوحل، تشهد على ذلك تصرفات الملوك وقوانينهم التي سحقت أعضاء مجلس العموم في إنجلترا فترة طويلة من الزمن.
ألا نرى في هذه الأيام كيف أن بعض موظفي الكومنولث قد طال عليهم العهد فوق كراسيهم حتى غطتهم الأعشاب الطفيلية، وأنهم لا يكادون يتحدثون مع معارفهم القدامى، إذا كانوا أقل منهم شأنا، على الرغم من أن المودة والألفة كانت تجمع بينهم قبل بداية هذه الحروب؟
ما الذي أوجد مسافة البعد بين الأصدقاء والإخوة إلا الاستمرار لفترات طويلة في مناصب الشرف والعظمة والثروة؟
ثالثا:
لنحرص على اختيار موظفين جدد كل عام حبا في أجيالنا القادمة، لأنه إذا تضخمت الأعباء والمظالم وتراكمت على قوانيننا وموظفينا الذين تدعو الحاجة إلى تغييرهم، كالطحالب والأعشاب الضارة التي تنمو في بعض البلاد وتحتاج إلى إزالتها، فإنها ستكون بالتأكيد أس البؤس والتعاسة، وسيصعب على أجيالنا القادمة التخلص منها، وحينئذ سيلعنون الزمن الذي أعطانا - نحن أجدادهم - فرصة وضع الأمور في نصابها الصحيح عملا على راحتهم، ولكننا تقاعسنا عن أداء هذه المهمة ولم نفعل شيئا.
رابعا:
إن تغيير موظفي الدولة كل عام سيطبعهم بطابق الصدق والإخلاص، لأنهم سيعلمون أن الذين سيخلفونهم سيراجعون أعمالهم، وإذا لم يسيروا الأمور في مسارها الصحيح فسوف يلحق بهم العار عندما يحل محلهم الموظفون الجدد. ولكن عندما يعمل الموظفون بجد وإخلاص في حكومة الكومنولث، فلن يمانعوا في التخلي عن مناصبهم، وستحتفظ لندن بسلامة عندما يتم تغيير موظفيها سنويا.
خامسا:
من الخير تغير الموظفين كل عام، لأنه إذا كان من شأن الكثيرين أن يطيعوا، فمن شأن الكثيرين أيضا أن يأتي دورهم ليحكموا، وسوف يشجع هذا الوضع كل الناس على الاستقامة والأخلاق الحميدة ابتغاء الشرف والمجد. ولكن عندما يزيغ المال والثروة قلوب الحكام، فلن يأتي من ورائهما إلا الطغيان والاستبداد.
سادسا:
سيزود الكومنولث برجال قادرين ومتمرسين وأكفاء للحكم، مما يحقق المجد والسلام لبلادنا، ويتيح قدرا أكبر من العناية بتربية الأطفال، ولن يمر وقت طول حتى يغدو كومنولث إنجلترا زنبقة بين أمم الأرض.
ثم ينتقل ونستنلي بعد ذلك إلى التحديد الدقيق «للأشخاص الذين يصلحون للقيام بعملية الانتخاب أو الذين يصلحون لأن ينتخبوا موظفين في الكومنولث»:
أولا:
كل الذين يعيشون بطريقة غير متمدنة، كالسكارى، والمشاغبين، والجهلاء الخوافين، الذين يبددون وقتهم في اللذة والرياضة والثرثرة، لأنهم فارغون مجوفون ولا يمكنهم أن يصبحوا رجالا متمرسين مجربين، ولهذا فإنهم لا يصلحون لأن يختاروا موظفين في الكومنولث، ومع ذلك فلهم حق التصويت في الانتخاب.
ثانيا:
كل الذين تربطهم مصلحة بالسلطة والحكومة الملكية ينبغي ألا ينتخبوا، ولا أن يتم انتخابهم موظفين لإدارة شئون الكومنولث، لأن هؤلاء لا يمكنهم أن يكونوا من أنصار الحرية العامة. وهؤلاء نوعان:
أولا:
أولئك الذين قدموا الأموال لتدعيم الجيش الملكي، أو الذين كانوا جنودا في هذا الجيش وقاتلوا للحيلولة دون استعادة الحرية العامة. هؤلاء لا ينتخبون ولا يتم انتخابهم موظفين في الكومنولث، لأنهم فقدوا حريتهم. ومع ذلك فإنني أرى أن نجعل منهم خدما، كما هي العادة عندما يتحول المهزومون إلى خدم، لأنهم إخوتنا (في الوطن)، وما فعلوه صدر بلا شك عن حماسة صادقة، وإن كان الجهل قد طغى عليهم.
ونظرا لأن عددا قليلا من أصدقاء البرلمان هم الذين يقدرون حرياتهم العامة، على الرغم من أنهم يحملون اسم الكومنولث، فإن حزب البرلمان يجب أن يصبر على جهل الحزب الملكي، لأنهم إخوة، ولا يجعلوا منهم خدما، ولكن لا يجوز في الوقت الحاضر أن ينتخبوا أو أن يتم انتخابهم موظفين، وذلك خشية أن تتفجر فيهم روح الانتقام الجاهل فيعكروا صفو سلامنا العام.
ثانيا:
أولئك الذين تهالكوا على بيع وشراء أراضي الكومنولث، وورطوها في أوضاع جديدة مربكة، يجب ألا ينتخبوا ولا أن يتم انتخابهم موظفين، إما لأنهم متواطئون مع المصالح الملكية، أو لأنهم يتجاهلون حرية الكومنولث، أو كليهما، ولهذا فهم لا يصلحون لسن قوانين تحكم مجتمع كومنولث حر، ولا يصلحون لأن يتولوا الرقابة على تنفيذ القوانين.
فلتختاروا إذن أولئك الذين تشهد أعمالهم بأنهم يساندون الحرية العامة، سواء أكانوا أعضاء في الكنيسة أم لا، لأن الكل واحد أمام المسيح.
اختاروا رجالا لهم أرواح مسالمة ولديهم القدرة على الدخول في حوار سلمي.
اختاروا الذين عانوا من الظلم الملكي، لأنهم سيشعرون بآلام العبودية التي يقاسيها زملاؤهم (في الوطن).
اختاروا أولئك الذين خاطروا بفقد حياتهم ومراكزهم لتحرير البلاد من العبودية، وظلوا ثابتين صامدين.
اختاروا العقلاء المتفقهين في قوانين الحكومة الحريصة على السلم والنظام الصحيح.
اختاروا الشجعان الذين لا يهابون قول الحق، لأن هذا هو العار الذي يصم الكثيرين من سكان إنجلترا في هذه الأيام، إنهم غارقون في وحل الخوف الحقير من الناس، وهم أناس جشعون، لا يخشون الله، وجزاؤهم أن يطردوا خارج مدينة السلام، ويلقى بهم وسط الكلاب.
تخيروا موظفين من بين الرجال الذين جاوزوا الأربعين عاما من عمرهم، لأنهم في الغالب رجال من ذوي الخبرة والشجاعة، ويتعاملون بصدق ويكرهون الجشع.
وإذا اخترتم رجالا كهؤلاء من ذوي المبادئ، الذين أضنى عليهم الفقر لأن «سلطة المنتصر » جعلت أكثر الصالحين المستقيمين فقراء، فخصصوا لهم دخلا سنويا من الخزانة العامة، إلى أن تتوطد حرية الكومنولث، وعندئذ لن تكون هناك حاجة إلى مثل هذه المخصصات.
والعائلة هي وحدة المجتمع، كما رأينا في يوتوبيا مور التي يبدو أن ونستنلي قد اطلع عليها، ولا يقتصر دور الأب على الإشراف على تعليم الأبناء وإنما يشرف أيضا على عملهم:
على الأب أن يرعى أطفاله حتى يشبوا عقلاء وأقوياء، ثم يبدأ تعليمهم القراءة واللغات، والفنون والعلوم، أو تهيئتهم للعمل في حرفة من الحرف، أو توجيههم لتعلمها ودراستها، طبقا لما سنذكره بعد ذلك عن تربية الجنس البشري.
وكما يجب على الأب أن يعنى بإشراك جميع أولاده في زراعة الأرض، أو بقيامهم بتلبية المطالب الضرورية من عملهم في الحرف الأخرى، فعليه كذلك أن يهتم بتوفير الحياة المريحة لهم، وعدم تفضيل أحدهم على حساب الآخر. وعليه أن يحثهم على العمل، ويراقبهم عند القيام به، ولا يسمح لهم بالبطالة، وذلك إما بتأنيبهم بالكلام، وإما بضرب المذنبين، لأن العصا جعلت لرد السفهاء إلى العقل والاعتدال، حتى لا يتشاجر الأطفال كالحيوانات، بل يعيشوا في سلام كالعقلاء، ويتدربوا على طاعة القوانين وطاعة موظفي الكومنولث، ويعامل كل منهم الآخر كما يحب أن يعاملوه به.
ومن الضروري أن توجد في كل بلدة أو مدينة أو دائرة خمسة أنواع من الموظفين: صناع السلام، والمراقبون، والضباط (الذين نسميهم رجال الأمن)، والمندوبون (المكلفون بمهام معينة)، والجلاد. ويشرح ونستنلي مهمة كل منهم على النحو التالي:
عمل صانع السلام
يتم اختيار ثلاثة من صناع السلام أو أربعة أو ستة أو أكثر حسب اتساع المواقع، وتكون مهمتهم مزدوجة.
فهم أولا: يشاركون في عضوية مجلس الشورى لتنظيم شئون الدائرة، ومنع الاضطرابات وحفظ السلام العام، ويسمون أعضاء المجلس.
وثانيا: إذا نشب نزاع بين رجل وآخر بسبب شجار أو شغب أو أي تصرفات حمقاء، يقوم الضباط بإحضار أطراف النزاع أمام واحد أو أكثر من صناع السلام الذين يستمعون للقضية، ويحاولون تسوية الخلاف بين الأطراف تسوية سلمية، وبهذا يضعون حدا لصرامة القانون، ولا يذهبون لأبعد من ذلك.
وإذا عجز صانع السلام عن إقناع أطراف النزاع أو تسوية الخلاف بينهم، أمرهم بالذهاب إلى ساحة القضاء، في الوقت المحدد لذلك، لتلقي حكم القانون.
وإذا حدثت أي اضطرابات عامة تهدد سلام المدينة أو البلدة أو القطرة في إحدى المقاطعات، يجتمع صناع السلام في كل البلدان القريبة ويتشاورون حول هذا الأمر، وتصدر عنهم - أو عن ستة أعضاء منهم، إذا اقتضت الضرورة ذلك - تصدر الأوامر للموظفين الأقل درجة منهم.
ولكن إذا تعلق الأمر بحدود البلدة أو المدينة فقط، قام صناع السلام في تلك البلدة بإصدار الأوامر للموظفين الأقل منهم درجة لأداء أي خدمة عامة حسب اختصاصهم.
ثالثا: إذا ثبت إهمال أي موظف لواجبه، يقوم صانع السلام بتأنيبه، وإذا استمر إهماله يقوم بإخطار مجلس الشيوخ بالمقاطعة أو البرلمان المحلي، ومنها يلقى المذنب العقاب الملائم.
وكل ما سبق يهدف إلى ضرورة إطاعة القوانين، إذ لا حياة للحكومة إلا بالحرص على تنفيذ القانون.
عمل المراقب
يوجد في الدائرة أو البلدة أربع درجات للمراقبين الذين يتم اختيارهم سنويا.
الأول لمراقبة حفظ السلام في حالة وقوع أي نزاع بين رجل وآخر. ومع أن الأرض وثمارها كنز مشترك للجميع، ويجب أن تتم زراعتها وحصدها بالتعاون بين جميع العائلات، فإن جميع المنازل وكل الأثاث الذي تحتوي عليه ملك للسكان، وعندما تأخذ أي عائلة من المخازن الملابس والطعام أو أي أدوات للزينة تحتاج إليها، فإن هذه الأشياء جميعا تكون ملكا للعائلة.
والوظيفة الثانية للمراقب خاصة بالحرف، ويقوم المراقب هنا بالإشراف على إلحاق الشباب بالمعلمين لتلقي التدريب اللازم في عمل أو حرفة أو خدمة معينة، أو توجيههم لخدمة الزبائن في المخازن العامة، بحيث لا يبقى عاطل في أي عائلة في دائرته ... والحق أن المباني العامة والشركات في لندن تدار بشكل عقلاني ومنظم جدا، والمراقبون لشئون الحرف يستحقون أن يسموا معلمين، وموجهين، ومعاونين في هذه الشركات والحرف المختلفة ... وفوق ذلك فإن المراقب لشئون الحرف يجب أن يحرص على ألا يعين أحد في وظيفة مدير منزل إلا إذا تدرب تحت إشراف معلم لمدة سبع سنوات وتعلم حرفته، والغرض من هذا أن يحكم كل عائلة معلمون يتصفون بالرزانة والخبرة، لا شباب مترف. ووظيفة المراقب هنا هي المحافظة على التجانس والانسجام بين الحرف والعلوم والأعمال لمصلحة جميع السكان، بحيث لا يبقى في الكومنولث متسول أو عاطل.
والوظيفة الثالثة للمراقب هي أن يتأكد من أن أصحاب الحرف المختلفة يسلمون إنتاجهم للمخازن والمحلات، وأن القائمين على خدمة الزبائن يؤدون واجبهم ... وإذا أهمل أي مستخدم في محل أو مخزن واجبه، يقوم المراقب بتحذيره وتأنيبه. فإن غير سلوكه، كان بها، وإن لم يفعل، يستدع مراقب ضباط الشرطة ليأخذوه إلى محكمة صانع السلام، فإن أفلح معه تأنيب المحكمة، سارت الأمور على ما يرام، وإن لم ينصلح حاله يرسله المراقبون إلى ساحة القضاء، فيصدر القاضي حكمه بطرده من منزله ووظيفته، وإرساله إلى المزارع للعمل في الأرض، على أن يشغل شخص آخر مكانه في الوظيفة والمنزل حتى يصلح من نفسه.
رابعا، يكون جميع الشيوخ الذين تجاوزوا الستين مراقبين عموميين. وعليهم أن يذهبوا إلى أي مكان لمراقبة الأخطاء التي يرتكبها أي موظف أو حرفي، وأن يستدعوا الموظفين أو غيرهم لمحاسبتهم على إهمالهم في واجبهم نحو سلام الكومنولث، ويطلق على هؤلاء اسم الشيوخ.
وظيفة الضابط
يعتبر الضابط حاكما مثل الموظف تماما، والحقيقة أن كل موظفي الدولة ضباط؛ لأنهم يمثلون السلطة، وإذا لم تكن هناك سلطة في يد الموظفين فلن تمتثل الفظاظة لأي قانون أو حكومة، بل لإرادتهم الخاصة.
لهذا يجب أن يتم اختيار ضابط كل عام يكون بمنزلة قائد المدينة، ولأنه هو الرئيس، سيكون تحت تصرفه عدد من الضباط لمساعدته في حالة الضرورة.
وتنحصر وظيفة الضابط في أوقات السلم في ضبط المذنبين وإحضارهم للمثول أمام الموظف وأمام القضاء، كما يقوم أيضا بحماية الموظف من كل أنواع الاضطرابات.
عمل المكلف بالمهام (حارس السجن)
إن عمل المكلف بالمهام أو وظيفته هي مراقبة أولئك الذين حكم عليهم القاضي بفقد حريتهم، وتحديد العمل المفروض عليهم، ومراقبة إنجازهم له.
وإذا قاموا بمهامهم يسمح لهم بمؤن وملابس كافية للمحافظة على صحة أبدانهم. أما إذا أظهروا اليأس أو التسيب أو الكسل، ولم يخضعوا بهدوء لأمر القانون، فيعاقبهم المكلف بالمهام بالضرب بالسياط وإعطائهم وجبات غذائية قليلة، لأن العصا جعلت لظهور الحمقى حتى تذعن قلوبهم المغرورة للقانون.
وعندما يجد أنهم قد خضعوا للقانون، يمد لهم يد العطف باعتبارهم إخوة مذنبين، ويسمح لهم بوجبات غذائية وملابس كافية أملا في إصلاحهم، ويستمر مع ذلك في مراقبة عملهم حتى يطلق سراحهم بحكم القانون.
ويحدد لهم المكلف بالمهام أي عمل يشاء من الأعمال التي يقوم بها الإنسان.
فإذا فر أحد هؤلاء المذنبين تطلق وراءه صيحة المطاردة، ويحكم عليه القاضي بالموت عندما يتم القبض عليه مرة أخرى.
عمل الجلاد
إذا اعتدى أحد على حرمة القوانين، وعوقب بالجلد، أو السجن أو الموت، يقطع الجلاد الرءوس أو يشنق أو يطلق الرصاص حتى الموت أو يجلد المذنب طبقا لحكم القانون. وهكذا ترى كيف يسير عمل كل موظف في البلدة أو في المدينة.
عمل القاضي
إن القانون نفسه هو الذي يحكم كل أفعال البشر، ومن يتم اختياره للنطق بحكم القانون يسمى قاضيا، لأنه هو اللسان المتحدث باسم القانون، ولا ينبغي لأي شخص بمفرده أن يحكم باسم القانون أو يقوم بتفسيره.
لأن القانون نفسه - كما جاء في الرسالة
5 - هو عقل وإرادة البرلمان والشعب، وهدفهم منه هو أن يكون قاعدة حياتهم وحجر الزاوية في كل أعمالهم.
والإنسان الذي يأخذ على عاتقه تفسير القانون إما أن يجعل معنى القانون غامضا، وبذلك يجعله مشوشا يصعب فهمه، وإما أن يضيف إليه معنى آخر، وبالتالي يضع نفسه فوق البرلمان، وفوق القانون، وفوق الشعب كله.
ولهذا فإن عمل من يسمى بالقاضي هو أن يستمع إلى أي قضية تعرض عليه، وفي كل حالات النزاع بين إنسان وآخر، يأمر بإحضار طرفي النزاع للمثول أمامه، ويستمع إلى كل منهما وهو يتحدث عن نفسه دون أن يلقنه محام، كما يتحقق من صدق أي شاهد يقوم بإثبات قضية أمامه.
وعلى القاضي أيضا أن يعلن النص الصريح للقانون فيما يتعلق بأي أمر من هذه الأمور، لأنه لا يسمى باسم القاضي لمجرد أنه يحكم في أفعال المذنبين المطروحة أمامه وتبعا لرأيه وإرادته، بل لأنه هو الناطق باسم القانون، والقانون في الواقع هو القاضي الحق. وكل ما يريد أن يحيا في الكومنولث في سلام، عليه أن يضع هذا القانون وهذه الشهادة نصب عينيه.
ولكن من هنا نشأ بؤس كثير في الأمم التي تخضع للحكومة الملكية، وذلك حين ترك للقاضي أن يفسر القانون. وعندما تحولت روح القانون، ورأي البرلمان والحكومة إلى صدور القضاة، ارتفعت الشكوى من ظلم القضاة، والمحاكم، والمحامين ومن مسار القانون نفسه، وكأنما هو قانون شرير.
والسبب في ذلك هو تحريف القانون - الذي كان قاعدة ثابتة - وفقا لإرادة قاض جشع، حسود أو مغرور. فلا عجب أن تكون القوانين الملكية شديدة التعقيد، وألا يعرف مسار القانون سوى قلة ضئيلة من الناس؛ لأن الحكم في معظم الحالات يكمن في صدر القاضي وليس في نص القانون.
والواقع أن القوانين الصالحة التي يضعها برلمان جاد تشبه البيض الصالح الذي ترقد عليه إوزة بلهاء، وبمجرد أن تضعه تذهب في حال سبيلها وتتركه للآخرين دون أن تلتفت وراءها، حتى إنك لو وضعت حجرا في عشها لرقدت عليه معتقدة أنه بيضة ...
وهكذا نرى أن القوانين وإن كانت صالحة، فإنها إذا تركت لإرادة القاضي ليفسرها، ثبت بالتجربة في أكثر الأحيان أن تطبيقها فاسد.
ولا شك في أن كلا من القضاة الناطقين باسم القانون والقساوسة الناطقين بكلمة الرب، كانوا خدما غير مخلصين لا للإنسان ولا للرب، لأنهم أخذوا على عاتقهم نشر ذلك القانون وتفسيره، وهو الذي التزموا بطاعته دون إضافة إليه أو إنقاص منه.
ويجب أن يوجد في كل إقليم أو مقاطعة ساحة للقضاء (محكمة) أو مجلس شيوخ المقاطعة، الذي يتكون من قاض، وصناع السلام في كل مدينة تقع داخل تلك الدائرة، ومن المراقبين والضباط الذين يخدمون فيها.
المحكمة
تنعقد هذه المحكمة في المقاطعة أربع مرات في السنة، أو أكثر من ذلك إذا لزم الأمر، وأربع مرات سنويا في المدن الكبرى . وفي الربع الأول من السنة تنعقد في الجزء الشرقي من المقاطعة، وفي الربع الثاني منها في الجزء الغربي، وفي الثالث في الشمالي، وفي الرابع في الجزء الجنوبي.
وتراقب هذه المحكمة الموظفين داخل حدود المقاطعة، للتأكد من أن كل واحد منهم في موضعه يقوم بعمله بأمانة. وإذا ارتكب أي موظف خطأ في حق أي إنسان، تصدر حكمها بعقاب المذنب، وذلك حسب الجرم الذي ارتكبه ضد القانون.
وإذا تقدم إنسان بأي شكوى، وعجز الموظفون عن ترضيته، تسمع المحكمة شكواه بهدوء، وتسوي مشكلته. وفي حالة عدم وجود قانون مناسب، يمكنهم الاتفاق على رأي لتسوية مشكلة المذنب إلى أن ينعقد البرلمان الذي يقر هذا الرأي، إذا وافق عليه، ويرفعه لمستوى القانون، أو يصوغ قانونا آخر لنفس الغرض، لأن من المحتمل أن تقع في المستقبل أحداث كثيرة لم يتنبأ بها مشرعو القانون في أثناء وضعه.
وإذا اندلعت الفوضى بين جماهير الشعب، تقوم المحكمة بوضع الأمور في نصابها الصحيح. وإذا اضطر أحد للمثول أمام هذه المحكمة، يستمع القاضي لقضيته، ويعلن نص القانون، طبقا لطبيعة الجرم.
بهذا يكون العمل الوحيد للقاضي هو النطق بنص القانون وروحه. والهدف من وراء ذلك كله هو التأكد من تنفيذ القوانين، والمحافظة على السلام في الكومنولث.
وسيكون للبلاد كلها برلمان، ووزارة للكومنولث، وإدارة للبريد، وجيش.
عمل برلمان الكومنولث
البرلمان هو المجلس الأعلى للعدالة في البلاد، ويجب أن يتم انتخابه سنويا. ويختار من كل مدينة، وبلدة، ومن بعض المقاطعات، يختار رجلان أو ثلاثة أو أكثر ليؤلفوا هذا المجلس.
ومهمة المجلس هي مراقبة جميع المجالس الأخرى، والموظفين، والأشخاص، والأعمال ولديه سلطة كاملة - باعتباره ممثلا للبلاد بأسرها - لإزالة جميع الشكاوى، والعمل على راحة المظلومين.
أولا:
يمنح البرلمان، كأب رحيم، السلطة للموظفين، ويصدر التعليمات التي تقضي بحرية زراعة وحصاد أرض الكومنولث، التي حرم الغزاة والملوك وقوانينهم الطاغية على كل المظلومين استغلالها بحرية، وأصبح من حقهم الآن أن يشرعوا في زراعتها بحرية للحصول على مأكلهم وملبسهم، ومهمة الموظفين هي حماية من يعمل في الأرض، ومعاقبة من يركن إلى الكسل.
ثانيا:
وظيفة البرلمان هي إلغاء كل القوانين والعادات القديمة التي كانت مصدر قوة (الحاكم) الظالم، وسن قوانين جديدة للعمل على راحة الشعب وحريته، ولكن بشرط أن يكون الشعب على علم بذلك.
ذلك أن مهمة البرلمان هنا مهمة ثلاثية: (1)
أن القوانين والعادات الملكية القديمة تمثل عبئا على الشعب، الذي يريد إلغاءها ووضع قوانين أخرى أصلح منها.
ومهمة أعضاء البرلمان الآن هي أن يبحثوا على ضوء العقل والعدل عن الوسائل الكفيلة بتخفيف العبء عن الشعب والمحافظة على السلام العام. (2)
وعندما يستقرون - من خلال مناقشات المجلس - على رأي يخفف الأعباء من الشعب، يكون عليهم ألا يضعوا هذا على الفور في صيغة قانون، بل أن يصدروا إعلانا عاما للشعب الذي انتخبهم لمعرفة رأيه فيه، وإذا لم يصلهم اعتراض عليه خلال شهر واحد، يعتبرون سكوت الشعب دليلا على موافقته. (3)
وفي المقام الثالث، عليهم أن يسنوا (هذا الإعلان العام) في صيغة قانون، ليكون قاعدة ملزمة للبلاد كلها، فكما أن إلغاء القوانين والعادات القديمة تم بموافقة الشعب، الذي طالما طالب بهذا وسعى إليه، فإن تشريع قوانين جديدة لا بد أن يتم بموافقته ومعرفته.
ولا ينبغي عليهم أخذ موافقة الأشخاص الذين كانت لهم مصلحة في القوانين القديمة الظالمة، كما اعتاد الملوك أن يفعلوا، بل عليهم أن يحصلوا على موافقة الأشخاص الذين سبق اضطهادهم. ويرجع السبب في هذا إلى أن الشعب بأكمله ملزم بالخضوع للقانون وللعقاب، ولهذا يجب أن يعرفه جيدا قبل إصداره، وإذا وجد فيه أي ظلم، فيجب أن يكشف عنه ويتم تعديله.
ثالثا:
ومهمة البرلمان أيضا، في حالة إعلان الحرب لصد غزو خارجي أو إخماد ثورة داخلية، هي النظر في هذا الأمر لحماية السلام العام.
وهكذا نجد أن البرلمان هو رأس السلطة في الكومنولث، ووظيفته هي إدارة الشئون العامة في أوقات الحرب والسلم، وليست مهمته هي تأييد مصالح فئة معينة، بل حماية سلام وحرية البلاد كلها، وكل فرد في البلاد، بحيث لا يحرم أحد من الحقوق التي وهبها الخالق له، ما لم يفقد حريته باعتدائه على غيره، كما نصت القوانين على ذلك.
ولا يعتبر الجيش، في كومنولث ونستنلي، هيئة دائمة من الجنود المأجورين أو المجندين، وإنما تتم التعبئة في حالة الطوارئ فقط، ويتكون الجيش من الموظفين الذين يتولون شئون الحكم في أوقات السلم، ومن الشعب الذي يوضع كله تحت السلام إذا لزم الأمر.
ويكون الجيش هو الحاكم في أوقات السلم، فيحافظ على أمن البلاد والحكومة بتنفيذ القوانين التي افتداها الجيش بدمه في ميدان القتال وخلصها من يد البطش والاضطهاد.
وهنا يكون جميع الموظفين، من رب الأسرة إلى برلمان البلاد، هم رؤساء وقادة الجيش، ويهب الشعب كله لحماية الموظفين ومساعدتهم، دفاعا عن الحكومة المنظمة، إذ ليس الشعب إلا جسد الجيش.
أحس ونستنلي بضرورة تدعيم الروابط الاجتماعية بين الولايات والمقاطعات المختلفة التي يتألف منها الكومنولث، ولهذا تصور أن الحاجة تدعو إلى وجود مديري البريد، الذين لا يختلف دورهم عن دور مراسلي الأخبار في أيامنا، وإن كانوا أكثر منهم إيثارا وحبا للغير:
سيتم انتخاب رجلين من كل مقاطعات الكومنولث (في نفس الوقت الذي يتم فيه انتخاب الموظفين) وسيطلق عليهما اسم مديري البريد. وحيث إن البلاد تنقسم إلى أربعة أقسام هي الشرقي والغربي، والشمالي والجنوبي، فسيتم انتخاب رجلين من سكان المدينة الرئيسية لاستقبال ما يورده مدير بريد القسم الشرقي، ورجلين للشمالي، وآخرين للجنوبي.
وستكون مهمة مديري البريد هي تسليم أو إرسال تقارير شهرية، من المقاطعات الخاصة بهم للمدينة الرئيسية، عن الأحداث التي تقع، والتي تكون مشرفة أو مخزية للكومنولث، ضارة أو نافعة له. وإذا لم تقع في ذلك الشهر أحداث جديرة بالملاحظة، فإنهم يثبتون أن السلام أو النظام مستتبان في تلك المقاطعة.
وعندما يعرض مديرو البريد المختصون بالمقاطعات تقاريرهم أو شهاداتهم من كل أنحاء البلاد، يسجل المستقبلون لهذه التقارير كل شيء بنظام عن كل المقاطعات على هيئة نشرة أسبوعية.
ويقوم هؤلاء المستقبلون الأربعة بنشر التقارير عن أحوال الأقسام الأربعة للبلاد وطبعها في كتاب واحد، وترسل نسخة من هذا الكتاب لكل مدير بريد، بحيث يكون لديهم سجل كامل مطبوع عن جميع شئون البلاد.
والفائدة التي تعود على البلاد من هذا، هي أنه إذا تعرض أي جزء منها لوباء، أو مجاعة أو غزو، أو ثورة أو أي كوارث طارئة، تبلغ بذلك الأجزاء الأخرى من البلاد فترسل النجدة على وجه السرعة.
وإذا وقعت أي حادثة خطيرة بسبب الطيش أو الإهمال، تتخذ الأجزاء الأخرى من البلاد الاحتياطات الكافية لدرء الخطر.
وإذا توصل أحد من خلال المثابرة أو النضوج العقلي إلى اكتشاف سر من أسرار الطبيعة، أو اختراع جديد في الفن أو التجارة أو فلاحة الأرض أو أي شيء من هذا القبيل يمكن أن يعود على الكومنولث بالمزيد من النمو والازدهار والثراء، ينال هؤلاء الأشخاص المتفوقون التكريم من الجهات التي يعيشون فيها، وعندما تسمع الجهات الأخرى بهذا التكريم يتشجع العديد من أبنائها ويبذلون غاية جهدهم لتحقيق مثل هذا الإنجاز، وبمرور الوقت لن يبقى سر من الأسرار التي لا تزال خافية (بسبب العصر الحديدي للحكومة الملكية الظالمة) إلا ويظهره شخص أو آخر إلى النور فيزيد مجتمعنا وبلادنا (الكومنولث) جمالا.
ويستطرد ونستنلي في وصف مهام وزراء الكومنولث الذين يفترض فيهم أن يكونوا من عامة الناس ويتم انتخابهم سنويا من قبل أعضاء المقاطعة. وعندما يعقد مجلس المقاطعة اجتماعه كل يوم أحد يقرأ الوزير بصوت مرتفع قوانين الكومنولث والتقرير الذي تتضمنه النشرة الرسمية لمدير البريد، ثم تعقب ذلك خطب ومناقشات في موضوعات تاريخية وعملية متفرقة. وهكذا نرى أن الدين ليس له مكان في كومنولث ونستنلي، إذ حل محله دراسة الطبيعة والتاريخ. ومما يزيد من طرافة آرائه عن العلم التجريبي وأهمية الاكتشاف والتربية أنها لم تأت من فيلسوف أو عالم، بل جاءت من رجل تلقى تعليمه في مدرسة لغات متواضعة: «إن وجود قوانين صالحة مع جهل الشعب بها، يعادل في ضرره بالكومنولث عدم وجود قوانين على الإطلاق.»
لهذا يقرر أحد قوانين كومنولث إسرائيل الذي أسسه موسى، وهو الذي كان يتولى حكم الشعب في ذلك الوقت، أن من صواب الرأي ومن الخير أن يكون أحد أيام الأسبوع يوم عطلة للأسباب الثلاثة الآتية:
أولا:
لكي يلتقي الناس في مثل هذه المقاطعة فيرى كل منهم وجه الآخر ويؤلف الحب والمودة بينهم.
ثانيا:
ليكون يوم راحة أو انقطاع عن العمل، حتى يأخذوا قسطا من الراحة البدنية لهم ولأنعامهم.
ثالثا:
ليقرأ الوزير - الذي تم انتخابه لهذا العام عن تلك المقاطعة - على الشعب ثلاثة أشياء: (1)
جميع أحوال البلاد، كما جاءت في تقرير مدير البريد وسجلها المكتب التابع له. (2)
قانون الكومنولث، لا لكي يقوي ذاكرة الشيوخ فقط، بل لكي يتعلم الشباب، الذين لم تنضج تجربتهم بعد، كيف يميزون الخير من الشر، ومتى يفعلون الصواب أو الخطأ، ذلك لأن قوانين البلاد تمسك في يدها سلطة الحرية والعبودية، والحياة والموت، ولهذا يتحتم أن يحيط الناس علما بها، والقانون هو خير معلم لهم، حتى إذا تقدم بهم العمر وبلغوا سن النضج أصبحوا قادرين على الدفاع عن قوانين البلاد وحكومتها. ولكن لا يجوز أن يشرح القارئ هذه القوانين، لأن شرح القانون الواضح، بحجة استخراج المعنى الذي لم يبينه النص الحرفي، إنما يجلب الشر من ناحيتين: (أ)
سيشيع الخلط والتشوش في القانون وفي عقول الناس، لأن الإكثار من الكلمات يسدل على المعرفة ظلمات الغموض. (ب)
سيمتلئ القارئ غرورا ويدين مشرعي القانون، وبمضي الوقت يتولد الطغيان ويترعرع، كما أثبتت وزارتنا في هذه الأيام. (3)
لأن عقول الناس تميل للخطب والأحاديث بصفة عامة - ولهذا يمكن التصريح بها لتدريب الشباب والشيوخ على النحو التالي:
أولا:
للتعريف بوقائع العصور الماضية وطبائع الحكومات الغابرة، مع إبراز مزايا الحرية في ظل الحكومات الرشيدة، كما حدث في كومنولث (مجتمع) إسرائيل، ومثالب العبودية التي ارتبطت دائما بالظلم والظالمين، كما حدث في عهد فرعون وغيره من الملوك والطغاة، الذين زعموا أن الأرض والشعب ملكهم وتحت تصرفهم وحدهم.
ثانيا:
الخطب والأحاديث التي تلقى حول العلم والفنون، كالفيزياء والجراحة، والتنجيم، وعلم الفلك، والملاحة، والزراعة، وتربية الحيوان وما شابه ذلك، علاوة على طبيعة جميع الأعشاب والنباتات من أشنان
6
داود حتى شجر الأرز، وذلك كما أمر الملك سليمان.
كذلك يمكن أن يتعرف الناس على طبيعة الكواكب الثابتة والسيارة، التي تكشف عن قدرة الله وعظمته في السماء، وبذلك يطلعون على أسرار الطبيعة والخلق، التي تنطوي على كل معرفة صادقة، وتحفز النور الداخلي في الإنسان على البحث عنها.
ثالثا:
ويمكن أن تلقى بعض الأحاديث عن طبيعة الجنس البشري، عن ظلامه ونوره، وضعفه وقوته، وحبه وكراهيته، وأحزانه وأفراحه، وعبوديته الباطنة والظاهرة، وحرياته الداخلية والخارجية ... إلخ. وهذا هو الهدف الذي تسعى إليه وزارة الكنائس بصفة عامة، ولكنهم يخلطون معرفتهم ببحوث خيالية، وذلك حين يتكلف أحدهم الكلام بغير تجربة أو خبرة.
ولأن الأمم الأخرى تتكلم بلغات متعددة، يجب أن تكون الخطب في بعض الأحيان بلغات أخرى وأحيانا باللغة الأم، بحيث يتيسر للمواطنين في مجتمعنا الإنجليزي تحصيل جميع المعارف والفنون واللغات، ويشجع كل فرد على جده واجتهاده، ويكسب حب جيرانه بالاطلاع على حكمتهم ومعرفتهم التجريبية بالموجودات.
أكد ونستنلي أن التعليم الحكومي في ظل الملكية بقي امتيازا مقصورا على القلة: «فالعبودية الملكية - كما يقول - هي سبب انتشار الجهل في الأرض، عندما تتوطد حرية الكومنولث، ويتم التخلص من عبودية الفريسيين أو العبودية الملكية، ولكن ليس قبل ذلك.» وقد حرص ونستنلي في حكومته المثالية على أن يتلقى كل طفل تعليمه عن طريق الكتاب وأن يتعلم بالإضافة إلى ذلك حرفة معينة، مع الاهتمام أيضا بتدريب الأطفال على أن يكونوا مواطنين صالحين.
يشبه الكائن البشري في أيام شبابه فتى غرا تستبد به الرعونة والطيش، حتى يقومه التعليم والتوجيه، وإهمال هذا الجانب أو تأديته بطريقة تفتقر إلى الحكمة كان دائما ولا يزال هو سبب الفرقة والمتاعب في العالم.
ولهذا يستوجب قانون كومنولث أن يتولى المراقبون والموظفون، لا الآباء وحدهم، مسئولية تنشئة الأطفال على الاخلاق الحميدة، والحرص على تعليمهم حرفة معينة، وعدم السماح لأي طفل في أي ولاية بالحياة في فراغ والانغماس في متع الشباب، كما فعل الكثيرون، بل أن يشبوا كرجال لا كوحوش، حتى يزخر الكومنولث برجال حكماء جادين مجربين، لا بالأغنياء العاطلين.
ويمكن أن ننظر إلى الكائن البشري في مراحله الأربع، وهي الطفولة، والشباب، والرجولة والشيخوخة . فطفولته وشبابه يمتدان من مولده حتى سن الأربعين، وفي أثناء هذه المرحلة، وبعد أن يتم فطامه من أمه (التي ستكون هي مربيته إلا إذا كانت طبيعتها فاسدة)، يعلمه والداه كيف يعامل جميع الناس معاملة مهذبة ومتواضعة. وبعد ذلك يرسلانه إلى المدرسة ليتعلم ويقرأ قوانين الكومنولث، وينمي ذكاءه ومواهبه منذ طفولته حتى يتقدم في تعليمه ويلم بجميع الفنون واللغات. والغرض من هذا هو تحقيق ثلاثة أهداف:
أولا، عن طريق التعرف على شئون العالم، ومن خلال معرفتهم التقليدية، سيكونون أقدر على التحكم في أنفسهم كرجال عقلاء. ثانيا، يمكنهم أن يصبحوا مواطنين صالحين في الكومنولث ويساندوا حكومته عن طريق التعرف على طبيعة الحكم. ثالثا، إذا وجدت إنجلترا الفرصة لإرسال سفراء لأي دولة أخرى، يكون لدينا أشخاص يعرفون لغتها، أو إذا حضر إلينا سفراء من الدول الأخرى، فسيكون لدينا من يفهم كلامهم.
ولكن لا يصح أن ننشئ بعض الأطفال على التعلم من الكتب وحدها بغير أن نعلمهم وظيفة أخرى، وذلك كما يحدث في ظل الحكومة الملكية مع من يسمون بالباحثين، لأن هؤلاء سيستغلون الفراغ الذي يعيشون فيه ويكدون عقولهم المدربة عليه، في قضاء وقتهم في التحايل لكي يصبحوا لوردات وسادة على إخوتهم المجدين، وذلك على نحو ما يفعل سيمون وليفي، مما يتسبب في كل متاعب العالم.
ولكي نتلافى المخاطر الناجمة عن بطالة الباحثين، فإن العقل وضمان السلام المشترك يقتضيان أن نهيئ للأطفال - بعد أن يشبوا في المدراس وتنضج عقولهم - تعلم الحرب والفنون والعلوم التي تلائم قدراتهم الجسدية والعقلية، والاستمرار في ذلك حتى يبلغوا سن الأربعين.
لقد رأينا كيف ألغى ونستنلي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، ولكنه على خلاف مور وكامبانيلا وأندريا، أبقى على ملكية «السلع الاستهلاكية».
وإذا أراد أي شخص آخر أن يأخذ منه منزله وأثاثه، وطعامه وزوجته أو أطفاله، قائلا إن كل شيء مشترك، وخرق بذلك قانون السلام، فإن مثل هذا الشخص يعتبر آثما، وعليه أن يتحمل العقاب الذي حددته الحكومة والقوانين.
فعلى الرغم من أن المخازن العامة جزء من المال العام، فإن السكن الخاص ليس من الأملاك العامة للدولة، ومهمة قوانين الكومنولث هي حماية سلام الإنسان في شخصه، وسكنه الخاص من الفظاظة والجهل اللذين يمكن أن يصيبا الإنسان.
ومع ذلك فليس في مجتمع ونستنلي المثالي نقود ولا أجور، وكل إنسان يعطي حسب مجهوده ويأخذ حسب احتياجاته. وفي نهاية «قانون الحرية» نجده يرجع لتنظيم مجتمع بلا نقود، ويشرح أسلوب الحياة فيه كما يلي: «تزرع الأرض وتجمع الثمار ويتم نقلها إلى المخازن بمساعدة كل أسرة. وإذا أراد أي إنسان أو أي أسرة الحصول على ذرة أو أي مؤن أخرى، فيمكنهم الذهاب إلى المخازن وأخذها دون نقود. وإذا أرادوا حصانا للركوب، يذهبون إلى الحقول صيفا، أو إلى الإصطبلات العامة شتاء، ويتسلمونه من الحراس، وعندما تنتهي الرحلة التي قاموا بها، يرجعونه إلى المكان الذي أخذوه منه، وذلك دون نقود. وإذا أرادوا طعاما أو مؤنا، فإما أن يذهبوا إلى محلات القصابين ويتسلموا ما يشاءون دون نقود؛ وإما إلى قطعان الأغنام أو الماشية، فيذبحوا ويأخذوا ما يحتاجون إليه من اللحوم لعائلاتهم دون بيع أو شراء.»
ويحلل ونستنلي في الفصل الأخير من «قانون الحرية» طبيعة القوانين، محاولا أن يوضح الفرق بين الأعراف، والتقاليد، والقوانين المكتوبة، وبين القوانين غير المكتوبة التي تنبع من «النور الداخلي للعقل»: «إن القوانين الملكية القديمة التي كانت صالحة في عصور العبودية لا يمكن أن تصلح أيضا لعصور الحرية.» ثم يستعين بنزعته الواقعية فيشبه تلك القوانين «بالضباط العجائز الذين يغيرون أسماءهم ثم يتابعون حياتهم وكأن شيئا لم يتغير». ولهذا يؤكد أن قانون الكومنولث الحقيقي يجب أن يكون «اتفاق سلام لكل الجنس البشري». إنه قانون يحرر «الأرض للجميع ويؤلف بين اليهود والأمميين في أخوة واحدة لا تستثني أحدا. وهو يعيد ثوب المسيح سليما كما كان ويجعل ممالك الأرض مرة أخرى مجتمعات كومنولث. وهو كذلك القوة الباطنة للفهم الصحيح، الذي هو القانون الحق الذي يعلم الناس بالفعل، كما يعلمهم بالكلمات، أن يعاملوا غيرهم بما يحبون أن يعاملوهم به.»
أما قوانين الكومنولث المكتوبة، فيجب أن تكون «قليلة ومختصرة وأن تعاد قراءتها أكثر من مرة ... وكل من يعرف متى كانت نافعة ومتى كانت ضارة، سيمكنه أن يتخذ جانب الحذر الشديد من كلماتها وأفعالها، وبهذا يستغني عن المحامين.» ومن العجيب حقا، على ضوء العبارة الأخيرة، أن نجد ونستنلي يختم وصف «كومنولثه» المثالي بقائمة من اثنين وستين قانونا، لا يختلف معظمها كثيرا عن قانون الملوك التقليدي الذي يقتل الحرية الحقيقية. والظاهر أن ونستنلي يقدم هذه القوانين على سبيل المحاولة، لأنه يمهد لها بهذه الكلمات: «قد تكون هذه هي القوانين الخاصة، أو المنهج القانوني، الذي يمكن أن يحكم به الكومنولث». ومن الأمور المخيبة للأمل، على كل حال، أن نجد ونستنلي، شأنه شأن العديد من الكتاب اليوتوبيين، لا يلتزم كثيرا آراءه النظرية عندما يبدأ في وضعها موضع التطبيق. والغريب أن الكاتب الذي سبق له أن قال في «قانون الاستقامة»: «كل من يقول إنه يستطيع أن يهب الحياة، فهو يستطيع أيضا أن يسلب الحياة. ولما كانت قوة الحياة والموت في يد الخالق وحده، فإن أي إنسان يسلب إنسانا مثله من حياته، باسم أي قانون كان، يرتكب بكل تأكيد جريمة قتل ضد الخليقة.» هذا الكاتب نفسه هو الذي سمح بحرية توقيع عقوبة الموت. وها هو ذا يقدم بعض وصاياه، وكأن في يده سلطة «إعطاء الحياة»: «لا يجوز أن يستغل أحد القانون للتوصل إلى مال أو مكافأة. ومن يفعل ذلك فسيعاقب بالموت باعتباره خائنا للكومنولث، فعندما يباع العدل ويشترى بالمال، فلا يمكن أن نتوقع إلا الظلم والقهر.» «ومن يزعم أنه يعيش لخدمة الإله الحق بالوعظ والصلاة، ثم يتاجر أو يعقد صفقة للاستيلاء على الأرض، فلا بد أن يعاقب بالموت باعتباره ساحرا وغشاشا.» والواقع أن مفهوم ونستنلي عن العدل مفهوم بربري بشكل كامل: «ومن يضرب جاره سيضربه الجلاد ضربة بضربة، وسيفقد عينا بعين، وسنا بسن، وعضوا بعضو، وحياة بحياة، والحكمة من وراء ذلك هي أن يتعلم الناس الرفق في التعامل مع أجساد بعضهم البعض، وأن يعاملوا غيرهم بما يحبون أن يعاملوهم به.»
وهو يوصي بأن تفرض العبودية، كما رأينا في يوتوبيا مور، كعقاب على الجرائم التي تكون أخف من الجرائم السابقة الذكر: «كل من يخالف القوانين للمرة الأولى يتم توبيخه في جلسة خاصة أو عامة، كما بينا من قبل، وفي المرة الثانية يجلد بالسوط، أما في المرة الثالثة فيفقد حريته، إما لفترة زمنية محدودة أو للأبد، كما يحرم عليه أن يشغل أي وظيفة.»
ومن فقد حريته يصبح خادما لأي رجل حر، ويذهب إلى «فارضي المهام» ويطلب خادما للقيام بأي عمل خاص به، وعندما يلحقه هذا الرجل الحر بعمله بعد موافقة فارضي المهام، يحظر على أي رجل حر آخر أن يطلبه للعمل عنده إلا بعد أن ينتهي من عمله السابق.
وإذا سب أحد هؤلاء المذنبين القوانين بالكلام، يتم جلده وتقدم له وجبة غذائية رديئة. وإذا شهروا السلاح ضد القوانين يعاقبون بالموت باعتبارهم خونة.
وعندما يقدم العبيد دليلا واضحا على تواضعهم واجتهادهم وامتثالهم لقوانين الكومنولث، فإن بإمكانهم في هذه الحالة استرداد حريتهم بعد انتهاء مدة العبودية التي حكم بها القاضي عليهم. أما إذا استمروا في معارضتهم للقوانين، فإنهم يبقون عبيدا لفترة زمنية أخرى.
وكان ونستنلي مدافعا صلبا عن الأسرة، وقد هاجم أولئك الذين يعتقدون «بجهلهم الوحشي الذي لا يتصوره عقل، أنه يجب أن يجمع كل الرجال والنساء بغرض الجماع وبذلك يعيشون عيشة البهائم.» ولو نظرنا إلى «الكومنولث الحر» لوجدنا أن كل أسرة «ستعيش مستقلة، كما هي الحال الآن، وسيستمتع كل رجل بزوجته، وكل امرأة بزوجها، كما يفعلون الآن.» أضف إلى هذا أن قوانين الزواج بسيطة إلى أقصى حد. وعلى الرغم من أن الاغتصاب، في بعض الحالات، يعاقب عليه بالموت، إلا أن الزنا لا يعد جريمة: «سيكون لكل رجل وامرأة حرية الزواج بمن يحبه كل منهما، وذلك إذا استطاع أن يكسب حب الشريك الذي يريد أن يقترن به. ولن يعوق الأصل ولا الإرث ولا الثروة هذا الزواج، لأننا جميعا من دم واحد هو دم الإنسان. أما عن نصيب كل منهما من الثروة العامة، فإن المخازن العامة من نصيب كل رجل وكل فتاة ، وهي مفتوحة الأبواب لكل منهما على السواء.
إذا عاشر رجل فتاة وأنجب منها طفلا، فعليه أن يتزوجها.
وإذا ضاجع رجل امرأة بالقوة، وصرخت المرأة ولم تجد استجابة، ثم ثبت هذا عن طريق اثنين من الشهود، أو باعتراف الرجل، يحكم عليه بالموت، ويخلى سبيل المرأة، لأن فعله هذا يعد من قبيل سرقة الحرية الجسدية للمرأة.
وإذا حاول رجل اختطاف زوجة رجل آخر بالقوة، فإن هذه المحاولة العنيفة يعاقب عليها للمرة الأولى بتوبيخ صانع السلام له أمام الجمهور، وفي المرة الثانية يحكم عليه بأن يكون خادما تحت تصرف فارض المهام لمدة عام كامل، أما إذا ضاجع زوجة رجل آخر بالقوة، وصرخت المرأة كما تفعل الفتاة التي يتم اغتصابها بالقوة، فيحكم عليه بالموت.
وإذا اتفق رجل وامرأة على العيش معا كزوجين، فإنهما يبلغان رغبتهما لجميع المراقبين في دائرتهما، ولبعض الجيران أيضا. وفي الاجتماع الذي يضمهم جميعا، يعلن الرجل أمام الجميع أنه اختار هذه المرأة لتكون زوجته، وتعلن المرأة نفس الشيء، ويشهد المراقبون على الزواج.»
إذا كان ونستنلي قد كشف في تخطيطه لقوانين الكومنولث المثالي عن روح تسلطية يشترك فيها معظم اليوتوبيين، فإنه من جهة أخرى متحرر تماما من النزعة القومية التي تميز العديد منهم. ولا يقتصر الأمر على امتناع «الكومنولث» عن شن الحروب العدوانية، بل يبدو كذلك أنه آمن بأن الأمم الأخرى في العالم سوف تسارع بالاقتداء بمجتمعه المثالي، وأن البشرية كلها ستعيش في سلام: «سيزدهر السلام والوفرة في تلك الأمة التي ستقوم فيها حكومة الكومنولث، وستهرع إليها كل أمم لرؤية جمالها، وتعلم أساليبها ونظمها. وستنطلق كلمة القانون من جبل صهيون، وكلمة الرب من أورشليم التي ستحكم الأرض جميعا» (ميخا، الإصحاح الرابع: 1-2).
لن يكون هناك ملوك طغاة، ولا إقطاعيون، ولا كهنة جشعون،
7
ولا محامون ظالمون، ولا ملاك أراض قساة القلوب، ولا أي شيء من هذا القبيل في كل هذا الجبل المقدس للرب غير الاستقامة والسلام؛ لأن القانون العادل سيكون هو القاعدة التي يهتدي بها كل إنسان، وسيكون هو القاضي الذي يحكم على كل أعمال البشر.
ومعنى هذا أن العالم بأجمعه سيصبح أسرة واحدة ضخمة: «هذا الحكم الصحيح للحكومة الصحيحة، إذا روعي بالطريقة التي وصفناها، سيجعل البلاد كلها، بل الأرض بأسرها، أسرة واحدة للجنس البشري، وكومنولث واحدا تحكمه حكومة صالحة، تماما كما سميت إسرائيل ببيت إسرائيل الواحد، على الرغم من أنها كانت تتألف من العديد من القبائل والأسر والعشائر.»
وأخيرا فإن «قانون الحرية» يمثل نهاية نشاط ونستنلي الأدبي والسياسي الذي كان نشاطا مكثفا على الرغم من قصر عمره. ولا بد أنه استقبل استقبالا ناجحا عند صدوره ، لأنه طبع طبعة ثانية بعد ظهوره بقليل، كما اعتدي عليه بالانتحال أو السرقة كما حدث مع معظم كتبه الأخرى. ولكن رسالة ونستنلي فقدت معناها بعد رجوع الملكية والاستعباد النهائي للطبقة العاملة الإنجليزية، كما تجاهل كتبه المؤرخون والمفكرون الاجتماعيون على حد سواء. وكان لا بد من الانتظار إلى أوائل هذا القرن حتى تظهر دراسة شاملة لكتاباته ونشاطه المتعدد الجوانب، وهي الدراسة التي قام بها ل. ه. بيرنز
L. H. Berns
بعنوان «حركة الحفارين في أيام الكومنولث». ثم ظهرت بعد هذه الدراسة مختارات من أعماله في إنجلترا، كما صدرت الطبعة الكاملة في أمريكا وقد احتج «بيرنز» على التجاهل الذي عانى منه ونستنلي وما يزال مستمرا إلى اليوم بقوله: إن القراءة المتأنية «لقانون الحرية» قد أقنعتنا، كما قوت بحوثنا التالية هذا الاقتناع، بأن ونستنلي كان، بحق، واحدا من أشجع المبشرين الفلسفيين بالعدالة الاجتماعية الذين أهدتهم إنجلترا للعالم وأبعدهم نظرا. ومع ذلك فكم تبتعد الشهرة عن العدل والإنصاف في توزيع حظوظها! لقد ضمنت «يوتوبيا» مور لمؤلفها شهرة عالمية واسعة، فالجميع يتحدثون عنها، حتى ولو لم يقرأوها، في كل بلاد العالم المتمدن. أما يوتوبيا ونستنلي فهي غير معروفة لأبناء وطنه.
هوامش
الفصل الرابع
يوتوبيات عصر التنوير
إذا كانت يوتوبيات الثورة الإنجليزية قد عنيت بالمشكلات الاقتصادية والسياسية، فقد اهتمت يوتوبيات النصف الأخير من القرن الرابع عشر والقرن الثامن عشر، بصورة أساسية، بالقضايا الفلسفية والدينية، واتخذ الأدب اليوتوبي في فرنسا بصفة خاصة معظم أشكاله المتنوعة والأصلية كان لغياب الحرية العقلية تحت سطوة الحكم الملكي المطلق أثره في الكتاب، مما اضطرهم إلى إخفاء آرائهم في شكل روايات خيالية. ولا تدعي أكثر هذه اليوتوبيات أنها مشروعات كاملة لمجتمعات مثالية، لأن التنظيم الاجتماعي فيها لا يعدو أن يكون مجرد تخطيط أولي يمثل الإطار العام لمناقشة آراء حاسمة لا تقبل المهادنة.
كانت التأثيرات الثورية لعصر النهضة والإصلاح الديني قد وجهت انتباه الناس إلى مشكلات الإصلاح الاجتماعي، ولكن مع تدعيم الدول القومية، بروتستانية كانت أو كاثوليكية، أصبح الكلام عن الإصلاح الاجتماعي مضيعة للوقت.
ومع ذلك فقد كان هناك غرض معين من وراء اللجوء إلى بلاد خيالية، أو حتى أحد الكواكب، وهو فضح العادات والحكومات والسخرية منها. وأول من ابتدع الرحلات الخيالية الساخرة في فرنسا هو سيرانو دو برجيراك
Cyrano De Bergerac (1619-1655م) الذي نشرت أهم أعماله بين عامي 1657م و1662م، وتضمنت هجوما عنيفا على الدين وعلى الكاثوليكية بوجه خاص، باعتبار أنهما هما السند الأساسي للحكم الملكي. وبعد ذلك بحوالي سبعين عاما استخدم سويفت
Swift
1 (1667-1745م) صيغة مشابهة لنقد مجتمع عصره، وتمت محاكاته بدوره في فرنسا، حيث ترجمت رائعته «رحلات جليفر» بعد ظهورها مباشرة.
ومع أن هذه الأعمال النقدية الساخرة يمكن أن تغرينا إغراء شديدا بالحديث عنها، فلن نستطيع أن نتعرض لها في هذا الكتاب؛ لأنها تمثل الضد المقابل للمجتمعات «المثالية». صحيح أننا يمكن أن نجد في بعض الأحيان وصفا موجزا للمجتمع المثالي الذي يتصوره المؤلف، كما هو الحال في رحلة سويفت إلى بلاد «الهوهنهمز»
Houyhn Hnms ، ولكن الهدف الأساسي من مثل هذه الأوصاف هو إضافة صورة حية على غباء وغدر العالم الواقعي الذي عاش فيه الكاتب.
تأثرت اليوتوبيات الفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر تأثرا شديدا بتوماس مور. فقد نقلت المؤسسات والتنظيمات التي نجدها في يوتوبياه ووضعتها في إطار جديد مع بعض التغييرات الطفيفة، وإن كانت المناقشات الجريئة للأفكار الفلسفية والدينية قد احتلت مساحة أكبر.
ولعل أسخف اليوتوبيات الفرنسية بغير منازع هي «تاريخ مملكة أنتانجيل العظيمة والمثيرة للإعجاب»
Histoire Du Grand Et Admirable Royaume D’Antangil
التي نشرت عام 1617م ووصفت بأنها أول يوتوبيا فرنسية. وقد استعار المؤلف - الذي ما زال اسمه مجهولا حتى اليوم - كل أفكاره من مور، كما تناول مثله موضوع الدين تناولا حرا. ولا بد أنه كان رجلا عسكريا، إذ خصص خمسة عشر فصلا من كتابه لتنظيم قوات الشرطة ...
كذلك تأثر كتاب دينيس فيراس
Denis Veiras «تاريخ السيفاريين
Sevarites »، الذي ظهر المجلدان الأولان منه باللغة الإنجليزية عام 1675م، ثم نشرت المجلدات الخمسة الباقية باللغة الفرنسية في باريس من 1677م إلى 1679م، تأثرا كبيرا بيوتوبيا مور، وإن كان قد تميز ببعض الأفكار الفلسفية الجريئة وبالهجوم العنيف على الدين. ودنيس فيراس ولد لعائلة بروتستانتية، وبعد أن درس القانون وبدد الثروة التي ورثها عن أبيه، ذهب إلى لندن، حيث يبدو أنه حقق بعض النجاح في المجتمع الإنجليزي وأرسل مع باكنجهام
Bucking Ham
وآرلنجتون
Arlington
وهاليفاكس
Halifax
في مهمة دبلوماسية إلى الهاج
Hague . وعلى أثر عودته إلى لندن كتب الجزء الأول من تاريخ السيفاريين، ويحتمل أن يكون قد كتبه بالإنجليزية التي يبدو أنه كان متمكنا منها.
2
ويبدو أيضا أنه أجبر على مغادرة لندن قبل ظهور كتابه بعام واحد، موصوما بالعار الذي لحق باكنجهام وآرلنجتون، ورجع إلى باريس حيث أكمل «تاريخ السيفارامب»
Histoire Des Sevarambes ، وظهرت المجلدات الأربع الأولى بتصريح خاص من الملك، بينما نشر المجلد الأخير، الذي تضمن أقوى هجوم على الدين، بغير إذن السلطات الرسمية.
وكانت اليوتوبيا التي كتبها كلود جيلبير
Claude Gilbert ، وهو أحد المحامين في مدينة ديجون، أقل حظا من سابقتها. فقد تم طبع «تاريخ كاليجافا»
Histoire De Calejava (أو جزيرة العقلاء) عام 1700م، وقبل أن تباع منها نسخة واحدة دمر المؤلف الطبعة بأكملها خوفا من تقديمه للمحاكمة، باستثناء نسخة واحدة احتفظ بها لنفسه. وترجع أهمية كلود جيلبير، مثل يوتوبيا فيراس، إلى آرائه حول الدين.
والواقع أن اليوتوبيات المذكورة لها دلالتها من وجهة نظر اجتماعية ودينية، وبخاصة إذا تذكرنا نظام الحكم الذي كتبت في ظله، ولكنها في مجملها تبالغ في تقليد يوتوبيا مور إلى الحد الذي يمنعنا من اقتباس شيء منها في هذا الفصل. والاستثناء الوحيد هو يوتوبيا جابرييل دي فوانيي (ولد حوالي سنة 1630م ومات سنة 1691م) عن ذلك البلد المثالي الذي صوره في أستراليا، وأظهر فيه من الأصالة والجرأة ما جعله يفوق معاصريه.
وعلى الرغم من حرص كتاب اليوتوبيا في هذه الفترة على تغطية آرائهم برداء الروايات الخيالية، فقد اضطروا لحماية أنفسهم من المحاكمة إلى أن يطبعوا كتبهم في الخارج أو ينتحلوا لها أسماء مستعارة. والواقع أنها تنتمي للأدبيات السرية في ذلك العهد، كما أن انحدار مؤلفيها من أصول بروتستانتية قد جعلهم أكثر تعرضا للاشتباه فيهم. وحتى رواية تليماك
Télemaqaue
الشهيرة لفينيلون
Fénelon
3
التي نشرت في عام 1699م واعتبرت من فئة الروايات التي تستحق الاحترام، لأن رئيس الأساقفة هو الذي وضعها لتهذيب ولي عهد فرنسا، قد انتهت بالإساءة إلى سمعة مؤلفها. ويحتمل ألا يكون لويس الرابع عشر قد اعترض على ما جاء فيها من وصف للبلاد الرعوية مثل لابيتيك
La Bétique
وسالانت
Salente ، حيث يحيا الناس حياة تتسم بالنشاط والانضباط، وحيث يتحول الذهب إلى محاريث وتختفي الحروب، ولكن النقد المستتر لنظامه حكمه لم يكن من الممكن أن يجعله يتخذ موقف الحياد. وقد انتقد فينيلون لويس الرابع عشر لنفس الأسباب تقريبا التي جعلت مور ينتقد هنري الثامن، ولعله بالحرب، وعشقه للترف، وإهماله للزراعة إهمالا جعل الفلاحين يعيشون في فقر مدقع، في الوقت الذي كانت فيه الأرض هي المصدر الأساسي لثروة الأمة.
ازدادت اليوتوبيات رواجا طوال الثامن عشر، بحيث يصعب أن نجد ركنا من أركان الأرض لم ينشأ فوقه مجتمع مثالي. فالبارون لو لاهونتان
Le Lahontan
أخذنا إلى أمريكا الشمالية ورحلات ومغامرات فرانسوا ليجوا
F. Leguat
لجزر الهند الشرقية، وتيسو دو باتو
Tyssot De Patot ، مدرس الرياضيات المتحررة من مدرسة دافنتيه
Daventer
الشهيرة، يصف مغامرات «الأب المبجل كورد لييه
Cordelier » في جرين لاند. وتنتقل بنا هذه الروايات أيضا إلى جزيرة النساء المحاربات أو إلى مصر. ولكن أستراليا، بطبيعة الحال، تظل محتفظة بشعبيتها القوية (والمجتمعات المختلفة التي يفترض وجودها في أستراليا يمكن أن تملأ قائمة طويلة) والمذكرات التي نشرها جاد ينشو دي لوكا
Gauden Cio Di Lucca
في عام 1746م، يفترض أنها تقرير مقدم لآباء محاكم التفتيش في بولونيا الذين اعتقلوه، عن رحلاته لأرض مجهولة تقع في وسط الصحراء الأفريقية. وعندما يضيق العالم المأهول بالعدد المتزايد من اليوتوبيات، يتخيل الكتاب مجتمعات مثالية في عالم آخر، أو في المستقبل، وذلك مثل يوتوبيا مرسييه
L. S. Mercier .
وهناك أيضا نوع كامل من الأدب الذي يشترك مع اليوتوبيات في سمات عديدة، ولكنه يصور أسرا نموذجية أو مجتمعات مثالية صغيرة أكثر مما يصور مجتمعات كاملة، وقد استلهم هذا الأدب من قصة روبنسون كروزو. وبينما قدم مؤلفا دانييل ديفو
D. Defoe (1660-1731م) يوتوبيا من رجل واحد، تخيل الكتاب الذين قلدوه، وزاد طموحهم عليه، يوتوبيا من رجل وامرأة، أو من طاقم سفينة تحطمت على صخور جزيرة مهجورة، وأسسوا أسرة أو جماعة مثالية محاولين بهذه الطريقة إعادة بناء أصل المجتمع البشري وتكوينه. والجزيرة المجهولة
L’isle Inconnue
تنتمي لهذا النوع من الروايات. فقد قدم المؤلف في هذا العمل، كما يؤكد الناشر، «نموذج الحب البريء، ونموذج الحب الزوجي، ونموذج الحكومة الصالحة، ونموذج التربية الكاملة، ونموذج الأخلاق الحميدة، ونموذج التجمع الزراعي، ونموذج المجتمع المهذب».
وإذا كان العديد من يوتوبيات القرن الثامن عشر قد ازدحم «بالمتوحشين النبلاء» الذين وصفهم وصفا أسطوريا خالصا، كل من جان جاك روسو (1712-1778م) وبرناردان دوسان بيير
Bernardin De St. Pierre
4 (1737-1814م)، فإن عددا آخر من اليوتوبيات قد حاول اكتشاف المتوحشين الحقيقيين في بلدان لم تمسسها الحضارة ... وإذا كان اليوتوبيون في خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر قد جعلوا من قارتي أمريكا وأستراليا - اللتين عرفتا آنذاك معرفة غامضة - مجرد إطار وضعت فيه لندن أو باريس، فقد بدأت بلاد هاتين القارتين تتخذ في القرن الثامن عشر حياة قائمة بذاتها، وتجسدت عادات الشعوب التي اكتشفها الرحالة والمبشرون في الإطار اليوتوبي. أضف إلى هذا أن اليوتوبيات التي حاولت أن تصور مجتمعا تحكمه المساواة الكاملة، قد أصبح الكثير منها الآن يهتم ببناء مجتمع حر. فسكان تاهيتي الذين صورهم ديدرو، على سبيل المثال، لا يعرفون حكومة ولا قوانين. ولقد حققت اليوتوبيات السابقة الاكتفاء في المأكل والملبس، وزودت بمنازل مريحة وتعليم جيد، ولكنها تطلبت في المقابل أن يخضع الفرد خضوعا كاملا للدولة وقوانينها، أما الآن فقد راحت اليوتوبيا تبحث قبل كل شيء عن التحرر من القوانين والحكومات.
سعى القرن الثامن عشر إلى تحقيق قدر أكبر من الحرية، وبخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الجنسية. وقد اهتم اليوتوبيون دائما منذ عهد أفلاطون بالمسائل الجنسية، ولكن اهتمامهم كان محصورا في تحسين النسل أو في النظر إليه نظرة أخلاقية، ولذلك وضعوا قوانين مشددة تخضع الزيجات لمصالح الدولة أو الدين. وقد اهتم كذلك الفلاسفة الفرنسيون في القرن الثامن عشر اهتماما قويا بالمسائل المتعلقة بالجنس، ولكنهم كانوا بعيدين كل البعد عن النظر إليه بوصفه وسيلة للتناسل، لقد كان بالنسبة لهم شيئا يمكن الاستمتاع به لذاته وسخطوا سخطا شديدا على القيود التي فرضتها عليهم الأخلاق الدينية. وكما حاولوا التحرر من كل إلزام ديني، فقد أرادوا كذلك تدمير كل القواعد الأخلاقية المنظمة للعلاقة الجنسية. وعبر هذا التمرد عن نفسه إلى حد ما في القصائد والروايات «الشبقية» التي لم يجد أكثرهم في كتابتها شيئا ينقص من قدرهم.
وسوف نرى عند الحديث عن ديدرو (1713-1784م) أن الإنسان البدائي في رأيه كان متحررا من القوانين الدينية والأخلاقية، وأنه عاش حياة سعيدة لم تعرف الترف، ولا الملكية، ولا التقيد بزوجة واحدة. وربما لا يوجد كاتب في القرن الثامن عشر يفوق الماركيز دي صاد
De Sade (1740-1814م) في تعبيره الواضح، عن استحالة التوفيق بين الدين والقواعد الأخلاقية وبين الحرية. فقد قدم في كتابه «فلسفة في المخدع» المبادئ التي ينبغي أن توجه المواطنين في دولة حرة. وبينما حاول العديد من اليوتوبيات التوفيق بين الأفكار المتعلقة بالمساواة وبين الإيمان المسيحي، آمن «صاد» بأنه لا يمكن أن تقوم للمساواة قائمة ما لم يتخلص الشعب من نير الدين، وناشد الفرنسيين تحرير أنفسهم بأنفسهم: «آه! إن الفأس في أيديكم، فوجهوا الضربة النهائية لشجرة الخرافة، لا تقنعوا ببتر الفروع، بل استأصلوا العشب الذي استفحلت أضراره المعدية، كونوا عل وعي مطلق بأن نظام الحرية والمساواة (الذي تسعون لتحقيقه) يتناقض تناقضا صريحا مع المهيمنين على مذابح الكنيسة، فليس فيهم فرد واحد يؤمن به (أي بنظام الحرية والمساواة) إيمانا صادقا، ولا فرد واحد لا يتورع عن إسقاطه لو تمكن من السيطرة على ضمير الشعب ... بادروا إذن بالقضاء قضاء أبديا على ما يمكن أن يدمر جهدكم ... وما دامت ثمرة جهودكم ستحفظ لذريتكم وحدها، فتأكدوا أن واجبكم وضمان بقائكم يفرضان عليكم ألا تتركوهم يسممونهما بتلك الجراثيم الخطيرة، التي يمكن أن تهوي بهما في ظلمات الفوضى التي نجونا منها بشق الأنفس.
إن تحيزاتنا السابقة قد بدأت تتلاشى، وأدعياء الإيمان الذين هجروا المأدبة الرسولية، يتركون الخبز المقدس لتأكله الفئران. أيها الفرنسيون، لا تتوقفوا عند هذا الحد، فأوروبا بأكملها تنتظر منكم أن تمزقوا العصابة المربوطة على عينيها، أسرعوا، لا تسمحوا لروما المقدسة - التي تبذل محاولاتها المحمومة لتعويق جهودكم - باستبقاء القلة التي دخلت في عقيدتها. اضربوا بلا رحمة رأسها المتغطرس المترنح، ولن يمر شهران حتى تلقي شجرة الحرية بظلالها على حطام كرسي القديس بطرس، وتغطي أغصانها المنتصرة كل هذه الأوثان المسيحية البائسة، التي أقيمت بوقاحة فوق رماد رجال من أمثال كاتو وبروتوس.»
لقد كتب هذا النداء الموجه للفرنسيين في عام 1795م بعد انهيار نظام الحكم القديم، ولكن الأفكار التي اعتمد عليها ذلك النظام ظلت قائمة. ورأى «صاد» بوضوح أنه لا يكفي أن يتغير شكل الحكومة لتحقيق الحرية، وإنما يجب التخلي أيضا عن تلك الأفكار القديمة: «أيها الفرنسيون، إنكم ستوجهون الضربات الأولى، وسوف يتكفل تعليمكم القومي بالباقي، ولكن عليكم أن تؤدوا هذه المهمة على الفور؛ دعوها تصبح أحد اهتماماتكم الرئيسية، وأقيموها قبل كل شيء على الأخلاق الأساسية التي أهملها التعليم الديني ...»
5
وبينما ذهب معظم اليوتوبيين إلى أن المهمة الوحيدة للزواج هي التناسل والإنجاب، وفقا لما يقضي به قانون الطبيعة، فإن «صاد» يرى أن إشباع الحب الجسدي فعل طبيعي لا يجوز أن يتقيد بطقوس الزواج وأحكامه المسبقة.
6
وتتطلب الحكومة الجديدة، كما يقول صاد، عادات جديدة، لأن «من المستحيل على دولة حرة أن تتصرف كالعبد بين يدي ملك مستبد ... فالكم الفظيع من الأخطاء التافهة والجرائم الاجتماعية الصغيرة - التي كان ينظر إليها نظرة اهتمام شديد في ظل حكم الملوك - لن يكون له أي معنى، وستختفي الجرائم البشعة الأخرى ، كقتل الملوك وانتهاك حرمة المقدسات، في ظل حكومة لم تعد تعرف الملوك ولا الدين، أي في ظل دولة جمهورية ...»
ويستطرد «صاد» قائلا إن القوانين غير إنسانية لأنها لا تفهم البواعث التي تدفع البشر إلى إتيان أفعالهم؛ ولذلك يجب أن تكون «رحيمة» بقدر الإمكان، كما أن الدستور الذي سيضعه ستختفي منه عقوبة الإعدام: «إنني أشعر، نتيجة لهذا، بضرورة إيجاد قوانين رحيمة، وقبل كل شيء بضرورة القضاء قضاء أبديا على وحشية عقوبة الإعدام؛ ذلك لأن القانون، الذي يكون غير إنساني مع نفسه، لا يمكنه أن يحس بالانفعالات التي تدفع امرأ على ارتكاب جريمة القتل القاسية. إن الإنسان يتلقى من الطبيعة الانطباعات التي تجعله يغفر للقاتل ذلك الفعل الإجرامي، أما القانون الذي هو دائما ضد الطبيعة ولا يدين لها بشيء، فلا يجوز أن يسمح لنفسه بالدوافع ذاتها، ولا يمكن أيضا أن تكون له نفس الحقوق ... والسبب الثاني الذي يحتم ضرورة إلغاء عقوبة الإعدام، هو أنها لم تستطع أبدا أن تقضي على الجريمة، لأنها لا تزال ترتكب كل يوم تحت المشنقة. وباختصار، ينبغي إلغاء هذه العقوبة، لأنه لا يوجد حساب أسوأ من ذلك الذي يحكم على إنسان بالموت لأنه قتل إنسانا آخر، فالنتيجة الواضحة التي تترتب على هذا الإجراء هي أنه بدلا من أن نخسر إنسانا واحدا سنخسر اثنين، ولا شك في أن الجلادين والبلهاء بالوراثة هم وحدهم الذين يمكنهم أن يؤيدوا هذا النوع من الحساب.»
بينما خرجت كتابات فوانيي وديدرو وصاد على التراث اليوتوبي التقليدي بإضفائها أهمية كبرى على حرية الفرد، فقد أراد كل من مابلي
Mably
7
ومورللي
Morelly ،
8
أن يقيما المساواة بين البشر التي أسستها الطبيعة نفسها، كما يؤكدان ذلك، وأن يضعا مجموعة من القوانين والتنظيمات الصارمة التي تهدف إلى جعل البشر متساوين بحق. وقد هاجما الملكية باعتبارها أصل كل الشرور ومصدر تعاسة الجنس البشري، كما أرادا أن تكون الدولة هي مالكة كل شيء وأن توزع على المواطنين كل ما يحتاجون إليه. وقد كانت هذه أفكارا مألوفة في القرن الثامن عشر. وهي تفسر الشعبية التي تمتعت بها أعمال مابلي ومورللي (إلى حد أقل من زميله).
وليس هناك إلا القليل من الأصالة في نظريات «الأب جابرييل دوبونود ومابلي»، وهو حقوقي اعتزل الحياة العامة ولما يزل في شبابه، لكي يكرس نفسه للدراسة وكتابة عدد لا يحصى من الكتب. والواقع أن يوتوبياه، كما وصفها في كتابه «بحث عن حقوق وواجبات المواطنين»، تشبه يوتوبيا السير توماس مور شبها كبيرا: «سأكشف لكم عن إحدى نقاط ضعفي. فلم يحدث لي أبدا أن قرأت وصفا في كتاب من كتب الرحلات لجزيرة مهجورة ذات سماء زرقاء ومياه صافية إلا واشتقت للذهاب إلى هناك وإقامة جمهورية يكون الجميع فيها متساوين، والجميع أغنياء، والجميع فقراء ، والجميع أحرارا، ويكون قانوننا الأول هو تحريم الملكية الخاصة. سوف يتعين علينا أن نحضر للمخازن العامة ثمار جهودنا، وستكون هي ثروة الدولة وميراث كل مواطن. وسوف يكون على جميع الآباء في كل عام أن ينتخبوا متعهدين مهمتهم هي توزيع السلع على المواطنين طبقا لاحتياجات كل فرد، وإرشادهم للعمل الذي تتطلبه الجماعة.»
إن الملكية وعدم المساواة وحب الثروة هي كما يؤكد باستمرار لعنات الجنس البشري: «إن عدم المساواة صفة مهينة وتزرع بذور الشقاق والكراهية وتثير الحروب الأممية والأهلية. الملكية هي السبب الرئيسي في تعاسة الجنس البشري ...
وكلما فكرت في الأمر زاد شعوري بالاقتناع بأن عدم المساواة في الحظوظ والظروف يفسد الإنسان ويبدل مشاعر قلبه الطبيعية ...
والثروة تولد الحاجة، التي هي أكثر الرذائل جبنا، أو تولد الترف، الذي يصيب الأغنياء بكل رذائل الفقر، كما يبتلى الفقراء بالجشع الذي لا يشبعونه إلا بارتكاب الجرائم وبأحط أنواع الخسة؛ والانسياق وراء الشهوات التي يثيرها اقتناء الثروات، وهي إذ تضعف أرواح الأغنياء بحيث يصبحون عاجزين عن القيام بأي جهد يتصف بالكرم والأريحية، فإنما تلقي بالناس في البؤس الذي ينتهي بهم إلى الشراسة والغباء.»
وليس صحيحا، كما يؤكد مابلي، أن الملكية الخاصة تخلق الرغبة في العمل؛ فسوف يعمل الناس بشكل أفضل عندما تصبح جميع السلع مشتركة بينهم، لأن هذه «الفكرة الطيبة» هي التي ستدفعهم للإقبال عليه . وسوف تقدم لهم الحوافز على كل حال في صورة أنواع مختلفة من التكريم أو التقدير التي تمنح للعمال.
ويؤمن مابلي، مثل جان جاك روسو، بأن الإنسان كان خيرا عندما نشأ بين أحضان الطبيعة، ثم فسدت مفاتيح أوتاره الإنسانية ونشزت أنغامها. ولكنه لا يعتقد، مثل روسو أيضا، أن من الممكن إلغاء الملكية الخاصة والعودة للعصر الذهبي الذي كانت تسوده المساواة الكاملة. ذلك «أن هذه المشاعية في السلع، كما يقول، لا يمكن - بسبب فساد الأخلاق - إلا أن تكون محض خرافة في هذا العالم ... ومن المستحيل إيجاد مثل هذه الجمهورية في وقتنا الحاضر.» ولهذا يكتفي بتقديم بعض الإصلاحات الهينة التي تتعلق بالميراث، والتجارة، والضرائب ... إلخ. والظاهر أنه اقتنع بأن الثورات لها ما يبررها في بعض الحالات فقد قال: «إن النظر إلى الحرب الأهلية على أنها ظلم في كل الأحوال، يعتبر مذهبا مناقضا» للأخلاق الحميدة للمصلحة العامة.
وقد حاول مابلي، كما فعل العديد من مفكري عصره، أن يوفق بين خيرية الطبيعة البشرية والمساواة الكاملة التي أقامتها الطبيعة، وبين الإعجاب الذي يصل إلى حد العبادة بالحضارة اليونانية القديمة، وبأفلاطون وبلوتارك بصفة خاصة. ولم يدرك هؤلاء الكتاب مدى التناقض الذي وقعوا فيه عندما أقاموا تصوراتهم المثالية على أساس نموذج أسبرطة في عهد ليكورجوس وعلى جمهورية أفلاطون، مع أنهما يمثلان نظامين تأسسا على العبودية وفرضا تراتبية صارمة حتى بين المواطنين.
وكتاب مورللي «قانون الطبيعة أو الروح الحقيقية لقوانينها» الذي ظهر عام 1755م، وهو نفس العام الذي صدر فيه كتاب روسو «أصل وأسس عدم المساواة بين البشر»، يكرر نفس الأفكار الشائعة في هذا العصر. فالإنسان خير بحكم طبيعته الأساسية، ولكن المؤسسات القائمة على الملكية الخاصة هي التي أفسدته. لقد دمر المجتمع انسجام الطبيعة. ولم ينجح أحد في التحقق من شخصية مورللي، ولكن هناك اعتقادا عاما بأنه هو مؤلف قصيدة نثرية بعنوان «لابازيلياد
La Basiliade » ظهرت عام 1753م وعبرت عن أفكار مشابهة. وأيا كانت حقيقة شخصية مورللي، فيكاد يكون من المؤكد أنه اعتبر نفسه «أمين سر الطبيعة»، إذ سجل في أحد الفصول الأخيرة من كتابه «قانون الطبيعة» تفاصيل كثيرة عن دستور مجتمع مثالي قائم على قوانين الطبيعة.
لقد قضت الطبيعة، كما يخبرنا مورللي، بأن تكون الأسرة هي وحدة المجتمع، وأن تكون الحكومة دورية بالتعاقب، وأن تودع البضائع في المخازن العامة وتوزع منها، وأنه ينبغي على كل مواطن أن يعمل بالزراعة من سن العشرين حتى الخامسة والعشرين، وأن يؤخذ الأطفال من البيوت بعد سن الخامسة ليتلقوا تعليما عاما، وأن تفرض القوانين الجنائية الصارمة لضمان إنجاز الواجبات العامة. ولم يكن مورللي هو أول من آمن بالطبيعة الخيرة للإنسان، ولكنه بعد أن أكد أن المشرعين هم الذين أفسدوا الطبيعة الإنسانية، راح هو نفسه يؤسس مجموعة من القوانين التي لا تقل تشددا عن تلك القوانين التي تتحكم في المجتمع الذي سبق له أن هاجمه.
لقد أثر مابلي ومورللي تأثيرا ملحوظا على فكر عصرهما، وإذا صح الرأي الذي يرجح أن روسو هو أنبغ أتباع مابلي، فيكفي مورللي شرفا أن يصفه «بابيف»
9
بأنه هو المحرض الحقيقي على مؤامرة دعاة المساواة، وهكذا نجد أنهما يشغلان مكانة مهمة في تاريخ الفكر الاشتراكي، وإن كانت إضافتهما إلى الفكر أو الأدب اليوتوبي قليلة الحظ من الأصالة والجدة. (1) جبرييل دي فوانيي: «اكتشاف جديد للأرض الأسترالية المجهولة»
ربما لا يكون جبرييل دي فوانيي هو أهم كاتب يوتوبي معبر عن النصف الثاني للقرن السابع عشر، ولكنه يستحق أن نشيد به لأنه كتب يوتوبيا أصيلة وممتعة، كما أن قصة حياته تلقي الضوء على ما يمكن أن يحدث ليوتوبي غير متدين، عندما يعيش وينشر كتابه في مدينة تعتبر مثالية بالنسبة لمسيحي مؤمن. وقد رأينا كيف اتخذت مدينة المسيحيين لأندريا من مدينة كالفن نموذجا لها، وسنرى الآن كيف طرد فوانيي بعد ذلك بخمسين عاما من جنيف، حيث كتب هناك روايته «مغامرات جاك سادير
Les Aventures De Jacques Sadeur »، التي وضعها بغير شك تحت تأثير تلك الروح الشيطانية التي شن عليها كل من كالفن وأندريا حربا ضارية. ولم تكن كتابة فوانيي ليوتوبياه هي «الجريمة» الوحيدة التي ارتكبها، فمن حسن حظه أن مؤسسات جنيف كانت قد اتخذت في ذلك الوقت خطا أكثر ليبرالية، ولولا ذلك لدفع ثمنا أغلى عن سوء سلوكه.
ولد جبرييل دي فوانيي في قرية صغيرة في «الأردين» حوالي عام 1630م، لأسرة كاثوليكية. وبعد أن تلقى قدرا طيبا من التعليم دخل الدير التابع لنظام رهبان كوردلييه حيث رشحته موهبته في الخطابة ليكون واعظا. غير أن سلوكه المخزي سرعان ما أجبره على ترك ذلك النظام وتجريده من ثوب الرهبنة، ولما تعذر عليه العيش في فرنسا، قرر أن يغير بلده وديانته، وذهب عام 1666م إلى جنيف في حالة من الفقر الكامل والتلهف الشديد على السماح له بالإقامة في المدينة. وبعد اختبار إيمانه والتحقق من شخصيته من قبل المجلس الكنسي المكون من الوزراء وكبار السن في المدينة، تمت الموافقة على تحوله إلى الإيمان الحق، وسمح له بالإقامة.
ولم يمر وقت طويل حتى وجدت الصفوة من مواطني جنيف المبررات الكافية للندم على قرارها والتشكك في دوافع تحوله من الكاثوليكية إلى البروتستانتية. فقد تلقى المجلس الكنسي تقارير مختلفة عن سلوكه الفاضح، وبعد أن أغوى عدة خادمات ونكث وعدا بالزواج، وأعلن نيته في الزواج من أرملة سيئة السمعة، تم بالفعل طرده من المدينة.
وتوجه من هناك إلى لوزان ثم إلى برن حيث عاش حياة غير مستقرة، حتى أصبح - بضربة من ضربات الحظ - أحد المعلمين في كلية مورج
Morges . وكان في تلك الأثناء قد تزوج من الأرملة السيئة السمعة. وكان من الممكن أن ينعم بحياة عائلية هادئة لو لم تراوده تلك الفكرة التعسة التي زينت له الكتابة عن «المزايا المغرية للصلاة». وعرض المخطوطة على بعض أصدقائه، ثم تسربت لسبب أو آخر إلى أيدي بعض أعضاء المجلس الذين اشتموا منها رائحة البابوية، فازداد سوء ظنهم بفوانيي، وبدأت محاولات إبعاده عن منصبه، وسرعان ما منحهم فوانيي نفسه الفرصة لذلك، إذ أضاف السكر إلى تصرفاته الأخرى المشينة، وذات يوم أم الصلاة في المعبد وهو «تحت تأثير السكر» وتقيأ ما في جوفه أمام المائدة المخصصة لتناول العشاء الرباني.
وبعد أن أجبر على ترك الكلية ، تمكن من الرجوع إلى جنيف، وأخذ يحاول استرضاء قلوب أعضاء المجلس الكنسي والجماعة المبجلة، بإعادة نشر أدعية مارو
Marot
وبيزي
Beze ، ولكنه أضاف إليها من عنده بعض المناقشات والصلوات التي شعر الأعضاء بأنها تفوح برائحة الوثنية البابوية، ولهذا منع بيع الكتاب وصدرت الأوامر بجمع النسخ كلها ووضعها في المكتبة العامة.
10
ويبدو أن فوانيي قد تخلى بعد هذه التجربة عن كل أمل في أن يصبح مواطنا سويسريا صالحا، وشرع في كتابة «مغامرات جاك سادير في اكتشاف الأرض الأسترالية»، أو كما يقول عنوانها الإنجليزي، «اكتشاف جديد للأرض الأسترالية المجهولة»، التي نشرت عام 1676م. ولم يعلل فوانيي نفسه بأي أوهام عن إمكان الترحيب بالكتاب، ولذلك لم يسع للحصول على تصريح بنشره ، ولم يضع اسمه عليه، مما جعل الناشر في جنيف وهو «لابيير
La Pierre » يختلق اسم ناشر فرنسي خيالي اسمه جاك فيرني من فان
Vannes .
وما إن ظهر الكتاب حتى اهتمت به «الجماعة المبجلة» التي أسسها كالفن، وعهد إليها بحماية الأخلاق في المدينة، وطلبت من أساتذة اللاهوت قراءته وتقديم تقرير عنه. وتولى اثنان من أساتذة أكاديمية جنيف فحص الكتاب، وأبلغا الجماعة المبجلة أنه «مليء بالآراء المتطرفة والأكاذيب، وبأشياء أخرى خطيرة تنم على الضلال والتجديف»، كما اعترضا بصفة خاصة على الفصول التي تتناول عادات الأستراليين ودينهم.
استدعي فوانيي للمثول أمام الجماعة المبجلة، وأنكر أنه هو مؤلف الكتاب. وروى حكاية غير مقنعة عن كيفية وصول المخطوطة إلى يده، وزعم أيضا أنه تسلم تصريحا بنشر الكتاب من موظف حكومي كان قد مات قبل ذلك بأسابيع. وقضت الجماعة ثلاثة شهور في فحص ومناقشة موضوع فوانيي، وتم التحفظ عليه هو وناشره وأودعا السجن. ولما مثل مرة أخرى أمام القضاة اعترف بأنه هو مؤلف الكتاب، والتمس الرأفة بحاله فأفرج عنه بكفالة. واستغل فرصة خروجه من السجن في كسب تأييد عدد من أعضاء المجلس الكنسي والمجلس القضائي، ولكن الأمر بقي معلقا لأجل غير مسمى.
ولم نستطع هنا تناول الفترة الأخيرة من إقامة فوانيي في جنيف والمصائب الجديدة التي ألمت به، على الرغم من أهميتها في التعرف على الحياة الأخلاقية في مدينة جنيف في ذلك الوقت. ويكفي أن نقول إنه رجع في أواخر حياته إلى فرنسا وإلى الكنيسة الكاثوليكية الرومانية ومعه الخادمة (التي كان قد أغواها) وبعض أطفاله الذين لم ينجح سكان جنيف في اختطافهم، وأنه قضى سنواته الأخيرة في أحد الأديرة حيث مات عام 1692م.
وعلى الرغم من أن يوتوبيا جبرييل دي فوانيي تؤثر في النفس أكثر من حياته، فلم يكن من المستغرب أن تصدم علماء اللاهوت في جنيف. والواقع أن آراءه حول الدين لا تخلو من التجديف، لأنه يهاجم كل الأسس التي يقوم عليها. فالأستراليون الذين صورهم لا يؤمنون بمذهب الوحي، لأن من المحال في رأيهم أن يفضل الرب بعض مخلوقاته على غيرهم. وهم يسخرون من الاعتقاد في خلود النفس ويرون أنه غير منطقي، لأنه يسمح للموتى بالسفر إلى العالم الآخر بينما يعجز الأحياء عن ذلك، ومعنى هذا أن الموتى يتمتعون بحرية الحركة أكثر من الأحياء، وهو تناقض. والصلاة، في نظرهم فعل يدل على انعدام التفكير، لأنها تفترض أن الله لا يعرف رغباتنا وهذا تجديف، وإذا آمنا بأنه يعرفها، ولكنه لا يريد لنا أن نشبعها، فنحن غير أتقياء، وإذا تصورنا أنه غير مبال، فقد انتهكنا حرمة المقدسات.
إن الله فوق إدراكنا الضعيف ولا يمكن وصفه بأي أوصاف محددة، والشيء الوحيد الذي يمكننا عمله هو أن نؤكد وجوده. وحتى لو سلمنا بأن معرفة الله ممكنة، فلن يؤدي هذا إلا إلى التفرقة بيننا وجر الشقاء علينا.
إن الأستراليين يؤمنون بالله ولكنهم لا يتكلمون عنه أبدا؛ «فدينهم هو عدم الكلام في الدين». ليس لديهم كهنة، والشعب يجتمع للتأمل وليس للصلاة. وهكذا تجرد الدين عندهم من كل أوصافه ووظائفه المألوفة وأصبح هو التدين الطبيعي
11
الذي انتشر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
ويستبق فوانيي كذلك فلاسفة القرن الثامن عشر بإيمانه بالخيرية المتأصلة في الطبيعة البشرية. فلم يولد الإنسان شريرا كما يقول الدين المسيحي، وإنما ولد حرا وعاقلا وخيرا. وقد وصف بعض النقاد يوتوبيا فوانيي بأنها الجنة قبل السقوط في الخطيئة، ولكن الأقرب إلى الحقيقة هو أنه لم يؤمن بالخطيئة الأصلية التي اعتبرها من اختراع الدين.
لقد ولد هؤلاء الأستراليون خيرين أحرارا، ولهذا فإنهم لا يحتاجون إلى الحكومة ولا إلى الدين. إنهم يلتقون لمناقشة شئون الجماعة ولكن ليس لديهم قوانين مكتوبة ولا حكام. وليس لديهم، بطبيعة الحال، ملكية خاصة، بل إنهم لا يعرفون الفرق بين «أملك» و«تملك». والأسرة لا تهدد وحدة المجتمع، لأنها غير موجودة.
لقد ألغيت العلاقات الجنسية جملة وتفصيلا، وهنا يميل فكر فوانيي إلى الغموض، فالأستراليون أمة من جنس واحد ولا يمارسون الجنس، والأطفال يولدون عندهم بطريقة غامضة ... هل اخترع فوانيي هذا الجنس «غير الجنسي»، كما يفترض «لاشيفر»، ليتحاشى مناقشة آرائه في موضوع يمكن أن يصدم «الجماعة المبجلة»؟ يبدو أن هذا احتمال بعيد، لأنه لا يتورع عن أن «يصدم» القارئ بوصفه لمشاعر جيمس سادير تجاه مواطنيه الأستراليين «غير الجنسين». ربما أراد فوانيي أن ينتقد الموقف المسيحي من الجنس. ولو كان الغرض الوحيد من العلاقات الجنسية هو التناسل، فلماذا لا يلغى الجنس تماما؟ والواقع أن السرية التي يحيط بها الأستراليون عملية التناسل، والفزع الذي ينظرون به إلى العلاقات الجنسية، لا يختلفان عما كان شائعا عند الكلفينيين الذين عاش معهم فوانيي. ومع ذلك فمن الغريب أن نجد عددا كبيرا من اليوتوبيات التي تعتبر مجتمعات لا جنسية. فالحب بين الرجل والمرأة في جمهورية أفلاطون مرتبط بوظيفة تحسين النسل، و«الهويهنمز» لسويف ينظرون إلى العلاقات الجنسية بنفس الفزع الذي ينظر به الأستراليون عند فوانيي، والرجال والنساء من أهالي «العصر الكريستالي» لهدسون
Hudson
لا يحس بعضهم تجاه بعض إلا بالمشاعر الأخوية، أما العالم الطريف الشجاع لأولدس هكسلي فقد حقق نفس اللامبالاة من خلال عملية إشباع معينة.
صدرت الترجمة الإنجليزية ل «مغامرات جيمس سادير» في لندن عام 1693م؛ وظهرت فيها صفحة العنوان على النحو التالي: «الاكتشاف الجديد للأرض الأسترالية المجهولة»
أو «العالم الجنوبي»
بقلم «الفرنسي جيمس سادير»
الذي «تحطمت سفينته وألقى به البحر إلى هناك وعاش خمسة وثلاثين عاما في تلك البلاد»، «وهو يقدم وصفا دقيقا لأخلاق ذلك الشعب الجنوبي وعاداته ودينه وقوانينه ودراساته وحروبه»، مع بعض الحيوانات الخاصة بذلك المكان، بالإضافة إلى: العديد من الأشياء الأخرى النادرة.
كان التصريح بالنشر باسم شارك هرن
Charles Hern ، وطبع بعلامة «الغراب في محطة الدواجن» على نفقة جون دنتون
John Dunton ، الذي كان مشهورا بحيله الأدبية مثل نشر أخبار مجتمع أثيني لم يوجد أبدا. ويحتمل أن يكون هو المسئول عن إضافة العبارة التالية لتزيين صفحة العنوان:
حفظت هذه المذكرات لشدة غرابتها في خزانة
وزير كبير في الدولة، ولم يسبق نشرها منذ وفاته
وقد تمت الترجمة عن الطبعة الفرنسية الثانية التي نشرت بإذن خاص من الملك (أو الجهات المسئولة) عام 1692م، وذلك بعد وفاة فوانيي بعام واحد. وتختلف هذه الطبعة اختلافا ملحوظا عن الطبعة الأولى كما تعد أقصر منها، ولا يعرف إن كان فوانيي هو المسئول عن هذه التغييرات التي طرأت عليها.
وقد أخذت الاقتباسات التي سنقدمها هناك من الطبعة الإنجليزية التي ظهرت عام 1693م، وتم تحديث الشكل وصححت بعض الأخطاء في الترجمة (بعد مراجعتها على الطبعة الفرنسية الأولى لعام 1692م). كما أضيفت فقرات قليلة من الطبعة الأولى ووضعت بين قوسين. وقد كانت الطبعة التي ظهرت بإذن خاص من الملك أفضل بكثير من تلك التي ظهرت في جنيف وعليها اسم ناشر مزيف، وإنصافا لعلماء اللاهوت من أعضاء «الجماعة المبجلة» رأينا الاستشهاد ببعض الفقرات التي صدمتهم صدمة كبيرة.
والجزء الأول من الكتاب يتناول مغامرات «جيمس سادير» في العديد من أرجاء العالم، أما الجزء الثاني فهو مخصص بأكمله لأستراليا. وعندما كتب فوانيي هذا الكتاب كانت القارة الأسترالية هي حديث الناس في ذلك الوقت، والظاهر أنه استوحى فكرته من التقرير الذي قدمه فرديناند دي كيروس
F. D. Quiros
لملك إسبانيا ونشر باللاتينية عام 1612م أو 1613م وبالفرنسية عام 1617م. ويقول فوانيي في مقدمة كتابه إن دي كيروس وصف أستراليا باعتبارها «بلدا أكثر خصوبة وازدحاما بالسكان من أي بلد في أوروبا، وأن سكانها أضخم وأطول من الأوروبيين، وأعمارهم أطول منهم أيضا بكثير».
عاش راوي القصة جيمس سادير طفولة مضطربة، فقد ولد أثناء رحلة بحرية، وتعود في كل مرة يسافر فيها عن طريق البحر أن تحدث له مصيبة كبيرة. وزاد من صعوبة حياته أنه لم يكن ينتمي إلى جنس محدد. ومع ذلك فقد أفادته هذه الصفات المميزة عند وصوله إلى أستراليا، وذلك على نحو ما يبين بنفسه من قوله: «إذا كان في هذا العالم أي شيء استطاع أن يدفعني للاقتناع بالحتمية القدرية للأحوال البشرية، وبضرورة وقوع الأحداث التي تمثل حلقات في السلسلة التي تكون قدر الجنس البشري، فهو بالتأكيد هذه القصة التي أكتبها الآن، وما من حادثة واحدة مرت بي في حياتي إلا وقدمت لي خدمة نافعة، سواء بإرشادي أو مساندتي وشد أزري في هذا البلد الجديد الذي كتب علي أن أساق إليه ذات يوم. وقد علمتني المرات الكثيرة التي تحطمت فيها سفينتي أن أتحمل تلك الأحداث، وكان كلا الجنسين (اللذين أجمع بينهما) ضروريا لحمايتي من التعرض للسحق لحظة وصولي، كما سأبين هذا في سياق قصتي. ومن حسن طالعي أنهم عثروا علي عاريا، ولولا هذا لعرفوا أنني غريب في بلد يعيش فيه الجميع عراة، ولولا المعركة الرهيبة التي أجبرت على خوضها ضد الطيور الوحشية الهائلة وجلبت على شهرة كبيرة بين أولئك الذين كانوا شهودا عليها، لولا ذلك لاضطررت للخضوع لامتحان عسير يؤدي حتما إلى الموت. والخلاصة أنه سيتبين بوضوح من خلال العرض المفصل للظروف التي أحاطت برحلاتي والأخطار التي تعرضت لها، سيتبين أن هناك نظاما حتميا للأشياء يتحكم في قدر الإنسان، وسلسلة من النتائج التي لا يقوى شيء على منعها والتي تعجل بنا - عبر آلاف التحولات والتقلبات غير المحسوسة - إلى النهاية المقدرة علينا.
ومن عادة سكان هذه البلاد ألا يقبلوا بينهم أي شخص لم يسبق لهم معرفة طبعه وميلاده وبلده، ولكن الشجاعة النادرة التي رأوني أقاتل بها، والإعجاب الشديد بحيويتي ونشاطي بعد انتهاء المعركة، جعلتهم يسمحون لي دون أي استجواب بالإقامة في الحي المجاور، حيث جاء الجميع لتقبيل يدي. وكان من الممكن أيضا أن يحملوني فوق رءوسهم، وهي عندهم علامة التقدير الكبير الذي يبدونه لأي شخص فوق رءوسهم، وهي عندهم علامة التقدير الكبير الذي يبدونه لأي شخص يكنون له الإعجاب، ولكنهم أدركوا أن هذا سيسبب لي بعض الضيق، ولذلك عدلوا عن هذا التقليد. وبعد أن تم استقبالي، أخذني أولئك الذين جاءوا بي وعملوا على راحتي إلى منزل ال «هيب»
Heb ، الذي يعني عندهم بيت التعليم، وكانوا قبل ذلك قد زودوني بالمسكن وجميع الاحتياجات الضرورية، وذلك بعناية وحدب فاقوا بهما أكثر الأوروبيين حظا من التمدن والتهذيب.»
ويشي وصف فوانيي لهذه البلاد بتأثره الملحوظ بالسير توماس مور، بينما ينم للمباني والوحدات السكنية عن احتمال تأثره بالنظام المتبع في الأديرة: «والشيء المدهش حقا في الأراضي الأسترالية هو أنه لا يوجد بها جبل واحد يمكن رؤيته، إذ قام الأهالي بتسويتها جميعا ... وهكذا أصبح هذا البلد الكبير مسطحا دون غابات ولا مستنقعات ولا صحارى، كما صار كله مأهولا بالسكان ... ويضاف إلى هذه المعجزة ذلك النمط الموحد العجيب للغات والعادات والمباني وكل شيء تقع عليه عينك في هذا البلد، بحيث يكفي أن تعرف حيا واحدا لكي تحكم حكما مؤكدا على سائر الأحياء، وكل هذا ينبع دون شك من طبيعة الناس، الذين فطروا جميعا على ألا يحمل أحد منهم أي رغبة في الإساءة إلى أي أحد، وإذا تصادف أن حاز أي شخص منهم شيئا لا يشترك الجميع في حيازته، فمن المستحيل عليه أن ينفرد باستخدامه.
وهناك خمسة عشر ألف منطقة في هذا البلد العجيب، وتحتوي كل منطقة على ستة عشر حيا، فضلا عن الهاب
Hab (بيت التأمل)، والأربع هيبات (بيوت التعليم
Hebs )، وفي كل حي يوجد خمسة وعشرون منزلا، وكل منزل يحتوي على أربع شقق يسكن كل واحدة منها أربعة رجال، أي أن هناك أربعمائة منزل في كل منطقة، وستة آلاف وأربعمائة شخص، إذا ضربت في خمسة عشر ألف منطقة، يتضح أن عدد سكان الأرض الأسترالية بأسرها يبلغ حوالي ستة وتسعين مليونا، بالإضافة إلى جميع الشبان والمعلمين الذين يسكنون دور التعليم، ويوجد في كل منها ثمانمائة شخص على الأقل ، ولما كان يوجد في خمسة عشر ألف منطقة ستون ألف دار للتعليم، فإن الشباب والمعلمين الذين يدرسون لهم، سيبلغ عددهم ما يقرب من ثمانية وأربعين مليونا.
أما المنزل الكبير الذي يسمونه في كل منطقة بالهاب، أي منزل التسامي، فهو مبني بالأحجار الشفافة التي تشبه أفخر كريستال لدينا، ولكن هذه الأحجار متوافرة بكميات عجيبة متنوعة الأشكال ومن كل الأنواع والألوان. وهذه الألوان شديدة الرقة والحيوية، وتمثل أنواعها غير المحدودة في بعض الأحيان أشكالا إنسانية، وفي بعضها الآخر حقولا متناهية في الجمال أو شموسا وأشكالا أخرى تفيض بحيوية لا يشبع الإنسان من الانبهار بها. والمبنى كله خال من أي صنعة لافتة للانتباه، باستثناء القطع الغريب للأحجار، والمقاعد المحيطة بها، وست عشرة مائدة كبيرة مصبوغة باللون الأحمر الذي تزيد حيويته على لوننا القرمزي.
وهناك أربعة مداخل ضخمة، تؤدي إلى الطرق الأربع الكبرى القائمة عليها، وتمتلئ جميعها باختراعات نادرة جدا. وهم يصعدون إلى قمتها بواسطة ألفي درجة إلى حيث توجد منصة تتسع سهولة لأربعين شخصا ... ولا يعيش أحد فوق هذه المنصات بصفة مستمرة، وإنما يأخذ كل حي دوره في تزويد الموائد بالطعام الذي يكفي اثني عشر شخصا لإنعاش عابري السبيل ...
ويوجد في كل حي خمسة وعشرون منزلا عاما يطلق عليها اسم «الهيب»
Hiebs ، أي مساكن الرجال، وتعدادها خمسة وعشرون منزلا في كل حي، وقطرها أربع مسافات. وهي مقسمة، مثل بيوت التعليم، بحائطين عاليين يكونان أربعة فواصل متميزة يؤدي كل منها إلى إحدى الشقق ... ويسكن في كل فاصل أربعة أشخاص يسمونهم «الكلية
Cle » أي الإخوة. ولا يرى شيء في هذه المباني باستثناء أربعة مقاعد تشبه الحواجز، يجلسون عليها لكي يستريحوا وبعض المقاعد المختلفة لنفس الغرض ... وهناك كميات كبيرة من المياه التي تنحدر من الجبال ويعرف الأستراليون كيف يستغلونها استغلالا جيدا، لأنهم يحولونها في قنوات تتدفق حول كل المناطق والأحياء والشقق بطريقة بارعة، وتسهم بدور كبير في زيادة خصوبة أرضهم.»
ونأتي الآن إلى وصف الأستراليين: «إن جميع الأستراليين من كلا الجنسين وإذا حدث أن ولد طفل من جنس واحد، فإنهم يخنقونه باعتباره مسخا. وهم خفيفو الحركة، شديدو الحيوية والنشاط، يميل لون بشرتهم إلى الأحمر أكثر من القرمزي، ويبلغ طولهم بصفة عامة حوالي ثمانية أقدام، ووجوههم طويلة إلى حد ما، وجباههم عريضة وعيونهم بارزة، وأفواههم صغيرة، وشفاههم قاتمة الحمرة، وأنوفهم تميل إلى الطول أكثر من الاستدارة، ولحاهم وشعورهم سوداء على الدوام، لأنهم لا يحلقونها بسبب ضعف نموها، وذقونهم طويلة ومرتفعة إلى أعلى قليلا، ورقابهم نحيلة، وأكتافهم عريضة ومرتفعة، وأثداؤهم ضئيلة ومنخفضة (ونهودهم مستديرة وبارزة)، وحمرتها تزيد قليلا على حمرة اللون القرمزي، وأذرعهم عصبية، وأيديهم عريضة وطويلة (وفيها ست أصابع) وصدورهم مرتفعة، ولكن بطونهم مسطحة، وتزيد قليلا في شهور الحمل، وأفخاذهم عريضة، وأرجلهم طويلة (وأقدامهم فيها ست أصابع ...) وقد اعتادوا أن يمشوا عراة، لأنهم يعتقدون أنهم إذا ارتدوا ملابس فقد صاروا أعداء للطبيعة، ومجردين من العقل. وفي بعض الأماكن يتدلى من أوراك بعضهم شيء كالذراع يشبه بقية الأذرع في طوله وإن زاد عليها نحولا، ويمكنهم أن يمدوه بإرادتهم كما أنه أقوى من الأذرع الأخرى.
ويلزم كل فرد بأن يأتي بطفل إلى بيت التعليم، ولكنهم يأتون به بطريقة شديدة الخصوصية، بحيث يعد الحديث في نظرهم عن ضرورة الزواج لتكاثر الجنس البشري إحدى الجرائم المحرمة.
ولم أكتشف أبدا طوال الفترة التي قضيتها هناك كيف تتم بينهم عملية التناسل، وإنما لاحظت فقط أنهم يحبون بعضهم بعضا من صميم قلوبهم ولا يحبون أحدا أكثر من الآخر. وأستطيع أن أؤكد أنني لم أر مشاجرة واحدة، ولم أجد أي إحساس بالعداوة بينهم. وهم لا يفرقون بين ملكي وملكك، ويسود بينهم الإخلاص التام والتجرد من المصلحة أكثر مما نجد بين الرجال والنساء في أوروبا.
وقد تعودت دائما أن أعبر عما أفكر فيه، ولكنني تركت لنفسي الحرية أكثر قليلا مما ينبغي في الإفصاح عما لا يعجبني من أخلاقهم، ورحت أتحدث عن هذا لأحد الإخوة حينا ولغيره حينا آخر، مع تعزيز آرائي بالحجج اللازمة، تحدثت عن عريهم بشيء من التقزز الذي آذى مشاعرهم إلى حد بعيد (وحاولت أحيانا أن ألاطف بعض الإخوة وأثيرهم بما نسميه اللذة) وفي أحد الأيام استوقفت واحدا منهم وسألته مداعبا ولكن بطريقة لا تخلو من الجد عن آباء هؤلاء الأطفال الذين ولدوا، وقلت له إنني أعتقد أن من السخف أن يلزموا الصمت في هذا الموضوع. وكانت نتيجة هذا الحديث وأمثاله أن أبدى الأستراليون نحوي شيئا من الكراهية، وأخذ الكثيرون منهم يؤكدون أنني نصف رجل، حتى انتهوا إلى ضرورة تدميري.»
والنص التالي يبين أن فوانيي كان أول من قدم وصفا لولادة «يوتوبية» للأطفال: «يغادر الأسترالي شقته بمجرد أن يشعر بالحمل، وينقل إلى «الهيب» حيث يستقبل بحفاوة وكرم بالغين، ويقدم له الطعام ولا يجبر على العمل. ولديهم مكان مرتفع يذهبون إليه لإنجاب الطفل الذي يوضع بعد ولادته فوق بعض أوراق الأشجار ، ثم تأخذه الأم (أو الشخص الذي ولده) وتدلكه بهذه الأوراق وترضعه، دون أن يظهر عليها أو عليه أنه قد أحس بأي ألم.
وهم لا يستعملون أي أقمطة أو مهود، واللبن الذي يرضعه الطفل من الأم يغذيه تغذية جيدة ويغنيه عن أي طعام آخر لمدة عامين، أما الفضلات التي يفرزها فتكون بكميات ضئيلة، بحيث يمكن القول بأنهم لا يخرجون شيئا.»
ويتم التعليم على أساس المساواة التامة، ويتخرج الطالب من المدرسة في الخامسة والثلاثين: «يخصص لكل أربعة أحياء بيت يسمى «الهيب»، أي بيت التربية والتعليم، ويتم بناؤه من نفس الأحجار التي بني بها «الهاب» باستثناء السطح الذي يتم صنعه من الأحجار الشفافة التي ينفذ منها الضوء إلى الداخل.
وينقسم هذا المبنى الأنيق إلى أربعة أقسام، يقطعها اثنا عشر معبدا كبيرا، صممت على شكل أربعة أنصاف أقطار، ويبلغ قطر المبنى حوالي خمسين ذراعا، كما يبلغ محيطه حوالي مائة وثلاث وخمسين ذراعا. ويوزع كل قسم على شباب الحي الذي يتبعه، وهناك على الأقل مائتا طفل، تدخل أمهاتهم هناك بمجرد أن يحملن بهم، ولكنهن لا يغادرن المكان قبل أن يتم الطفل سنتين من عمره، ثم ينصرفن بعد ذلك تاركات الأطفال في رعاية الشبان المقيمين هناك لتعليمهم. وتنقسم الأعداد الكبيرة لهؤلاء الشبان إلى خمس مجموعات، الأولى وظيفتها تعليم المبادئ الأولى، وتتكون من خمسة معلمين، والثانية تشرح العلل والأسباب العامة للموجودات الطبيعية، وتتكون من أربعة معلمين، والثالثة هي التي يسمح لأفرادها بالجدل والمناقشة، وتتكون من معلمين، والرابعة تتألف من الشباب الذين يتوقع اختيارهم ليحلوا محل الإخوة الذين يغادرون الحياة.
ويبدأ الأطفال بصفة عامة في الكلام في الشهر الثامن، كما يبدءون المشي في نهاية العام الأول، والفطام في نهاية العام الثاني، ويشرعون في التفكير في العام الأول، والفطام في نهاية العام الثاني، ويشرعون في التفكير في العام الثالث، وبمجرد أن تتركهم أمهاتهم، يعلمهم المدرس الأول في المجموعة الأولى مبادئ القراءة، ويوجههم في نفس الوقت للمبادئ الأولى للمعرفة المتقدمة. وهم يبقون عادة ثلاث سنوات تحت رعاية المدرس الأول، ثم ينتقلون بعد ذلك إلى المدرس الثاني الذي يعلمهم الكتابة ويستمرون معه أربعة أعوام، وهكذا مع الآخرين بنفس النسبة، حتى يبلغوا سن الخامسة والثلاثين، وهي السن التي تكتمل فيها معارفهم في كل أنواع العلوم، ولا تلاحظ فيها أي فروق بينهم، سواء من حيث قدراتهم، أو ذكاؤهم أو تعليمهم.
وعندما يتمون على هذا النحو دوراتهم الدراسية، يتم اختيارهم نوابا، فيشغلون الأماكن التي يرحل أصحابها عن هذه الحياة.
وقد بسطت مشكلة العمل في أستراليا تبسيطا شديدا، لأن السكان يعتمدون في غذائهم على الثمار التي تنمو حولهم فوق الأشجار طوال العام. وبعضهم يعمل في الحدائق والبساتين، ولكنهم لا يطهون الطعام ولا يلبسون الملابس وليس لديهم من الأثاث سوى أقل القليل، ولهذا لا يحتاجون إلى الصناعة، إنهم ينظرون لأقمشتنا الزاهية وملابسنا الحريرية، الفخمة وكأنها نسيج العنكبوت، وهم لا يعرفون كثيرا ماذا تعني أسماء مثل الذهب أو الفضة، وباختصار، فإن كل ما نعده من النفائس لا يخرج في تقديرهم عن أن يكون شيئا سخيفا، ويقضي الأستراليون النصف الأول من يومهم في المدرسة أو في دراسة العلم، والنصف الثاني في العمل في حدائقهم التي يزرعونها «بفن ومهارة غير معروفين في أوروبا»، أما الجزء الثالث من يومهم فيقضونه في التمرينات العامة.
وكل خمسة أيام يقضون ثلث يوم في «الهاب» فينصرفون إلى التأمل، دون أن يلفظوا كلمة واحدة، تاركين مسافة خطوة بين كل شخص وآخر، ويكونون جميعا في حالة انتباه شديد لما يفكرون فيه، بحيث لا يستطيع أي شيء أن يشتتهم عن أفكارهم.»
ويؤدي البحث العلمي والمناقشة دورا مهما: «وفي الأيام التي لا يذهبون فيها إلى «الهاب» يلزمون بالبقاء في «الهيب» (بيت التعليم)، ليبحثوا في العلوم التي يعكفون عليها بنظام ومنهج شديد الوضوح والاتساق. ويعرض كل واحد منهم جميع الصعوبات التي تواجهه مؤكدا أقواله بحجج قوية، ثم يجيبون على كل الاعتراضات التي تثار ضدهم. وعندما تنتهي المناقشة يدونون أي اقتراح مهم في الكتاب العام، ويقوم كل فرد منهم بتسجيله بعناية في دفتر خاص. وإذا اكتشف أي واحد منهم أي شيء لا يستريح إليه، أو أي شيء يحس أنه يمكن أن ينفع بلده، فإنه يعرضه على الإخوة الذين يتخذون القرارات المعقولة في هذا الشأن، ودون أن يكون لهم هدف سوى المصلحة العامة.
والجزء الثالث من يومهم موزع بين ثلاثة أنواع من التمرينات المسلية، فالأول مخصص لإنتاج ما تم اختراعه حديثا، أو تكرار التجارب التي سبق أن أجروها، ونادرا ما يمر يوم واحد بغير أن يقدموا اقتراحا باختراع جديد، فيهتموا دائما بتسجيل اسم المخترع في سجل عام للطرائف والاكتشافات العجيبة، يعتبرون أنه حقق لهم أعظم الأمجاد. وقد لاحظت خلال اثنين وثلاثين عاما ما يزيد على خمسة آلاف اختراع جديد تم تسجيله، وهو شيء يمكن أن يعتبر عندنا من قبيل المعجزات.
ويكرس التمرين الثاني لمعالجة نوعين من السلاح، يشبه الأول منهما الرماح شبها كبيرا، والآخر يشبه أنابيب الأرغن، ويتكون من عشرة أنابيب أو اثني عشر، مجهزة بثقوب من أحد طرفيها تسمح للرصاص أن ينطلق منها بقوة شديدة، بحيث يخترق أجساد ستة رجال.»
ويضم جزء مهم من الكتاب المحاورات التي دارت بين جيمس سادير والعجوز الذي أخذه في حمايته وأطلعه على الأفكار والأساليب الفلسفية للأستراليين. والاستماع لما يقوله هذا العجوز يترك في النفس انطباعا بأنه يسمع بعض الموسوعيين، بل إن بعض الفقرات تذكرنا ببيان دعاة المساواة.
وبعد أن يقول جيمس سادير إنه «لا يوجد في العالم مثل هذا الاهتمام بالمساواة في تعليم الناس»، يلاحظ العجوز:
لقد تسبب عدم الانتظام هذا في ألوان مختلفة من الاضطراب والنزاع والكراهية والشكوى، لأن كل من كان يحس بأنه أقل حظا من غيره في المعرفة (التي يتفوق بها غيره عليه) كان يتصور نفسه أتعس الجميع، مع أن الكل قد ولدوا متساوين. أما نحن فنؤمن بأننا جميعا متساوون، ومجدنا يكمن في كوننا متكافئين وجديرين بنفس الرعاية وبنفس الأسلوب. وإذا كان هناك فرق بيننا، فهو يظهر في بعض التدريبات المتنوعة التي نشغل بها أنفسنا، وذلك لكي نتوصل لاختراعات جديدة يمكن أن يهبها المخترعون للمصلحة العامة.
ثم حدثني بعد هذا عن بعض عادات الأوروبيين التي وصفها بأنها سطحية ولا ضرورة لها. وأكدت له أنهم يشعرون بفزع شديد عند رؤية شخص عار، وهو نفس الفزع الذي يصيب الأستراليين عند رؤية الأوروبيين مرتدين ملابسهم، وزعمت أن لهذا مبررات مثل العفة، وقسوة الجو في بعض فصول السنة، والتعود.
وقد أجابني، كما أذكر، بقوله إن العادات تسيطر على عقولكم حتى ليعتقد المرء أن كل شيء تمارسونه منذ مولدكم هو شيء ضروري ولا غنى عنه، وأنكم لا تستطيعون أن تغيروا أي عادة من عاداتكم بغير لجوء إلى العنف الشديد، وكأنكم تغيرون طبيعتكم. وأجبت مؤكدا إصراري على أن السبب يرجع إلى اختلاف المناخ، وقلت له إن هناك بعض البلاد الأوروبية التي تصل فيها البرودة حدا لا يتحمله الجسد الذي هو أرق وأضعف من أجساد الأستراليين، وأن البعض يموت بسبب هذا الجو، ومن المستحيل أن يعيشوا دون ملابس، وأخبرته باختصار أن ضعف طبيعة كلا الجنسيين يصل إلى حد أن الواحد (من الأوروبيين) لا يرى إنسانا عاريا إلا ويحمر وجهه خجلا، ويشعر بالخزي حتى ولو لم يكن شديد الحساسية لهذه المشاعر، ولكن التعفف أجبرني على التغاضي في صمت عن الخوض في هذا الموضوع.
قال لي: أهناك أي اتساق فيما قلت، ومن أين جاءتكم هذه المادة ؟ أليس معنى هذا أن تفرضوا على الناس شيئا مخالفا للطبيعة؟ لقد ولدنا عراة، ولو غطيت أجسادنا فسوف نشعر حتما بأن من العار علينا أن يرانا أحد على هذه الحال، أما ما تقوله عن قسوة الجو فلا يمكنني، بل لا ينبغي لي، أن أوافقك عليه، لأنه إذا كان هذا البلد أو ذاك لا يطاق، فما الذي يجبر الإنسان العاقل على أن يعتبره بلده؟ ... وأما عن الضعف الذي تسميه تواضعا أو تعففا، فليس لدي ما أقوله عنه، ما دمت قد اعترفت بصدق شديد بأنه خطأ. إنه حقا لضعف شديد، ولن يسمح بأن ننظر إلى بعضنا بغير استياء من تلك المشاعر الوحشية التي تتحدث عنها. فالحيوانات يرى بعضها بعضا باستمرار، ولكن هذه الرؤية لن تحدث أي تغير فيها، فكيف بلغ بكم الأمر، أنتم يا من تؤمنون بأنكم أسمى شأنا منهم، أن تكونوا أضعف منهم؟
لم يضف بعد ذلك شيئا إلى هذه المسألة، ودون أن يعطيني فرصة للإجابة، انتقل إلى موضوع الجشع.
وأدركت من البداية أنه لا يعرف الكثير عنه باستثناء الاسم، لأني حين طلبت منه أن يشرح معناه، تبين لي أن فكرته عنه هي نوع من الضعف العقلي الذي يجعل الناس يكدسون أشياء كثيرة بغير فائدة.
إن جميع الأستراليين يملكون وفرة من كل ما هو ضروري لحياتهم، ولكنهم لا يعرفون معنى التكوين أو التكديس ولا يحتفظون بأي شيء للغد، وطريقة معيشتهم هذه تعد الصورة الكاملة للوضع الذي كان الإنسان الأول يستمتع به في الجنة.
أما عن الطموح، فقد كانت لديه فكرة فجة عنه، إذ عرفه بأنه هو رغبة الناس في أن يكونوا أرفع شأنا من غيرهم.
كان فوانيي أول يوتوبي يتصور مجتمعا بغير حكومة. وقد لاحظ السمة الليبرالية لهذه اليوتوبيا المؤرخ ماكس نيتلاو
Max Nettlau
الذي يذكرها في الببلوجرافيا التي وضعها عن اليوتوبيات الفوضوية. والواقع أن الأستراليين ليس لهم حكومة مركزية، وكل القرارات تتخذ في المجالس المحلية لكل حي على حدة. ولا تقوم الدولة بإمداد السكان بالطعام، كما نجد في اليوتوبيات السابقة، وإنما يأتي به أعضاء كل منطقة كل صباح عندما يلتقون في مؤتمرهم اليومي. وحتى في الحروب لا يوجد قادة: «... يبدو لي أن أكثر ما يثير الإعجاب بهم هو أنهم يعيشون حياتهم مستغنين عن أي قائد أو وصي عليهم، فهم يلتزمون - بغير اتفاق أو اتصال سابق بينهم، وبغير أن يتلقوا أي توجيهات أو تعليمات بذلك - يلتزمون بالحد الأقصى من النظام والانضباط، حتى ليحسب الإنسان أنهم جميعا قادة متمرسون، وأنهم مشغولون على بكرة أبيهم بنفس الخطة، ومتفقون على وسائل تنفيذها.»
وخلال هذا الحديث مع جيمس سادير يشرح العجوز «فلسفته الفوضوية»
12
فيقول: «أخبرته أنهم في أوروبا يسيرون على مبدأ مفاده أن الجماهير إذا لم تخضع للنظام أثارت الاضطراب والفوضى، حيث يختفي التقدير لطيبات الحياة، وأن النظام يفترض وجود رأس مدبر يخضع له الجميع. وهنا انتهز الرجل العجوز الفرصة ليشرح المذهب الذي أدركت معناه، وإن كان من المستحيل أن أعرف به الآخرين بمثل عباراته القوية الحاسمة التي استخدمها لكي يتيح لي أن أفهمه.
قال إن الطبيعة قضت بأن يولد الإنسان حرا ويعيش حرا، ولهذا فإن إخضاعه لأي شيء لا بد أن يفسد طبيعته وأن يهبط به إلى مستوى أدنى من مستوى الحيوانات، لأن الحيوانات لم توجد إلا لخدمة الإنسان، والخضوع شيء طبيعي بالنسبة لها. أما الإنسان فلم يولد في خدمة إنسان آخر، والإكراه في هذه الحالة سيكون نوعا من العنف الذي يصل إلى حد تجريد الإنسان حتى من وجوده كإنسان، ثم أخذ يتوسع في هذه الفكرة ليثبت أن إخضاع شخص لشخص آخر هو إخضاع للطبيعة البشرية ذاتها، وجعل الإنسان عبدا لنفسه، بحيث تنطوي في هذه العبودية على أقصى درجة من التناقض والعنف يمكن تصورها، وأضاف أن ماهية الإنسان تكمن في الحرية، ولا يمكن أن تسلب منه الحرية دون أن يؤدي هذا إلى تدميره، ولهذا فإن الذي يسلب الآخر حريته فإنما يجعله بشكل ضمني يعيش دون ماهيته الخاصة.
إذا حدث أن وقع إنسان في القيد أو الأسر فإنه يفقد الحركة الخارجية التي تكفلها حريته، ولكن حريته الداخلية تظل كاملة لا تنتقص، كالحجر الذي لا يفقد ثقله عنما يقذف به إلى أعلى أو يلقى به في الهواء، لأنه سيظل محتفظا بوزنه وثقله ما دام سيسقط على الأرض بمجرد أن نتوقف عن منعه من السقوط، وبنفس الطريقة لا يعاني الإنسان من الأسر إلا لأنه مجبر على ذلك. وبمجرد أن يزول هذا الإجبار يظهر مرة أخرى على حقيقته ويعتبر أن الموت أكرم له من القهر. ولا يعني هذا أنه لا يفعل في كثير من الأحيان ما يريده منه الآخرون، وإنما يعني أنه لا يفعله لأن الآخرين يجبرونه على ذلك أو يأمرونه به. وإن كلمة الأمر بغيضة إلى نفسه، وهو يفعل ما يمليه عليه عقله، وعقله هو قانونه، وحاكمه، ودليله الوحيد. إن الذي يفرق بين البشر الحقيقيين وأنصاف البشر، هو أن كل أفكار النوع الأول ورغباته تبقى هي نفسها دون أي اختلاف لأنها موحدة بالكامل، ويكفي أن تشرح لأي فرد لكي يوافق عليها دون أي معارضة، وذلك ما يتبع العقلاء الطريق الصحيح عن طيب خاطر عندما يدلهم أحد عليه. ولأن أنصاف البشر لا يملكون إلا معرفة غامضة وأضواء ضعيفة، فلا مفر من أن يفكر أحدهم في شيء ويفكر الآخر في شيء مختلف، وأن يرغب شخص في أن يسلك طريقا معينا فيعارضه الآخر بشتى الاعتراضات. والسبب في هذا واضح، فالإنسان الذي لا يمكنه أن يرى رؤية صحيحة، لن يستطيع تجنب أخطار ارتكاب الأخطاء وأخذ شيء بدلا من شيء آخر.»
إن ديانة الأستراليين كما أشرنا من قبل هي في الواقع نفي لأي ديانة: «ولا يوجد عند الأستراليين موضوع أكثر إثارة وسرية من موضوع ديانتهم، فمجرد الحديث عنه، سواء عن طريق النقاش أو بأي شكل من أشكال التفسير، يعتبر جريمة شنيعة، وحتى الأمهات يوحين لأطفالهن مع المبادئ الأولى للمعرفة بما تعلمنه من بيوت التأمل (الهاب) عن الكائن الغامض الذي لا يسبر غوره.
ويعتقد الأستراليون أن الكائن الذي يستعصي على الفهم موجود في كل مكان، وهم يبجلونه ويكنون له كل التوقير والجلال، ولكنهم يحرصون على توصية الشباب بأن يعبدوه دائما دون أن يتكلموا عنه، كما أنهم مقتنعون بأن الحديث عن صفاته الكاملة يعد جريمة كبرى، الأمر الذي نستطيع معه أن نقول إن تدينهم العظيم يكمن في عدم الكلام عن الدين.»
ويستطرد العجوز مبينا أخطار المناقشات حول الدين فيقول: «لا يستطيع الناس أن يتكلموا عن شيء غير قابل للفهم بغير أن يتخذوا منه آراء مختلفة، بل إن هذه الآراء قد تصل إلى حد التناقض مع بعضها ... والأفضل أن نصمت صمتا ولا نخوض في هذا الأمر، على أن نعرض أنفسنا للتورط في آراء كثيرة مغلوطة عن طبيعة ذلك الكائن الذي يعلو علوا كبيرا على مداركنا. ولذلك فنحن نجتمع في (الهاب) لكي نمجد عظمته السامية، ونستعبد قوته المتعالية، ثم نترك لكل شخص حرية التفكير كما يشاء، بيد أننا أصدرنا قانونا قاطعا بتحريم الكلام عنه، خشية التورط في المزالق والأخطاء التي يمكن أن تسيء إليه.
والأستراليون شعب مسالم ولا يتقاتلون أبدا، ولكنهم يضطرون للدخول في حروب كبيرة للدفاع عن بلدهم ضد الغزاة من الأمم الأخرى. وهم يشنون هذه الحروب الدفاعية بكفاءة وقسوة رهيبة، ولا يتوقفون عن القتال حتى يقضوا على آخر جندي من العدو، وفي بعض الحالات يخربون بلد العدو عن آخره.»
وقد كان أحد هذه الحروب هو السبب في اضطرار جيمس سادير لمغادرة أستراليا، إذ اقترح عليهم فكرة سيئة الحظ، وهي أن من الأفضل أن يأسروا نساء العدو بدلا من قتلهن، وقد اعتبر اقتراحه هذا جريمة، وحكم عليه مجلس «الهاب» بالموت وقد كان من عاداتهم عند تنفيذ حكم بالإعدام أن يطلبوا من المحكوم عليه أن يأكل فاكهة معينة تضع نهاية لحياته بطريقة سريعة ومريحة، كما كانوا يسمحون له باختيار لحظة تنفيذ الحكم بالإعدام. وقد استفاد جيمس سادير من هذه الميزة، وعندما سألوه: «إن كان لديه شيء يقوله» أجاب كما يلي: «خطبت فيهم وأخبرتهم بأنني بدأت أنظر إلى نفسي كواحد توقفت حياته بالفعل، ولما كانت العادة في أمتنا قد جرت - حين يكون أحد أبنائها موشكا على الموت - على أن نعيش عيشة شديدة التحفظ، وكانت روحي لن تسمح لي بأن أكون نفس الشخص الذي كنته، كما أعلم أنني سأتوقف عن الحياة بعد وقت قصير، لذلك أود أن أشغل اللحظات المتبقية بالتفكير في فعل أخير قد ينفعهم أكثر بكثير من كل ما فعلت. وقد حظيت هذه المبررات برضا أعضاء المجلس فقرروا أن يتركوا لي إنهاء حياتي كما أشاء، وطلبوا مني أن أكف عن الكلام عن كلماتي أو أفعالي. ولما كنت قد أصبحت في عداد الموتى، فقد أطلقوا علي اسم النائب، واعتبروني مجرد شخص يحتضر وله الحرية في أن ينهي حياته بالطريقة التي يعتقد أنها مناسبة.»
وعلى الرغم من التعارض الواضح في الطباع بين الأستراليين وجيمس سادير، فقد أعجب إعجابا شديدا بالكمال الذي وصلوا إليه، وسنسمح له الآن بتعليق أخير عن أخلاقهم وعاداتهم التي تسمو على أخلاقنا وعاداتنا: «لم يسعني إلا الإعجاب بسلوكهم المخالف لسلوكنا المعيب إلى الحد الذي خجلت معه أن أتذكر كم نحن بعيدون عن الكمال الذي بلغه هؤلاء الناس. وسألت نفسي: أصحيح أننا جميعا بشر؟ وأضفت قائلا: إذا لم يكن الأمر كذلك، فما الفرق بين هؤلاء الناس وبيننا؟
لقد ارتفعوا في حياتهم العادية إلى ذروة الفضيلة التي لن نستطيع الوصول إليها إلا ببذل أقصى الجهود التي تقدر عليها أفكارنا النبيلة. وإن أفضل تعاليمنا الأخلاقية لعاجزة عن مجاراتهم في سلامة التفكير ودقة الفهم والانضباط والنظام الذي يمارسون بشكل طبيعي وبغير قواعد ولا تعليمات.
هذا الاتحاد الذي لا يغيره شيء وهذا البعد عن المصالح الدنيوية، وهذا النقاء الخالص، وباختصار، هذا التمسك بالعقل الصارم، الذي يوطد وحدتهم ويوجههم لما هو خير وعدل، لا يمكن أن يكون إلا ثمرة الفضيلة الكاملة التي يستحيل علينا أن نتصور شيئا أكمل منها، بل لا بد أن نسأل أنفسنا كم من الرذائل والنقائص لم نتركها نحن لكي تتحكم فينا؟ هذا العطش الذي لا يرتوي من الثورة، وهذه المنازعات المستمرة، والخيانات السوداء، والمجازر الوحشية، والمؤامرات الدموية التي يدبرها بعضنا لبعض بصفة مستمرة، ألا يحملنا هذا كله على الاعتراف بأن الانفعالات هي التي تتحكم فينا بدلا من العقل؟ ألا نتمنى في هذه الحالة أن يأتي إلينا واحد من هؤلاء الذين نسميهم البرابرة فيحررنا من أوهامنا، ويتجلى لنا في ضوء الفضيلة التي يمارسونها بفضل النور الطبيعي، ويخلصنا من الاغترار بمعرفتنا المزعومة التي لم تساعدنا إلا على العيش كالحيوانات؟» (2) ديدرو: «ملحق رحلة بوجانفي»
آمن ديدرو (1713-1784م) بأن «الطبيعة لم تعط أي إنسان الحق في حكم الآخرين، وحرص على تأكيد إيمانه برفضه أن يصبح، مثل العديد من معاصريه، مشرعا للقوانين.» وهناك حكاية طريفة تبين أنه استطاع أن يقاوم إغراءات «الملكية». فقد نصب ملكا على مدى ثلاث سنوات متعاقبة «بفضل الكعكة»، أي أنه أصبح «ملك الليلة الثانية عشرة»، لعثوره على حبة في قطعة الكعك الخاصة به. وكان عليه، بوصفه ملكا، أن يصدر قانونا، وهو ما قام به بالفعل في مقطوعة شعرية صغيرة يقول فيها:
فرق تسد، تلك هي الحكمة القديمة،
جاءت من طاغية، ولهذا لم تصدر عني،
وقد عاهدت نفسي أن أوحد بينكم، فأنا أحب الحرية،
وإن كانت لي رغبة أريد تحقيقها،
فهي أن يؤدي كل منكم واجبه. (قانون دينيس)
وحلت السنة الثالثة فكتب مقطوعة أخرى تخلى فيها حتى عن حقه في أن «يعمل كل إنسان ما يريده»، وأعلن أنه ما دام قد رفض أن يملى عليه أي قانون، فقد رفض أيضا أن يفرض على الآخرين أي قانون:
لم يحدث أبدا أن ضحى أحد بحقوقه
في سبيل المصلحة العامة
والطبيعة لم تجعل الناس عبيدا وسادة،
ولست أريد أن أفرض قانونا ولا أن يفرض علي قانون
لقد انتزع بيديه أحشاء القسيس؛
لأنه لم يجد حبلا يشنق به الملوك. (الأليتورومان أو عزل ملك عن عرشه)
على أن ديدرو قد حاول، بصورة أكثر جدية، أن يقدم وصفا لمجتمع بدائي حر لا يعرف الحكومات ولا القوانين. و«ملحق رحلة بوجانفيي» وصف خيالي للعادات التي اكتشفها بوجانفيي ورفاقه عندما وطئت أقدامهم الجزيرة لأول مرة. وكان «لوي أنطوان بوجانفيي» قد اكتشف مجموعة جزر في المحيط الهادي من بينها جزيرة تاهيتي ، وذلك أثناء رحلته الكبرى التي استمرت من عام 1766م حتى عام 1769م. ولما رجع إلى بلاده نشر تقريرا عن رحلاته (1771م)، وأقبل الناس على قراءته على نطاق واسع. وبعد ذلك بعام كتب ديدرو تقريره الخيالي عن زيارة بوجانفيي لتاهيتي، وهو تقرير وجه فيه الاتهام الشديد «للحضارة» التي تقوم على القوة المسلحة والدين، ولكنه أعطاه فرصة وصف مجتمع بدائي، لا على حالته التي كان عليها، بل كما ينبغي في رأيه أن يكون. ويحتوي «الملحق»، كما يدل على ذلك عنوانه الفرعي، على هجوم عنيف على مجموعة القوانين الأخلاقية السائدة «ومساوئ ربط الأفكار الأخلاقية ببعض الأفعال المادية التي تتعارض معها». وقد حالت صراحة وعنف الانتقادات التي تضمنها الملحق دون نشره، وتم تداول المخطوطة أثناء حياة ديدرو. ولم يتم طبعه إلا بعد الثورة الفرنسية في عام 1796م.
كتب الملحق في شكل حوار، وقد عدلنا عن محاولة تلخيصه أو اقتباس فقرات من هنا وهناك، وفضلنا تقديم «وداع الرجل العجوز» بأكمله لأنه يعطي فكرة وافية عن عادات سكان تاهيتي ... (3) وداع الرجل العجوز
كان أبا لعائلة كبيرة. ولما وصل الأوروبيون نظر إليهم بازدراء، ولم تظهر عليه الدهشة ولا الخوف ولا حب الاستطلاع. حاولوا الاقتراب منه، ولكنه أدار لهم ظهره وانسحب إلى كوخه. وكشف صمته وقلقه عن الأفكار الحقيقية التي دارت في ذهنه، راح ينعى أيام المجد التي عاشتها بلاده بعد أن أفلت شمسها، ولما تهيأ بوجانفيي للرحيل وأخذت حشود الأهالي تهرول إلى الشاطئ وهم يتعلقون بثيابه ويعانقون رفاقه ويبكون، تقدم الرجل العجوز في كبرياء وتحد وقال: «ابك يا شعب تاهيتي المسكين! ابك. ليت هذه كانت ساعة وصول هؤلاء الطموحين الأشرار لا ساعة رحيلهم. سيأتي يوم تعرفون فيه بصورة أفضل. سيعودون يوما ما، وفي إحدى يديهم قطعة الخشب التي ترونها الآن معلقة بحزام هذا، وفي اليد الأخرى السيف المتدلي من حزام ذاك. بهذين سيستعبدونكم ويقتلونكم أو يذلونكم بنزواتهم ورذائلهم. ويوما من الأيام ستضعون أنفسكم في خدمتهم، وستصبحون مثلهم فاسدين، حقراء، مقززين.» «ولكنني أواسي نفسي قائلا: لقد بلغت نهاية رحلتي، ولن أعيش حتى أرى الكارثة التي أتنبأ بها. آه يا شعب تاهيتي! آه يا أصدقائي! إن لديكم وسيلة للنجاة من هذا المستقبل الفاجع، ولكني أفضل الموت على أن أنصحكم بها. ولهذا أقول لنفسي: دعهم يمضون في طريقهم دعهم يعيشون.»
ثم اتجه إلى بوجانفيي واستطرد قائلا: أما أنت، يا قائد هذه العصابة التي تطيع أوامرك، فخذ سفينتك وأسرع بالابتعاد عن شواطئنا. إننا أبرياء، سعداء، وليس بإمكانكم إلا أن تفسدوا سعادتنا. ونحن نتبع غرائز الطبيعة النقية، وقد حاولتم محو الأثر الذي طبعته على أرواحنا. كل شيء هنا ملك لكل إنسان. وقد ملأتم أسماعنا بما لا نعلمه من الفروق التي تميز بين «ملكي» «ملكك». بناتنا وزوجاتنا من حقنا جميعا. وقد شاركتمونا هذا الحق، وأشعلتم فيهن نيران العواطف التي لم يعرفنها من قبل. أصبحن مجانين بين أحضانكم، وصرتم متوحشين بين أحضانهن، بدأن يكرهن بعضهن بعضا، وقتلتم بعضكم بعضا من أجلهن ورجعن إلينا ملطخات بدمائكم. نحن شعب حر، وها أنتم قد زرعتم في بلدنا صكوك عبوديتنا في المستقبل. لستم آلهة ولا شياطين، فمن أنتم إذن، لتجعلوا منا عبيدا؟ أو رؤساء! أنت تفهم لغة هؤلاء الناس، قل لنا جميعا، كما قلت لي، ماذا كتبوا على هذا اللوح المعدني: «هذا البلد ملكنا». هذا البلد ملككم؟ ولماذا؟ ألأن أقدامكم وطئت أرضها؟ وإذا هبط تاهيتي يوما على شواطئكم، وحفر على صخوركم أو على لحاء أشجاركم: «هذا البلد ملك شعب تاهيتي» فماذا ستظنون به عندئذ؟
أنتم الأقوى! وماذا في ذلك؟ عندما كان أحدنا يأخذ شيئا تافها من أشيائكم الحقيرة التي تمتلئ بها سفينتكم، كنتم تصرخون وراءه وتنتقمون منه. ومع ذلك كنتم في أعماق قلوبكم تدبرون المكائد لسرقة بلد بأكمله. لستم عبيدا. بل تتحملون الموت ولا يتحمل أحد منكم أن يكون عبدا، وبالرغم من هذا تريدون أن تستعبدونا. أو تحسبون أن التاهيتي لا يعرف كيف يدافع عن حريته ويموت في سبيلها؟ إن التاهيتي الذي تريدون أن تضعوا تحت قبضتكم كأنه وحش كاسر هو أخ لكم. كلاكما أطفال الطبيعة، فأي حق لكم عليه كذلك من حقه عليكم؟ هل هاجمناكم عندما جئتم إلينا، هل نهبنا سفينتكم؟ هل قبضنا عليكم وعرضناكم لسهام أعدائنا؟ وهل قيدناكم مع الحيوانات لتكدحوا في حقولنا؟ لا. لقد احترمنا إنسانيتنا التي لا تختلف عن إنسانيتكم. اتركونا لعاداتنا التي نشأنا عليها، فهي أحكم وأشرف من عاداتكم. لا نريد أن نقايض ما تسمونه جهلنا بحضارتكم العقيمة. فنحن نملك ما هو ضروري وصالح لنا. هل نستحق الاحتقار لأننا لم نتطلع للحاجات السطحية الزائدة؟ إن لدينا ما يكفي طعامنا إذا جعنا، وما يكسونا إذا شعرنا بالبرد.
لقد دخلتم أكواخنا، فما الذي ينقصها في رأيكم؟ ابحثوا ما شئتم عما تسمونه الرفاهية، ولكن اسمحوا للعقلاء أن يكفوا عن ذلك إذا قنعوا بالخيرات التي يحصلونها بجهودهم المضنية. وإذا أقنعتمونا بتجاوز حاجاتنا المحدودة، فمتى سننتهي من كدحنا؟ ومتى نستمتع بحياتنا؟ لقد خفضنا أعمالنا السنوية واليومية الشاقة إلى أدنى حد ممكن؛ لأننا لم نجد شيئا أفضل من الراحة.
اذهبوا إلى بلادكم لتعذبوا أنفسكم كما تريدون، ولكن اتركونا في سلام. لا ترهقونا بحاجاتكم المصطنعة ولا بفضائلكم الوهمية. انظر إلى هؤلاء الرجال، أترى كم هم منتصبو القامة، أصحاء، وأقوياء البنية؟ وانظر إلى هؤلاء النساء، أترى قوامهن المعتدل، وصحتهن. ونضارتهن وجمالهن؟ خذ هذا القوس، إنه قوسي، استدع واحدا أو اثنين أو ثلاثة أو أربعة من رفاقك ليساعدوك ويحاولوا ليه. إنني أستطيع ذلك بمفردي. وأنا أحرث الأرض، وأتسلق الجبال، وأخترق الغابات. بإمكاني أن أجري وأقطع فرسخا فوق السهول في أقل من ساعة وسيصعب على رفاقك الشبان أن يلحقوا بي، برغم أني تجاوزت التسعين. «الويل لهذه الجزيرة، الويل لشعب تاهيتي ولأجياله القادمة، والويل لذلك اليوم الذي زرتمونا فيه لأول مرة. إننا نعترف بمرض واحد يصيب كل البشر والحيوان والإنسان والنبات، وهو الشيخوخة، لكنكم جئتمونا بمرض آخر ولوثتم دماءنا.» «ربما تحتم علينا أن نقضي بأيدينا على بناتنا، وزوجاتنا، وأطفالنا، على كل أولئك الذين اقتربوا من نسائكم، وكل اللائي اقتربن من رجالكم.» «سوف تتشرب حقولنا دماءكم الفاسدة التي تسربت من عروقكم إلى عروقنا، وإلا فإن أطفالنا، الذين حكم عليهم أن يرضعوا الشر الذي نفثتموه في آبائهم وأمهاتهم، سينقلونه للأبد إلى ذريتهم.»
أيها الأوغاد! ستتحملون ذنب المرض المدمر الذي ستجلبه علينا قبلكم وعناقكم المشئوم أو ذنب جرائم القتل التي سنرتكبها لوقف انتشار السم.
أتتكلمون عن الجرائم! وهل سمعتم عن جريمة أفظع من جريمتكم؟ ما هو عقابكم لمن يقتل جاره؟ الموت بالسيف، وما هو عقابكم للجبان الذي يدس السم؟ الموت حرقا. قارنوا جريمتكم بجريمته، ثم أخبروني، يا من تسممون شعوبا بأكملها، ما هو نوع التعذيب الذي تستحقونه؟ قبل أن تأتوا إلينا بلحظات، كانت الفتاة التاهيتية تسلم نفسها لأحضان الشاب التاهيتي ومشاعره الفياضة، انتظرت نافدة الصبر حتى ترفع النقاب عن وجهها وتعري صدرها، بعد أن اعترف الجميع بأنها بلغت سن الزواج. كانت فخورة بأن تثير الرغبة في الرجال المجهولين، والأقارب، وأمها، وأن تجذب نظراتهم المفعمة بالحب. وبغير فزع، ولا خجل، أمام أعيننا ووسط حلقة من التاهيتيين الأبرياء، على أنغام الناي وبين الرقصات، تلقت قبلات الشاب الذي أثار قلبها الشاب وأيقظ مشاعرها الكامنة. ثم جئتم فجاءت معكم فكرة الجريمة وخطر المرض. أفراحنا الحلوة خالطها الندم والرعب. ذلك الشاب الملتف بالسواد الذي يقف بجوارك ويسمعني، لقد تكلم مع أولادنا. لا أعرف ماذا قال لبناتنا. ولكن أولادنا يبدو عليهم التردد، وبناتنا يعتريهن الخجل. توغلوا إذا شئتم في أعماق الغابة المظلمة مع لذاتكم المنحرفة، ولكن دعوا أهالي تاهيتي الطيبين البسطاء يتناسلون بلا خجل، تحت السماء المفتوحة، وفي ضوء النهار الساطع. هل يمكنكم أن تبثوا في قلوبهم شعورا أرق أو أنبل من ذلك الشعور الذي بعثناه فيهم وما يزال يحركهم؟ إنهم يحسون أن لحظة إغناء أمتهم وأسرهم بمواطن جديد قد حانت، وهم يعتزون بهذه اللحظة. إنهم يأكلون ليعيشوا ويكبروا، ويكبرون لكي يتكاثروا، ولا يرون في ذلك شرا ولا عارا.
استمعوا إلى قصص جرائمكم المستمرة. ما كدتم تختلطون بأهلنا حتى أصبحوا لصوصا. ولم تكد أقدامكم تطأ شواطئنا حتى تخضبت بالدماء. ذلك التاهيتي الذي جرى نحوكم ليستقبلكم وهو يصيح: تايوا يا صديق، يا صديق، لقد قتلتموه. ولكن لماذا قتلتموه؟ ... لأنه انبهر بتألق بيض حياتكم الصغيرة. وأعطاكم من فاكهته، قدم لكم زوجته وابنته، تخلى لكم عن كوخه، ومع ذلك قتلتموه من أجل حفنة خرز أخذها بغير إذن. والشعب؟ تملكه الفزع من صوت طلقتكم القاتلة فهرب إلى الجبال. لكن ثقوا أنه لم يكن لينتظر طويلا حتى يهبط مرة أخرى. ولولاي لكان مصيركم المحتوم هو الفناء. آه! لماذا هدأت من روعهم؟ لماذا كبحت جماحهم؟ ولماذا أبعدتهم عنكم حتى الآن؟ لا أعرف، لأنكم لا تستحقون الشفقة، ولأن أرواحكم الشرسة لن تشعر بهذه الشفقة أبدا. لقد تجولت أنت ورفاقك، في كل مكان في جزيرتنا. عاملناكم باحترام، استمتعتم بكل شيء، لم يقف عائق في طريقكم، لم يرفض لكم طلب، دعيتم إلى أكواخنا، فجلستم باستثناء اللواتي لم يسمح لهن برفع النقاب عن وجوههن وصدورهن، أحضرت لكم أمهاتهن كل الأخريات عاريات تماما. استوليت على الضحية الضعيفة لكرم الضيافة، وكدست الزهور وأوراق الشجر عليك وعليها، ارتفعت الأنغام المنبعثة من آلاتهم الموسيقية، لم يفسد شيء حلاوة قبلاتك وقبلاتها، ولم يعتد أحد على حريتكما.
ترنموا بأغنية تحثك على أن تكون رجلا، وتحث طفلتنا على أن تكون امرأة حنونا دافئة، رقصوا حول فراشكما. وبعدما استمتعت على صدرها بنشوة السكر ذبحت أخاها، وصديقها أو أباها.
ثم فعلت ما هو أسوأ من ذلك كله، انظر هناك، أترى ذلك المستودع الذي يغص بالأسلحة؟
هذه الأسلحة التي هددت أعداءكم توجه الآن إلى أطفالنا. انظر لرفاق لذاتك التعساء. تأمل حزنهم وتعاسة آبائهم ويأس أمهاتهم. لماذا يحكم على هؤلاء بالموت، سواء بأيديكم أو بالمرض الذي أصبتموهم به؟ «ابتعدوا الآن، إلا إذا كانت عيونكم القاسية تتلذذ بمشهد الموت.»
اذهبوا الآن، اذهبوا، ولتكفر البحار الآثمة التي أمنت رحلتكم عن ذنبها. وتثأر لنا بابتلاعكم قبل أن ترجعوا لبلادكم. «وأنتم، يا شعب تاهيتي! امضوا إلى أكواخكم، اذهبوا جميعا، ودعوا هؤلاء الغرباء يرحلون وهم يسمعون هدير المحيط، ويرون زبد غضبه وهو يكسو الشاطئ المهجور بالبياض.»
هوامش
الفصل الخامس
يوتوبيات القرن التاسع عشر
يرتبط تاريخ اليوتوبيات في القرن التاسع عشر بميلاد الحركة الاشتراكية، ويصعب أحيانا تمييز المشروعات التي تنتمي لعالم الفكر اليوتوبي من تلك التي تدور في فلك الإصلاح الاجتماعي. ويكاد لا يوجد واحد من الكتب التي نشرت في هذه الحقبة إلا ووصف في فترة أو أخرى بأنه يوتوبي.
وفقدت الكلمة نفسها معناها الأصلي، وأصبحت تعني التفكير المضاد للتفكير العلمي. وغالبا ما استعملت كلمة «يوتوبي»، من جانب الاشتراكيين الذين زعموا أنهم علميون، ليقذفوها في وجوه خصومهم دلالة على التحقير والاستهجان، وبفضل هؤلاء القضاة الماركسيين تضخمت قائمة يوتوبيات القرن التاسع عشر تضخما شديدا.
وقد عرف فردريك إنجلز في كتابه «الاشتراكية اليوتوبية والعلمية»، كلمة يوتوبي، ولقي هذا التعريف قبولا واسعا. وبينما ظلت كلمة اليوتوبيا حتى ذلك الحين تعني المجتمع المثالي المتخيل الذي يصعب أو يستحيل تحقيقه، فقد قدم لها إنجلز معنى أوسع بكثير، وضم إليه كل الخطط والمشروعات الاجتماعية التي لا تعترف بتقسيم المجتمع إلى طبقات، ولا بحتمية الصراع الطبقي والثورة الاجتماعية، كما أدخل سان سيمون وفورييه وأوين في زمرة اليوتوبيين، وذلك بحجة أنه «ليس فيهم واحد يمثل مصالح طبقة البروليتاريا التي أفرزها التطور التاريخي. إنهم مثل الفلاسفة الفرنسيين الذين لا يكتفون بتحرير طبقة بعينها، وإنما يطمحون لتحرير البشرية بأكملها دفعة واحدة.»
ويأخذ إنجلز على الكتاب «اليوتوبيين» أنهم لم يفهموا أن الاشتراكية لن تكون ممكنة إلا عندما يحقق النظام الرأسمالي درجة معينة من التطور: «إن الظروف السيئة للإنتاج الرأسمالي، والظروف السيئة للطبقة التي تقابلهما نظريات سيئة. وقد حاول اليوتوبيون أن يستخرجوا حل المشكلات الاجتماعية - التي ظلت كامنة في الظروف الاقتصادية غير المتطورة - من داخل الذهن البشري. فالمجتمع في نظرهم لا يقدم إلا الأخطاء، ومهمة العقل هي إزالة هذه الأخطاء. ولهذا كان من الضروري اكتشاف نظام اجتماعي جديد أكثر كمالا وفرضه على المجتمع من خارجه بواسطة الدعاية، أو بفرض التجارب النموذجية عليه كلما أمكن ذلك. وقد دفعت هذه النظم الاجتماعية الجديدة بأنها يوتوبية، وكلما أمعن أصحابها في شرحها واستكمال تفاصيلها، زاد انزلاقها إلى الخيالات المحضة.»
والواقع أن وصف إنجلز لليوتوبيات الاشتراكية وصف صحيح في جوهره. فأغلبها يريد لجميع وسائل الإنتاج والتوزيع أن تكون ملكا عاما مشتركا، ولكنها لا تعتقد أن الثورة ضرورية لتحقيق هذا وهي تتصور بإمكان الدولة أن تتولى تسيير الآلية الاقتصادية بطريقة سلمية، وذلك عندما يوافق أغلبية السكان على أن هذا هو أنسب الحلول. وهي لا تؤمن بوجود صراع بين الطبقات، ولا بأن البروليتاريا هي الطبقة الوحيدة القادرة على القيام بالثورة. وهي تؤكد أيضا - على خلاف النظريات الماركسية - أن المجتمع الجديد يمكن إيجاده في أي وقت وأي مكان، بشرط أن تصمم الحكومات والشعوب على ذلك، وأخيرا فإنها لا ترى أن هناك أي علاقة بين تطور الرأسمالية وإمكانية إيجاد مجتمع جديد.
على أن إنجلز لم يكن محقا في زعمه بأن المشروعات «اليوتوبية» أقل واقعية من مشروعات الاشتراكيين العلميين. فمن الصعب ، على ضوء تاريخ القرن الماضي، أن نحدد على وجه الدقة أي مدرسة من المدارس الاشتراكية تستحق أن توصف بأنها «يوتوبية» فالتطور الكبير للرأسمالية لم يقرب على الإطلاق يوم اندلاع الثورة، بل خلق طبقة جديدة من التقنيين والمديرين، والعمال المرتفعي الأجور، وقادة الاتحادات العمالية الذين تطابقت مصالحهم مع مصالح الطبقة الرأسمالية. والبلدان الأوروبيان الوحيدان اللذان حاولا، خلال الثلاثين عاما الماضية، إحداث ثورات اجتماعية، وهما روسيا وإسبانيا، لم تكن الرأسمالية قد وصلت فيهما بعد إلى درجة عالية من التطور. وقد رأينا فضلا عن ذلك أن اشتراكية الدولة قد تحققت بشكل جزئي في بلاد عديدة، لا بفضل نضال الطبقة العاملة، بل عن طريق حكومات أمسكت بزمام السلطة من خلال برلمان منتخب. والأغرب من هذا من وجهة النظر الماركسية، أن الحكومات الفاشية قد اضطرت إلى تبني إصلاحات اجتماعية شبيهة بتلك الإصلاحات التي دعا إليها الاشتراكيون.
إن الاشتراكية، كما نعرفها اليوم،
1
أقرب إلى تصورات الاشتراكيين «اليوتوبيين» منها إلى تصورات كارل ماركس مؤسس الاشتراكية العلمية. وهي لم تعد تعترف بحتمية الصراع الطبقي، وإنما تهدف إلى تحقيق إصلاحات اجتماعية تدريجية يمكن أن تزيل الفروق الاقتصادية بين الرأسماليين والعمال. بل إن بنية المجتمع في بلد مثل روسيا، التي تزعم أنها حققت ثورة ماركسية، هي في الحقيقة أشبه ببنية المجتمعات التي وصفها بعض الكتاب اليوتوبيين منها بتلك التي تنبأ بها ماركس أو لينين. ولهذا قد يكون من الحكمة أن نتخلى عما يبدو اليوم تقسيما تعسفيا للاشتراكيين إلى يوتوبيين وعلميين، وأن نقتصر على دراسة أهم الأعمال التي تدخل في التراث اليوتوبي من خلال تصويرها لمجتمعات مثالية في بلد خيالي أو في مستقبل خيالي.
كان الفكر اليوتوبي في عصر النهضة قد تلقى دفعة قوية من الأفكار الفلسفية الجديدة، وتأسيس الدول القومية، واكتشاف العالم الجديد. ومع بداية القرن التاسع عشر وقعت أحداث لا تقل عن ذلك خطرا وبعثت فيه حياة جديدة، من ذلك الآثار التي ترتبت على الثورة الفرنسية، والتطور السريع للصناعة، وتبلور النظم الاشتراكية. وكانت الثورة الفرنسية قد قوت الطبقة الوسطى (البرجوازية)، ولكنها أكدت في الوقت نفسه حقوق العمال والفلاحين الذين أظهروا استعدادهم للدفاع عنها بالقوة. ولم تستطع البرجوازية المنتصرة أن تغمض عينيها عن المظالم الاجتماعية التي كان من الممكن في أي لحظة أن تنطلق منها حركة ثورية قوية. وحاولت قلة من المفكرين الإنسانيين ومحبي البشر أن تخفف من البؤس المتفاقم للشعب، وذهب البعض إلى حد المطالبة بالمساواة التي دعا إليها فلاسفة ما قبل الثورة وكانت أحد الأهداف التي توقع الناس من الثورة تحقيقها.
غير أنهم لم يثقوا في الشعب، وأشفقوا من لجوئه إلى الوسائل الثورية لتغيير النظام، ولذلك سعوا إلى التوصل لحل سلمي من خلال الإصلاح الاجتماعي. لقد كانوا يكتبون، كما أوضح كروبوتكين في مقدمة كتابه «غزو الخبز» أثناء فترة رد الفعل التي أعقبت الثورة الفرنسية، ولفتت أنظارهم جوانب فشلها أكثر من جوانب نجاحها، فلم يثقوا بالجماهير، ولم يلجئوا لها لإحداث التغييرات التي اعتقدوا أنها ضرورية، بل وضعوا ثقتهم في حاكم عظيم يكون بمنزلة «نابليون اشتراكي» يمكنه أن يفهم الروح الثورية الجديدة ويقتنع بأهميتها والحاجة إليها من خلال التجربة الناجحة للمجتمعات أو الاتحادات، ويحقق بالطرق السلمية وبقوة شخصيته الثورة التي تعود على الجنس البشري بالرخاء والسعادة. إن العبقرية العسكرية المتمثلة في نابليون لم يمض على حكمها لأوروبا سوى وقت قصير، فما الذي يحول دون ظهور عبقرية اجتماعية تقود أوروبا وتبعث الحياة في الإنجيل الجديد؟
استطاعت الثورة الصناعية أن تفتح آفاقا جديدة، وتصور الكثيرون أنها قدمت الحل لمشاكل الفقر وعدم المساواة. وبدا أن زيادة الإنتاج لن تقف عند حد، وأنه ليس ثمة ما يمنع أي إنسان من أن يعيش كما يعيش البرجوازي. فالمساواة لن تكلف أحدا أي تضحية، ما دام المجتمع الجديد لن ينتقص من الرخاء الذي يتمتع به الأغنياء، بل سيرفع الفقراء إلى مستواهم. وإذا كانت اليوتوبيات في الماضي قد أكدت الحاجة إلى التحرر من الخيرات المادية، فإن يوتوبيات القرن التاسع عشر قد التمست السعادة من إشباع الحاجات المادية المتزايدة بصفة مستمرة. ولم يقتصر الأمر في الواقع على إتاحة التقدم الصناعي للمزيد من الترف والرفاهية، بل إن الموقف من اللذات المادية قد تغير برمته تغيرا تاما. كان الناس في يوتوبيا مور يعيشون حياة خشنة قاسية، ولم يكن السبب في ذلك هو الفقر والعوز، إذ كان الذهب والفضة متوافرين لديهم وبإمكانهم شراء السلع من البلاد الأجنبية وتحسين مستوى معيشتهم، بل كان يرجع إلى اعتقادهم بأن الترف سيؤدي حتما إلى الفساد والانحلال. وتصور الكتاب اليوتوبيون، باستثناء عدد منهم مثل فرانسيس بيكون، أن التقدم معناه تحسين أحوال الناس من النواحي العقلية والجسدية والأخلاقية، وأن ذلك لن يتحقق بالاهتمام الزائد بالسلع المادية، ولا بالانغماس الشديد في المتع واللذات التي يمكن أن تفسد العقل. ولن نجد مثل هذه الاهتمامات الأخلاقية عند كتاب اليوتوبيا في القرن التاسع عشر، فهم ماديون بشكل مخجل، ولا يتورعون عن حساب نصيب الفرد من السعادة بمقدار ما يملك من قطع الأثاث والملابس وألوان الطعام الذي يتناوله في كل وجبة. ويندر أن نجد أحدا يناهض هذا الاتجاه، باستثناء وليم موريس في يوتوبياه «أخبار من لا مكان».
لقد أثر «آباء الاشتراكية» بطبيعة الحال في يوتوبيات القرن التاسع عشر تأثيرا كبيرا. ولا يرجع تأثير فوريه وسان سيمون وأوين في اليوتوبيات إلى كتاباتهم النظرية وحدها، وإنما يرجع إلى خططهم ومشروعاتهم العينية المحددة للإصلاح الاجتماعي، وإلى «القرى التعاونية» أو الاتحادات التي ألهمت العديد من ملامح اليوتوبيات المتأخرة. والواقع أن أوين (1771-1858م) وفورييه (1772-1830م) يشذان من بعض الجوانب عن الاتجاه الرئيسي للفكر الاشتراكي في القرن التاسع عشر، فلم يدعوا إلى الحكومة المركزية والتوسع في تصنيع الريف، بل آمنا بضرورة إنشاء تعاونيات زراعية صغيرة ومستقلة. وأوين هو أول من بادر باقتراح إنشاء هذه التعاونيات الزراعية الصغيرة التي لا يزيد عدد سكانها على ثلاثة آلاف نسمة، على إحدى الحكومات المستنيرة، واشتراط أن تعتمد على الاكتفاء الذاتي وأن تدار إدارة مستقلة. ويقوم بإدارة الشئون الداخلية فيها مجلس عام يتألف من كل أعضاء الجماعة التعاونية الذين تتراوح أعمارهم بين الثلاثين والأربعين عاما، بينما يدير الشئون الخارجية مجلس عام آخر، يتألف أعضاؤه ممن تتراوح أعمارهم بين أربعين وستين عاما.
وجميع أعضاء «الكوميون» متساوون، ويأخذون نصيبا متساويا من السلع المنتجة، كما أن المجالس العامة تحكم وفقا لقوانين الطبيعة الإنسانية. وعندما تتم تغطية العالم كله بالاتحادات الفيدرالية للتجمعات الزراعية، تصبح الحكومات غير ضرورية وتختفي تماما. وربما كانت أفكار «أوين» عن التعليم هي صاحبة التأثير الأكبر في الكتاب اليوتوبيين، فقد أكد في كل كتاباته أن «طبع الإنسان - بغير استثناء واحد - محدد من قبل، وأن أسلافهم هم المسئولون أساسا عن ذلك، وهم الذين يعطونه، أو يمكن أن يعطوه، أفكاره وعاداته، وهم القوى التي تحكم سلوكه وتوجهه.» ولذلك فإن مهمة التعليم هي تمرين الناس على أن يعيشوا «بغير تعطل، ولا فقر، ولا جريمة ولا عقاب». وتعددت محاولات «أوين» لوضع أفكاره موضع التطبيق العملي، وذلك بدءا بنيولانارك
New Lanrak
وانتهاء بالكوميونات التي أسسها في أمريكا، وكانت هذه المحاولات مصدر إلهام لعدد آخر من التجارب المشابهة، ولا يندر في القرن التاسع عشر أن نجد أن اليوتوبيات كانت وراء ظهور العديد من الحركات التعاونية.
وكثيرا ما ارتبط اسم «فورييه» باسم «أوين» بسبب بعض وجوه الشبه السطحية بين المفكرين، وبالرغم من إشارات فورييه الدائمة إلى أوين بعبارات تنم عن استخفافه به وتقليله من شأنه . وقد لقب فورييه، وذلك بغير حق بالقياس إلى أوين، «باب الاشتراكية»، مع أنه لم يؤمن بفكرة جماعية السلع، بل نفر منها في الواقع نفورا شديدا، ورأى أن عدم المساواة لا غنى عنه لاستمرار الحياة في مجتمعه المثالي. وعلى الرغم من أنه كان في صف إلغاء الأجور، إلا أنه دعا إلى ضرورة توزيع الأرباح وفقا لحجم رأس المال المستثمر، وحصيلة العمل، وقدرات المساهمين ومواهبهم الفردية. ومع ذلك فقد آمن بأن على المجتمع أن يتكفل بالذين يرفضون العمل، لا لتحرير العمل من طبيعته الإجبارية أو القهرية فقط، بل لأن المجتمع عليه واجبات تجاه أفراده سواء أنتجوا أم لم ينتجوا.
ثم إن العمل نفسه لا بد أن يكون محببا جذابا، وأن يبعث على البهجة والاستمتاع بحيث يقل عدد الكسالى والمتعطلين إلى الحد الأدنى.
لم يضع فورييه ثقته في أي حكومة مستنيرة، بل كان أمله أن يجد راعيا ثريا يمكنه أن قدم التمويل اللازم لإنشاء التعاونيات، وأن يذهل الناس إعجابا بنتائجها الرائعة بحيث تعم الأرض كلها في أسرع وقت. وقد زعم أن ميزة النظام الذي يدعو إليه هو أنه يجمع مصالح الرأسماليين والعمال والمستهلكين بتوحيد جميع هذه الوظائف في الفرد الواحد. وهذه الأفكار هي التي أخذ بها العديد من الاتحاديين (أنصار تكوين الاتحادات) في النصف الأخير من القرن التاسع عشر، بل ما زال يتمسك بها قطاع لا بأس به من الحركة الاشتراكية في أيامنا. وقد لاحظ شارل جيد في كتابه «تاريخ المذاهب الاقتصادية». «أن البرنامج الذي لا يهدف فقط إلى إلغاء الملكية، بل إلى العمل على اختفاء الأجير بإعطائه الحق في الملكية على أساس مبدأ المساهمة في رأس المال المشترك، والذي يتطلع للنجاح، لا عن طريق الدعوة لإثارة الحرب والصراع بين الطبقات، بل بتشجيع التعاون بين رأس المال والعمال والكفاءات الإدارية، والذي يحاول التوفيق بين المصالح المتصارعة للرأسمالي والعامل، والمنتج والمستهلك، والمدين والدائن، وذلك بإدماج هذه المصالح جميعا في شخص واحد - مثل هذا البرنامج لا يمكن أن يكون شيئا عاديا أو متواضعا. لقد ظل هو المثل الأعلى للطبقات العاملة الفرنسية حتى حلت محله التجمعات الماركسية الشمولية، ويحتمل في النهاية ألا يكون التخلي عن ذلك المثل الأعلى إلا مسألة وقتية ...»
إن غرابة شخصية شارل فورييه قد حالت بينه وبين التأثير الواسع النطاق، ولكن كتاباته تحتوي على ثروة كبيرة من الأفكار التي تجعلها منبعا لا ينفد معينه لإلهام المصلحين الاجتماعيين، بل إن أشد خصومه عداوة له لم ينجوا من تأثيره. صحيح أن تصوراته المستقبلية عن المدن المزدهرة بالحدائق التي ستحل محل الكتل الضخمة للمدن الكبيرة، ودعوته للتوسع في زراعة البساتين التي تستغل كأسواق بدلا من التوسع في زراعة المساحات الشاسعة من الأراضي، واهتمامه بدراسة الوسائل التي تجعل العمل جذابا، وتوصياته عن التعليم والتربية الجنسية، صحيح أن هذه كلها لم تلفت إليها سوى انتباه أقلية ضئيلة، ولكنها وصلت على كل حال عن هذا الطريق إلى الكثيرين ممن لم يقرءوا كتاباته.
ومع أن فورييه نفسه لم يستطع أبدا أن يحقق حلمه بإقامة الفالينسترات
، فقد قامت على أساس أفكاره تجمعات أو (كوميونات) في كل من فرنسا وأمريكا، وكان أشهرها - رغم أنها لم تدم طويلا - مزرعة بروك
Brook Farm
2
في الولايات المتحدة، كما أنشئت بعض الاتحادات للمنتجين والمستهلكين وفق مبادئه وحققت قدرا من النجاح.
ولا بد لنا أيضا من الإشارة إلى سان سيمون (1760-1825م) بوصفه أحد آباء الاشتراكية، فقد قدم هو وأتباعه - الذين ربما تفوقوا عليه في هذا - مجموعة من الأفكار التي يمكن أن نجدها متضمنة في الكثير من يوتوبيات النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وعلى حين كان كل من أوين وفورييه يمثلان - من بعض الوجوه - نوعا من رد الفعل المضاد للاتجاه إلى التصنيع، وذلك بمطالبتهما بالرجوع للتجمعات الزراعية الصغيرة، فقد كان سان سيمون هو أحد المؤيدين المتحمسين للنظام الصناعي الجديد وللطبقة الحاكمة الجديدة التي أوجدتها الثورة الكبرى وزاد التوسع السريع في الصناعة من ثرائها. كان النبلاء والكهنة هم الذين يحكمون المجتمع في ظل النظام القديم. وقد غدا من الضروري أن تحل محلهم البرجوازية التي كانت مهمتها الأساسية هي تشجيع تقدم العلم والصناعة. ومن السخف، كما يقول سان سيمون، أن يحكم المجتمع الصناعي من قبل النبلاء الذين لم يعد هناك أي مبرر لوجودهم، أو من قبل الساسة الذين لا يعرفون شيئا عن المشاكل الصناعية.
ولا بد أن يختفي الشكل القديم للحكومات التي لم تعد لها أي فائدة للمجتمع. وقد بين سان سيمون بكل وضوح في الوثيقة الشهيرة التي عرفت «بأمثولة سان سيمون» (ونشرت عام 1832م) أن الجزء الحيوي من المجتمع يتألف من العلماء والتقنيين (الفنيين) ورجال البنوك ورجال الأعمال، لا من السياسيين وموظفي الدولة أو الكهنة: «دعونا نفترض، على حد قوله، أن فرنسا فقدت فجأة خمسين من أهم أطبائها وخمسين من أكبر علماء الكيمياء فيها، وخمسين من أنبغ علماء الفسيولوجيا، وخمسين من أكفأ رجال البنوك، ومائتين من أفضل تجارها، وستمائة من أبرع الزراعيين وخمسمائة من أمهر صناع الحديد وأقدرهم ... (إلى آخر قائمة الصناعات الأساسية) ونظرا لأن هؤلاء الرجال هم أهم المنتجين الذين لا يمكن الاستغناء عنهم، وأبرز المسئولين عن أهم المنتجات، فلن تلبث الأمة، في اللحظة التي تخسرهم فيها، أن تتحلل وتصبح مجرد جسد بلا روح، وتتردى في أعين الأمم المنافسة إلى حالة من الضعف المهيمن، وتبقى في هذا الوضع الهامشي ما بقيت الخسارة قائمة وأماكن هؤلاء الرجال شاغرة. ودعونا الآن نفترض فرضا آخر. تخيلوا أن فرنسا احتفظت بكل عباقرتها، سواء في الفنون والعلوم أو في الحرف والصناعات، ولكنها لسوء الحظ فقدت في نفس اليوم شقيق الملك، وهو دوق أنجوليم، وكل أعضاء الأسرة المالكة، وكل رجال البلاط الأكابر، وكل وزراء الدولة - سوا أكانوا على رأس الإدارة أم لم يكونوا - وكل أعضاء المجلس السري الخاص، وكل المختصين بالتظلمات، وكل المارشالات، والكاردينالات، ورؤساء الأساقفة، وكبار القساوسة والكهنة، وكل المديرين الفرعيين، وكل موظفي الحكومة، وكل القضاء، وعلى رأس هؤلاء أجمعين مائة ألف من أصحاب الأملاك، وهم صفوة نبلاء الدولة. سوف يتألم الفرنسيون بالتأكيد لهذه الكارثة الرهيبة، ولكن فقد مائة وثلاثين ألفا من الأفراد المعروفين في الدولة بحسن السمعة سيثير حزنا من النوع العاطفي الخالص ، ولن يؤثر في المجتمع تأثيرا يذكر».
3
كان سان سيمون قد أعلن عام 1816م أن السياسة هي علم الإنتاج، وأن من الممكن أن تدرج برمتها ضمن علم الاقتصاد. وطالب بأن تتحول فرنسا إلى مصنع، وأن تنظم شئون الأمة على غرار نموذج ورشة عمل كبيرة. وسوف تختفي في المجتمع الجديد كل الفروق الطبقية، ولن يبقى إلا العمال، مع العلم بأن هذه الكلمة ستستخدم بمعناها الواسع لتشمل أصحاب المصانع والعلماء ورجال البنوك والفنانين. ولكن هذا لا يعني أن يصبح الجميع متساوين، ما دام كل فرد سيأخذ طبقا لقدراته (بل وطبقا لرأس المال المستثمر).
وتكمن أصالة سان سيمون في إعطائه مهمة إدارة البلاد لأفضل رجال الصناعة، والعلماء، ورجال البنوك ... إلخ، أي أن حكومة «المديرين» ستحل محل حكومة السياسيين القديمة. وإذا كنا قبل مائة عام أو أكثر قد بدأنا في الحديث عن الطبقة الإدارية أو عن «الثورة الإدارية» فإن سان سيمون قد تنبأ بأن الثورة الصناعية ستؤدي إلى ظهور طبقة حاكمة جديدة. وسوف نرى فيما بعد كيف يردد إدوارد بيلامي أصداء من سان سيمون، وذلك عندما حاول إقامة يوتوبياه (التطلع للوراء) على أساس اشتراكي. وقد شاعت في القرن التاسع عشر فكرة أن إدارة الأشياء يجب أن تحل محل حكم الناس، وأن كل مشاكل المجتمع ستتحول إلى مشاكل الإنتاج. وفي أحد المشروعات العديدة التي قدمها سان سيمون عن الحكومة، نجده يعطي السلطة التنفيذية لمجلس نواب يتألف من ممثلين لرجال التجارة والصناعة والزراعة، الذين يمكنهم أن يقبلوا أو يرفضوا الاقتراحات التشريعية التي تعرض عليهم من قبل مجلسين مؤلفين من العلماء والفنانين والمهندسين، والمهمة الوحيدة لهذه «الحكومة» هي العمل على زيادة الثروة المادية للبلاد. ولم يترك هذا النظام فرصة القيام بأي مبادرة لجماهير العمال، الذين لم يثق فيهم سان سيمون على الإطلاق. وهو يقول في هذا الشأن «إن مشكلة التنظيم الاجتماعي يجب أن تحل من أجل الشعب. أما الشعب نفسه فهو سلبي وكسول ويجب إسقاطه من حسابنا في أي بحث للمشكلة. وأفضل وسيلة لذلك هي أن يعهد بإدارة الشئون العامة إلى القادة أو الرؤساء الصناعيين الذين سيحاولون دائما وبشكل مباشر أن يتوسعوا في آفاق مشروعاتهم إلى أقصى حد ممكن، بحيث تؤدي جهودهم في هذا الاتجاه إلى أعظم قدر من التوسع في حجم العمل الذي تنفذه جماهير الشعب». وعلى الرغم من اعتراف المفكرين الاشتراكيين بأن تعالي سان سيمون على طبقة «البروليتاريا»، قد صدمهم صدمة شديدة، إلا أن الفكرة القائلة بأن إدارة البلاد من شأن الخبراء، وأن الآلة المسيرة للدولة ينبغي أن تتكون من لجان أو مفوضيات من التقنيين (الفنيين) ورجال الصناعة، هي فكرة يمكن أن نجدها في كثير من الكتابات الاشتراكية، وذلك كما رأينا في روسيا التي أوجدت طبقة إدارية منحت - وكان من الممكن أن يؤيد ذلك سان سيمون - امتيازات اقتصادية وسياسية، على الرغم من أنه كان سيستنكر بشدة مسألة الاحتفاظ بحزب سياسي وبسياسيين محترفين.
وبينما لم يعول كل من أوين وفورييه وسان سيمون إلا قليلا على تدخل الدولة لتغيير بنية المجتمع، فإن لوي بلانك
Louis Blanc
4
هو أحد الاشتراكيين الأوائل الذين أسندوا إلى الدولة مهمة إصلاح المجتمع. وقد أكد أن واجب الدولة هو الحرص على احترام «حق العمل» وبذلك نقضي على الجرائم التي ترجع بأجمعها إلى الفقر. ولن تستطيع الحكومة القضاء على البطالة والفقر والانحطاط الأخلاقي الذي ينتج عنهما إلا عن طريق القضاء على المنافسة. بذلك تصبح مهمتها أن تقوم بدور «المنظم الأعلى للإنتاج»، وأن تبدأ بإنشاء ورش عمل اجتماعية في معظم الفروع المهمة للصناعة، وأن تتوسع فيها بالتدرج لتشمل البلاد بأسرها. ومن حق الدولة أيضا أن تصبح هي المالك الوحيد لجميع وسائل الإنتاج، على الأقل ما دامت باقية فيها الأشكال المختلفة لعدم المساواة؛ لأن تحقيق المساواة الكاملة سوف يؤدي إلى تلاشي الدول.
عرض لوي بلانك اقتراحاته عن الإصلاح الاجتماعي في كتيب بعنوان «تنظيم العمل»
L’organisation Du Travail ، نشر عام 1839م، وتمتع بشعبية كبيرة في ذلك الوقت، وكثيرا ما وصف هذا الكتيب بأنه يوتوبيا، على الرغم من أنه هو العكس من ذلك تماما، إذ إنه مجرد اقتراح بإصلاح اجتماعي مباشر، وبداية تأسيس نظام جماعي للإنتاج. ومما يثبت أن لوي بلانك نفسه قد اعتقد اعتقادا قويا بإمكان تطبيق اقتراحاته تطبيقا عمليا أنه طالب الجمعية العمومية، بعد ثورة عام 1848م، بإنشاء وزارة للتقدم لتنفيذ الخطة التي رسمها في «تنظيم العمل». وكان من رأيه أن وزارة التقدم هي التي ستدفع حركة الثورة، فتؤمم البنوك والسكك الحديدية والمناجم، وتستغل الأموال في إقامة ورش عمل اجتماعية في أهم فروع الصناعة. كذلك ستقوم الدولة بتعيين موظفين لإدارة المصنع في عامه الأول، وما إن يتعرف العمال كل منهم على الآخر ويهتموا بالمشروع حتى يقوموا بأنفسهم باختيار ممثليهم. وسوف يكون لكل عضو من أعضاء ورش العمل الاجتماعية الحق في التصرف في نتاج عمله بالطريقة التي يراها مناسبة، ولكن التدبير الواضح للحياة الاجتماعية بالإضافة إلى امتيازها الذي لا يتطرق إليه سرعان ما يؤديان إلى تحويلها من تجمع موجه للعمل إلى تجمع طوعي لإشباع الحاجات والملذات. كذلك قدم لوي بلانك خطة للزراعة الجماعية للأرض عن طريق إيجاد ورش عمل زراعية واجتماعية تسير على مبادئ مشابهة للمبادئ التي تسير عليها ورش العمل الصناعية الاجتماعية. ولم يوضع مشروع لوي بلانك أبدا موضع التنفيذ، كما أن محاولة الحكومة إقامة ورش عمل أهلية في عام 1848م لم يقصد من ورائها إلا التشكيك في صحة أفكاره، ومع ذلك فإن العديد من الجمعيات التعاونية التي ظهرت في فرنسا في ذلك الحين ترجع لتأثير كتاباته.
إن يوتوبيات القرن التاسع عشر التي استوحت النظريات التي ذكرناها باختصار هي يوتوبيات فاقدة الروح بصورة تدعو للحزن والاكتئاب. فهي تهدف إلى إقامة آلية اجتماعية ضمن الانتظام الكامل للحياة في المجتمع وتكفل الرفاهية المادية لكل فرد فيه.
بيد أن فردية الإنسان ضائعة تماما في هذه الآليات البالغة التعقيد. كما أن الدولة تغدو فيها أشبه بإله لا متناهي الحكمة والكرم، ومعصوم على الدوام من الخطأ، وإذا ارتكبت خطأ فلن يملك أحد القوة لتصحيحه. وسواء تمت إدارة اشتراكية للدولة عن طريق الاقتراع العام، كما في «رحلة إلى إيكاريا» لكابيه، أو من خلال التسلسل الصناعي كما في «التطلع للوراء» لبيلامين فإن النتيجة واحدة؛ لا يستطيع الإنسان أن يعبر عن شخصيته إلا من خلال القنوات التي تسمح بها الدولة. لقد أصبح جهازا آليا ذاتي الحركة (أوتوماتون)، فهو يعمل عددا من الساعات التي يفرضها عليه القانون، ويؤدي المهام والواجبات التي جعلها التصنيع الزائد مملة وغير شخصية. ونتاج عمله يكدس في مخازن هائلة الأحجام ليستهلكها مجتمع لا تربطه به أي صلة حقيقية؛ لأن ضخامته ومركزيته لا يسمحان بإقامة علاقات حميمة معه. وتبذل أحيانا بعض المحاولات لخلق الإحساس بالروح الجماعية عن طريق حشد جميع سكان الحي الواحد في مطاعم مشتركة مثلا، ولكنها تظل وسيلة مصطنعة شأنها شأن العديد من التنظيمات التي نجدها في يوتوبيات القرن التاسع عشر. لقد كانت وحدة الجماعة في اليوتوبيات السابقة وحدة وظيفية، كما رأينا في مدينة المسيحيين لأندريا، فالعمال الذين يشتغلون بمهنة واحدة يتقابلون لمناقشة المشاكل المتعلقة بعملهم، والجماعة بكامل أعضائها تلتقي لمناقشة كمية الطعام، والملابس، والأثاث ... إلخ وسائر ما يحتاجون إليه، والإنتاج منظم وفقا لاحتياجات أعضاء الجماعة الذين يعرفونهم عن قرب نظرا لصغر حجم الجماعة. أما في يوتيوبيات القرن التاسع عشر فإن حجم الاستقلال الممنوح للجان المصانع أو لاتحادات المستهلكين حجم مزيف. فعندما تنظم الدولة كل شيء بفضل خبرائها ومكاتب الإحصاء فيها فلن يبقى سوى القليل الذي يمكن للعمال أن يتناقشوا حوله. وقد صدق «ممفورد» عندما قال: «إن هذه اليوتوبيات تتحول إلى شبكات من الصلب والأشرطة الحمراء اللاصقة، بحيث نشعر بأننا وقعنا في شرك كابوس عصر الميكنة، وأننا لا نستطيع النجاة منه أبدا ... لقد صارت الوسيلة هي الغاية، ونسيت المشكلة الحقيقية للغاية ... ويخالجني الشك في قدرة أي فلاح ذكي من الهند أو الصين على الخروج من هذا الكم من اليوتوبيات بفكرة واحدة، لها أي معنى أو تأثير في الحياة التي عاشها، وما أقل ما يتبقى للإنسان لو أمكنه أن يفرغ من تسوية مشاكل التنظيمات الآلية والسياسية.»
وهناك لحسن الحظ بعض اليوتوبيات القليلة التي يجد فيها الإنسان نفسه مرة أخرى، حيث لا ينحدر إلى مستوى الآلة التي يتعين إطعامها وتدبير الملبس والمسكن لها، مثل أي قطعة «ماكينة» تتطلب الحرص في التعامل معها إذا أريد استخراج أقصى عائد منها، وحيث لا يتم تشكيله منذ صباه ليصبح «مواطنا صالحا»، أي مواطنا مطيعا للقانون طاعة كاملة، وعاجزا عن التفكير لنفسه تفكيرا مستقلا. وأحب هذه اليوتوبيات ذات النزعة الاشتراكية الحرة وأكثرها جاذبية هي يوتوبيا وليم موريس «أخبار من لا مكان» فهي تتصف بصفات العمل الأدبي القادر على اجتذاب القراء سواء داخل هذا البلد (أي إنجلترا) أو خارجه. وهناك أيضا عدد من الروايات الخيالية مثل رواية «العصر البلوري» ل «و. ه. هدسون»
W. H. Hudson
ورواية و. ه. ماللوك
W. H. Mallock «الجمهورية الجديدة» اللتين لا تدعيان أنهما تقدمان مشروعا مبرأ من الأخطاء لمجتمع كامل، وإنما تصفان نمط المجتمع الذي يتمنى المؤلفان أن يعيشا فيه. ومهما جنحت مثل هذه الروايا إلى الإغراب في الخيال، فإنها - كما قال هدسون نفسه - تؤثر في معظمنا تأثيرا رقيقا متصلا، لأنها تنبع من إحساس مشترك بيننا وهو الإحساس بالسخط على النظام السائد للأشياء، الذي يمتزج بإيمان أو أمل غامض في نظام أفضل يمكن أن يتحقق يوما ما ... (ولا يسع الواحد منا إلا أن يسأل صاحبه: ما هو حلمك أو مثلك الأعلى؟ ما هي أخبار من لا مكان؟) ومهما يشعر الإنسان بأن مجتمع «هدسون» الخالي من الجنس أو «المنزل الريفي» اللطيف ل «ماللوك» لا يجذبانه كثيرا إليهما، فهو لا يملك إلا الاعتراف بأن هذين الكاتبين اليوتوبيين ينعشان فؤاده بعض الشيء بالقياس إلى أولئك «المخلصين» الذين لا حصر لهم، والذي غص بهم طريق القرن التاسع عشر. وقد كان بودي أن أضمن هذا القسم مقتطفات من رواية بتلر (أيروهين) لأنها تسخر من أفكار عديدة يتكرر التعبير عنها في يوتوبيات القرن التاسع عشر، وبصفة خاصة فكرة الاعتقاد بأن التوسع في استخدام الآلة سيجلب السعادة للجنس البشري بطريقة آلية، ولكن «أيروهين» لا يمكن اعتبارها يوتوبيا، لأنها تنتمي، كما لاحظ ديزموند مكارثي، لنفس «فئة الروايات التي تنتمي إليها (رحلات جليفر)، وتعبر عن حضارة خيالية يلجأ إليها المؤلف لكي يتمكن من نقد حضارتنا». وقد استعضت عن الروايات السابقة ببعض المقتطفات من رواية أويجين ريشتر، «صور من المستقبل الاشتراكي»، وهي يوتوبيا هجائية خالية من أي طموحات فلسفية، وإن كانت تقدم عددا كبيرا من الاعتراضات التي تثيرها في الذهن يوتوبيات اشتراكية-الدولة.
وهناك عدد قليل من يوتوبيات القرن التاسع عشر التي يمكننا أن نقرأها اليوم دون أن نشعر بالملل التام، اللهم إلا إذا نجحت في تسليتنا بخداع مؤلفيها لأنفسهم وتصورهم أنهم مخلصو الجنس البشري. ولقد احتوت يوتوبيات عصر النهضة على ملامح عديدة جذابة، ولكن اتساع آفاق الرؤية فيها يستوجب الاحترام، أما يوتوبيات القرن السابع عشر فقد طرحت العديد من الأفكار المتطرفة، ولكنها كشفت عن عقول ساخطة نفاذة يمكننا أن نتعاطف معها. وعلى الرغم من أن الفكر الذي تعبر عنه يوتوبيات القرن التاسع عشر يعد من نواح كثيرة فكرا مألوفا لنا ، فإننا نشعر مع ذلك بأنها غريبة عنا أكثر من يوتوبيات الماضي البعيد. ومع أن هؤلاء الكتاب اليوتوبيين قد حركت أقلامهم دوافع سامية، إلا أن المرء لا يسعه إلا أن «يشعر بالمرارة تجاه القرن التاسع عشر» كما شعر العجوز في «أخبار من لا مكان»، بالمرارة حتى من الحب الذي يسرف هؤلاء الكتاب اليوتوبيون في إغداقه على البشر، لأنهم يبدون أشبه بالأمهات الحنونات القلقات اللائي يقتلن أبناءهن من فرط الاهتمام والعطف، بدلا من أن يتركنهم يستمتعون بلحظة واحدة من الحرية. (1) ايتيين كابيه (1788-1856م): «رحلة إلى إيكاريا»
ربما يغفر لنا القارئ بعض الضيق والعصبية ونحن نتعامل مع كتاب يقول عنه مؤلفه: «اتخذت «رحلة إلى إيكاريا» شكل الرواية، ولكنها في الحقيقة بحث في الأخلاق، والفلسفة، والاقتصاد الاجتماعي والسياسي، وهي ثمرة جهد طويل، وبحث واسع، وتأمل متواصل. ولا يكفي قراءتها لكي تفهم فهما صحيحا، بل يجب أن تعاد قراءتها ودراستها أكثر من مرة.» ومما يزيد الأمر صعوبة أن كابيه نفسه يخبرنا أن كتابه: «مستلهم من حب خالص ومتوقد للبشرية.» ولعل العبارة الثانية أن تكون أكثر دقة من الأولى. فايتيين كابيه ينتمي إلى ذلك النمط من المصلحين الاجتماعيين الذين يتكافأ حبهم غير المحدود للبشرية مع إيمانهم بقدرتهم على إنقاذها.
ولد كابيه عام 1788م لعائلة من الطبقة العاملة، ولكنه تلقى تعليما جيدا وأصبح محاميا يتمتع بقدر من الشهرة. كان قد انجذب إلى السياسة منذ صباه، ووقف في صف المؤيدين للملكية المستنيرة. وعندما تولى لويس فيليب الملك، وكان قد علق عليه آمالا كبيرة، عين في منصب النائب العام في كورسيكا. ولكن رعونته واندفاعه صورا له أنه يمكن أن يفرض نصائحه على الملك، وسرعان ما حل عليه الغضب وفقد منصبه. وعاد إلى باريس حيث كرس نفسه للعمل في صحيفة «الشعب» التي سبق له تأسسيها وتحريرها، وفي عام 1834م تعرض للمحاكمة بسبب إحدى المقالات التي كتبها. وحكم عليه بالسجن لمدة سنتين أو النفي لمدة خمس سنوات، فاختار النفي ولجأ إلى إنجلترا.
وصل كابيه إلى لندن في شهر مايو عام 1834م وأرهقه الفراغ الذي فرضته عليه الحياة في المنفى بعد النشاط المحموم الذي مارسه كمحام وصحفي ونائب في الجمعية الوطنية. ومنعه جهله باللغة من الاتصال بالشعب الإنجليزي. وبقيت لندن بالنسبة إليه، كما يقول مؤرخ حياته ج. برودومو
J. Proudhommeaux ، «سجنا حقيقيا لمدة خمس سنوات». ولجأ، مثل غيره من مشاهير المنفيين، إلى المتحف البريطاني، حيث عكف في قاعة المطالعة على «بحوثه الواسعة» لكتابة «رحلة إلى إيكاريا». وربما كانت التسهيلات التي أتاحتها مكتبة المتحف هي المسئولة نسبيا عن افتقار كتابه إلى الأصالة.
حفظت الملاحظات التي جمعها كابيه للاعتماد عليها في كتابة يوتوبياه وملأت ألف صفحة صغيرة؛ ولذلك فلا محل للسؤال عن «الأصول» التي رجع إليها كما يحدث في معظم الحالات. وقد أقبل على العمل بذمة وهمة عالية، وإذا لم يكن قد استطاع دائما أن يقرأ النصوص الأصلية، فقد اطلع على الأقل على تحليلات لمعظم اليوتوبيات، وعكف على دراسة الأوقيانوسة لهارنجتون، وعلى يوتوبيا مور قبل كل شيء. وإذا كان لنا أن نصدقه، فإن قراءته لمور هي التي وجهته لدراسة نظام مشاعية السلع وما إن اكتشف أن «السبب في رذائل الجنس البشري وتعاسته يكمن في التنظيم السيئ للمجتمع، وأن الرذيلة الأساسية التي يقوم عليها هذا التنظيم هي عدم المساواة»، حتى بدأ يبحث بحثا منهجيا عن المفكرين والفلاسفة والأنبياء أو الحركات السابقة التي عبرت عن وجهة نظر مشابهة. واكتشف أن هناك عددا كبيرا من حلفائه في الرأي، وأنهم لا يقتصرون على الكتاب اليوتوبيين، بل يضمون «السيد المسيح، وآباء الكنيسة، والمسيحيين الأوائل، وحركة الإصلاح الديني، وفلاسفة القرن الثامن عشر، والثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، والتقدم العلمي، وأنهم جميعا يدعون إلى المساواة والإخاء بين البشر والأمم».
تأثر كابيه تأثرا قويا، وبشكل مباشر وغير مباشر - على الرغم من عدم اعترافه بهذا - بالأفكار الشيوعية لأتباع بابيف. وكان قد قرأ كتب فيليب بوناروتي حول «مؤامرة المساواة أو مؤامرة بابيف» الذي ظهر في عام 1828م. ورغم أن هذا الكتاب لم يشده كثيرا في ذلك الوقت، إلا أنه استعار بشكل غير واع عددا كبيرا من الأفكار التي ألهمت الحركة البابوفية. أضف إلى هذا أن مشرع إقامة مجتمع المساواة و«المشاعية القومية الكبرى في استهلاك الثروة»، وتسليم جميع السلطات الإدارية لدولة مركزية، وجعل الإرادة العامة للمجتمع هي صاحبة السيادة، وهو المشروع الذي دعا إليه بابيف ورفاقه، قد أثر تأثيرا كبيرا في الفكر الاشتراكي في النصف الأول من القرن التاسع عشر في فرنسا.
لقد اهتمت النزعة الاشتراكية الفرنسية بشكل أساسي، كما أوضح دافيد تومسون في كتابه عن «مؤامرة بابيف»، بتحقيق المساواة الكاملة بين الناس، وكانت في سبيل هذا الهدف على استعداد للتضحية بحرية الفرد (على مذبح) الدولة. وبينما حاول حتى أكبر أنصار المساواة في إنجلترا، وهو جيرارد ونستنلي، أن يوفق بين المساواة وبين التمتع بدرجة عالية من الاستقلال الشخصي، وأن يختزل اختصاصات الدولة إلى الحد الأدنى، فقد أسندت إلى الدولة في فرنسا مهمة تأسيس «المشاعية القومية الكبرى في الثروة» التي ستضمن تحقيق المساواة بين جميع المواطنين. ومع أن كلمات مثل مشاعية الثروة، والمساواة، والإخاء، تتكرر بصورة مستمرة في كتابات البابوفيين، كما تكررت بعد ذلك في كتابات كابيه، إلا أن كلمات الحرية والحقوق الفردية لا تذكر فيها على الإطلاق، كما أنها تتجاهل تماما إمكانية الصراع بين مصالح الدولة ومصالح الفرد.
وإذا كان هناك اختلاف طفيف بين البرنامج العلمي لإعادة البناء الاشتراكي كما دعا إليه البابوفيون وبين البرنامج الذي وضعه كابيه، فإنهما يختلفان اختلافا كاملا حول وسيلة إقامة نظامها الشيوعي. فبينما أراد بابيف أن يقلب الحكومة بالقوة بمساعدة حزب منظم تنظيما جيدا، اعتقد كابيه أن «مشاعية السلع يمكن أن تتحقق بسهولة بمجرد أن تتبناها الأمة أو حكومتها ... وهذه المشاعية لا يمكن إقامتها كما تصور بابيف عن طريق التآمر والعنف، بل بالمناقشة والدعاية والإقناع وقوة الرأي العام.»
كذلك وثق كابيه ثقة أكبر ممن سبقوه في التطور الصناعي، وأكد أن «التقدم الصناعي يجعل تحقيق مشاعية السلع أمرا أيسر مما كان عليه في أي وقت مضى، فالتطور غير المحدود لقوى الإنتاج في الوقت الحاضر بفضل استخدام البخار والآلات يمكن أن يهيئ المساواة في الوفرة، ولا يوجد نظام أنسب منه للنهوض بالفنون والرقي بالملذات المعقولة للحضارة.»
5
ويحتمل أن يكون روبرت أوين، الذي اطلع كابيه على أعماله أثناء إقامته في لندن، هو الذي اقتدى به الأخير عندما حاول أن يضع نظرياته موضع التطبيق العملي، وذلك بتأسيس بعض التجمعات «الإيكارية» في أمريكا، وقد ظهرت «رحلة إلى إيكاريا» لأول مرة عام 1839م في طبعة محدودة تحت عنوان «رحلة ومغامرات اللورد وليم كريسدال في إيكاريا»، ثم أعيد عنوانها الحالي في يناير عام 1840م وحققت نجاحا فوريا، وصدر منها خمس طبعات من عام 1840م إلى عام 1848م واستقبلت يوتوبيا كابيه، في غمرة البطالة والفقر اللذين انتشرا بين الطبقة العاملة الفرنسية في ذلك الوقت بحماس شديد وترحيب لا نظير له. وتعاون العمال الذين لا يملكون ثمن الكتاب على شرائه، وظهرت في جميع أنحاء فرنسا جمعيات تنادي بأفكار كابيه عن الإصلاح الاجتماعي، وجمعت الأموال لإقامة بعض التجمعات الإيكارية في أمريكا.
وقرر كابيه حوالي سنة 1847م، أي عشية ثورة 1848م، أن يضع نظامه موضع التطبيق العملي، وبدأ في تسجيل الأعضاء الذين سيشكلون نواة أمة جديدة في أمريكا. وسافر إلى لندن عام 1847م ليتشاور مع أوين عن الموقع الذي يمكن أن تقام عليه المستعمرة الأولى، فنصحه بإقامتها في تكساس. وقد ثبت بعد ذلك أن هذا الاقتراح لم يكن موفقا، فبعد محاولات فاشلة في تكساس انتقل أول المستعمرين الإيكاريين إلى مستعمرة سابقة لطائفة المورمون.
6
في «ناوفو» بالقرب من سانت لويس، حيث تولى كابيه الإدارة بنفسه (وذلك بعد أن لعب دورا نشطا في ثورة باريس لعام 1848م، التي قام خلالها بقيادة أحد النوادي الاشتراكية ذات التأثير الواسع)، ولكنه اضطر للعودة إلى باريس عام 1853م، وبعد رحيله ضعفت «الكوميونة» ضعفا شديدا من جراء الصراعات الداخلية. ولما رجع كابيه إلى أمريكا عجز تماما عن إعادة النظام والاستقرار للمستعمرة، ومات عام 1856م ميتة رجل تخلى عن جميع الأوهام. ومع ذلك بقي عدد من الكوميونات (التجمعات التعاونية) الإيكارية بعد ذلك التاريخ لبضعة عقود، إلى أن تفكك آخرها في عام 1898م.
لقد وصفت رحلة كابيه إلى إيكاريا بإنجيل الشيوعية الإيكارية، والحقيقة أنها تزيد على كونها مجرد يوتوبيا. فالقسم الأول الذي يصف بلدا خياليا نظمت فيه «أمة» عظيمة في جماعة يمكن اعتباره يوتوبيا بالمعنى الصحيح، ولكن القسم الثاني يشرح كيفية إقامة نظام شيوعي، ويناقش «نظرية الجماعة ومذهبها مع الإابة عن كل الاعتراضات التي قد تثار ضدها»، أما القسم الثالث فهو تلخيص للمبادئ التي يقوم عليها نظام الجماعة (أو الكوميونة).
إن الأسباب التي تجعل إحدى اليوتوبيات شعبية تساوي في غموضها الأسباب التي تتحكم في أي كتاب يحقق رواجا كبيرا بين الناس، ومع ذلك فإن يوتوبيا كابيه يمكن أن تعطينا بعض الدلالات على الخصائص اللازمة للنجاح. ويبدو أن أولى هذه الخصائص هي أن يتخلى الإنسان الذي يصف البلد الخيالي بقدر الإمكان عن أي تحفظ في إعجابه به، وأن يرسم له صورة زاهية الألوان بشكل صارخ. ولا شك في أن إقحام قصة حب رومانسية يعد وسيلة مؤكدة لزيادة فرص النجاح، مهما تكن القصة مغرقة في العاطفية وبعيدة الاحتمال، كما أن أحد العوامل التي تزيد من سحر القصة أن اللورد الإنجليزي شاب وسيم لا يستطيع إخفاء إعجابه بمعجزات الديمقراطية، وأن الخياطات وصانعي الأقفال الذين قابلهم في اليوتوبيا كان من الممكن في ظل النظام القديم أن يكونوا أميرات ودوقات. وقد قدم كابيه كل هذه الخلفية العاطفية وأكثر منها. ولعل هذا يفسر نجاح الكتاب على الرغم من افتقاره للأصالة، ومن التكرار الشديد في كثير من أجزائه، ومن أسلوبه الذي يتعذر قراءته في هذه الأيام. وأيا كان الدور الذي ساهمت به المغامرات الشخصية للورد وليم كريسدال، وفاتنات إيكاريا اللائي التقى بهن أثناء رحلته إلى أكمل بلد في العالم، في نجاح الكتاب ورواجه، فلن يمكننا التطرق إليها في هذا المقام، ولذلك سنبدأ بوصف مختصر لهذا البلد.
تقع إيكاريا في موقع ملائم يعزلها عن بقية العالم بجبال تحوطها من الشمال والجنوب، ونهر يجري إلى الشرق منها والبحر من الغرب. وهي تنقسم إلى مائة محافظة متساوية بصورة أو أخرى في الحجم وعدد السكان. وتنقسم كل محافظة إلى عشر كوميونات (تجمعات محلية) متساوية في الحجم. وتقع المدينة الرئيسية للمحافظة في مركزها تقريبا، كما تقع المدينة الرئيسية للكوميون في مركزه. ويتكون كل كوميون، بجانب مدينته الرئيسية، من ثماني قرى وعدد من المزارع الموزعة بانتظام على أراضيه. وهناك شبكة كثيفة من الطرق والسكك الحديدية والقنوات تربط كل أجزاء البلاد. ويرجع الفضل في الترتيب المتناسق للمدن والبلدان - كما في يوتوبيا مور - إلى منقذ البلاد ومشرع قوانينها الذي أعطاها كذلك اسمه وهو إيكاروس.
وقد أعيد بناء العاصمة إيكاريا طبقا لخطة فائقة البراعة، لم تكتف بتحديد شكلها بدائرة شبه كاملة، بل حولت كذلك مسار النهر في خط مستقيم وحصرته بين ضفتين منيعتين. وفي مركز المدينة يتفرع النهر إلى فرعين تقع بينهما جزيرة ذات شكل دائري أيضا بطبيعة الحال. وفي الجزيرة مربع مزروع بالأشجار، وفي وسطه يقع المبنى الرئيسي للمدينة تحيط به حديقة فخمة، وفي المركز من هذه الحديقة يرتفع عمود هائل يعلوه تمثال ضخم يهيمن بشموخه على كل المباني الأخرى. وكل شيء في إيكاريا منظم بأقصى قدر ممكن من الحرص على التناسق. وجميع الشوارع مستقيمة ومتسعة. وهناك خمسون شارعا رئيسيا تخترق المدينة بموازاة النهر، وخمسون أخرى متعامدة معه بزوايا قائمة، وبين الشوارع ميادين مزينة بحدائق جميلة، كما توجد حدائق خلفية في جميع المنازل تقوم الأسر التي تملكها بزراعتها.
ويستخدم سكان المدينة الاختراعات الحديثة بصورة مكثفة لتزويدهم بكل التيسيرات الممكنة للحياة. وهناك «عربات الشارع» وهي صورة مبكرة من العربات التي تجرها الخيول، وتسير كل دقيقتين، وأعدادها التي تبلغ الألوف تمر في اتجاهات مختلفة، وينتظرها الناس في محطات مسقوفة، وتتخذ كل الاحتياطات الضرورية لمنع الحوادث، مثل الأماكن المحددة لعبور المشاة، التي تميزها علامات تشبه علامات المرور الحالية.
إن النظافة، والنظام، والكفاءة، والاهتمام بالتخطيط، والدقة الرياضية التي تميز حياة المواطنين تنعكس على كل مظهر من مظاهر وجودهم. فكل شيء منسق بعناية من قبل الدولة وبمساعدة الخبراء بعد التشاور مع الأمة بأجمعها. وليس هناك مكان للعفوية أو لغرائب الخيال في يوتوبيا كابيه، فالقانون قد حدد كل شيء، بدءا من تخطيط المدن حتى شكل القبعات، ومن الجدول الزمني الصارم حتى قائمة الطعام لكل يوم من أيام الأسبوع. ونظام الحكم في إيكاريا جمهوري، كما أن السيادة فيها لإرادة الشعب، وإن كانت لا تعبر عن نفسها إلا من خلال الجمعيات الوطنية أو عن طريق النواب.
وفي هذه الفقرة يشرح أحد أعضاء الكومنولث الإيكاري «مبادئ التنظيم الاجتماعي في إيكاري»:
7 «لما كان التجربة قد أقنعت أهل إيكاريا بأن السعادة مستحيلة بغير التعاون والمساواة، فإنهم يشكلون معا مجمعا قائما على المساواة التامة وهم جميعا أعوان ومواطنون متساوون في الحقوق والواجبات، كما يشتركون بالتساوي في تحمل مسئوليات حياتهم التعاونية والتمتع بمزاياها، ويكونون أسرة واحدة تؤلف بين أعضائها روابط الإخاء.
ولهذا فنحن شعب أو أمة من الإخوة، ولا بد أن تتجه جميع قوانيننا إلى تحقيق المساواة المطلقة بيننا، وذلك في كل الحالات التي لا تكون فيها هذه المساواة مستحيلة من الناحية المادية ... وكما نشكل مجتمعا واحدا، وشعبا واحدا، وأسرة واحدة، فإن أرضنا، بمناجمها الكامنة في أعماقها وببنائها الخارجي، تشكل ملكية واحدة هي ملكيتنا الاجتماعية.
وكل ما يملكه الأعضاء المتعاونون ملكية شخصية، مع كل ما تنتجه الأرض والصناعة، يشكل رأس مال اجتماعيا واحدا.
والملكية ورأس المال الاجتماعيان ملك للشعب كله بغير تفرقة، فهو الذي يعمل ويستغلهما بالتعاون، وهو الذي يديرهما بشكل مباشر أو عن طريق نواب، ثم يتقاسم جميع المنتجات بالتساوي.
وجميع الإيكاريين شركاء متعاونون ومتساوون، وهم ملزمون بممارسة حرفة وأداء ساعات عمل متساوية، ولكنهم يوظفون ذكاءهم في تدبير كل الوسائل الممكنة لتخفيض عدد ساعات العمل وجعله محببا للنفس وخاليا من الأخطار.
ويقوم رأس المال الاجتماعي بتوفير كل أدوات العمل والمواد الخام، كما تودع كل منتجات الأرض والمنتجات الصناعية في مخازن عامة.
ويوفر لنا رأس المال الاجتماعي الطعام والملابس، والمسكن والأثاث، وذلك طبقا للجنس والعمر والظروف الأخرى التي يحددها القانون.
بهذا تكون الجمهورية أو المجتمع التعاوني هو المالك الوحيد لكل شيء، وهو الذي ينظم عماله، وينشئ مصانعه ومخازنه، ويتابع حرث الأرض، وبناء المنازل، وتوفير كل ما هو ضروري للمأكل والملبس والمسكن لكل أسرة وكل مواطن.
ولما كان التعليم هو أساس المجتمع والقاعدة التي يرتكز عليها، فإن الجمهورية توفره بالتساوي لكل طفل من أطفالها، تماما كما توفر لهم الغذاء، ويتلقى الجميع نفس التعليم الأساسي، بالإضافة إلى التعليم المتخصص الذي يناسب مهنة كل منهم، ويهدف هذا التعليم إلى تكوين عمال مهرة، وآباء طيبين ومواطنين صالحين، ورجال حقيقيين ...»
ويواصل المتحدث باسم الإيكاريين وصفه لمبادئ «التنظيم السياسي لإيكاريا» فيقول: «وكما أننا جميعا متعاونون ومواطنون، ونملك حقوقا متساوية، فمن حقنا جميعا أن ننتخب وننتخب، فضلا عن أننا أعضاء في الشعب وفي الحرس الشعبي.
ونحن باتحادنا نكون الأمة أو بالأحرى الشعب، لأن الشعب في إيكاريا يشمل كل السكان دون استثناء.
ولسنا في حاجة إلى القول بأن السيادة للشعب، وأن له وحده، بالإضافة إلى السيادة، سلطة وضع عقده الاجتماعي، ودستوره وقوانينه، ومن الأمور المستحيلة في نظرنا أن نتصور أن فردا واحدا، أو أسرة واحدة، أو طبقة واحدة يمكن أن يدفعهم الطموح غير المعقول إلى السيادة علينا. والشعب الذي يملك السلطة العليا يملك كذلك، ومن خلال الدستور والقوانين، تنظيم كل شيء متعلق بشخصه، وأفعاله، وملكيته، وطعامه، وملبسه، ومسكنه، وتعليمه، وعمله وحتى متعه ولذاته.
ولو استطاع شعب إيكاريا أن يتجمع بسهولة وعلى فترات متكررة في قاعة أو واد، لاستطاع أن يمارس سيادته ويضع دستوره وقوانينه. وما دام هذا أمرا مستحيلا من الناحية المادية، فإن الشعب يفوض سلطاته التي لا يمكنه ممارستها بشكل مباشر، ويحتفظ لنفسه ببقية السلطات. إنه يفوض للمجلس الشعبي السلطة لإعداد دستوره وقوانينه، ويفوض السلطة التنفيذية في متابعة تنفيذها، ولكنه يحتفظ بحق انتخاب كل ممثليه وكل أعضاء المجلس التنفيذي، وحق الموافقة على اقتراحاتهم وأعمالهم أو رفضها، بجانب تحقيق العدل، والمحافظة على النظام والسلام العام.
ولهذا فإن كل الموظفين العموميين ممثلون للشعب، وقد تم انتخابهم لفترة زمنية مؤقتة، وهم مسئولون أمام الشعب، ويخضعون للإعفاء (من مناصبهم)، ولمنع التراكم والطموح للوظائف، لا يوجد تعارض بين الوظائف التشريعية والوظائف التنفيذية.
ويتكون التمثيل الشعبي من ألفي عضو تدور مناقشاتهم في قاعة واحدة. وهو مجلس دائم الانعقاد، ويجدد نصف أعضائه كل عام. وتخضع أهم قوانينه لتصديق الشعب.
ويتألف المجلس التنفيذي من رئيس وخمسة عشر عضوا يمكن تغيير نصفهم كل عام، كما يتبع المجلس الشعبي تبعية تامة.
ويمارس الشعب حقوقه من خلال جمعياته ومجالسه المنتخبة، وفيها تتم الانتخابات والمناقشات والأحكام.
وللتيسير على الشعب في ممارسة حقوقه، قسمت البلاد إلى مائة محافظة صغيرة، تنقسم بدورها إلى ألف كوميون (تعاونيات محلية) متساوية في الحجم وعدد السكان.
وأنت تعلم أن كل عواصم المحافظات تقع في مركز المحافظة، وكل عواصم الكوميونات في مركز الكوميون، وقد رتب كل شيء بحيث يتمكن جميع المواطنين من حضور اجتماعات المجالس الشعبية بانتظام.
وبينما تهتم الكوميونات وجميع المحافظات من خلال ممثليها بالشئون العامة والمصلحة القومية، فإن كل محافظة وكل كوميون يهتم بصفة خاصة بالشئون المتعلقة بمصالح الكوميون والمحافظة، وبهذه الطريقة لا تهمل أي قضية أو مشكلة.
وبفضل هذا التقسيم إلى ألفي مجلس كوميوني، يشارك الشعب في مناقشة قوانينه، سواء بعد أن قبل مناقشات ممثليه.
وللتأكد من أن الشعب قادر على المناقشة وهو على علم تام بالموضوع المطروح لأخذ الرأي فيه، فإن كل شيء يتم في النور أمام الرأي العام، ويسجل قسم الإحصاء كل الحقائق، وينشر كل شيء في الجريدة الشعبية التي توزع على جميع المواطنين.
وللتأكد أيضا من أن كل المسائل تعالج معالجة دقيقة وشاملة، فإن المجلس الشعبي وجميع مجالس الكوميونات، أي الشعب كله، يقسم إلى خمس عشرة لجنة أساسية تختص بالتعليم، والزراعة، والصناعة، والغذاء، والملبس، والمسكن، والتأثيث، والإحصاء ... إلخ. بهذا تضم كل لجنة أساسية نسبة تبلغ خمسة عشر مواطنا من مجموع العدد الكلي للمواطنين، كما يخصص خيرة الأذكياء من أبناء الشعب الذين أحسنت تربيتهم وتعليمهم لاكتشاف كل الإصلاحات والتحسينات الممكنة ووضعها موضع التنفيذ العملي.
هكذا يكون تنظيمنا السياسي جمهورية ديمقراطية، أو بالأحرى ديمقراطية خالصة ...
وتتجه الإدارة الجماعية للشعب بصفة دائمة نحو تحقيق المساواة السياسية والاجتماعية، والمساواة في السعادة والحقوق، والمساواة الشاملة والمطلقة؛ فحقوق التعليم، والغذاء، والملبس، والمسكن، والأثاث، والعمل والاستمتاع، وحقوق الانتخاب، والصلاحية للترشيح والمناقشات جميعها حقوق متساوية لنا جميعا، وكل محافظاتنا، وكوميوناتنا ومدننا، وقرانا، ومزارعنا ومساكننا، متماثلة بقدر الإمكان. وباختصار ستجد المساواة والسعادة في كل مكان.»
ويتولى الرسام الفرنسي الشاب يوجين
Eugene
مهمة وصف الجوانب المختلفة لحياة الإيكاريين، وقد اختار هذا الفنان إيكاريا لتكون منفى له بعد ثورة يوليو. وهو يصور في رسائله لأخيه الذي آثر البقاء في باريس، إنجازات النظام الإيكاري بإعجاب يبلغ حد الافتتان. ويستعير كابيه قلم يوجين ليطرح جانبا ذلك التحفظ الطفيف الذي رأى ضرورة مراعاته عند الحديث عن اللورد الإنجليزي، ولهذا نجده يسرف في استخدام علامات التعجب، والحروف المائلة والكبيرة بحرية وأكثر من المعتاد ...
رسالة يوجين لشقيقه «آه يا عزيزي كاميل! كم أشعر بانكسار القلب عندما أفكر في فرنسا وأرى السعادة التي يتمتع بها شعب إيكاريا! سيمكنك أن تحكم بنفسك عندما تعرف شيئا عن تنظيماتهم المتعلقة بالغذاء والملبس.
الغذاء
فيما يتعلق بأول حاجات الإنسان، شأنها في ذلك شأن سائر الحاجات، فإن كل شيء في بلدنا التعس متروك للمصادفة ولإساءة التصرف المخيفة. أما هنا فكل شيء على العكس من ذلك، قد تم تنظيمه على ضوء العقل المستنير والرعاية الكاملة.
تخيل أولا، يا أخي العزيز، أن كل شيء يتعلق بالغذاء قد نظمه القانون. والقانون هو الذي يقبل أو يرفض أي نوع من التغذية.
لقد شكل نواب الشعب لجنة من العلماء بالتعاون مع المواطنين، ومهمة هذه اللجنة هي إعداد قائمة بكل أنواع الأطعمة المعروفة، تبين الصالح منها والضار، وخصائص كل نوع منها.
وقد زادوا على ذلك بتحديد أي هذه الأنواع الصالحة من الطعام ضروري ومفيد ولذيذ، وطبعوا هذه القائمة طبعات عديدة توجد نسخة منها في حوزة كل أسرة.
ثم إنهم أضافوا إلى ذلك وصف الطرق المناسبة لإعداد كل نوع من أنواع الطعام، ولدى كل أسرة دليل لفن الطبخ.
وبمجرد الموافقة على قائمة الأطعمة الصالحة، قامت الجمهورية بإنتاجها بواسطة العاملين في الزراعة، ووزعتها على العائلات، ولما كان من المستحيل على أي فرد الحصول على طعام آخر غير الطعام الذي يتم توزيعه، فسوف تتبين من هذا أنه لا يستطيع تناول شيء لا توافق عليه الجمهورية.
وتحرص الدولة على البدء بإنتاج ما هو ضروري، ثم تنتج ما هو نافع ومفيد، وأخيرا ما هو لذيذ وممتع بأكبر كميات ممكنة.
وتعطي الدولة لكل الأفراد أنصبة متساوية، بحيث يتسلم كل مواطن نفس الكمية من طعام معين إذا وجد منه ما يكفي الجميع، ويأخذ منه كل فرد بالتناوب في حالة توافره، وذلك كل عام أو كل يوم، وبالنسبة لقطاع معين من السكان.
بهذا يأخذ كل فرد نصيبا متساويا من كل الأطعمة دون تفرقة بينهم، ابتداء من الأطعمة البسيطة إلى أكثرها تعقيدا، ومن ثم لا يتغذى سكان إيكاريا تغذية جيدة فحسب، بل أفضل مما تتغذى عليه أغنى الشعوب في البلاد الأخرى ...
وقد درست اللجنة التي أشرت إليها من قبل وحددت عدد الوجبات، ومواعيد تناولها، ومدتها، وعدد ألوان الطعام وطبيعتها والنظام الواجب اتباعه عند تقديمه، مع تنويع هذه الأطعمة بشكل مستمر، ليس فقط حسب الفصول والشهور، بل كذلك حسب الأيام، بحيث تختلف وجبة كل أسبوع عن وجبة الأسابيع الأخرى.
وفي السادسة من صباح كل يوم، وقبل أن يبدءوا العمل، يتناول كل العمال، أي كل المواطنين، إفطارا خفيفا في ورشهم، ويقوم مطعم المصنع بإعداده وتقديمه.
وفي التاسعة، يتناولون وجبة صغيرة في الورشة، بينما تتناول زوجاتهم وأطفالهم هذه الوجبة في المنزل.
وفي الثانية، يتناول جميع سكان الشارع الواحد في مطعم الجمهورية الوجبة الرئيسية التي قام بإعدادها أحد متعهدي التغذية في الجمهورية.
وتتناول كل أسرة عشاءها في منزلها الخاص بين التاسعة والعاشرة مساء، وتقوم الزوجات بإعداد هذه الوجبات.
وتبدأ جميع هذه الوجبات بشرب نخب إيكار العظيم، راعي العمال، والعائلات، والمواطنين أجمعين.
ويتكون العشاء غالبا من الفاكهة، والكعك، والحلوى. ولكن وجبة الغداء المشتركة، التي يتم تناولها في القاعات الفخمة المزينة زينة أنيقة، والتي تتسع لعدد من المواطنين يتراوح بين الألف والألفين، تفوق في روعتها أي شيء يمكنك تخيله. فأجمل مطاعم ومقاهي باريس لا تعد في رأيي شيئا بالقياس إلى مطاعم الجمهورية. قد لا تصدقني حين أقول لك - بصرف النظر عن وفرة ولذة الوجبات وكونها مزينة بالورد وبأشياء أخرى عديدة - إن الموسيقى العذبة تسحر الآذان بينما تستمتع حاسة الشم بالروائح الذكية.
وعندما يتزوج الشباب لا يحتاجون إلى إنفاق مهورهم على الولائم السخيفة التي تدمر مستقبل أطفالهم، فالوجبات الرئيسية التي يجدها الزوج في مطعم الزوجة، وتجدها الزوجة في مطعم الزوج، وتحضرها العائلتان في منزليهما، تضارع أشهى الوجبات في البلدان الأخرى.
ولكن تأكد أن هذه الوجبات المشتركة اقتصادية إلى حد كبير بالقياس إلى الوجبات المستقلة، بالإضافة إلى أنها تقدم طعاما أفضل.
وثق أيضا أن هذه الوجبات المشتركة بين العمال والجيران لها مزايا كبرى، فهي تحث الجماهير على التآخي، وتخفف عبء العمل المنزلي على النساء ...
ربما تريد أن تعرف كيف يتم توزيع الطعام، ليس هناك شيء أبسط من هذا، ولكنه سيثير إعجابك حتما للمرة الثانية.
توزيع الطعام
اعلم أولا أن الجمهورية هي التي تحتكر إنتاج جميع أنواع الطعام، وأنها تقوم بجمعه وتخزينه في مخازنها الضخمة التي لا حصر لها.
ويمكنك بسهولة أن تتخيل القباء الجامعة للكوميونات التي تشبه مثيلاتها في باريس ولندن، وهي مخازن كبرى للدقيق، والخبز، واللحم، والسمك، والخضراوات، والفاكهة ... إلخ.
ولدى كل مخزن في الجمهورية، مثل نظيره في مخابزنا ومحلات بيع اللحوم عندنا، قائمة بالمطاعم والورش والمدارس المستشفيات والعائلات التي يمدها باحتياجاتها، والكمية التي يجب أن يرسلها لكل منها.
وفي المخزن موظفون، وأوعية، ووسائل النقل والأدوات الضرورية الصالحة لتوزيع الطعام.
ولما كان كل شيء يعد في المخزن قبل طلبه، فإن المؤن التي تكفي العام، والشهر، والأسبوع، والمؤن اليومية تسلم للمنازل في المنطقة الخاصة بكل مخزن.
وينظم توزيع هذه المؤن بطريقة مدهشة. لن أقول لك شيئا عن النظافة التامة التي تعم كل مكان باعتبار أنها شيء طبيعي، ولكن لن يفوتني أن أخبرك بأنه توجد في كل مخزن سلة وإبريق ومكيال مخصص لكل أسرة، وعليه علامة بعدد أفرادها ومقدار ما تحتاج إليه من الخبز واللبن ... إلخ، وجميع هذه الأوعية مزدوجة، بحيث إذا تم تسليم الوعاء المملوء، يعاد الوعاء الفارغ مرة أخرى للمخزن. وفي مدخل كل بيت توجد كوة في الجدار يجد الموزع فيها الوعاء الفارغ ويستبدل به وعاء آخر ممتلئا، وبهذه الطريقة يتم التوزيع في وقت محدد، ويتم الإعلان عنه بإصدار صوت خاص، بغير إزعاج للأسرة أو تضييع لوقت الموزع.
ويمكنك أن تدرك، يا صديقي العزيز، مدى الاقتصاد في الوقت والمزايا التي يتمتع بها هذا النظام المتبع في التوزيع.
أضف إلى هذا أن كل شيء كامل في هذا البلد السعيد، الذي يسكنه أناس يستحقون تسميتهم بالبشر، فهم حتى في أتفه الأشياء يستخدمون دائما ذلك العقل السامي الذي أنعمت عليهم به العناية الإلهية ليبلغوا السعادة.
الملابس
وكما ينظم القانون الأمور الخاصة بالغذاء، فهو ينظم كذلك كل شيء يتعلق بالملابس. وقد شكلت لجنة استشارات الجميع، وفحصت الملابس التي يرتديها الناس في البلاد كافة، وسجلت قائمة بأشكالها وألوانها (وقد طبعت في كتاب رائع تملك كل أسرة نسخة منه) وحددت فيها ما يصح اختياره منها وما ينبغي تجنبه، كما رتبت جميع الملابس بحسب ضرورتها وفائدتها وجمالها.
وقد حرم ارتداء الملابس الشاذة التي تفتقر إلى الذوق ... ولم يصنع حذاء أو غطاء واحد للرأس دون أن تسبقه دراسة له تمهيدا للموافقة على وفق خطة ونموذج معين.
وكل إنسان يرتدي نفس الملابس، فلا يوجد مجال للحسد أو التباهي. ومع هذا فيجب ألا يتصور أحد أن الزي الموحد هنا ليس متنوعا، فمن حسن الحظ أن الملابس يمكن أن تجمع بين التنوع ومزايا الزي الموحد. ولا يلبس المواطنون من الجنسين بشكل مختلف فقط، وإنما يبدل كل منهم ملابسه حسب العمر والحالة، لأن الاختلاف في الملابس يدل دائما على ظروف الشخص ووضعه. فالطفولة والصبا، والبلوغ والنضج، والعزوبة أو الزواج، والترمل أو الزواج للمرة الثانية، ومختلف المهن والوظائف، كلها أوضاع تدل عليها الملابس. وجميع الأفراد الذين ينتمون لظروف واحدة يرتدون زيا موحدا، ولكن ألف زي موحد مختلفة الأشكال يقابلها ألف وضع مختلف.
والاختلاف بين هذه الأزياء الموحدة يكمن أحيانا في اختلاف الخامات والألوان، وأحيانا أخرى في الشكل أو في علامة مميزة.
وضع في اعتبارك أيضا أنه إذا كانت البنات من نفس السن، فإنهن يلبسن من نفس الخامة والشكل، ويختلف اللون حسب أذواقهن أو ملاءمته لهن، فيكون له لون معين مناسب للشقراوات ولون آخر للسمراوات.
وضع في الاعتبار أيضا أن نفس الشخص يرتدي بذلة بسيطة ومريحة للعمل، وأخرى للمنزل، وواحدة لاستقبال الضيوف وأخرى للاجتماعات العامة، بجانب بذلة فخمة للولائم والاحتفالات، وجميعها مختلفة بعضها عن بعض. بهذا يكون التنوع في الملابس بغير حدود.
وقد حدد شكل كل ثواب من هذه الثياب بحيث يمكن صنعه بأيسر وأسرع طريقة ممكنة، وبأرخص سعر ممكن أيضا.
وجميع الملابس والقبعات والأحذية تتصف بالمرونة من الناحية العملية، بحيث تناسب الأحجام المختلفة. وهي جميعا مصنعة تصنيعا آليا، سواء بشكل كلي أو جزئي، بحيث لا يجد العمال صعوبة في إضفاء اللمسات الأخيرة عليها.
ويتم تصنيع كل الملابس تقريبا لكي تناسب أربعة أحجام أو خمسة أحجام مختلفة، وبذلك لا يحتاج العمال لأخذ المقاسات بشكل مسبق.
هكذا تصنع كل هذه الملابس بكميات هائلة مع تصنيع الأقمشة في نفس الوقت، ثم يتم إيداعها في مخازن ضخمة حيث يثق كل فرد في أنه سيجد كل ما يحتاج إليه وما يستحقه طبقا للقانون.
وأود أن أحدثك عن النساء، آه يا عزيزي كاميل، كم ستحب هؤلاء الإيكاريين، وأنت تشبهني في أدبك ولطفك وتوقد مشاعرك نحو هذه التحف الرائعة التي أبدعها الخالق، كم ستحبهم إذا رأيتهم وهم يحوطون النساء بالاهتمام، والاحترام، والتكريم، ويركزون عليهن كل أفكارهم وهمومهم وسعادتهم، ويبذلون كل جهدهم لإرضائهن وإسعادهن، ويفعلون كل ما في وسعهم لجعلهن أكثر جمالا، وعلى الرغم من جمالهن الطبيعي، وذلك لكي يزدادوا بهجة وسرورا بعشقهم لهن. فيا لهن من نساء سعيدات. ويا لهم من رجال سعداء. ويا لإيكاريا السعيدة. ويا لتعاستك يا فرنسا.»
وليس هناك داع لأن نصف بالتفصيل الجوانب الأخرى من التنظيم الاجتماعي في إيكاريا، لأنها جميعا على هذا النمط نفسه. وهناك دائما لجنة من الخبراء التي تضع، بعد دراسة دقيقة، خطة نموذجية لأفضل منزل في المدينة، وأفضل مائدة للطعام، وأفضل مزرعة، وأفضل برنامج دراسي أو نصب تذكاري، وتتبنى الأمة بالإجماع هذا النموذج ويصبح قانونا. كذلك حدد القانون جدولا زمنيا صارما لكل السكان، فيتحتم عليهم أن يستيقظوا في الخامسة صباحا، ويعملوا حتى الثانية بعد الظهر، ويروحوا عن أنفسهم حتى التاسعة، ويلتزموا بعد العاشرة مساء بحظر التجوال الذي يستمر حتى الخامسة من صباح اليوم التالي.
ومن واجب كل مواطن أن يعمل لأجل الجمهورية عددا معينا من الساعات التي يحددها القانون. وعندما يغادر الأولاد المدرسة في سن الثامنة عشرة، والبنات في سن السابعة عشرة، يتعين عليهما اختيار حرفة أو مهنة. وإذا قدمت طلبات عديدة شغل وظيفة معينة يتم اختيار الأنسب عن طريق المسابقات. ولكي يصبح أحد المواطنين كاتبا فعليه أيضا أن يجتاز اختبارات معينة. ويسمح للرجال بالتقاعد في سن الخامسة والستين، وللنساء في سن الخمسين، ولكن العمل في إيكاريا خفيف وممتع ويغري معظمهم بالاستمرار في الوظيفة بعد سن التقاعد. ويحبب العمل للمواطنين بالسماح بفترات طويلة للراحة والاستجمام، والمحافظة على نظافة المصانع والاستخدام المكثف للآلات. (والظاهر أن كابيه قد تأثر تأثرا واضحا وعميقا بالتطور الصناعي لإنجلترا خلال فترة إقامته فيها، ومع أنه لم يقلل من أهمية الزراعة، فإنه أراد أن يجعل إيكاريا أكثر تقدما من الناحية الصناعية من إنجلترا. وقد وصف في يوتوبياه عددا من «الاختراعات» بلغ من الكثرة حدا يجعل القارئ يفكر أحيانا في الرجوع إلى أحد المكاتب المختصة بتسجيل براءات الاختراع ...)
ولا توجد في إيكاريا مهنة تحط من كرامة الإنسان، لأن القانون يحرم أي عمل غير صحي أو غير أخلاقي، فليس هناك على سبيل المثال أصحاب حانات، ولا يسمح لأي مواطن بصنع الخناجر. ويحترم صانع الأحذية مثله مثل الطبيب، كما أن أحد رجال القضاء المرموقين صانع أقفال، على حين أن ابنته تعمل في حياكة الملابس. وقد ترتب على إلغاء الأجور أن العمل يستحيل أن يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة، ومن ثم إلى خلق أرستقراطية جديدة. أضف إلى هذا أن التعليم يرسخ في وعي كل مواطن أن جميع المهن مفيدة للمجتمع بشكل متساو، ويجب أن تحترم بقدر متساو. والعمال الذين يتميزون بإنجاز يفوق المهمة المحددة لهم أو بابتكار شيء نافع يكافئون على ذلك بتكريم عام.
ويتم الإنتاج الصناعي في مصانع ضخمة تسير على نظام «خطوط العمل». ففي إحدى المطابع مثلا يتجمع خمسة آلاف عامل في نفس المبنى، حيث توجد ماكينات عديدة تقوم بإنجاز العمل الذي يتطلب خمسين ألف عامل. ويرتب كل شيء بحيث تحول الأسمال إلى ورق يستعمل مباشرة في الطباعة، وعندما يجف الورق يتم نقله إلى قسم التجليد حيث تجري عمليات المراجعة والتخريم والتجليد، وتجهز الكتب لنقلها للمكتبات. ويتم العمل في مصنع الساعات بنظام عسكري.
يشغل المصنع المخصص لصناعة الساعات مبنى يقوم على مساحة ألف قدم مربعة، ويتألف من ثلاثة طوابق مثبتة بأعمدة حديدية بدلا من الحوائط السميكة، وبهذه الطريقة يتكون كل دور من حجرة واحدة مضاءة إضاءة كاملة.
وتوجد في الدور الأرضي آلات ضخمة وثقيلة تستعمل في خرط المعدن وصب الأجزاء. ويقسم العمال في الدور الأعلى إلى مجموعات بعدد الأجزاء التي يصنعونها، وكل مجموعة منها تختص بصنع أجزاء معينة. وهم يعملون بنظام وانضباط دقيق وكأنهم في معسكر.
ويشرح أحد العمال كيف ينجز هذا «الجيش الصغير» العمل: «إننا نصل في السادسة إلا ربعا صباحا، ونغير ملابسنا ونرتدي ملابس العمل. ونبدأ العمل في السادسة تماما مع رنين الجرس. وفي التاسعة ننزل إلى قاعة الطعام ونتناول وجبتنا في صمت، بينما يقرأ واحد منا جريدة الصباح بصوت مرتفع. وبعد انتهاء العمل في الواحدة وترتيب وتنظيف كل شيء، نهبط لغرفة الملابس حيث نجد كل ما نحتاج إليه للاغتسال، ثم نرتدي ملابس الخروج للذهاب مع عائلاتنا لتناول الوجبة الرئيسية وقضاء بقية اليوم كما يروق لنا.
وقد تعودنا في أثناء العمل أن نراعي الصمت الشديد لمدة ساعتين، وخلال الساعتين التاليتين نتحدث مع جيراننا، ونغني بقية الوقت لأنفسنا أو لمن يستمعون إلينا، وغالبا ما نغني معا.»
ربما بدت ورشة العمل النموذجية التي تصورها كابيه يوتوبية حقا، وذلك بالقياس إلى الظروف السائدة في مصانع القرن التاسع عشر، ولكن النظام العسكري، وتصنيع جزء محدد من الآلة مدى الحياة، يمكن أن يكون عملا قهريا شأنه شأن الظروف غير الصحية.
وبرغم أنه لا يوجد غني ولا فقير في إيكاريا، ولا سياسيون وعسكريون محترفون، ولا شرطة ولا سجون، فإننا نشعر بعدم ارتياح غريب عندما نكتشف أنها تشترك مع النظم الشمولية للقرن العشرين في ملامح عديدة، فالعمارة الضخمة التي تذكرنا بإيطاليا على عهد موسوليني، والولع الشديد بالأزياء الموحدة والنظام الحديدي، وعبادة الديكتاتور الميت إيكار الذي تعلق صورته البارزة في جميع الميادين العامة، ويردد اسمه بصفة دائمة في الأغاني والخطب، كل هذه أمور تستثير الذكريات المؤلمة. ولن يدهشنا أن نسمع أن الكتب أحرقت في إيكاريا مع بداية تأسيس النظام، وأن الرقابة الصارمة تتحكم في إنتاج كل الأعمال الفنية. ونبحث عبثا عن مكان واحد يسمح فيه لفردية الإنسان بأن تعبر عن نفسها. وإصرار كابيه على تأكيد أن «السيادة للإرادة الشعبية» يثير الشك في نفوسنا، إذ لا يقول لنا كيف يمكن للأمة في مجموعها أن تتفق على كل التفاصيل الدقيقة للحياة. أضف إلى هذا أن الحكمة الشاملة «لخبرائه» يتعذر قبولها أكثر من كل ما ذكرناه، إذ يتساءل المرء في عجب عن تلك المبادئ التي يصممون وفقا لها الزي الموحد للأرملة الإيكارية التي تتزوج للمرة الثانية بعد وفاة زوجها.
إن الولع الشديد بالنمط الموحد في كل شيء، والمركزية وهيمنة الدولة، أمور موجودة في معظم اليوتوبيات، ولكنها في «رحلة إلى إيكاريا» تصل إلى حد التطرف الشديد الذي يجعلها شبيهة، من نواح عديدة، باليوتوبيات النقدية الساخرة في هذا القرن الذي نعيش فيه. (2) لورد ليتون (1803-1873م): «الجنس القادم»
على خلاف معظم يوتوبيات القرن التاسع عشر، لم تحاول «الجنس القادم» للورد ليتون
8
أن تقدم خطة عينية مفصلة للإصلاح الاجتماعي يمكن أن تقبل التحقق بشكل واقعي. فهي رواية خيالية عن «شكل الأشياء القادمة في عهد آت»، وتكمن أهميتها في الرؤية الجريئة والمثيرة للرعب التي تصورها. وقبل مائة عام خلت، أي عندما نشرت هذه الرواية، بدا من أغرب الغرائب أن يتخيل أحد جنسا من البشر زود كل واحد منهم «بعصا فريل»، وهي نوع من القنبلة النووية القادرة على تدمير شعوب بأكملها في بضع ثوان، ولكننا نجد اليوم العلماء والفلاسفة والصحفيين ومعهم رجل الشعوب يتناقشون بشكل جدي حول المشاكل التي أوجدها هذا الاكتشاف.
ومن المصادفات التي تبعث على السخرية أن يعهد اللورد ليتون لأحد الأمريكيين بمهمة تحذير العالم من وجود أمة قوية تعيش في أحشاء الأرض، قادرة بفضل قنابلها النووية على أن تهزم الشعب الأمريكي متى شاءت، ولعله قد أراد أن يؤكد في الأذهان ما يمكن أن يوصف بأنه درس في التواضع عندما وصف أفراد هذا «الجنس القادم» بأنهم يشبهون الهنود الحمر من وجوه عديدة، وأنهم ليسوا فقط «أقوى في بنيتهم وأضخم في حجمهم» من البشر الذين يعيشون فوق سطح الأرض، وإنما يملكون كذلك أجنحة تمكنهم من الطيران من النوافذ والرقص في الهواء ...
ويبعث أول احتكاك بهذا الجنس المتفوق من البشر في نفس الرحالة الأمريكي حالة من الدهشة المحمومة، تدفعه للهجوم على مضيفيه المجنحين، مما يحملهم على تنويمه تنويما مغناطيسيا وإبقائه على هذه الحالة لعدة أسابيع. وعندما يسمح له بالاستيقاظ يجد أن مضيفيه، بفضل قوتهم الخارقة، قد تعلموا لغته وعلموه لغتهم، ثم يتبادلون المعلومات عن العالم الذي يقع فوق سطح الأرض والعالم الواقع تحت سطحها. ويبدي سكان هذا العالم الأخير للجنس الذي ينتمي له جليفر، كما يمنعونه من الكلام عن عالم ما فوق سطح الأرض خشية أن يفسدهم ...
وبعد أن يتغلب الرحالة على صعوبة اللغة، يصبح قادرا على التعرف على حضارة «الجنس القادم». وأول اكتشاف يتوصل إليه هو أنهم يستعملون «الفريل» الذي استطاع أن يحكم على قوته الخارقة المذهلة: «إنهم يتمكون من إحداث تغييرات في الحرارة، أي في الطقس، بتشغيل الفريل بطرية معينة، وإذا شغلوا بطرق أخرى شبيهة بتلك التي تستعمل في التنويم المغناطيسي والبيولوجيات الكهربية وغيرهما، مع تطبيقها بشكل علمي من خلال موصلات الفريل، يمكنهم أن يؤثروا في العقول والأجسام الحيوانية والنباتية.
ويمكن تنظيم هذا السائل وتصعيد فاعليته إلى الحد الأقصى على كل أشكال المادة الحية أو غير الحية على السواء، كما يمكنه أن يدمر ويسحق مثل وميض الصواعق، ولكنه إذا استعمل بشكل مختلف يمكنه أن ينشط الحياة أو يزيد من قوتها، وأن يشفي من الأمراض ... وبهذه القوة الفعالة يشقون الطرق في أشد المواد صلابة، ويتوسعون في زراعة الوديان بنسف الصخور المنتشرة في البرية القاحلة تحت سطح الأرض، ومنها يستمدون النور لإضاءة مصابيحهم، إذ ثبت لهم أنه أنصع وأنعم وأصح من المواد الأخرى السريعة الاشتعال التي استخدموها من قبل.»
إن اكتشاف «الفريل» هو الذي حول التنظيم الاجتماعي للأمة التي تسكن تحت الأرض تحولا كاملا، ومعرفة الفريل والاستفادة من قواه الفعالة ليست منتشرة بين جميع السكان الذين يعيشون تحت الأرض، وإنما تقتصر على جماعات معينة تسمي نفسها «فريل يا» بمعنى «الأمم المتحضرة»، وتملك التفوق على تلك الأمم التي لم تكتشف سر «الفريل». ولم يبق السر داخل الأمم المتحضرة في أيدي الحكومات فقط، وإنما اطلع عليه الشعب كله مما أدى إلى إلغاء الحكومات بشكلها المألوفة لنا، وإلى تغيير كامل في بنية المجتمع.
إن نتائج الاكتشاف المزعوم لوسائل توجيه القوة للفريل كانت ملحوظة بشكل خاص في تأثيرها في السياسة الاجتماعية. ولما شاعت المعرفة بهذه النتائج وتم التحكم فيها توقفت الحرب بين مكتشفي الفريل، لأنهم برعوا في فن التدمير إلى حد إلغاء أي تفوق في الأعداد، والنظام، أو القدرة العسكرية. والنار المستقرة في جوف قضيب تتحكم فيه يد طفل، يمكن أن تبعثر أقوى الحصون أو تشق طريقها المتأجج باللهب من طليعة الجيش المعادي إلى مؤخرته. وإذا التقى جيشان يمتلكان هذه القوة الفعالة، فمعنى ذلك هو القضاء عليهما معا. وهكذا ولى عصر الحروب، ولكن توقف الحروب سرعان ما أدى إلى ظهور نتائج أخرى مؤثرة في الوضع الاجتماعي. فقد أصبح الإنسان تحت رحمة الإنسان بشكل كامل، لأن كل من يقابله يستطيع، إذا أراد، أن يهلكه في لحظة واحدة، وترتب على هذا أن اختفت بالتدريج مفاهيم الحكم بالقوة من النظم السياسية والأشكال والصيغ القانونية. وإذا كانت العادة قد جرت على المحافظة على تماسك الجماعات الكبيرة المتناثرة في أماكن نائية، عن طريق القوة، فلم يعد هناك ما يدعو الآن لتفوق دولة على أخرى في عدد السكان، سواء للمحافظة على وجودها أو للتفاخر بالتوسع في أراضيها.
وهكذا تفتت كيان مكتشفي الفريل، خلال أجيال قليلة، بطريقة سلمية إلى جماعات أصغر. وكان عدد الأسر في القبيلة التي حللت بينها لا تزيد على اثني عشر ألف أسرة، وكل قبيلة تشغل قطعة أرض تكفي حاجاتها، ويرحل السكان الزائدون في فترات محددة للبحث عن منطقة أخرى تتسع لها. ولم تكن هناك أي ضرورة للاختيار التعسفي لهؤلاء المهاجرين، إذ كان هناك دائما عدد كاف من المتطوعين للرحيل بمحض اختيارهم.
ونظام الحكم في أمم الفريل هو «حكم الفرد الخير»، ولكن دور الحاكم ومجلس الحكماء مقتصر على إدارة البحث العلمي وتشجيع تقدمه: «انتخبت هذه الجماعة الواحدة حاكما أسمى يلقب باسم «تور»
Tur ؛ وهو يحتفظ بمنصبه طوال الحياة بشكل اسمي، ولكن يندر أن يغريه البقاء فيه مع اقتراب الشيخوخة. والواقع أنه لم يكن في هذا المجتمع ما يغري أي عضو من أعضائه بالتشبث بالمناصب، فهو لا يحاط بأي شكل من أشكال التكريم، ولا يوجد شيء يشعره بأنه يتقلد منصبا مرموقا، ولا يتميز الحاكم الأسمى عن بقية الشعب بمسكن فخم أو دخل مرتفع، كما أن الواجبات الملقاة على عاتقه خفيفة وسهلة إلى حد عجيب، ولا تتطلب مستوى فائقا من الطاقة أو الذكاء. ولما كان خطر الحرب قد تلاشى، فهم لا يحتفظون بجيوش، كما أن اختفاء شكل الحكومة القائمة على القوة أغناهم عن تعيين قوات للشرطة، وما نسميه بالجريمة شيء غير معروف على الإطلاق لدى أمم «الفريل يا»، كما لا توجد عندهم محاكم جنائية. وتحال الحالات النادرة للنزاعات المدنية إلى تحكيم الأصدقاء الذين يختارهم طرفا النزاع، أو يقوم مجلس الحكماء بالبت فيها ... ولا يوجد محامون محترفون، وقوانينهم مجرد اتفاقات ودية، إذ لا مجال لفرض القوانين بالقوة على المعتدي الذي يحمل في عصاه قوة تدمير قضاته. وهناك عادات ونظم تعود الناس منذ أجيال على الخضوع لها في صمت، وإذا شعر أي فرد أن هذا الخضوع أمر صعب عليه، ترك الجماعة من تلقاء نفسه وذهب لأي مكان آخر.
وقد استقر لديهم نوع من الاتفاق المماثل لذلك الذي قامت عليه الحياة في عائلاتنا الخاصة، وذلك حين نقول لأي فرد بالغ من الأسرة التي نستقبلها أو نستضيفها: «ابق أو اذهب، حسبما تعجبك عاداتنا ونظمنا أو لا تعجبك.» ومع ذلك فعلى الرغم من عدم وجود قوانين بالمعنى الذي نفهمه من هذه الكلمة، فلا يوجد جنس فوق سطح الأرض متقيد بالقانون (مثل هذه الأمة المتحضرة)، لقد صارت طاعة القانون عند هذه الجماعة أشبه بالغريزة التي غرستها الطبيعة فيهم.»
ولم تلغ الملكية ولا النقود، ولكنهما لا تمنحان من يملكهما أي امتيازات سياسية أو اجتماعية: «إن الفقر بين أهل «آنا»
Ana (وهذا هو اسم العائلة الكبيرة التي ينتمي إليها السكان الذين يعيشون تحت الأرض) غير معروف مثله مثل الجريمة تماما، ولا يرجع هذا إلى أن الملكية مشتركة بينهم، أو أنهم جميعا متساوون في حجم أملاكهم أو في ترف مساكنهم، ولكن انعدام التفاوت بين مستويات الثروة أو الوظائف من جهة الدرجة والوضع، قد جعل كلا منهم يتبع ميوله ونزعاته الخاصة دون حسد أو تنافس، فيحيا بعضهم حياة متواضعة، ويعيش البعض الآخر حياة تتسم بالرفاهية، ويحرص كل واحد على أن يكون سعيدا بالطريقة التي يحبها. ونظرا لغياب المنافسة وتحديد عدد السكان، فإنه يصعب أن تقع أسرة في محنة، فلا وجود للمخاطرات غير المحسوبة، ولا صراع بين المتنافسين بغية الحصول على ثروة أكبر أو وظيفة أعلى. ولا شك في أن كل واحد منهم كان لديه في الأصل نفس قطعة الأرض الموزعة عل الجميع بالتساوي، ولكن البعض منهم، الذين يتميزن عن غيرهم بالميل إلى المغامرة، قد مدوا حدود ملكيتهم إلى البراري المتاخمة، أو قاموا بتحسين مستوى إنتاج حقولهم الخصبة، أو دخلوا في عمليات تجارية أو حرفية. وهكذا تحتم أن يصبح بعضهم أكثر غنى من غيره، ولكن لم يصل أحد إلى حد الفقر المدقع، ولم يشعر أحد بأنه في حاجة ماسة إلى شيء تتوق إليه نفسه. ولو حدث هذا لأي واحد منهم لأمكنه دائما أن يهاجر أو أن يلجأ في أسوأ الأحوال إلى الأغنياء دون خجل وبثقة تامة في مساعدتهم له، لأن أعضاء المجتمع يعتبرون أنفسهم إخوة في أسرة واحدة متحابة ومتماسكة.»
ويعلق الآنا
9
أهمية كبيرة على التقدم العلمي، ولديهم أيضا «بيت سليمان»،
10
ولكن ليتون يزود هذا البيت بهيئة تدريس كاملة من النساء، ربما لكي ينتقم من احتقار الفيكتوريين للقوى العقلية للنساء: «كانت المهمة الرئيسية للحاكم الأسمى هي الاتصال بعض الأقسام النشطة المنوطة بالإشراف الإداري على بعض الأمور التفصيلية الخاصة. وكانت أهم هذه الأمور تتعلق بتوفير الإضاءة. وكان هناك قسم آخر، يمكن أن يطلق عليه اسم القسم الخاص بالأجانب، ويتصل بالدول الشقيقة المجاورة لإبلاغها بكل الاختراعات الجديدة، وقسم ثالث تحال إليه كل الاختراعات والتحسينات الآلية لتجربتها. ويرتبط بهذا القسم معهد للحكماء، وهو معهد يفضل الالتحاق به الأرامل من سكان آنا والذين ليس لديهم أطفال، وكذلك الشابات غير المتزوجات ... ويقوم الأساتذة من النساء في هذا المعهد برعاية تلك الدراسات التي يندر استعمالها ندرة شديدة في الحياة العملية - مثل الفلسفة التأملية، وتاريخ العصور القديمة، وبعض العلوم مثل علم الحشرات، وعلم الرخويات ... إلخ - ولكن أبحاث الحكماء ليست مقصورة على مثل هذه الدراسات الدقيقة أو الأنيقة. فهي تشمل أبحاثا أخرى متنوعة وأكثر أهمية، لا سيما خصائص الفريل التي تهتم بها الأستاذات في المعهد المذكور غاية الاهتمام، يساعدهن على ذلك جهازهن العصبي الشديد الحساسية. ومن هذا المعهد يختار التور أو الحاكم الرئيسي ثلاثة من المستشارين، وذلك في الحالات النادرة التي تربكه فيها الأحداث المستجدة أو الظروف الطارئة.»
ويتم حل مشكلة العمل، التي طالما شغلت بال الكتاب اليوتوبيين، بسهولة شديدة عن طريق الاستخدام المكثف للآلات، وعن طريق الإنسان الآلي (الروبوت) الذي يظهر هنا لأول مرة كخادم للإنسان قبل أن يصبح شيئا مألوفا في اليوتوبيات المتأخرة. ومن الغريب أن يعهد إلى الأطفال بمهمة القيام بالأعمال المملة الشاقة أو الخطرة. ومن الواضح أن فكرة تكليف الأطفال ب «الأعمال القذرة» فكرة مستعارة من فورييه الذي اعتقد أن الغرائز المدمرة وحب القذارة اللذين نلمسهما لدى عدد كبير من الأطفال يجب أن يستغلا في شيء نافع، وذلك بتكليفهم بالعمل الذي هيأتهم له الطبيعة. وقد كان الأطفال في تعاونيات فورييه «يوزعون في حشود صغيرة، ويستيقظون في حوالي الثالثة صباحا، فينظفون حظائر الحيوانات، ويعملون في المذابح ... وتقوم هذه الحشود الصغيرة بالإصلاحات الطارئة للطرق السريعة، أي بالصيانة اليومية للطرق العلوية، وتتأكد من عدم وجود زواحف مؤذية أو ثعابين وأفاع سامة بالقرب من الطرق السريعة.»
أما مجموعات الأطفال في يوتوبيا ليتون فتقوم بكل هذه المهام بالإضافة إلى مهام أخرى عديدة، والواقع أنهم ينجزون معظم العمل على أساس أن الأطفال أكثر نشاطا من البالغين، ولكن عملهم من النوع الخفيف على الدوام، لأنهم يستطيعون استخدام الآلات والفريل: «وتستخدم الآلات على نطاق واسع لا يمكن تخيله في كل الأعمال داخل البيوت وخارجها، والشغل الشاغل للقسم المكلف بإدارتها هو تعميم استخدامها بكفاءة. ولا توجد طبقة من العمال أو الخدم، بل يقوم الأطفال بجميع الأعمال المطلوبة لتسيير الآلات أو التحكم فيها، وذلك بدءا من السن التي يستغنون فيها عن رعاية أمهاتهم وحتى سن الزواج، وهي التي يحددونها بالسادسة عشرة للجي آي
Gy Ei (الإناث) والعشرين للآنا
Ana (الذكور). ويوزع هؤلاء الأطفال في مجموعات وأقسام تحت إشراف رؤسائهم، بحيث يمارس كل منهم الحرفة التي يجد أنها محببة إلى نفسه، أو التي يشعر بأنها تناسبه أكثر من غيرها، وهكذا يتجه بعضهم للحرف اليدوية، والبعض للزراعة، والبعض للأعمال المنزلية، والبعض للخدمات الوحيدة الخطرة التي يتعرض لها السكان، لأن الأخطار الوحيدة التي تهدد هذه القبيلة هي قبل كل شيء تلك التقلصات الطارئة التي تحدث داخل الأرض، والتنبؤ بها والوقاية منها يحتاجان منها إلى الحد الأقصى من البراعة، وكذلك الانفجارات النارية والمائية، والأعاصير التي تهب تحت الأرض، والغازات المتسربة. وهناك مراقبون يقظون واقفون على الحدود، وفي كل الأماكن التي يمكن أن تصل إليها مثل هذه الأخطار، مزودين بوسائل الاتصال البرقي بالقاعة التي يعقد فيها الحكماء المختارون جلساتهم الدائمة بالتناوب. ويتم اختيار هؤلاء المراقبين من الصبية الذين اقتربوا من سن البلوغ، على أساس أن الملاحظة في هذه السن تكون شديدة الحدة، كما أن القوى الجسدية تكون أكثر نشاطا منها في أي سن أخرى. والخدمة الثانية التي تقل خطرا عما سبق هي القضاء على كل المخلوقات المعادية لحياة «الأنا» أو زراعتهم، أو المقلقة لراحتهم. وأفظ هذه المخلوقات هي الزواحف الضخمة، التي يحتفظ ببقايا عدد منها في متاحفنا، وبض المخلوقات العملاقة المجنحة، ونصفها على شكل طيور، ونصفها الآخر على هيئة زواحف، ويترك للصبية صيد هذه المخلوقات وتدميرها، بالإضافة إلى حيوانات أقل منها توحشا وتناظر عندنا النمور أو الأفاعي السامة، والسبب في هذا، في رأي «الأنا»، أن القسوة هنا مطلوبة، وأن الطفل كلما كان أصغر في السن كان أكثر قسوة في التدمير.»
قدم فورييه لحشوده الصغيرة مكافآت ضئيلة على أساس أن الأطفال يقومون بالأعمال البغيضة بسبب حماسهم الوطني وتفانيهم في سبيل المجتمع، واعتبرهم «كائنات محبة للبشر تزدري الثروة وتكرس نفسها للعمل الكريه الذي تؤديه باعتباره عملا مشرفا». أما ليتون فكان أكثر أريحية في تعامله مع الأطفال، فهم يتقاضون مرتبات عالية، وعندما يبلغون سن الرجولة يكونون قد جمعوا رأس مال يكفيهم لكي يقضوا بقية حياتهم متعطلين إذا رغبوا في ذلك: «قلت إن كل العمل البشري الذي تحتاج إليه الدولة يقوم به الأطفال حتى بلوغهم سن الزواج. وتدفع الدولة مقابل هذا العمل أجرا أعلى بكثير من الأجور التي يكافأ بها العمال حتى في الولايات المتحدة. ومن حق كل طفل، ذكرا كان أو أنثى، أن يتوافر لديه عند بلوغ سن الزواج وانتهاء فترة العمل قدر كاف من المال يساعده على أن يحيا حياة مستقلة. ولما كان جميع الأطفال ملزمين بالعمل بصرف النظر عن ثروة آبائهم، كذلك ينبغي أن تدفع أجورهم بشكل متساو حسب أعمارهم المختلفة أو طبيعة عملهم. وعندما يختار الآباء أو الأصدقاء الاحتفاظ بطفل لخدمتهم الخاصة، فعليهم أن يدفعوا للخزانة نفس الراتب الذي تدفعه الدولة للأطفال الذين تستخدمهم، ويسلم هذا المبلغ من المال للطفل عندما تنتهي مدة خدمته. ولا شك أن هذا الإجراء يجعل مفهوم المساواة الاجتماعية مفهوما مألوفا ومقبولا.»
ويعد وضع النساء وضعا غير عادي، لأن النساء في هذه الأمة التي تحيا تحت الأرض أقوى من الرجال من الناحية الجسمانية، كما أنهن أكثر منهن براعة في استخدام «الفريل». وهن يستطعن إذا أردن أن يدمرن كل الذكور، ولكن هذا لن يكون في مصلحتهن، ولهذا فهن يتمنعن حتى عن إظهار قوتهن الفائقة خشية أن يرتاب فيهن الرجال ويهجروهن. وتحرص النساء على حقهن في اختيار أزواج المستقبل والتودد لهم، وعندما يتزوجن الرجال الذين اخترنهم يفعلن كل ما في وسعهن لإسعادهم، بل ويمتثلن لطاعتهم، لا من منطلق الواجب الأخلاقي، ولكن لأنهن يعلمن أن هذه هي أفضل وسيلة للاحتفاظ بأزواجهن. ويصبح هذا أمرا ضروريا إذا عرفنا أن قوانين الزواج لا تلزم بارتباط الرجل والمرأة إلا لفترة محدودة. ولا بد أن هذه الطريقة الحرة التي تعامل بها اللورد ليتون مع العلاقات بين الجنسين، ومع الزواج والطلاق، قد بدت عند ظهور الرواية مسألة غير أخلاقية (هذا لو كان قد أخذ على محمل الجد).
ولكن لعل من الأمور المسلية أن نرى كيف أصبح وضع النساء اليوم في إنجلترا وأمريكا مشابها لوضعهن في مجتمعه الذي يعيش تحت الأرض ...
وتشبه «النزعة اللاأخلاقية» التي يعرضها الكتاب موقفنا الحديث في هذه الأيام أكثر مما تشبه مثيلتها في القرن التاسع عشر، عندما كانت المبادئ الأخلاقية الصارمة، والحب الفياض للإنسانية هما الأسلوب السائد. ولا يتحدث ليتون عن «الحقوق الطبيعية» أو عن «قانون الطبيعة»، وإنما يعلن أن «من السخف الكلام عن حقوق، حيث لا توجد في مقابلها القوى التي تعززها وتدعمها». وهذه القاعدة التي تطبق على نطاق واسع، وبخاصة في الحياة السياسية، يندر الاعتراف بها صراحة في مجتمعنا. ومن ناحية أخرى، نجد أن الأخلاق التي يسير عليها «الجنس القادم» تقوم بشكل صريح على القوة؛ فهم يعاملون رفاقهم المساوين لهم معاملة أخوية، لأنهم جميعا قادرون على استخدام «الفريل»، ولكنهم لا يشعرون بأي ندم لقتل البرابرة، أي أولئك الذين لم يكتشفوا سر استخدام «الفريل»، ولا يقوون على الدفاع عن أنفسهم. وهم في هذا يشبهون بشكل ملحوظ تلك الأمم المتحضرة وغير اليوتوبية، التي تلتزم بسلوك معين تجاه غيرها من الأمم القوية، وبسلوك مختلف تمام الاختلاف تجاه الأجناس المتخلفة.
والواقع أن اللورد ليتون يصبح أقل إقناعا عندما يعرض النظرية التي تقول إن أفضل وسيلة لتجنب الصراع هي أن يكون كل فرد مدججا بالسلاح من قدميه إلى أسنانه. وهذه النظرية المتفائلة هي التي أخذ بها صناع السلاح، لأسباب واضحة، كما أخذ بها أيضا بعض المفكرين من خلال التمنيات الطيبة، حين عبروا، أيام اكتشاف القنبلة النووية، عن اعتقادهم أنه عندما تصبح كل الأمم قادرة على صنع هذا النوع من القنابل، فلن تقدم أمة واحدة على الانتحار باستخدامها، وأن العالم سوف يشهد نهاية الحروب. ولكن تجربة الماضي تدلنا لسوء الحظ على أنه حتى لو تحقق نوع من توازن القوى، فلن يخلو الأمر من وجود أناس على استعداد للمقامرة بحياتهم أو حياة الآخرين.
إن «الجنس القادم» تنتمي لذلك النوع من الروايات اليوتوبية التي لا يمكن أن يعاملها أي واحد من الاشتراكيين العلميين إلا بالاحتقار الشديد، وذلك إذا وافق أصلا على أن يقرأ مثل هذا الأدب البرجوازي الصغير ... والمؤكد أن محاولة التوفيق بين بعض المبادئ الاشتراكية وبين المبدأ الذي تقوم عليه الرأسمالية وهو «دعه يعمل»، لا بد أن تبدو محاولة شديدة الغرابة. ويحتمل أن يكون ليتون قد استعار من وليم جودوين،
11
الذي أثر فيه تأثيرا كبير في شبابه، فكرة المجتمع بلا دولة، الذي يتكون من اتحاد فيدرالي يجمع بين مجتمعات صغيرة ومستقلة، كما استعار من فورييه بعض أفكاره المتعلقة بالعمل، كالاحتفاظ بالأرباح، وموقفه الليبرالي من المتعطلين. والنتيجة التي تمخضت عنها هذه المؤثرات المتصارعة هي المجتمع الذي يعتبر بالمساواة من ناحية المبدأ، ولكن الأرباح فيه تتكون من رأس المال، ومن ثم يبقى الاستغلال قائما، والثروة لا تمنح الأغنياء أي سلطة، ومن ثم فهي غير مفسدة، كما لا توجد حكومة تدافع عن مصالح الطبقة المميزة. ومع ذلك فنحن أمام رواية يوتوبية خيالية ، ومن الطبيعي ألا تخلو من التناقضات الضرورية. ولكن على الرغم من هذه التناقضات، وربما بفضلها، فإن «الجنس القادم» أقل غباء من معظم اليوتوبيات العلمية في القرن التاسع عشر. (3) إدوارد بيلامي
12 (1850-1898م): «التطلع للوراء»
إذا كانت «التطلع للوراء» - على الرغم مما ينطوي عليه عنوانها من مفارقة - رواية خيالية تدور حول المستقبل، فهو مستقبل أصبح مألوفا لنا بالفعل. فتأميم الصناعة، وتعبئة العمالة، والتركيز على أهمية الطبقة الإدارية، جميعها أوضاع تتصل بالحاضر أكثر مما تنتمي إلى المستقبل، وقد كان من الممكن أن يغرينا هذا بوصف إدوارد بيلامي بأنه متنبئ أكثر من كونه يوتوبيا، لو لم يكن قد أخطأ خطأ فاحشا في الاعتقاد بأن هذه التغييرات ستجلب لنا السعادة.
استقبل الرأي العام - الذي لم يكن قد جرب بعد طعم التحكم المركزي للدولة - يوتوبيا بيلامي في التسعينيات من القرن الماضي بحماس شديد. وقد ذكر بيتروكروبوتكين خلال مراجعته ل «التطلع للوراء» في مجلة الثورة
La Revolte
في أواخر عام 1889م، أي بعد سنتين من ظهور الكتاب في أمريكا، أن الطبعة الأمريكية للرواية بيع منها مائة وتسعة وثلاثون ألف نسخة، كما بيع من الطبعة الإنجليزية أربعون ألف نسخة، وأنها قد أدت إلى تحولات عديدة في عقائد القراء. أما مساعد داروين وشريكه، أ. ر. والاس
A. R. Wallace
فقد أعلن أنه كان يؤيد تأميم الأرض، ولكن كتاب بيلامي أقنعه أن الولايات المتحدة يمكن أن تتقبل الاشتراكية.
كانت طريقة بيلامي الواضحة والعملية في النظر إلى المشاكل الاقتصادية هي أحد الأسباب الرئيسية لنجاحه، بالإضافة إلى قصة الحب العاطفية التي أدمجها في نسيج وصفه لمجتمع المستقبل، ونجحت كذلك في مخاطبة ذوق العصر. وكان ييلامي أيضا شديد الحرص على إخفاء نزعته التسلطية بحيث لا تتصادم مع الحساسيات والمشاعر الفردية للبرجوازية (الطبقة الوسطى) الأمريكية. لقد كتب كابيه يوتوبياه وهو يفكر في الطبقات العاطلة والجائعة التي افترض أنها ستهتم بالطعام والمأوى أكثر من اهتمامها برفاهية الاختيار المستقل لما تأكله وتلبسه. أما بيلامي فمن الواضح أنه كتب وعينه على الطبقات الوسطى، كما أن حرصه على اجتذاب أولئك الذين لا يفتقرون إلى المتع الأساسية للحياة، قد اضطره إلى التأكيد على عوامل جذب أخرى غير الطعام والمأوى، مثل إمكانية الإحالة إلى التقاعد في سن الخامسة والأربعين والتخلص من مشاكل البحث عن الخدم. ومن الواضح أيضا أن الفئات المثقفة لم تكن لتقبل أي إملاء أو وصاية عليها في الأمور التي تعتقد أنها تتعلق بحريتها العقلية، ولذلك استطاع بيلامي ببراعة شديدة أن يربط بين توجيه الدولة في الأمور المتعلقة بالإنتاج والتوزيع وبين المبادرة الشخصية في شئون الأدب والفن، وأن يسمح للمهن الحرة بدرجة من الاستقلال أكبر بكثير من عمال الصناعة.
عاش المستر وست، بطل الرواية، في مدينة بوسطن في أواخر القرن التاسع عشر، وذلك في فترة تسبب فيها الفقر والبطالة في استشراء الاضطرابات الشديدة في مجال الصناعة. وكانت المشكلة الأساسية التي تؤرق حياة هذا الشاب الثري هي تعطل بناء البيت الذي سيقيم فيه مع زوجة المستقبل بسبب الاضطرابات المستمرة. وقد أصيب بسبب هذه المشكلة بمرض النوم، وأعد لنفسه حجرة تحت الأرض بطريقة تساعده على النوم بعيدا عن ضوضاء المدينة. ولكنه استعان كذلك بخدمات طبيب نومه تنويما مغناطيسيا. وفي ليلة الثلاثين من شهر مايو عام 1887م، احترق منزله تماما، ولما لم يكن أحد يعلم شيئا عن الحجرة التي تقع تحت الأرض، باستثناء طبيبه الذي كان قد غادر المدينة وخادمه الذي يحتمل أن يكون قد مات في الحريق، فقد ترك غارقا في نومه المغناطيسي حتى عام ألفين عندما تم اكتشافه في أثناء القيام ببعض أعمال الحفر والتنقيب.
ويوقظه الدكتور ليت
Leete ، الذي استضافه في منزله، من نومه الطويل، ويحاول بمساعدة ابنته الشابة الجميلة، أن يأخذ بيده لكي يتجاوز تجربته الغريبة، كما يحاول أيضا أن يستثير حماسه الشديد للنظام الجديد. ونضيف إلى ما سبق - لكي نختم الجانب الرومانسي في القصة - أن إديث ليت كانت بالمصادفة هي حفيدة إديث الأخرى التي حيل بين المستر وست وبين الزواج منها، وذلك بسبب اضطرابات عمال البناء، ثم بسبب موته المفترض، ووقع الاثنان في الحب، ولم تمنع مشكلة السكن في هذه المرة من إتمام زواجهما. ويحصل المستر وست على كرسي التاريخ في كلية شوموت
Shawmut
في بوسطن، ويروي رواية المؤرخ قصة تجارية في القرن التاسع عشر وأوائل القرن الواحد والعشرين.
وأول شيء أثار دهشة جوليان وست، الذي ظل رأسه مزدحما بأخبار الإضراب والإغلاق والمقاطعة، هو أن مشكلة العمل اختفت من المجتمع الجديد، وأنه لم يعد هناك وجود لأصحاب عمل ولا عمال. ويشرح له الدكتور ليت كيف قامت في بداية القرن العشرين ثورة اجتماعية سلمية فيقول: «إن الاتجاه إلى تحريك دولاب العمل عن طريق التراكم المتعاظم لرأس المال وإلى الاحتكارات التي قاومها الكثيرون بشكل يائس وبلا جدوى، قد تم الاعتراف أخيرا بمعناه الحقيقي، بوصفه عملية لا تحتاج إلا استكمال تطورها المنطقي، كي تفتح للبشرية أبواب مستقبل ذهبي.
وقد اكتمل هذا التطور في وقت مبكر من القرن الماضي عن طريق الإدماج النهائي لرأس مال الأمة برمته. وتوقفت إدارة صناعة البلاد وتجارتها من خلال الاتحادات غير المسئولة والنقابات الخاصة التي يستغلها الأشخاص على هواهم بغرض الربح، وعهد بها إلى نقابة واحدة تمثل الشعب وتدار للمصلحة العامة والربح العام. ونظمت شئون الأمة بحيث أصبحت هي مؤسسة العمل الكبرى التي تستوعب جميع المؤسسات الأخرى، وصارت هي الرأسمالي الوحيد الذي حل محل بقية الرأسماليين، وصاحب العمل الوحيد والمحتكر النهائي - الذي ابتلع كل المحتكرين السابقين والأقل منه - ووضع في يده الأرباح والمدخرات التي يشارك فيها جميع المواطنين. وباختصار، قرر أخيرا شعب الولايات المتحدة الموافقة على النهوض بإدارة أعماله، تماما كما قرر قبل ذلك بمائة عام النهوض بإدارة حكومته، بحيث أصبح الآن ينظم كل شيء للأغراض الصناعية على نفس الأسس التي كان ينظمه بها للأغراض السياسية ...
وعندما أصبحت الأمة هي صاحب العمل الوحيد، صار جميع المواطنين عمالا بحكم مواطنتهم، وتم توزيعهم وفق احتياجات الصناعة ... وكان الشعب قد تعود بالفعل على أن إلزام كل مواطن - غير عاجز من الناحية الجسمانية - بالخدمة العسكرية للدفاع عن الأمة هو إلزام مطلق ويسري على الجميع بالتساوي. كذلك اتضح للجميع أن على كل مواطن أن يشارك بنصيبه في الخدمات الصناعية أو الخدمات العقلية للحفاظ على حياة الأمة، على الرغم من أن المواطنين لم يستطيعوا أداء هذا النوع من الخدمات بأي قدر من الشمول أو العدالة، إلا بعد أن أصبحت الأمة هي صاحبة العمل الوحيد.»
ويتم تجنيد المواطن لأحد أعمال الخدمة العامة بدءا من انتهاء تعليمه في الواحد والعشرين حتى بلوغه الخامسة والأربعين من عمره. وكل مواطن حر في اختيار الوظيفة التي تتفق مع ذوقه وقدراته، إلا إذا توافر عدد كبير جدا من المتطوعين لسد احتياجات فرع معين من فروع الصناعة، وفي هذه الحالة يتم قبول أنسبهم لهذه الوظيفة. ويبذل جهد كبير لجعل كل الوظائف جذابة بشكل متساو: «إن مهمة الإدارة هي السعي الدائم لجعل كل الحرف جذابة بصورة متساوية، وبقدر ما تسمح به الظروف المرتبطة بالعمل، حتى تكون لكل الحرف القدرة المتساوية على جذب الأشخاص الذين يجدون في أنفسهم الميل الطبيعي إليها. ويتحقق هذا بجعل ساعات العمل في الحرف المختلفة متفاوتة تبعا لما تتطلبه من جهد، فالحرف الخفيفة التي يتم أداؤها في ظروف ملائمة وممتعة، تحتاج إلى ساعات أطول، بينما تتطلب الحرف الشاقة المرهقة، مثل التعدين، ساعات عمل قصيرة جدا. وليست هناك نظرية ولا قاعدة مسبقة تحدد مدى جاذبية الصناعات المختلفة. وعندما تلجأ الإدارة لتخفيف أعباء العمل عن كاهل فئة من العمال ووضعها على كاهل فئة أخرى، فهي تستجيب بذلك لآراء العمال أنفسهم كما تحددها نسبة التطوع، والمبدأ المتبع على كل حال هو ألا يكون عمل أي إنسان أكثر مشقة من عمل أي إنسان آخر، وأن يكون العمال ذاتهم هم القضاة الذين يحكمون في هذا الأمر.»
وتحل مشكلة «من الذي سيقوم بالعمل القذر» بالإشراف على المجندين الجدد لمدة ثلاث سنوات، وفي أي مكان تحدده حاجة العمل: «ولا يسمح للشباب باختيار المهنة التي سيتخصص فيها إلا بعد انقضاء هذه الفترة التي يعين خلالها في أي عمل ويكون تحت إشراف رؤسائه دون قيد أو شرط. ولا يعفى أحد من هذه السنوات الثلاث التي يحكمها النظام الصارم.»
وفي سن الخامسة والأربعين يعفى الرجال والنساء من الخدمة ويصبحون أحرارا في أن يشغلوا أنفسهم بما يحبون، أو أن يعيشوا بقية حياتهم متفرغين إذا فضلوا ذلك.
والتجديد الآخر المهم هو إقرار النظام الجديد لحق كل فرد في أن يشارك في ثروة الأمة على قدم المساواة مع كل فرد آخر، وذلك بصرف النظر عن كمية العمل الذي ينتجه. ومعنى هذا بعبارة أخرى هو إلغاء نظام الأجور، ووضع بيلامي للخدمة الصناعية في موازاة الخدمة العسكرية. وكما يشارك جميع أفراد الأمة في المجمع الرأسمالي بشكل متساو في الحماية والرخاء اللذين يكفلهما الجيش، كذلك يشارك بقدر متساو «جميع أفراد الأمة في عام ألفين سواء أكانوا رجالا أم نساء، أقوياء أم ضعفاء، قادرين جسمانيا أم معوقين، في الثروة التي ينتجها الجيش الصناعي. وهذه المشاركة، التي لا تتفاوت نسبتها إلا بتفاوت الازدهار العام للعمل القومي، هي الدخل الوحيد والوسيلة الوحيدة التي يعتمد عليها الجميع في حفظ حياتهم، سواء أثناء العمل الصناعي النشط أو بعد الإعفاء منه. وطبقا لمنهج تنظيم الصناعة على أساس الالتزام المتبادل بين الفرد والدولة، وبين الدولة والفرد، فقد حل الواجب تماما محل العقد، وأصبح هو القاعدة الراسخة التي ترتكز عليها الصناعة ويقوم عليها تماسك المجتمع.»
ولما كانت الأمة هي المنتج الوحيد لجميع السلع ووسائل الراحة، فقد اختفت الحاجة إلى المعاملات المتبادلة بين الأفراد: «حل نظام التوزيع المباشر من المخازن الأهلية محل التجارة، وبطلت الحاجة في ذلك النظام إلى أي نقود.» ويتم التوزيع وفق خطة مبسطة للغاية: «يعطى كل مواطن سلفة تناسب حجم مشاركته في الإنتاج السنوي للأمة وتثبت في السجلات العامة مع بداية كل عام، وتسلم له بطاقة معتمدة بهذه السلفة يمكنه بواسطتها أن يحصل من المخازن العامة الموجودة في كل التجمعات على كل ما يشاء وفي أي وقت يشاء. وهذا الإجراء يلغي إلغاء تاما أي نوع من أنواع التعامل التجاري بين الأفراد والمستهلكين.» وتصدر هذه البطاقة مقابل عدد من الدولارات، وقد احتفظ بالكلمة القديمة التي تدل عليها، غير أنها أصبحت تستخدم «كرمز جبري لمقارنة قيم المنتجات بعضها ببعض». والسلفة التي توفرها البطاقة تسمح بتلبية جميع الاحتياجات الضرورية، بل وتسمح بعدد كبير من أسباب الترف والرفاهية، فإذا احتاج مواطن في ظرف استثنائي لإنفاق مبلغ إضافي، أمكنه أن يحصل على مبلغ تحت الحساب من سلفة العام التالي «على الرغم من عدم تشجيع هذا الإجراء، ومن تحصيل خصم كبير للحد منه.»
وكل مواطن حر في إنفاق المبلغ المقرر له كما يريد: «ومع أن الدخل واحد، فإن الذوق الشخصي هو الذي يحدد طريقة إنفاقه. فالبعض يحبون الخيول الجميلة، والبعض الآخر يميل إلى الملابس الأنيقة، وهناك من يفضل المآدب الشهية الفاخرة. وتتفاوت الإيجارات التي تحصلها الأمة عن هذه المنازل تبعا لحجمها، وأناقتها، وموقعها، بحيث يستطيع كل فرد أن يجد ما يناسبه.» ولا يحاول أحد أن يتباهى على غيره بمسكنه أو ملبسه؛ «لأن دخل كل فرد معروف، كما أن ما ينفقه في شيء يجب أن يوفره في شيء آخر.» ومن جهة أخرى لا يحتاج الناس، بسبب ثراء الأمة، إلى حرمان أنفسهم من أي شيء طيب، ولم يعد الاقتصاد الشديد يعتبر فضيلة.
ويتم التسوق بأكمله من المخازن الأهلية التي تسير على نظام شديد الكفاءة (وإن كان يفتقر بعض الشيء إلى الطابع الشخصي) ولا يوجد بائعون أو بائعات، بل مجرد موظفين يتلقون الطلبات ويثقبون قيمة السلع المشتراة على البطاقة المعتمدة. ولا يتوقع منهم معرفة مزايا السلع ولا إطراؤها، لأن كل المعلومات التي يحتاج إليها العميل مطبوعة طباعة أنيقة على البطاقة الملصقة بالعينات المعروضة. وتدار المحلات وفق النظام المتبع في معارضنا للسلع المطروحة للبيع، وترسل الطلبات إلى المخزن المركزي للمدينة حيث يتم تجهيزها وشحنها، بواسطة أنابيب هوائية، إلى الأحياء المختلفة في المدينة ثم توزع على المنازل. وتعد العينات المعروضة في محل بأصغر قرية نسخة دقيقة من المحل الموجود بالمدينة، وهي تضع منتجات من شتى السلع المتنوعة تحت تصرف الشعب. «ومحلات عرض العينات في القرى مربوطة بالمستودع المركزي للمقاطعة الذي يمكن أن يكون على بعد عشرين ميلا منه.» ولكن رسائل النقل تبلغ حدا كبيرا من السرعة بحيث إن الوقت اللازم لذلك يعد ضئيلا.
ويمكن تناول وجبات الطعام في المنازل أو المطاعم العامة، التي تعادل في فخامتها «أركان ليون» عندنا، كما تستطيع كل أسرة في الحي، نظير إيجار سنوي بسيط، أن يكون لها ركن منفرد يقتصر استخدامه بصفة مستمرة عليها.
وليس الناس مضطرين لإنفاق حصتهم في الولايات المتحدة وحدها، بل يمكنهم كذلك الاستفادة منها في أوروبا، وأستراليا، والمكسيك وأجزاء من أمريكا الشمالية التي تعد جمهوريات صناعية مثل الولايات المتحدة: «تعد البطاقة الأمريكية المعتمدة صالحة للاستخدام في أوروبا صلاحية الذهب الأمريكي فيما سبق، وبنفس الشروط تماما، وهي أنه يمكن استبدالها بالعملة السائدة في البلد الذي تسافر إليه. فالأمريكي الذي يسافر إلى برلين يسلم بطاقته المعتمدة للمكتب المحلي التابع للمجلس العالمي، ويتسلم في مقابلها أو مقابل جزء منها بطاقة ألمانية، ويخصم المبلغ من الولايات المتحدة لمصلحة ألمانيا على الحساب الدولي.»
ويمكن استخدام البطاقة المعتمدة أيضا في استئجار العمالة من الدولة، وعلى الرغم من اختفاء الخدم منذ وقت طويل، فإن من الممكن الحصول على عمال النظافة أو عمال الديكور من مكتب «تبادل العمالة» إذا احتاج أحد المنازل إلى تنظيف. وربما كان الأهم من ذلك أن الشعب يمكنه أن يملك صحفه وجرائده عن طريق اشتراك كل فرد بدفع مبلغ معين من المال يغطي تكلفة الإنتاج، ويعفى المحرر الذي وقع عليه الاختيار من الخدمة الصناعية في أثناء توليه منصبه؛ لأن «المشتركين يدفعون للأمة تعويضا مكافئا لتكاليف إعالته وإعفائه من الخدمة العامة».
ويمكن أيضا عن طريق البطاقة المعتمدة استئجار الكنائس ورجال الدين. وفي هذا يقول الدكتور ليت: «لقد تغيرت بطبيعة الحال الممارسات الدينية للشعب بعد مرور قرن تغيرا ملحوظا. وحتى لو افترضنا أنها لم تتغير، فإن نظامنا الاجتماعي يمكنه أن يعدلها تعديلا كاملا. وتزود الأمة كل شخص أو مجموعة من الأشخاص بالمباني على سبيل الإيجار، ويبقون مستأجرين ما داموا مواظبين على دفع الإيجار. أما عن رجال الدين، فإن أي مجموعة من الأشخاص تحتاج لخدمات فرد معين منهم لأي غرض أو مناسبة خاصة، بعيدا عن الخدمة العامة للأمة، يكون في إمكانها دائما الحصول عليها، وذلك بعد موافقة هذا الفرد بطبيعة الحال، وكما يحدث تماما مع توفير خدمة المحررين، وذلك بالمشاركة - من خلال بطاقاتهم المعتمدة - في دفع تعويض للأمة عن خدماته في الصناعة العامة. وهذا التعويض الذي يدفع للأمة يطابق المرتب الذي تدفعونه اليوم للفرد ذاته؛ كما أن التطبيقات المختلفة لهذا المبدأ تسمح للمبادرة الشخصية بأداء دورها أداء كاملا، وذلك في كل الحالات التي لا يطبق عليها التوجيه (المركزي) العام للأمة.»
ويمثل المؤلفون والفنانون فئة خاصة؛ لأن بإمكانهم استخدام بطاقاتهم المعتمدة في إصدار كتاب، أو إنتاج عمل فني، ومن حقهم الحصول على حقوق الملكية التي يوفرها بيع عملهم.
يتبين من هذا ومما سبق قوله أن اشتراكية الدولة عند بيلامي تسمح بدرجة من الحرية الشخصية أكبر مما نجد في معظم اليوتوبيات الأخرى القائمة على نفس المبادئ. غير أنها هي الحرية التي يمكن أن تمنح للمجندين بمجرد تجنيدهم، كما أن «المعارضين من أصحاب الضمير» يحرمون من كل ما توفره الدولة. وإذا رفض إنسان سلطة الدولة واعترض على حتمية الخدمة الصناعية، فإنه يفقد كل حقوقه ككائن بشري: «إن وصف الخدمة بأنها إجبارية ربما يكون تعبيرا ناقصا عن حتميتها المطلقة. ويعتمد نظامنا الاجتماعي بأسره على هذه الحتمية ويترتب عليها، بحيث إذا تصورنا إمكان هروب أي إنسان منها، فإن معنى هذا أن يترك دون أي وسيلة توفر له الحياة. وسيكون عندئذ قد ابتعد بنفسه عن العالم واعتزل بني جنسه، أي يكون باختصار قد أقدم على الانتحار.»
نتبين من هذا أن كل مواطن في المجتمع الجديد ملزم باحترام العقد الذي أبرمته الأجيال السابقة مع الدولة. وليس ثمة وسيلة لمراجعة مثل هذا العقد، لأن الطبقة العاملة محرومة من كل الحقوق السياسية. ورئيس الولايات المتحدة، وهو كذلك القائد العام للجيش الصناعي، والمسئول عن تطبيق القوانين على كل الطبقات، لم يتم انتخابه من قبل الجيش الصناعي، لأن هذا يعد إساءة للنظام، بل من قبل الأعضاء المحالين إلى التقاعد. ومعنى هذا أن الرجال والنساء حتى سن الخامسة والأربعين لا يملكون حق التصويت، وأن الجيل الأكبر سنا هو الذي يحكمهم.
وبينما يشارك كل مواطن بالتساوي في ثروة الأمة، تتألف الطبقة الحاكمة من رجال متميزين بقدرتهم في مجال العمل الصناعي. وتشكل هذه الأرستقراطية الصناعية ما أطلق عليه جيمس برنهام
J. Burnham
اسم «طبقة المديرين». ويرى بيلامي أنه يجب أن تمنح ألقاب الشرف، والامتيازات، والمناصب الرفيعة والسلطة في الجيش الصناعي وفي الأمة، للرجال والنساء تبعا لاجتهادهم وتفوق إنجازهم، وذلك حتى تنتهي القيادة والحكم للأنسب منهم. ومكافأة الإنجازات في الميدان الصناعي لا توفر طبقة إدارية فحسب، وإنما تبعث كذلك على بذل أقصى جهد ممكن. وبينما كان الدافع الأساسي على هذا في الماضي هو الرغبة في الحصول على الثروة، فإن الناس في المجتمع الجديد يسعون للوصول إلى مواقع السلطة. والمنافسة هنا، كما في الجيوش العسكرية، هي التي تدفع الناس على الترقي إلى مناصب القيادة: «يمتد خط الترقية عبر ثلاث مراتب حتى مرتبة ضابط، ثم من ملازم أول إلى القيادة، أو الرئاسة، أو الإشراف أو درجة عميد. ثم يأتي مع مرتبة أخرى إضافية في بعض المهن الأوسع نطاقا قائد الطائفة المهنية، الذي يشرف مباشرة على كل العمليات الخاصة بالمهنة. ويكون هذا القائد على رأس المكتب الأهلي الذي يمثل مهنته، وهو المسئول أمام الإدارة عن عمله. ويحتل قائد الطائفة مركزا مرموقا، وهو مركز يحقق طموح معظم الناس، ولكن الرتبة الأعلى هي رتبته، التي يمكن مقارنتها - إذا أخذنا بالتشبيهات العسكرية المألوفة لكم - برتبة قائد الكتيبة أو برتبة اللواء، وهي رتبة الرؤساء العشرة للأقسام أو المجموعات الكبرى للمهن المتحدة. ورؤساء هذه الأقسام العشرة الكبرى للجيش الصناعي يمكن مقارنتهم بقواد جيوشكم، أو لواءاته، وكل واحد منهم يتبعه من اثني عشر إلى عشرين قائدا من المهن المختلفة يقدمون له تقاريرهم. وعلى رأس هؤلاء الضباط العشرة الكبار، الذين يشكلون المجلس الذي يشرف عليه، يتربع القائد الأعلى، وهو رئيس الولايات المتحدة.»
أما الذين لا يتطلعون لمراكز السلطة لمجرد الطمع في النفوذ الذي تتيحه لهم، فتوفر لهم امتيازات أكبر: «وبجانب الحافز الأكبر على بذل الجهد، وهو الذي تؤكده حقيقة أن المراكز الرفيعة في الأمة متاحة لأفراد الطبقة العالية فحسب، هناك أيضا حوافز مختلفة من نوع أقل - وإن لم تقل عن ذلك الحافز الأكبر تأثيرا - وتتخذ شكل امتيازات وحصانات خاصة تعزز النظام الذي يرعاه أبناء الطبقة العليا. ومع أن هذه الحوافز الأخيرة في جملتها ليست بذات أهمية كبيرة، إلا أنها تنبه كل إنسان إلى ضرورة السعي للارتقاء إلى مرتبة أعلى.»
ومن جهة أخرى يعاقب من يخرجون على نظام الجيش الصناعي عقابا شديدا: «لأن التراخي في العمل، والعمل السيئ، أو الإهمال الصريح من قبل أناس عاجزين عن البذل بسخاء، لا يمكن أن يسمح به النظام الصارم للجيش الصناعي. أما الإنسان القادر على أداء الواجب، ومع ذلك يصر على الامتناع عنه، فإنه يستبعد تماما من المجتمع البشري.» ويستلزم التسلسل في المراتب وجود آلية بيروقراطية ضخمة، كما يستلزم الإبقاء على نظام العمل بالقطعة الذي كان يتوقع اختفاؤه مع إلغاء الأجور: «ولتيسير اختبار الكفاءة يتبع العمل الصناعي كله - حيثما كان ذلك ممكنا ومهما ترتب عليه من أضرار - نظام العمل بالقطعة، فإذا استحال ذلك تماما، يستبدل به أفضل نظام ممكن لتحديد القدرات. ويخضع العاملون سنويا للفحص، بحيث لا تحتاج الجدارة للانتظار طويلا حتى تظهر للوجود، ولا يمكن الركون للإنجازات السابقة، وإلا هبطوا إلى المرتبة الأدنى. وتنشر في الجريدة الرسمية نتائج الفحص السنوي الذي يحدد وضع جميع العاملين في الجيش (الصناعي).»
وخارج الجيش الصناعي يتمثل الحافز التشجيعي في الأوسمة: «فالشرف الأسمى في الأمة، حتى من الرئاسة، وهو الذي يعبر عن الذوق السليم والتفاني في أداء الواجب، هو الوشاح الأحمر الذي يمنح، بعد استفتاء شعبي، لكبار المؤلفين والفنانين والمهندسين وعلماء الطبيعة والمخترعين من أبناء الجيل. ولا يجوز أن يحمل هذا الوشاح أكثر من مائة شخص في وقت واحد، على الرغم من أن كل شاب نابه في البلاد يقضي الليالي الطويلة ساهرا يحلم به.»
وتتولى مهمة الإنتاج والتوزيع في البلاد إدارة مركزية، ويستحيل في رأي بيلامي أن تحدث أي أخطاء، وذلك بفضل بساطة القوانين وحكمتها، ولأن العمل الإداري كله في أيدي «خبراء». وقد ألغيت الحكومات المحلية خشية تدخلها في نظام الجيش الصناعي الذي يتطلب بطبيعة الحال أن يكون مركزيا وموحدا.
وقد تم تبسيط المهام الحكومية إلى حد كبير مع اختفاء الجيش والبحرية، ووزارتي الدولة والمالية، والضرائب ومحصليها. ومع ذلك فلم يصل مجتمع بيلامي المثالي إلى حد الاستغناء عن الشرطة والقضاء، على الرغم من تخفيض أعدادهما وواجباتهما - كما يؤكد ذلك - إلى الحد الأدنى. كذلك اختفت السجون لأن كل حالات «النكوص» يتم التعامل معها في المستشفيات ... ولا بد أيضا أن نشير إشارة عابرة إلى إلغاء نظام المحلفين وتعيين القضاة من قبل الرئيس، ومن بين المواطنين الذين تتجاوز أعمارهم الخامسة والأربعين.
إن إيمان «بيلامي» غير المحدود بحكمة «الخبراء» و«الإدارة» لا يعادله إلا ثقته في التقدم التقني. ويبدو أنه تصور أن سعادة الإنسان تكمن في ازدياد كمية السلع الاستهلاكية، وفي مطاعم أكبر وأفضل، وفي سرعة تسلم السلع من المخازن، وفي ناطحات السحاب والشوارع المغطاة بمادة عازلة للماء خلال الطقس السيئ. و«اختراعات» بيلامي، مثل اختراع الموسيقى عن طريق الهاتف، تعد اليوم مسلية لنا باعتبارها توقعات مشوقة. وإذا كانت الفقرة التالية تشعرنا بحسن حظنا حين نعرف مدى حماس إنسان من القرن التاسع عشر لاختراع نعتبره اليوم أمرا مفروغا منه، فإننا نشعر أيضا أن السعادة لا يمكن بعد كل شيء أن تتولد عن التقدم التقني وحده: «قالت: «تعال، إذن، إلى حجرة الموسيقى.» وتبعتها إلى ركن مجهز بالخشب، خال من الستائر، وأرضيته من الخشب المصقول. كنت قد تهيأت لرؤية آلات موسيقية جديدة، ولكنني لم أر شيئا في الحجرة يمكن أن يوحي بهذا. وكان من الواضح أن مظاهر الاندهاش والحيرة التي بدت على وجهي قد أمتعت إديث متعة شديدة. «انظر إلى موسيقى هذه الأيام.» قالت هذا وهي تسلمني بطاقة. ثم أضافت قائلة: «وأخبرني ماذا تفضل سماعه. تذكر أن الساعة الآن تبلغ الخامسة.»
كانت البطاقة تحمل تاريخ «12 سبتمبر سنة 2000»، وتتضمن أطول برنامج موسيقي عرفته في حياتي. وكان البرنامج متنوعا بقدر ما كان طويلا، فقد احتوى على صف غريب من الأعمال الصوتية والآلية من عزف منفرد وثنائي ورباعي ومؤلفات أوركسترالية متنوعة. ووقفت حائرا أمام القائمة المذهلة حتى أشارت إديث بطرف أصبعها المصبوغ بالأحمر لقسم خاص، حيث وضعت أقسام عديدة بين أقواس ومعها هذه الكلمات: «الخامسة بعد الظهر»، ولاحظت بعد قليل أن هذا البرنامج المدهش مخصص ليوم كامل وموزع على الساعات الأربع والعشرين. ولم أجد أمام القسم الخاص بالساعة الخامسة سوى بعض القطع الموسيقية القليلة، فأشرت إلى قطعة للأرغن فضلتها على غيرها.
طلبت مني أن أجلس على كرسي مريح، ثم عبرت الغرفة، ولمست مفكا أو اثنين، وفي الحال امتلأت الغرفة بموسيقى لحن عظيم منبعث عن الأرغن، أقول امتلأت ولا أقول تدفقت، لأن النغم كان متجانسا تجانسا كاملا مع مساحة الحجرة. أنصت حتى الختام وأنا أتنفس بصعوبة، فلم أتوقع أبدا سماع مثل هذه الموسيقى الكاملة الأداء.
ولما تكسرت موجة الصوت الأخيرة وانحسرت لتتلاشى في الصمت صحت قائلا: عظيم. لا بد أن «باخ» نفسه هو الذي لمس مفاتيح الأرغن ... ولكن أين الأرغن نفسه؟
قالت إديث: «انتظر لحظة من فضلك، فأنا أريد منك أن تستمع إلى هذا الفالس قبل أن تسأل أي أسئلة. أعتقد أنه ساحر إلى أكمل حد.» وبينما هي تتحدث غمر أنحاء الحجرة صوت الكمان ممتزجا بسحر ليلة صيف. وعندما توقف الصوت قالت: «ليس في هذه الموسيقى شيء غامض كما تتصور. فلم يصنعها عفريت أو جان، بل أيد بشرية طيبة وأمينة وشديدة البراعة. لقد طبقنا ببساطة فكرة الاقتصاد في الجهد، عن طريق التعاون بيننا، على الموسيقى كما طبقناها على كل شيء آخر. هناك في المدينة عدد من القاعات المجهزة للموسيقى، وهي مكيفة تكييفا كاملا لجميع أنواع الموسيقى. وهذه القاعات المتصلة هاتفيا بجميع البيوت في المدينة مقابل رسوم بسيطة، وتأكد أنه لم يتخلف أحد من السكان عن الاشتراك. والفرق الموسيقية الملحقة بكل قاعة تتألف من عدد كبير من العازفين، بحيث يستمر البرنامج اليومي على مدار الأربع والعشرين ساعة، على الرغم من أن كل عازف منفرد أو مجموعة من العازفين لا يؤدون سوى دور بسيط في البرنامج. وتجد على بطاقة هذا اليوم، إذا دققت النظر بإمعان، برامج مميزة لأربع حفلات من هذا النوع، ولكل منها نظام موسيقي مختلف عن الأخرى، وهي تعزف الآن في وقت واحد، ويمكنك أن تستمع إلى أي قطعة تفضلها من القطع الأربع بالضغط على الزر الذي يصل سلك منزلك بالقاعة التي يتم فيها العزف. وقد تم تنسيق البرامج بحيث تتيح القطع الموسيقية التي تؤدى في نفس الوقت في القاعات المختلفة فرصة الاختيار، لا بين الأصوات والآلات فحسب، بل كذلك بين شتى البواعث الوجدانية من حزن إلى فرح، حتى تناسب كل الأذواق والأمزجة.»
قلت لها: «يبدو لي يا آنسة أننا لو كنا استطعنا توفير الموسيقى لكل إنسان في بيته، وراعينا أن تكون كاملة من حيث الكيف، وغير محدودة من حيث الكم، وملائمة لكل الأمزجة، وقابلة لتشغيلها وإيقافها حسب الرغبة، لاعتبرنا أننا قد بلغنا غاية السعادة البشرية، وتوقفنا عن السعي لأي إصلاحات أخرى ...»»
إذا كنا نشعر بالارتياب في السعادة التي يمكن أن تجلبها لنا الاختراعات التقنية، فمن الصعب أن نتحمس للحل الذي قدمه «بيلامي» لمشكلة العمل. وبصرف النظر عن الحقيقة التي أثبتت التجربة الحديثة صحتها، وهي أن التعبئة أو السخرة الصناعية لا تسير أمورها دائما بسلاسة كما كان يأمل، فإن تنظيمه الصارم لحياة الناس لم يحسب حساب الفروق الفردية في التكوين النفسي والمزاجي. ومن الصعب أن نفهم لماذا يلزم كل فرد بأن يدرس حتى سن الحادية والعشرين، بينما يفضل الكثيرون الارتباط بمهنة أو حرفة معينة، ولماذا يتحتم أن يتقاعد الناس في سن الخامسة والأربعين، في حين أن العديد منهم يبدءون في جني ثمار التجربة التي اكتسبوها في شبابهم؟ أضف إلى هذا أننا نشعر بأننا غير مستريحين للفكرة التي تقول إننا سنصبح قادرين - بعد ثلاث سنوات من «العمل القذر» - على اختيار الوظيفة الملائمة لأذواقنا، إذ أصبحت معظم الوظائف المتيسرة، بعد التطور الهائل في الإنتاج بالجملة، تتطلب في الغالب العمل في المصانع على «نظام السير».
والفرح الذي يستقبل به المواطنون في مجتمع بيلامي التقاعد دليل كاف على أن السخرة الصناعية شيء كريه وحمل ثقيل. يقول الدكتور ليت: إننا جميعا متفقون على التطلع لموعد الإعفاء من الخدمة باعتباره الوقت الذي نبدأ فيه الاستمتاع الكامل بالحق الذي اكتسبناه بالميلاد، والعهد الذي نصل فيه إلى النضج ونتحرر من التنظيم والتوجيه، حاملين رصيد حياتنا داخل نفوسنا. وقد اقتنع «بيلامي» بأن واحدا وعشرين عاما من التعليم الإلزامي، وخمسة وأربعين عاما من العمل الإجباري، مطلب معتدل من جانب الدولة، وأنه لا يمكن أن يعترض أحد عليه. ومع ذلك فإن الرأي القائل بأن الحياة تبدأ في الخامسة والأربعين هو رأي يسمح للإنسان بعدم الموافقة عليه.
ولا يشعر المرء بالتعاطف مع «بيلامي» في لجوئه بصفة مستمرة إلى الإلزام. ولو كان المواطنون في المجتمع الجديد راضين حقا عن أوضاعهم، فما الداعي لإجبارهم على العمل الخفيف، بل المبهج والسار كما يؤكد لنا باستمرار؟ ألا نواجه هنا أيضا خطر تحول العمل الذي يمكن أن يمتعنا لأننا اخترناه بحريتنا، إلى عمل باعث على الضجر والإرهاق عندما نقوم به بالإكراه والإجبار؟ لقد كان «بيلامي» مقتنعا بأنه قد اكتشف الحل النهائي لكل مشاكل العالم، إلى حد أنه كرس بقية حياته لإكمال نظامه، ونشر كتبا عديدة لشرحه بالتفصيل. ونحن لا ننكر أنه قد وجد حلا ما، ولكن اليوتوبيا القادمة ستبين لنا أن من الممكن أن يكون هناك حل آخر أكثر تشويقا وجاذبية. (4) وليم موريس (1834-1896م): «أخبار من لا مكان»
بعد الأجواء الخانقة التي سادت يوتوبيا كل من كابيه وبيلامي، بأجهزتها البيروقراطية المعقدة التي تديرها دولة كاملة الحكمة شاملة السيطرة، تبدو إنجلترا اليوتوبية في رواية وليم موريس أشبه بواحة نتمنى الإقامة فيها، إن لم يكن للأبد، فعلى الأقل لفترة طويلة من الزمن. هنا يمكن أن نعمل دون رقابة ثقيلة الوطأة من رئيس العمال، وأن ننام دون أن يوقظنا جرس المنبه، وأن نأكل ما نشتهي وليس ما قرر الخبراء أنه أفضل الأطعمة المناسبة لصحتنا، ويمكننا أيضا أن نحب دون أي اعتبار لقوانين استبدادية أو رأي عام لا يقل عنها استبدادا، كما يمكننا أن نرتدي الملابس التي نحبها، ونقرأ ما يعجبنا، وقبل كل شيء أن نفكر كما نشاء. هنا نستطيع أن نعيش حياتنا، لأننا لم نصنف ولم نوجه، بل ترك لنا تدبير حياتنا بالطريقة التي نعتقد أنها ملائمة لنا.
نشرت «أخبار من لا مكان»
13
بشكل مسلسل في جريدة «المصلحة العامة» (وهي جريدة الجماعة الاشتراكية التي أسسها وحررها وليم موريس) في غضون عام 1890م. ويحتمل أن يكون موريس قد كتب يوتوبياه بعد قراءة رواية بيلامي «التطلع للوراء»، التي كانت قد صدرت في إنجلترا قبل ذلك بسنوات قليلة، ويرجح أنه لم يشعر بتعاطف شديد معها. وقد وضع موريس كتابه أيضا في شكل رواية عن المستقبل، ولكنه عارض الحكومة المركزية التي تهيمن على مجتمع بيلامي المثالي بمجتمع أصبحت فيه الحكومة غير ضرورية، لأن الحكومة ليست سوى «آلة للطغيان»، وعندما ينتهي الطغيان لا تبقى هناك حاجة إلى مثل هذه الآلة. أما التنظيم الصناعي الرهيب لليوتوبيا الأمريكية فقد عارضه موريس باتحاد فيدرالي مؤلف من تجمعات صناعية وزراعية تعمل بشكل مستقل، كما عارض نظام العمل العسكري بحق الفرد في أن يعمل متى وكيف شاء، وأن يشارك في الإنتاج الآلية بالجملة، أو في الإنتاج اليدوي، لسلع محدودة، ولكن جميلة الصنع. والحقيقة أنه لا يكاد يوجد شيء واحد لا تناقض فيه «أخبار من لا مكان» رواية بيلامي «التطلع للوراء».
ويختلف وليم موريس أيضا عن معظم الكتاب اليوتوبيين في القرن التاسع عشر برغبته في الابتعاد الكامل، لا عن البؤس الذي تسببت فيه الثورة الصناعية فحسب، بل كذلك عن الإيمان بالتقدم الصناعي. لقد اعتقد بيلامي، مع أغلبية الكتاب اليوتوبيين، أن التقدم التقني سيجلب السعادة للبشر بمجرد القضاء على النظام الرأسمالي للملكية الخاصة، لأن ذلك التقدم سوف يلبي جميع حاجاتهم المتزايدة. أما موريس فقد اعتقد، على العكس من ذلك، بأن السعادة لا علاقة لها بزيادة الإنتاج، وأن الجانب الأكبر من التقدم الذي سيتم في هذا الميدان لن تكون له قيمة عندما يظهر المجتمع الجديد إلى الوجود: «لقد تصور القرن التاسع عشر نفسه كرجل أضاع ملابسه أثناء الاستحمام، فاضطر أن يمشي عاريا في شوارع المدينة ...»
لم يؤمن وليم موريس بأن المجتمع الجديد يمكن أن يكون من عمل «نابليون اشتراكي»، ولا بأنه يمكن أن يتولد عن المجتمع القديم بشكل آلي. ففي رأيه أنه العالم الحر، العادل، والسعيد لا يمكن أن يظهر للوجود إلا عندما تقوى رغبة البشر في الحرية إلى الحد الذي يجعلهم يدركون مدى قوتهم ويطيحون بالنظام القديم. وها هو ذا يصف في «أخبار من لا مكان» القوة التي حققت الثورة: «لو نظرنا الآن إلى الوراء، لوجدنا أن القوة الكبرى الدافعة على التغيير كانت هي التوق إلى الحرية والمساواة، وهي إذا شئت قوة تشبه العاطفة العارمة التي تستحوذ على العاشق ... صحيح أن طبقة العبيد لم تستطع أن تدرك مدى السعادة الكامنة في الحياة الحرة. ولكنهم لم يلبثوا أن فهموا (وبصورة شديدة أيضا) أن سادتهم يقهرونهم، كما أيقنوا، وكانوا محقين في ذلك كما ترى، أنهم يستطيعون أن يستغنوا عنهم، وإن عجزوا عن معرفة الوسيلة التي يمكن أن تؤدي إلى ذلك.» ولا يتردد وليم موريس، الذي طالما اتهم بأنه غير واقعي وشديد التفاؤل، عن إعلان رأيه في أن الثورة ضرورية لتحقيق المجتمع الجديد: «كان العالم يساق إلى ميلاده الثاني، فهل كان من الممكن أن يتم هذا دون مأساة.»
إذا كان عالم الغد الذي وصفه وليم موريس، يعتبر القرن التاسع عشر نموذجا للحياة المرفوضة، فإنه لا يكره أن يتعلم من الماضي، وبصفة خاصة من العصر الوسيط، عندما كانت المجتمعات لا تزال صغيرة بالقدر الذي يسمح بعقد أواصر الصداقة بين أعضائها، وكان العمال ينتجون لسوق محدودة تقتصر على المدينة، وكان الحرفيون لا ينفذون مشروعات الشعوب الأخرى، وإنما ينجزون إبداعاتهم الخاصة، وكانت الطوائف الحرفية ومجالس المدينة، وليست السلطة المجهولة لدولة مركزية، هي صاحبة الكلمة في كل شئون الجماعة. ربما لم يكن تصور موريس للحياة في القرن الرابع عشر تصورا دقيقا كل الدقة من وجهة النظر التاريخية. وربما كانت إنجلترا - التي صورها في قصيدته «حلم جون بول» في صورة شديدة الإشراق والصحة والسعادة - بعيدة عن الواقع، ولكن العصور الوسطى برغم أنها كانت فترة ازدهار وحرية بالقياس إلى القرن التاسع عشر، إلا أن المدن الوسيطة اضطرت إلى الدخول في صراعات مستمرة للمحافظة على استقلالها. وليس المهم على كل حال أن الحياة في العصور الوسطى لم تكن بالجمال والبراءة التي أراد موريس أن يصورها بها، ولكن المهم أنه استوعب روح تلك العصور «التي كانت فيها السماء والحياة الأخرى شديدة الواقعية في نظر الناس، لدرجة أنها أصبحت جزءا من الحياة على الأرض التي أحبوها غاية الحب على الرغم من مذاهب الزهد التي كانت تدعوهم إلى إدانتها والتخلي عنها.»
لقد تصور معظم اليوتوبيين، قبل وليم موريس، مجتمعات ألغيت منها الملكية الخاصة، واعترف فيها بحق كل إنسان في الحصول على نصيب متساو من ثروة الجماعة. ولكنها كانت مجتمعات حل فيها ملكية الدولة محل الملكية الخاصة، وحوافز التكريم والأوسمة محل حافز المال، وطاعة القوانين الجديدة محل الخضوع للقوانين القديمة. وإذا كانت الجرائم التي ترتكب ضد الملكية قد اختفت، فإن الجرائم التي ترتكب ضد التنظيمات والمؤسسات الجديدة يعاقب عليها عقابا لا يقل قسوة عما كان عليه فيما سبق. إن كل إنسان في «أخبار من لا مكان» هو سيد نفسه، وهو يرفض أن يتنازل عن سلطته لأناس يشرعون القوانين ويفرضون العقوبات على من لا يحترم هذه القوانين. إنه مساو لرفاقه من البشر مساواة حقيقية، لا لأنه يتسلم نفس القدر من المأكل والملبس فقط، بل كذلك لأنه لا يمارس أي سلطة على جاره ولا يمارس جاره سلطة عليه.
وذهب أيضا معظم الكتاب اليوتوبيين إلى أن سعادة الإنسان تكمن في الحياة في مجتمع محكم التنظيم يزود كل أفراده باحتياجاتهم. ويبدو أنهم لم يدركوا خطورة تعرض الإنسان لأفظع حالات الضيق والضجر لحرمانه من أي تعبير مبدع. وقد حاول وليم موريس أن يبين أن الضمان الأكيد لسعادة البشر يكمن في العمل الذي يمكن أن يصبح وسيلة لتحقيق الدوافع الإبداعية عند الإنسان، وصار الجانب الأكبر من العمل في مجتمعه المثالي نوعا من النشاط الفني، وإن كان هذا لم يتم بشكل سريع: «انبثق فن العمل أو لذته - فهكذا ينبغي أن نسميها - بشكل يكاد أن يكون عفويا، عن نوع من الغريزة لدى الشعب الذي لم يعد يساق يائسا إلى العمل الشاق المخيف، مما جعله يبذل غاية ما في وسعه لإتقان العمل الذي بين يديه والتفوق فيه، ولما استمر الحال على هذا المنوال فترة من الزمن، بدا أن الشوق الجارف إلى الجمال قد استيقظ في عقول الناس، وبدءوا بشكل فج ومرتبك في زخرفة مصنوعاتهم - ثم ما لبث العمل أن انطلق في سبيله وأخذ ينمو ... إلى أن تمكنا في النهاية وبعد خطوات بطيئة من أن نشعر بلذة عملنا، ثم ازداد وعينا بهذه اللذة: فتعهدناها بالصقل والرعاية والحرص على الامتلاء بها ... هنالك وجدنا أننا قد كسبنا كل شيء وأصبحنا سعداء.»
وترتب على هذا بالضرورة أن التغير في المجتمع الجديد لم يقتصر على المؤسسات، وإنما شمل تفكير الإنسان ونظرته بأكملها. «فالطبيعة البشرية» تعتمد اعتمادا كبيرا على طبيعة المجتمع، وهنالك «طبيعة بشرية للفقراء، وأخرى للعبيد، وثالثة لملاك العبيد وللأحرار من أصحاب الثروة»، لهذا نجد وليم موريس يملأ مجتمعه الحر بأناس تخلصوا من عقلية العبيد، ويحاول أن يبين لنا طريقة سلوك هؤلاء الناس بدلا من إعطائنا صورة كاملة عن جميع آليات المجتمع الجديد. وربما يكون الدافع الذي أملى هذا على موريس هو أنه لم يشأ أن يدلي برأيه في الأمور التي لا يعرف عنها إلا القليل، وذلك على خلاف كثير من الكتاب اليوتوبيين الذين تخيلوا أنفسهم حكماء في كل شيء، من تربية الأطفال إلى تخطيط المدن، ومن التدبير المنزلي إلى الإنتاج الصناعي. وإذا كان موريس لا يضيع فرصة للتعبير عن آرائه حول العمارة والرسم، والحفر أو أعمال الخزف، فإنه يلزم الصمت التام في الأمور التي لا يعرفها عن قرب مثل التعقيدات المتصلة بتنظيم الإنتاج والتوزيع، أو الترتيبات التي يفترض اتخاذها لتمكن العلماء من القيام ببحوثهم. ولعل السبب في هذا كله - على الرغم من زعمه بأن عصره المثالي ليس عصر اختراعات - يرجع إلى اكتشاف قوة دافعة جديدة. ولأن موريس لا يكتب إلا عن الأمور التي يعرفها معرفة حميمة ويهتم به اهتماما صادقا فقد خلا كتابه من الغباء والتكلف اللذين يطبعان بطابعهما معظم يوتوبيات ذلك العصر.
ومما يحمد أيضا لموريس أنه لم يزعم أن مجتمعه هو المجتمع الوحيد الكامل، أو أنه هو الوحيد المرغوب فيه. ولم تكن «أخبار من لا مكان» - كما أشار ج. د. ه. كول
G. D. H. Cole - نبوءة ولا وعدا، وإنما كانت تعبيرا عن اختيار أو تفضيل شخصي. لقد قال موريس: «هذا هو نوع المجتمع الذي أود أن أعيش فيه، فهيا حدثني عن مجتمعك.» ومع أن كل اليوتوبيات تعبير بطبيعة الحال عن تفضيلات شخصية، إلا أن مؤلفيها يتوهمون عادة أن أذواقهم الشخصية ينبغي أن تسن في شكل قوانين، فإذا كانوا ممن يستيقظون في الرابعة صباحا، فلا بد أن تصحو (مجتمعاتهم) المتخيلة أيضا في الرابعة صباحا، وإذا كانوا لا يستسيغون أن تتزين النساء ويضعن المساحيق، اعتبر اتخاذ الزينة جريمة . وإذا كانوا أزواجا غيورين، عدت الخيانة الزوجية جريمة يعاقب عليها بالموت. ويعترف موريس صراحة بما يحبه وما يكرهه، ولكنه لا يفرض ذوقه على أحد ولا يفرض عقوبة على أصحاب الأذواق المخالفة له. وقد اقتنع بأن أسلوب حياة المجتمع لا يمكن أن يرتب بشكل مصطنع في ذهن فرد، وإنما يجب أن يشترك كل أفراد المجتمع في إبداعه بشكل تلقائي. لقد استطاع أن يحلم ويعمل في سبيل «مثله الأعلى»، ولكنه لم يشأ أن يحققه بدلا من الآخرين، لأن الشعب نفسه هو الذي يملك تحقيقه. ولهذا يقول في قصيدة «الفردوس الأرضي»:
حالم أنا بأحلام تمخضت عنها أيامي،
ما الداعي أن أجهد نفسي في تقويم المعوج؟
حسبي أن يخفق شعري الهامس
ويرتطم جناحه الخفيف بالبوابة العاجية،
وهو يحكي حكاية لا يثقل بها على أحد
من أولئك الهاجعين في أرض النعاس
يهدهدهم صوت المغني الذي يجثم على الأنفاس
في يوم أجوف مسلوب الإحساس.
إن سحر «أخبار من لا مكان» لا يكمن في الحجج المقنعة التي يقدمها سكان اليوتوبيين ليوضحوا سبب اختيارهم لأسلوبهم في الحياة، بقدر ما يكمن في جو الجمال والحرية، والهدوء والسعادة التي تسود القصة بأكملها. ولم يغفل موريس أي شيء يمكن أن يشدنا ويجذب حواسنا؛ فالنساء تتمتع بالصحة والنشاط والجمال، ويرتدين ملابس فاتنة من الحرير أو الكتان المطرز، والرجال وسيمون، لطيفو المعشر، بارعون في الغزل، وكل إنسان يبدو أصغر من عمره الحقيقي، ولا توجد تجعيدة واحدة على وجوه النساء اللائي بلغن الأربعين، وفي قاعات الطعام المشتركة التي لا نحتاج إلى القول بأنها مزينة بأعمال الحفر والصور وقطع الأثاث الجميلة ذات الزخارف البديعة، تقدم وجبات جاهزة وبسيطة ولكنها شهية الطعم مع زجاجة من النبيذ الفرنسي، كما أننا ننعم في أثناء فترة وجودنا في إنجلترا اليوتوبية (وهنا نشعر بحق أن موريس يخدعنا) بجو صحو ودافئ بشكل بديع.
وهذه مقتطفات قليلة نقدمها من «أخبار من لا مكان»، وهي لا تستطيع أن تعطينا إلا فكرة غير وافية عن الكتاب، إذ لا غنى عن تذوقه كما نتذوق اللوحة الفنية في مجموعها الكلي:
بعد أن قضى «وليم جست» في مقر الجماعة الاشتراكية ليلة تناقش فيها مع بعض رفاقه حول ما عسى أن يحدث بعد الثورة، رجع إلى منزله في «هامرسميث» وهو يحلم بأيام السلام والاستقرار، والنظافة والمودة المبهجة. ويستيقظ من نومه أو يحلم أنه يستيقظ بعد مرور مائتي عام ليرى على ضفتي «التيمز» صفوفا من البيوت الجميلة والحدائق المزدهرة بالورد. وسوف نتابعه في رحلته الأولى التي يطوف فيها أرجاء لندن في صحبة ديك هاموند
Dick Hammaond
وهو مراكبي وسيم دمث الخلق يتولى مهمة إرشاده، ويحمله معه في عربة جميلة ولطيفة يجرها حصان رمادي قوي عبر شوارع لندن الجديدة التي لم تعد تشبه لندن القديمة إلا شبها قليلا. فقد أصبحت تجمعا ضخما من القرى المتفرقة التي تفصل بينها الغابات والبراري والحدائق، وحلت الأكواخ والمباني الجميلة محل المنازل القبيحة المتسخة بالسناج. «تحولنا عن النهر في الحال، وسرعان ما وجدنا أنفسنا في الطريق الرئيسي الذي يخترق هامرسميث. ولو لم تبدأ رحلتنا من الطريق المحاذي للنهر، لما استطعت أن أكون فكرة عن الوضع الذي كنا فيه، ذلك لأن «شارع الملك» كان قد اختفى، وأخذ الطريق السريع يمر بنا خلال مروج مشمسة واسعة وحقول تبدو كالحدائق. أما النهر الصغير الذي عبرناه على الفور فقد تم تطهير مجراه القذر، واستطعنا ونحن نعبر جسره الأنيق أن نرى مياهه الصافية، التي فاضت قليلا بتأثير المد والجزر، وتغطيها القوارب المرحة من مختلف الأحجام. وكانت هناك منازل كثيرة حوله، بعضها على الطريق، وبعضها الآخر وسط الحقول وتؤدي إليها ممرات لطيفة، كما تحوط كلا منها حديقة غناء. وكانت جميع المنازل بديعة التصميم، راسخة البنيان كما هو متوقع، وإن كان منظرها يوحي بأنها ريفية وأشبه بمساكن المزارعين، وكان بعضها مبنيا بالقرميد الأحمر مثل المنازل التي مررنا بها على ضفة النهر، مع كميات من الخشب والجص، ولذلك بدت بحكم بنائه والمواد الخام المستخدمة فيها مثل منازل العصور الوسطى، حتى لقد أحسست بأنني أعيش في القرن الرابع عشر، وزاد من قوة هذا الإحساس ملابس الناس الذين قابلناهم أو مررنا بهم، إذ لم ألاحظ فيها أي شيء «حديث». كان معظم الناس يرتدون ثيابا مرحة زاهية، لا سيما النساء اللاتي كن من الحلاوة والنضارة بحيث لم أستطع أن أمسك لساني عن جذب انتباه رفيقي إلى هذه الحقيقة. وقد لاحظت أن بعض الوجوه يبدو عليها الهم، ولكنني لاحظت كذلك أن ملامحها تكتسي بتعبير غاية في النبل، وأنه ليس فيها وجه يبدو على قسماته ظل واحد من ظلال التعاسة، بل إن معظم الناس (وقد قابلنا أعدادا كبيرة منهم) كانوا مرحين مرحا واضحا وصريحا.
تصورت أنني أعرف الطريق الرئيسي عن طريق التقاطع الذي كان لا يزال في مكانه. وأبصرت على الجانب الشمالي منه صفا من المباني والمحاكم المنخفضة، ولكنها كانت مبنية بناء أنيقا عامرا بالزخارف، بحيث تمثل لي التباين الشديد بينها وبين المنازل البسيطة المحيطة بها، بينما ارتفع فوق هذا المبنى المنخفض سطح عال مغطى بصفائح الرصاص، وظهرت النتوءات والجزء الأعلى من جدار قاعة كبيرة، ذات طراز معماري شديد الضخامة والفخامة، بحيث يمكنني القول بأنها بدت وكأنها تجمعت أبدع مزايا الفن القوطي في شمال أوروبا مع الطراز المعماري العربي والبيزنطي، على الرغم من أنني لم ألاحظ أي نسخ أو تقليد لأي طراز من هذه الطرز. وعلى الجانب الآخر، وهو الجانب الجنوبي للطريق، رأيت مبنى مثمن الأضلاع له سقف عال، ولا يختلف كثيرا عن مبنى المعمودية في فلورنسا، باستثناء أنه كان محاطا برواق أو أديرة ملتصقة به، وقد كان أيضا من أجمل المباني المزينة بالزخارف الرقيقة.
لم تكن كل هذه الكتل المعمارية التي صادفتنا فجأة ونحن نعبر الحقول المبهجة، لم تكن جميلة ورائعة في حد ذاتها فحسب، وإنما كانت تعبر عن كرم فياض ووفرة في الحياة غمراني بحالة من النشوة التي لم أجربها أبدا من قبل. ضحكت من فرط السرور. وبدا أن صديقي قد فهم حالتي، وأخذ ينظر إلي بشغف حقيقي يفيض بالابتهاج. وراحت عربتنا تتخلل حشدا من العربات، حيث جلس أناس بدت عليهم ملامح الصحة والنضارة، رجال، ونساء، وأطفال في ملابس زاهية مرحة، وبدا واضحا أنها عربات متجهة نحو السوق، إذ كانت محملة بأكوام من منتجات الريف التي تجذب الأنظار.
قلت: «لست في حاجة للسؤال عما إذا كان هذا سوقا، لأنني أرى بوضوح أنه كذلك، ولكن أي سوق هذا الذي تبدو عليه الأناقة والفخامة؟ وما هي هذه القاعة الرائعة هناك، وأي مبنى هذا على الجانب الجنوبي؟»
قال: «آه. إنه هو سوق هامرسميث، ويسرني أنه حاز إعجابك إلى هذا الحد، لأننا فخورون به بالفعل. أما القاعة الداخلية فهي بطبيعة الحال مقرنا الشتوي، لأننا نلتقي غالبا في الصيف في الحقول المحاذية للنهر أمام البارن إلمز
Barn Elms
وأما هذا المبنى الذي يقع على يمينك فهو مسرحنا».»
وبعد عبور كينسنجتون
Kensington - التي تكسوها الآن غابات من أشجار البلوط والكستناء، والدلب والجميز، وتعسكر فيها مجموعات من الأطفال - يصلان إلى وستمينستر: «وما إن بلغنا قمة أرض مرتفعة، حتى لمحت على يمين فوق مساحة منبسطة في الغابة مبنى راسخا كان شكله مألوفا لي، وصحت من فوري: «كنيسة وستمينستر !»
قال ديك: «أجل! هي كنيسة وستمينستر - أو ما تبقى منها.»
قلت في فزع: «لماذا؟ ماذا فعلتم بها؟»
قال: «ماذا فعلنا بها؟ كل ما فعلناه أننا نظفناها. ولعلك تعلم أن كل الأجزاء الخارجية تلفت منذ قرون، أما الجزء الداخلي فهو محتفظ بجماله منذ تمت التصفية الكبرى، قبل أكثر من مائة عام، للآثار البهيمية للحمقى والمحتالين التي سدت منافذه ذات يوم، كما يقول أسلافنا.»
وسرنا قليلا ثم التف إلى اليمين مرة أخرى وقلت بصوت يخالطه الشك: «ما هذا؟ مباني البرلمان. أما زلتم تستخدمونها؟»
انفجر في ضحك متواصل، وظل على هذه الحال بعض الوقت قبل أن يتمالك نفسه، ثم ربت على ظهري قائلا: «سأشرح لك الأمر يا جاري، ربما تعجبت من احتفاظنا بها، وأنا أعرف القليل عنها؛ إذ أعطاني قريبي العجوز بعض الكتب التي قرأتها عن اللعبة الغريبة التي كانوا يلعبونها فيها. نستخدمها. أجل. كسوق إضافي، ومخزن للسماد، فهي تصلح لهذا الغرض، لوقوعها بالقرب من النهر. أعتقد أنه كان هناك اتجاه لهدمها تماما في بداية عهدنا، ولكن كانت هناك، كما سمعت، مجموعة غريبة من كبار السن الذين قدموا بعض الخدمات في الأيام الغابرة، وقد اعترضوا بقوة على فكرة الهدم، كما فعلوا تماما مع العديد من المباني الأخرى التي اعتبرها معظم الناس عديمة القيمة ومصدر ضيق وإزعاج للرأي العام. وكانت هذه المجموعة شديدة النشاط وقوية الحجة فانتصر رأيها في النهاية! ومهما تشعبت الآراء حول هذا الموضوع فلا بد أن أقول إنني راض عما حدث، لأن هذه المباني القديمة السمجة تتيح كما تعلم لمن يراها أن يدرك مدى جمال المباني الحديثة التي نقيمها الآن».»
ويزداد عجب الرجل القادم من «العالم الآخر» عندما يصلان إلى بيكاديلي
التي ما زالت مركزا فخما للتسوق، يقبل عليه الناس إقبالا شديدا، ويقوم فيه الأطفال بإدارة المحلات ولا تدفع نقود مقابل السلع التي يحصلون عليها. «وكنا قد دخلنا محلا أو معرضا يوجد به حاجز خشبي ورفوف على الحائط، وكل شيء فيه شديد النظافة وبعيد عن أي رغبة في التظاهر والاستعراض، وإن لم يختلف فيها عدا ذلك كثيرا عما اعتدت عليه. كان بالداخل طفلان؛ صبي أسمر البشرة في حوالي الثانية عشرة من عمره، وكان يقرأ في كتاب وهو جالس، وفتاة صغيرة جميلة تكبره بحوالي العام، وهي الأخرى تقرأ جالسة خلف الحاجز، وكان من الواضح أنهما شقيقان.
قال ديك: «صباح الخير، يا جاري الصغيرين ... صديقي بحاجة إلى تبغ وغليون، فهل يمكنكما مساعدته؟» «جارنا العزيز!» قالتها الفتاة، وعلى قسمات وجهها هدوء طفلة تمثل دور بائعة في المحل. «وما نوع التبغ الذي تريده؟»
قلت: «اللاذقي.»
14
وأحسست كأنني أشارك في لعبة أطفال، كما خيل إلي أنني سأتفرج على نوع من التمثيل.
ولكن الفتاة تناولت سلة صغيرة جميلة من الرف المجاور لها، ومضت إلى جرة وأخرجت منها كمية من التبغ، ووضعت السلة الممتلئة أمامي على الحاجز الخشبي. فشممت رائحة اللاذقي الممتاز ورأيته بعيني.
قلت: «ولكنك لم تقومي بوزنه، و... وكم أستطيع أن آخذ منه؟»
قالت: «ماذا؟ أنصحك أن تملأ حقيبتك، فربما تذهب إلى مكان لا تجده فيه، أين حقيبتك؟»
وأخذت تحشو الحقيبة بالتبغ، ثم وضعتها أمامي قائلة: «والآن جاء دور الغليون. لدينا ثلاثة أنواع جميلة وصلتنا اليوم.»
واختفت مرة أخرى، ثم عادت تحمل في يدها غليونا كبير الحجم منتفخ البطن، حفرت على خشبه الصلب بعض النقوش المتقنة، وكسي بطلاء ذهبي تلمع فيه بعض الفصوص الدقيقة من الأحجار النفيسة، كان باختصار أشبه بلعبة مبهجة لم أر أجمل منها، أو بأفضل أنواع الغليون المصنوعة في اليابان، وربما أجمل منها.
قلت بعد أن وقع بصري عليه: «ويلي! هذا شيء فخم جدا بالنسبة إلي، بل بالنسبة لأي إنسان آخر باستثناء إمبراطور العالم. ثم إنني سأضيعه. أنا دائما أضيع غلاييني.»
ارتج على الطفلة قليلا ثم قالت: «ألا تريده يا جار؟»
قلت: «أواه! بلى، أريده بالطبع.»
قالت الفتاة: «حسنا، خذه إذن، ولا تهتم بمسألة فقده. ما المشكلة في هذا؟ سيجده شخص ما بالتأكيد، وسيستعمله، وبإمكانك الحصول على غليون آخر.»
تناولته من يدها لألقي نظرة عليه، وبينما كنت أتأمله غلبني التهور فقلت: «ولكن كم سأدفع في شيء كهذا؟»
وضع ديك يده على كتفي فتوقفت عن الكلام، واستدرت إليه ولمحت في عينيه تعبيرا مضحكا يحذرني من التمسك بالأخلاقيات التجارية البائدة، واحمر وجهي خجلا وأمسكت لساني، بينما نظرت إلي الفتاة باهتمام شديد وكأنني أجنبي يتخبط في كلامه، وبدا واضحا على وجهها أنها لم تكد تفهم ما أقصده.
وسألت مرافقي إن كان الأطفال بصفة عامة هم الذين يخدمون في المتاجر فقال: «في الغالب، وخصوصا حين لا يتم التعامل مع الأوزان الثقيلة، وإن لم يكن الأمر كذلك بصفة دائمة. فالأطفال يحبون التسلية، كما أنه شيء نافع لهم، لأنهم يتعاملون مع سلع متنوعة ويتعلمون الكثير عنها، كيف صنعت، ومن أين جاءت، وهكذا. أضف إلى هذا أنه عمل يسير للغاية ويمكن أن يقوم به أي إنسان. ويقال إنه كان هناك في الأيام الأولى لعصرنا عدد كبير من المصابين بحكم الوراثة بمرض يسمى الكسل، لأنهم جاءوا مباشرة من نسل أولئك الذين تعودوا في العهود الغابرة على إجبار الآخرين على خدمتهم، وأنت تعلم أن هؤلاء الناس يطلق عليهم في كتب التاريخ اسم ملاك العبيد أو أصحاب الأعمال. وهكذا تعود هؤلاء المبتلون بالكسل طوال عمرهم على العمل في المحلات التجارية، لأنهم لا يصلحون لعمل آخر. وأعتقد أنهم كانوا مضطرين في ذلك الوقت للقيام بمثل هذه الأعمال، لأن عدم وجود علاج حاسم للمرضى، والنساء منهم بصفة خاصة، قد جعل أحوالهم تسوء إلى درجة القبح، كما جعلهم ينجبون أطفالا على شاكلتهم، حتى ضاق بهم جيرانهم إلى أقصى حد. ومع ذلك فيسعدني أن أقول إن كل هذا قد انتهى الآن، وأن المرض قد تلاشى تماما، أو يكفي للقضاء على آثاره البسيطة بضع جرعات من دواء مسهل. وأحيانا يطلق عليه الآن اسم الشياطين الزرقاء أو الطعم القذر. أليست هذه أسماء غريبة؟»»
ويعبران بعد ذلك ميدان الطرف الأغر
Trafa Lgar
الذي تحول إلى ساحة واسعة انتشرت فيها البساتين وأشجار المشمش بصفة خاصة، وفي وسطه مبنى خشبي صغير وجميل، محلى بالرسوم ومطلي بطلاء براق، ويبدو شبيها بالأكشاك المعدة لتناول المشروبات المنعشة . وتهاجم الزائر ذكريات الأحد الدامي عندما فرقت الشرطة في سنة 1887م تظاهرة سلمية، وضرب المواطنون وأخذوا إلى السجون. وأثارت ذكريات هذه الأحداث مناقشة بين الرفيقين عن سلوك الناس في القرن التاسع عشر: «قال ديك: «ما أغرب أن نتصور وجود أناس كانوا يعيشون مثلنا في هذا البلد الجميل السعيد، ويفترض فيهم أنهم يحملون نفس المشاعر والأحاسيس، ومع ذلك استطاعوا أن يرتكبوا هذه الأعمال المخيفة!»
قلت بنغمة تعليمية: «أجل. ولكن هذه الأيام نفسها كانت في نهاية الأمر تمثل تحسنا كبيرا بالقياس إلى الأيام التي سبقتها. ألم نقرأ عن العصور الوسطى وقسوة قوانينها الجنائية، وكيف كان الناس في تلك الأيام يستمتعون بتعذيب مواطنيهم؟ لقد أوشكوا بسبب ذلك أن يصوروا إلههم في صورة معذب وسجان أكثر من أي شيء آخر.»
قال ديك: «نعم، هناك كتب جيدة عن هذه الفترة، وقد اطلعت على عدد منها. ولكنني لا أوافقك على ما تقوله عن التحسن الكبير في القرن التاسع عشر. لقد كان الناس في العصور الوسطى يتصرفون بوحي من ضميرهم، كما تبين ملاحظتك عن إلههم (وهي ملاحظة صائبة)، وكانوا على استعداد لتحمل الآلام التي سببوها للآخرين، على حين كان الناس في القرن التاسع عشر أفاقين ومدعين للإنسانية، ولكنهم استمروا بالرغم من ذلك في تعذيب إخوانهم عن عمد وزجهم في السجون، لا لسبب على الإطلاق سوى أنهم كانوا ما أراد لهم سجانوهم أن يكونوا عليه. آه! إن مجرد التفكير في ذلك شيء مرعب.»
قلت: «ولكن ربما لم تكن لديك فكرة عن طبيعة تلك السجون.»
ثارت ثائرة ديك حتى ظهر عليه الغضب وقال: «إن معرفتنا بهذا بعد كل تلك السنين أدعى لوصمهم بالعار. انظر يا جار، لا يمكن أن يكون قد غاب عنهم أن السجن عار على المجتمع، وأن وجود السجون قد عجل بتردي أحوالهم ترديا فظيعا.»
قلت: «ولكن أليس لديكم الآن سجون على الإطلاق؟»
شعرت بمجرد خروج الكلمات من فمي أنني ارتكبت خطأ، فقد احمر وجه ديك العجوز وتجهم، وبدت الدهشة والألم في نظراته. ولكنه قال على الفور، وكأنه يحاول أن يتحكم في غضبه: «ويحك! كيف يمكنك أن تسأل مثل هذا السؤال؟ ألم أقل لك إننا نعرف ما هي السجون من اطلاعنا على كتب موثوق منها، مع ما تضيفه مخيلتنا إلى أهوالها؟ ألم تدعني أنت نفسك لملاحظة السعادة التي تبدو هنا على وجوه الناس في الطرقات والشوارع؟ وهل كان يمكن أن تبدو عليهم السعادة لو عرفوا أن جيرانهم قد أغلقت عليهم أبواب السجون، في الوقت الذي يصبرون هم فيه على ذلك؟ إنك لا تستطيع أن تخفي عن الناس وجود مساجين وراء الجدران، وكأنك تخفي عنهم جريمة ذبح إنسان، لأن هذه الجريمة لم تتم عن عمد وفي وجود مجموعة من الناس الذين يؤيدون الذابح ببرود كما يحدث في السجن. سجون؟ لا. لا. لا!»»
ويمر ديك وزميله أمام باب أحد المصانع، ونشعر من الوصف القصير أنه قد تم التخلص من مركزية الصناعة بفضل اكتشاف الطاقة الجديدة.
15 «مررنا ببوابات مبنى ضخم؟ بدا من منظره أن عملا من نوع ما يدور داخله. قلت في لهفة: «ما هذا المبنى؟ إذ سرني أن أرى بين كل هذه الأشياء الغريبة شيئا يشبه ما كنت قد تعودت عليه: يبدو عليه أنه مصنع.»
قال: «نعم. أظن أنني أعرف ما تقصده، وهو كما قلت، ولكننا لا نطلق على أمثاله الآن اسم المصانع، وإنما نسميها مجمعات ورش العمل، أي الأماكن التي يتجمع فيها الناس الذين يريدون أن يعملوا معا.»
قلت: «أظن أن هناك طاقة من نوع ما تستخدم هناك؟»
قال: «لا، لا، وما الذي يدعو الناس إلى التجمع لاستخدام الطاقة، حين يكون في إمكانهم أن يجدوها في الأماكن التي يعيشون فيها، أو بجوارهم مباشرة، سواء أكانوا اثنين أو ثلاثة، أو حتى أي فرد واحد لأجل شيء كهذا؟ لا؛ إن الناس يتجمعون في مجمعات الورش ليزاولوا العمل اليدوي الذي يتطلب بالضرورة العمل المشترك؛ وغالبا ما يكون هذا العمل باعثا على السرور. وفي داخل هذا المبنى مثلا تجدهم يقومون بصنع الخزف والزجاج، ويمكنك أن ترى سقوف الأفران العالية هناك، ومما يسهل العمل بطبيعة الحال أن يكون في متناول يدك أفران في أحجام مناسبة، ومواقف، وأوعية زجاجية وأشياء أخرى كثيرة للاستعمال: ومع ذلك فهناك وفرة من هذه الأماكن، بحيث يكون من السخف أن يحب إنسان صناعة الخزف أو النفخ في الزجاج، ويضطر بالرغم من ذلك إلى الحياة في مكان واحد أو إلى الامتناع عن مزاولة العمل الذي يمتعه.»
قلت: «لست أرى دخانا يتصاعد من الأفران؟»
قال ديك: «دخان؟ ولماذا ترى دخانا؟»
أمسكت لساني، واستطرد قائلا: «إنه مكان جميل من الداخل، وإن كان بسيطا كما تراه من الخارج. أما بالنسبة للحرف اليدوية، فإن تشكيل الصلصال لا بد أن يكون عملا مبهجا، والنفخ في الزجاج عمل مرهق بسبب الحرارة الشديدة، ولكن بعض الناس يمتعهم هذا كثيرا، وليس هذا ما يدهشني، لأنك ستدرك معنى الطاقة إذا تمرست في التعامل مع المعدن الساخن.» ثم قال مبتسما: «وهذا من شأنه أن يجعل العمل مصدرا للبهجة والمتعة؛ لأنك مهما بذلت من جهد في مثل هذه السلع، ومهما توقف العمل فيها لفترة من الوقت، فسوف تجد دائما ما يشغلك».»
ويصل الصديقان إلى المتحف البريطاني حيث يعيش قريب عجوز ل «ديك»، عمل أمينا للمكتبة لسنوات عديدة وتضلع في دراسة التاريخ. ويترك الشاب ضيفه برفقة هاموند العجوز، بينما ينطلق هو مع امرأة جميلة أثارت في نفس الزائر الإعجاب وحب الاستطلاع. «بقيت صامتا للحظات ثم قلت بشيء من العصبية: «معذرة إذا كنت فظا، ولكني شديد الاهتمام بريتشارد، فقد أسبغ علي عطفه، وأنا الغريب تماما، ولهذا أود أن أوجه سؤالا عنه.»
قال هاموند العجوز: «حسنا، لو لم يكن، كما تقول، عطوفا مع الغريب، لتصور الناس أنه شخص شاذ، ولكان عليهم أن يتجنبوه. لكن تفضل واسأل. ولا تتحرج من السؤال.»
قلت: «تلك الفتاة الجميلة، هل سيتزوجها؟»
قال: «حسنا، سوف يتزوج منها. فقد كان متزوجا منها بالفعل، وأستطيع الآن أن أقول إنه من الواضح أنه سيتزوجها مرة أخرى.»
قلت متعجبا: «حقا؟»
قال هاموند العجوز: «إليك الحكاية بأكملها، وهي حكاية قصيرة جدا، وأتمنى الآن أن تكون نهايتها سعيدة. لقد عاشا معا في المرة الأولى لمدة سنتين، كان كلاهما لا يزال شابا يافع السن. ثم تصورت أنها وقعت في غرام شخص ما وتركت ديك المسكين، أقول المسكين لأنه لم يجد فتاة أخرى. ولكن هذه الحال لم تدم طويلا، حوالي العام فقط، ثم جاءتني بعد ذلك، كما تعودت أن تحمل مشاكلها للرجل العجوز، وسألتني عن أحوال ديك، وهل كان سعيدا، وعن أمور أخرى من هذا القبيل. رأيت أن الأرض أصبحت ممهدة، وقلت إنه تعس جدا وليس أبدا على ما يرام، وغير ذلك من الأكاذيب. ولك أن تخمن بقية القصة. جاءت كلارا اليوم لتتحدث معي حديثا طويلا، ولكن ديك سيكون أدرى مني بالكلام معها. والواقع أنه لو لم يحضر إلي اليوم مصادفة، لكان علي أن أرسل غدا في طلبه.»
قلت: «يا إلهي، وهل لديهما أطفال؟»
قال: «أجل، اثنان، وهما مقيمان في الوقت الحاضر مع واحدة من بناتي، حيث كانت كلارا تقيم معها كذلك معظم الوقت. كنت حريصا على ألا تغيب عن عيني، لأنني متأكدا أنهما سيرجعان كل منهما للآخر مرة أخرى. والواقع أن ديك، وهو أفضل الرفاق، كان ملهوفا على ذلك. فلم يكن هناك حب آخر يشغله، كما فعلت هي. وهكذا دبرت الأمر كله، كما فعلت من قبل في مثل هذه الأمور.»
قلت: «لا شك في أنك أردت أن تجنبهما الطلاق وتبعدهما عن المحاكم، وأظن أنها هي الجهة المختصة بتسوية هذه الأمور.»
قال: «وظنك في الواقع مغلوط من أساسه. إنني أعلم أنه كانت توجد أشياء طائشة مثل محاكم الطلاق، ولكن الحالات التي كانت تعرض عليهم لم تكن تخرج عن المنازعات حول الملكية.» وهنا أضاف وهو يبتسم: «وأعتقد يا ضيفي العزيز أن بإمكانك، على الرغم من أنك قادم من كوكب آخر، أن ترى من مجرد النظرة الخارجية على عالمنا أن الخلافات حول الملكية الخاصة لم يكن لها أن تستمر بيننا في هذه الأيام.»
والواقع أن جولاتي من هامرسميث حتى بلومز بيري، وكل ملامح الحياة السعيدة الهادئة التي رأيتها، فضلا عن عملية التسوق، كانت كافية لتخبرني بأن «الحقوق المقدسة للملكية»، كما اعتدنا أن نصفها، لم يعد لها وجود الآن. ولهذا جلست صامتا حتى التقط الرجل العجوز خيط الحديث مرة أخرى وأخذ يقول: «وما دامت الخلافات على الملكية قد اختفت، فماذا تبقى للمحاكم من تلك الأمور؟ هل يمكنك أن تتخيل محكمة مهمتها تنفيذ عقد عاطفي؟ ولو احتاج الأمر إلى شيء مثل إبطال تنفيذ العقد، لكنا في غنى عن مثل هذا الجنون.»
وسكت مرة أخرى قليلا ثم قال: «عليك أن تفهم بصورة نهائية أننا قد غيرنا كل هذه الأمور، أو بالأحرى، أن طريقتنا في النظر إليها قد تغيرت، كما تغيرنا نحن أيضا في غضون المائتي سنة الأخيرة. إننا لا نخدع أنفسنا، ولا نعتقد أن الحقيقة أن بإمكاننا التخلص من كل المشكلات التي تفسد العلاقات بين الجنسين، نحن نعلم أننا يجب أن نواجه التعاسة التي تحل بالرجال والنساء نتيجة اضطرابات العلاقات بين العاطفة الطبيعية، والشعور، والصداقة التي يمكنها إذا سارت الأمور على ما يرام، أن تساعد على تبديد غشاوة الأوهام العابرة، ولكننا لسنا مجانين إلى الحد الذي يجعلنا نضيف المزيد من المهانة إلى تلك التعاسة بالدخول في المنازعات الخسيسة، حول ظروف المعيشة وسلطة الولاية على الأطفال الذين كانوا ثمرة الحب أو الشهوة ...
لم تبد عليك الصدمة عندما أخبرتك أنه لا توجد لدينا محاكم مختصة بتنفيذ العقود العاطفية، ولكن الأمر الغريب الذي ربما يصدمك عن أحوال الناس هنا هو أن تعلم أنه لا توجد لدينا قوانين وضعها الرأي العام لكي تحل محل تلك المحاكم، وقد تكون (أي تلك القوانين) أشد منها استبدادا وحمقا. لست أقول إن الناس لا يحكمون أحيانا على سلوك جيرانهم حكما ظالما. ولكنني أؤكد أنه لا توجد لدينا مجموعة قواعد ثابتة ومتفق عليها يمكن الحكم بمقتضاها على سلوك الناس؛ ولا يوجد لدينا سرير بروكر ستيس
16
نمد عليه عقولهم وحياتهم أو نقيدها، ولا حرمان - يتسم بالنفاق - من الكنيسة ويكره الناس على إعلانه، سواء بحكم العادة المتأصلة فيهم، أو بسبب التهديد الضمني بنوع آخر من الحرمان أقل منه إذا كانت درجة نفاقهم أضعف. هل شعرت الآن بالصدمة؟»
قلت مترددا بعض الشيء: «لا، لا، إن الأمر مختلف عن ذلك تماما».»
ثم يسأل وليم جست الرجل العجوز عن وضع المرأة في المجتمع الجديد: «ضحك من أعماق قلبه ضحكا لا يتوقع من رجل في سنه وقال: «إنني لم أكتسب شهرتي كدارس للتاريخ دون مبرر. وأظن أنني أفهم بالفعل حركة تحرير المرأة في القرن التاسع عشر، كما أشك في وجود رجل آخر يفهمها اليوم مثلي.»
قلت وقد ضايقني مرحه قليلا: «حسنا؟»
قال: «حسنا، يمكنك أن تدرك بالطبع أن كل هذا قد أصبح اليوم جدلا عقيما. فلم تعد هناك أي فرصة لاستبداد الرجال بالنساء، أو لاستبداد النساء بالرجال، لأن كلا الأمرين قد حدث في تلك العصور القديمة. إن النساء يبذلن الآن ما في وسعهن ويعملن أفضل ما يمكنهن عمله وأحبه إلى نفوسهن، وهذا الوضع لا يجعل الرجال غيورين ولا يؤذي مشاعرهم، كما أنه قد أصبح من الأمور المألوفة بحيث يكاد يخجلني أن أصرح به.»
قلت: «آه! وماذا عن التشريع؟ ألا تشارك النساء بدور فيه؟»
ابتسم هاموند قائلا: «أظن أن عليك أن تنتظر الإجابة عن هذا السؤال حتى نصل للكلام عن موضوع التشريع، وربما تلاحظ وجود أشياء جديدة عليك في ذلك الموضوع أيضا.»
قلت: «حسنا جدا، ولكن لنرجع إلى موضوع المرأة. فقد رأيت في بيت الضيافة أن النساء يخدمن الرجال، ألا يبدو هذا نوعا من الرجعية؟ أليس كذلك؟»
قال الرجل العجوز: «أهو كذلك؟ ربما تصورت أن إدارة المنزل وظيفة تافهة ولا تستحق الاحترام. وأظن أن هذا التصور يعبر عن رأي المرأة (التقدمية) في القرن التاسع عشر، وعن رأي المناصرين لها من الرجال. وإذا كان هذا هو رأيك فإنني أشرح لك حكاية قديمة من الأدب الشعبي النرويجي عنوانها كيف يهتم الرجل ببيته، أو شيء من هذا القبيل، وكانت نتيجة هذا الاهتمام - بعد متاعب وأحزان كثيرة - أن حاول كل من الرجل وبقرة البيت أن يحافظ على توازنه عند طرف الحبل الذي يربطه، فبقي الرجل معلقا فوق المدخنة وظلت البقرة مدلاة تتأرجح فوق السقف الذي يغطيه - حسب عادات هذه البلاد - التراب الذي تنمو فيه الأعشاب وينحدر بميل نحو الأرض. لم يكن ذلك من مصلحة البقرة، فيما أظن. ثم أضاف وهو يضحك ضحكا مكتوما؛ وبالطبع لا يمكن أن يقع مثل هذا الحادث المؤسف لشخص ألمعي مثلك».»
ويسأل الزائر بعد ذلك عن الآراء الجديدة حول التعليم. وكان قبل ذلك قد سأل ديك الذي أعطاه إجابات غريبة، وبدا عليه أنه لا يعرف معنى كلمة مدرسة. «قال ديك: «مدرسة؟ ماذا تعني بهذه الكلمة؟ إنني لا أفهم كيف يمكن أن تكون لها أي علاقة بالأطفال. إننا نتكلم حقا عن مدرسة لأسماك الرنجة، ومدرسة للرسم، وربما تكلمنا بالمعنى السابق عن مدرسة للأطفال، ولكن فيما عدا هذا يجب أن أعترف بأنني جاهل».» وعندما حاول أن يشرح له أنه يستخدم الكلمة بمعنى نظام التعليم، لم يفهمه الشاب أيضا وقال: «التعليم؟ إنني أعرف من اللغة اللاتينية ما يكفي للقول بأن الكلمة مشتقة من الفعل
Educere (يقود أو يوجه) وقد سمعت من يستخدمها، ولكني لم أقابل أبدا أي شخص استطاع أن يشرح ما تعنيه بوضوح.» واستطرد يقول: «إن الأطفال يتعلمون سواء دخلوا نظام التعليم أو لم يدخلوه. أما عن التعليم من الكتب، فإن معظم الأطفال يرون الكتب ملقاة حولهم، ويقبلون على قراءتها منذ بلوغهم سن الرابعة، ولكننا لا نشجعهم على الكتابة في سن مبكرة، لأن هذا يعودهم على الكتابة بخط رديء.» واستنتج الزائر من هذه المحادثة أن الأطفال يتركون على سجيتهم ولا يتعلمون شيئا. وهكذا يقول للعجوز: ««لقد قمتم بتصفية التعليم، حتى لم يبق لديكم شيء منه.»
قال: «إذن فقد أسأت فهمي. ولكني أفهم بالطبع وجهة نظرك عن التعليم التي ترجع للعصور الماضية، عندما حول الصراع من أجل البقاء، كما اعتاد الناس أن يعبروا عنه (بمعنى الصراع من أجل قوت العبيد من ناحية، ومن أجل حصول ملاك العبيد على أكبر المزايا من ناحية أخرى) حول التعليم بالنسبة لمعظم الناس إلى جرعات ضئيلة من المعلومات التي تفتقر إلى الدقة، وجعله بالنسبة للمبتدئ في فن الحياة شيئا لا بد من بلعه سواء أراد ذلك أو لم يرد، وسواء أحس نحوه بالجوع أو لم يحس؛ وكانت النتيجة أن مضغه وهضمه المرة بعد المرة أناس لا يكترثون به لكي يقدموه بعد ذلك لأناس لا يكترثون به أيضا.»
أوقفت عضب الرجل العجوز، وقلت: «حسنا، إنك لم تتعلم بهذه الطريقة على أي حال، فخفف قليلا من غضبك.»
قال مبتسما: «حقا، حقا، وأشكرك على تهدئة انفعالي؛ فأنا دائما أتخيل نفسي وكأني أعيش في العصر الذي نتحدث عنه. ومع ذلك فلنتكلم بطريقة بعيدة عن الانفعال. لقد كنتم تحشرون الأطفال في المدارس عندما يبلغون السن التي اصطلحتم على اعتبار أنها هي السن المناسبة، وبصرف النظر عن قدراتهم واستعداداتهم المختلفة، ودرجتم أيضا - متجاهلين للحقائق - على إلزامهم بمقررات معينة بحجة تعليمهم. ألا ترى يا صديقي أن مثل هذا الإجراء يتجاهل حقيقة النمو الجسدي والعقلي؟ لم يخرج أحد من هذه الطاحونة بغير أذى، ولم يكن لأحد أن ينجو من تدميرها إلا الذين تسكنهم روح التمرد القوية. ومن حسن الحظ أن الأطفال في كل العصور يتمتعون بهذه الروح، ولولا هذا لما وصلنا إلى وضعنا الحاضر. وها أنت بنفسك ترى ما آلت إليه كل هذه الأمور. لقد جاء كل هذا في العصور القديمة من الفقر. كان المجتمع في القرن التاسع عشر، بسبب اللصوصية المنظمة التي قام عليها، قد وصل إلى حالة من البؤس والضنك الذي استحال معه أي تعليم حقيقي لأي إنسان، وكانت النظرية الكاملة لتعليمهم المزعوم هي العمل بكل وسيلة على إقحام معلومات هزيلة في عقل الطفل، حتى ولو كان ذلك عن طرق التعذيب، ومن خلال الثرثرة الحمقاء التي عرف الجميع تمام المعرفة أنها لا تجدي شيئا، وإلا فسوف يقضي حياته مفتقرا لأي معلومات، في وقت زحف فيه الفقر المدقع ولم يسمح بشيء آخر. لكن هذا كله أصبح جزءا من الماضي. لم نعد نتعجل شيئا، والمعلومات جاهزة وفي متناول كل فرد إذا دفعته ميوله الخاصة للبحث عنها. لقد أصبحنا أثرياء من هذه الناحية ومن نواح أخرى، ويمكننا أن نوفر لأنفسنا الوقت الكافي للنمو.»
قلت: «نعم. ولكن افترض أن الطفل، أو الشاب، أو الرجل لم يقبل المعلومات المقدمة له، ولم ينم في الاتجاه الذي أردتموه، افترض، مثلا، أنه رفض تعلم الحساب والرياضيات، ألن يكون بإمكانك إجباره بعد أن يكبر، كما لم يكن بإمكانك إجباره في أثناء نموه، أم أنك أجزتم هذا لأنفسكم؟!»
قال: «حسنا، وهل أجبرت أنت على تعلم الحساب والرياضيات؟»
قلت: «إلى حد ما.»
قال: «وكم عمرك الآن؟»
قلت: «حوالي ستة وخمسين عاما.»
قال وهو يبتسم في سخرية: «وما مقدار ما تعرفه الآن من الحساب والرياضيات؟»
قلت: «يؤسفني أن أقول لا شيء على الإطلاق.»
ضحك هاموند بهدوء، ولكنه لم يعلق بشيء على اعترافي، فرأيت أن أسقط موضوع التعليم، بعد أن أدركت أنني لن أفوز منه بأي طائل.»
17
ويعبر الضيف بعد ذلك عن دهشته لسماع ما قاله هاموند حول الشئون المنزلية: ««ذكرني هذا بالعادات التي درج عليها الناس في العهود الماضية، وكنت قد تصورت أنكم فضلتم أن تعيشوا حياة عامة ومشتركة.»
قال: «حياة الفالنسترات (الجماعة التعاونية)؟ حسنا، نحن نعيش بالطريقة التي نحبها، ونحب كقاعدة أن نحيا مع أعضاء أسرة معينة اعتدنا عليها. تذكر مرة أخرى، أن الفقر قد اختفى، وأن «فالنسترات» فورييه وما يجري مجراها كانت أمرا طبيعيا في ذاك الوقت، ولم تكن أكثر من ملاذ من الفاقة والعوز. إن مثل هذه الطريقة في الحياة لم تكن لتخطر إلا على بال أناس محاطين بأسوأ أشكال الفقر. ولكن يجب أن تفهم أنه على الرغم من أن الحياة في أسر مستقلة هي القاعدة بيننا، وعلى الرغم من اختلافها بصورة أو أخرى في العادات، فإن الباب لا يغلق في وجه أي شخص يتمتع بمزاج طيب ويقنع بأن يعيش كما يعيش بقية أفراد الأسرة، وليس من المعقول بطبيعة الحال أن يهبط شخص على إحدى العائلات، ويطلب من أفرادها أن يغيروا عاداتهم لكي يرضوه، ما دام بإمكانه أن يذهب لأي مكان ويعيش كما يحلو له».»
وبعد أن استمع إلى الرجل العجوز وهو يصف لندن الجديدة التي أزيلت منها الأحياء الفقيرة القذرة، حلت محلها المروج الخضراء أو البيوت الجميلة التي تحيط بها الحدائق، أراد الزائر أن يعرف شيئا عن المدن الأخرى ... ورد هاموند على سؤاله قائلا: ««بالنسبة للأماكن الكبيرة المظلمة التي كانت ذات يوم، كما نعلم، مراكز للصناعة، فقد اختفت من لندن شأنها شأن الأماكن المهجورة التي كانت مكدسة بالآجر والملاط. ولأنها لم تكن سوى مراكز للصناعة فحسب، ولم تقم إلا لخدمة أسواق القمار، فلم تترك وراءها أي أثر يدل عليها كما هو الحال مع لندن. وطبيعي أن التغير الكبير الذي حدث بسبب استخدام القوة الآلية (الميكانيكية) جعل هذا الأمر هينا، كما أن التفكير في إزالة هذه المراكز كان أمرا واردا حتى ولو لم نغير عاداتنا لنصل إلى الحد الذي وصلت إليه، ولكن وجودها بالصورة التي كانت عليها، هو الذي أقنعنا بألا نستكثر أي تضحية في سبيل التخلص مما اصطلح على تسميته ب «المناطق الصناعية ». أما ما تبقى بعد ذلك لسد احتياجاتنا من الفحم والمعادن والعلف فهو يعبأ ويرسل إلى الجهات التي تطلبه بأقل قدر ممكن من القذارة، والفوضى والمآسي التي جلبتها على البسطاء من الناس ...
وأما المدن الصغرى فكانت أعمال الإزالة فيها قليلة بالنسبة لزيادة الإعمار. وقد ذابت ضواحيها - في الحالات التي وجدت فيها ضواحي - في المناطق الريفية، وتم توسيع مراكزها بصورة ملحوظة، ومع ذلك فلم تزل هذه المدن قائمة بشوارعها وميادينها وأسواقها، بحيث يمكننا نحن أبناء هذه الأيام أن نكون فكرة عن حالة المدن الصغيرة في العهود الخالية، أعني في أفضل أحوالها.
بهذا نقف على حقيقة الموقف في إنجلترا التي كانت ذات يوم بلدا قائما وسط مساحات شاسعة من الغابات والأراضي البور، مع عدد قليل من المدن المتناثرة التي كانت قلاعا لجيوش الإقطاعيين، وأسواقا شعبية، وأماكن تجمع للحرفيين، ثم صارت بعد ذلك بلدا يضم ورشا ضخمة وقذرة، وأوكار قمار أقذر، تحيط بها مزارع مهملة موبوءة بالفقر ومنهوبة من قبل أصحاب الورش. لقد أصبحت الآن حديقة كبيرة، لا يهدر فيها شيء ولا يتلف شيء، وتتوافر فيها المساكن الضرورية، والورش الصناعية المتناثرة من شمالها إلى جنوبها، وكلها أنيقة ونظيفة وجميلة.»
قلت: «لا شك في أن هذا تغيير نحو الأفضل. ومع أنني سأشاهد بعض هذه القرى بعد قليل، فأرجوك أن تصف لي حالتها في كلمة أو كلمتين، وذلك لكي أهيئ نفسي لذلك.»
قال: «لعلك قد رأيت صورة مناسبة لتلك القرى كما كانت تبدو في نهاية القرن التاسع عشر. هناك صور كثيرة من هذا النوع.»
قلت: «لقد رأيت عددا كبيرا منها.»
قال هاموند: «حسنا، إن قرانا تشبه أفضل الأماكن (التي تراها في تلك الصور)، والكنيسة أو مجمع الجيران هما المبنى الرئيسي فيها. عليك فقط أن تلاحظ أنه لا توجد بها أي علامة تدل على الفقر؛ وصدقني أنك لن تجد فيها تلك المناظر الباهتة التي يلجأ إليها الفنان عادة لإخفاء عجزه في الرسم المعماري. إن هذه الأساليب لا تعجبنا، حتى إن لم تعبر عن البؤس. فنحن مثل أهل العصور الوسطى نحب أن يكون كل شيء مرتبا ونظيفا ومتألقا، مثلا في هذا مثل كل من لديهم إحساس بالقوة المعمارية، لأنهم سيعرفون في هذه الحالة كيف يحصلون على ما يريدون، ولن يتحملوا أي عبث أو شذوذ خلال تعاملهم مع الطبيعة.»
قلت: «هل هناك بجانب القرى، أي بيوت ريفية متناثرة؟»
قال هاموند: «أجل، وبوفرة. والحقيقة أنه ليس من السهل أن تغيب البيوت عن بصرك، وذلك باستثناء المساحات التي تغطيها الأراضي البور والغابات والتلال الرملية (مثل الهندهيد
Hindhead
في منطقة سري
Surrey ). وحيث تقترب البيوت بعضها من بعض تصبح أكبر حجما وأشبه بالكليات القديمة منها بالبيوت العادية. وقد روعيت في هذا مصلحة المجتمع، لأن عددا كبيرا من الناس يمكنهم أن يقيموا في هذه البيوت، لا سيما أن سكان الريف ليسوا بالضرورة مزارعين، وإن كان أغلبهم يساعد في الأعمال الزراعية في بعض الأحيان. والحياة في هذه المساكن الريفية الكبيرة مبهجة للغاية، خاصة أن معظم العلماء والأفذاذ في عصرنا يعيشون فيها، كما أن التنوع الكبير بينهم في الأفكار والمشارب يحفز المجتمع من حولهم على الحيوية والنشاط.»
قلت: «إن هذا كله يدهشني، إذ يبدو لي أن المناطق الريفية ينبغي أن تكون فيها كثافة سكانية معقولة.»
قال: «بالتأكيد. وعدد السكان في الوقت الحاضر مساو تقريبا لعددهم في نهاية القرن التاسع عشر، كل ما فعلناه هو أننا قمنا بنشرهم على مساحات واسعة. وقد ساعدنا كذلك بطبيعة الحال على نشر السكان في مناطق وبلاد أخرى، وذلك كلما احتاج أحد إلى مساعدتنا أو دعانا إلى ذلك.
وقد تمت تغييرات أعظم في إدارة الريف، لأن الحكومة اختفت تمام الاختفاء.»
قلت: «لقد وصلت الآن إلى المرحلة التي يمكنني فيها أن أطرح بعض الأسئلة التي ربما تتحفظ في الإجابة عنها، ويصعب عليك شرحها، ولكنني شعرت أثناء الحوار السابق أنه يتحتم علي أن أوجهها لك، وسأشرع في ذلك الآن: ما هو نوع الحكومة لديكم؟ هل انتصرت الجمهورية أخيرا؟ أم وصلتم إلى الديكتاتورية التي اعتاد بعض الناس في القرن التاسع عشر على التنبؤ بأنها ستكون هي النتيجة النهائية للديمقراطية؟ الواقع أن السؤال الأخير لا يبدو منافيا للعقل تماما، ما دمتم قد حولتم برلمانكم إلى سوق للروث. أين أقمتم إذن برلمانكم الحالي؟»
استجاب الرجل العجوز لابتسامتي بضحكة من أعماق قلبه وقال: «حسنا، حسنا، ليس الروث بأسوأ أنواع الفساد؛ فربما يأتي منه السماد الذي يخصب الأرض، حيث لم يأت من النوع الآخر - الذي تشهد عليه هذه الجدران التي ضمت أنصاره في يوم من الأيام - إلا الجوع وشح الأقوات. والآن يا ضيفنا العزيز، دعني أخبرك أن برلماننا الحالي تصعب إقامته في مكان واحد، لأن الشعب كله هو برلماننا.»
قلت: «لست أفهم ما تقصده.»
قال: «لا. أظن أنك تفهم. لا بد أن أصدمك بإبلاغك أنه لم يعد لدينا شيء مما يمكن أن تسميه أنت - بوصفك مواطنا من كوكب آخر - باسم الحكومة.»
قلت: «لم أصدم كثيرا كما تتصور؛ لأن لدي بعض المعلومات عن الحكومات. ولكن خبرني، كيف تدبرون أموركم، وكيف وصلتم إلى هذا الوضع؟»
قال: «صحيح أننا مضطرون لإجراء بعض الترتيبات التي يمكنك الآن أن تسأل عنها، وصحيح أيضا أن تفاصيل هذه الترتيبات لا يوافق عليها الجميع. ولكن الأصح من ذلك أن الإنسان لا يحتاج إلى نظام حكومي كامل بكل ما يشتمل عليه من جيش وبحرية وشرطة، لكي يجبره على الخضوع لإرادة الأغلبية من أنداده، إلا بقدر ما يحتاج إلى جهاز مشابه لكي يفهمه أن رأسه والحائط الحجري لا يمكن أن يشغلا نفس المكان في نفس اللحظة.»
وقد اتخذ الناس، بعد إلغاء الملكية والحكومة، موقفا جديدا بعضهم من بعض. فقد اختفى من حياتهم النزاع واللصوصية، وأصبحت الزمالة الطيبة عادة فيهم. ومع ذلك فليس معنى هذا أن الأمر قد خلا من بعض حوادث الاعتداء.
قال هاموند: «ولكن إذا حدثت اعتداءات، فإن الجميع بما في ذلك المعتدون، يعلمون أنها مجرد أخطاء وقع فيها أصدقاء، وليست من الأعمال المعتادة التي يقترفها أشخاص تحركهم العداوة للمجتمع.»
قلت: «فهمت، ولعلك تقصد أنه لا توجد لديكم جرائم جنائية.»
قال: «وكيف توجد هذه الجرائم مع غياب الطبقة الغنية التي تحرض الأعداء ضد الدولة عن طريق الظلم الذي ترتكبه الدولة نفسها؟»
قلت: «أعتقد أنني فهمت من بعض ما صدر منك قبل قليل أنكم قد ألغيتم القانون المدني فهل هذا صحيح؟»
قال: «لقد ألغى نفسه يا صديقي. وكما قلت لك من قبل كانت المحاكم المدنية تنعقد للدفاع عن الملكية الخاصة، إذ لم يدع أحد أبدا أنه يمكن عن طريق القوة أن يجبر الناس على معاملة بعضهم بعضا معاملة طيبة. وبعد إلغاء الملكية الخاصة بطلت بطبيعة الحال جميع القوانين وتوقفت كل الجرائم التي خلقتها الملكية. وأصبح من الضروري أن تترجم عبارة: «ينبغي عليك ألا تسرق.» إلى عبارة: «ينبغي عليك أن تعمل لكي تحيا حياة سعيدة.» فهل هناك أي داع لفرض تلك الوصية عن طريق العنف؟»
قلت: «حسنا، هذا مفهوم وأوافق عليه، ولكن ماذا عن جرائم العنف؟ ألا يستوجب حدوثها (وأنت تعترف بأنها تحدث أحيانا) ضرورة وجود القانون الجنائي؟»
قال: «حسب مفهومك للكلمة، لا يوجد لدينا قانون جنائي. ودعنا ننظر للأمر عن قرب لنرى من أين تنطلق جرائم العنف. لقد كان الجزء الأكبر من هذه الجرائم في الأيام الغابرة مترتبا على قوانين الملكية الخاصة، التي حرمت الغالبية العظمى من إشباع رغباتهم الطبيعية، وقصرت هذا الإشباع على فئة قليلة متميزة، كما كان نتيجة للقهر الشديد الذي سببته تلك القوانين. وقد اختفت الملكية الخاصة التي كانت السبب في معظم جرائم العنف. ثم إن الكثير من جرائم العنف جاء أيضا من انحراف العلاقات الجنسية، الأمر الذي سبب الغيرة التافهة وما يشببها من المشاكل. ولو أمعنت النظر في هذه المشاكل لوجدت أنها تقوم في أساسها على فكرة أن المرأة ملك الرجل (وهي الفكرة التي حولت إلى قوانين) سواء كان هذا الرجل هو الزوج، أو الأب، أو الأخ، أو أيا كان. وقد اختفت تلك الفكرة بطبيعة الحال باختفاء الملكية الخاصة، كما اختفت معها حماقات معينة عن «تدمير» النساء بسبب الانسياق وراء رغباتهن الطبيعية بطريقة غير مشروعة، وهو بالطبع تقليد عام ترتب على قوانين الملكية الخاصة.
وهناك سبب آخر مشابه لجرائم العنف وهو استبداد الأسرة، الذي كان موضوع روايات وقصص عديدة في الماضي، كما كان كذلك نتيجة مترتبة على الملكية الخاصة. وطبيعي أن كل هذا قد انتهى، ما دام التماسك العائلي لا يقوم على القسر القانوني أو الاجتماعي، وإنما يقوم على الميل والحب المتبادل، وكل فرد حر في أن يأتي ويذهب كما يحلو له أو لها. أضف إلى هذا أن معايير الشرف والتقدير العام عندنا تختلف تماما عن المعايير السابقة، فالتفوق على جيراننا كطريق إلى الشهرة مغلق الآن، ودعنا نأمل في أن يظل مغلقا للأبد. وكل إنسان حر في تنمية ملكاته الخاصة إلى أقصى حد ممكن، كما أن كل إنسان يشجعه على ذلك. بهذا تخلصنا من الحسد الكئيب الذي قرنه الشعراء بالحقد، ويقينا عن حق، وإليه ترجع أكوام التعاسة والمزاج السيئ التي كثيرا ما جعلت سريعي الغضب وذوي الطبع الحساس - أي ذوي النشاط والطاقة الزائدة - يلجئون إلى العنف.»
ضحكت وقلت: «وإذن فأنت الآن تسحب اعترافك وتنفي وجود العنف بينكم؟»
قال: «لا، لم أسحب شيئا، فمثل هذه الأمور، كما قلت لك، يمكن أن تحدث. والدماء الحارة سترتكب الأخطاء في بعض الأحيان. وربما يضرب رجل رجلا آخر، ويقوم الشخص المضروب برد الضربة مرة ثانية، وتكون النتيجة جريمة قتل، هذا إذا افترضنا أسوأ الأحوال. ولكن ماذا بعد؟ هل يحق لنا - ونحن جيران القاتل والقتيل - أن نزيد الأمور سوءا؟ وهل بلغ سوء الظن ببعضنا البعض إلى حد أن نتصور أن المقتول يدعونا للانتقام له، خصوصا أننا نعلم - لو كان قد جرح وأتيح له أن يفكر تفكيرا هادئا واستطاع أن يزن كل الظروف - أنه كان سيبادر إلى العفو عن جارحه؟ أم هل يستطيع موت القاتل أن يعيد الحياة مرة أخرى للقتيل، ويشفي التعاسة التي سببها فقده؟»
قلت: «أجل، ولكن ألا تضع في اعتبارك أن حماية أمن المجتمع تستوجب نوعا من العقاب؟»
قال الرجل العجوز مبتهجا: «مرحى يا جار! لقد أصبت كبد الحقيقة في الصميم. ذلك العقاب الذي اعتاد الناس أن يتحدثوا عنه بحكمة بالغة وأن يتصرفوا مع ذلك بحماقة بالغة، هل كان إلا تعبيرا عن خوفهم؟ لقد كانوا في حاجة إلى الخوف، لأنهم - أي حكام المجتمع - كانوا يعيشون كعصابة مسلحة في بلد معاد. لكننا نحن الذين نعيش وسط أصدقائنا، لا نحتاج إلى أن نخاف ولا إلى أن نعاقب. ولا شك في أننا لو فكرنا - تحت تأثير الرعب من جريمة قتل محتملة أو من ضربة عرضية قاسية - في ارتكاب القتل بشكل قانوني وقور، لكان معنى هذا أننا قد أصبحنا مجتمعا من الجبناء المتوحشين. ألا توافقني على هذا يا جار؟»
قلت: «نعم أوافقك، لا سيما إذا فكرت في الأمر من تلك الناحية ...»
قال الرجل العجوز: «ومع هذا يجب عليك أن تفهم أنه عندما يرتكب أي حادث عنف، فإننا نتوقع من المعتدي أن يقدم أي تعويض ممكن، كما أنه هو نفسه يتوقع ذلك. ولكن فكر مرة أخرى فيما إذا كان التدمير أو إيقاع الأذى الشديد بإنسان غلبه الغضب أو الجنون في لحظة معينة يمكن أن يكون فيه أي تعويض للمجتمع. ألا ترى أن هذا سيكون بالتأكيد إساءة أخرى له؟»
قلت: «ولكن افترض أن هذا الإنسان قد تعود على العنف، وأنه مثلا يقتل إنسانا كل عام.»
قال: «إن مثل هذه الحالة غير معروفة. وفي مجتمع لا يوجد به عقاب حتى نتجنبه، ولا قانون يمارس قهره علينا، لا بد أن يؤدي العدوان إلى الندم.»
قلت: «وحالات العنف التي تقل عن ذلك، كيف تتعاملون معها؟ لأننا فيما أعتقد قد تكلمنا من قبل عن مآس فظيعة.»
قال هاموند: «إذا لم يكن المذنب مريضا ولا مجنونا (وفي هذه الحالة يجب أن يتم التحفظ عليه حتى يشفى من مرضه أو جنونه) فمن الواضح أن الشعور بالحزن والإذلال سيلاحقانه بسبب فعلته، والمجتمع بصفة عامة سيوضح له هذا إذا تصادف أن كان غبيا لا يفهم، أضف إلى هذا أنه لا بد أن يتبع هذا نوع من التعويض - أو اعتراف صريح على أقل تقدير - بأنه يشعر بالحزن والخزي. فهل يصعب عليه أن يعترف يا جار ؟ ربما يكون هذا أمرا صعبا. فليكن كذلك.»
قلت: «أتعتقد أن هذا كاف؟»
قال: «أعتقد هذا. ثم إن هذا هو كل شيء يمكننا عمله. ولو أضفنا إليه تعذيب الرجل، لحولنا حزنه إلى غضب، وجعلناه يستعيض عن الإذلال والخزي اللذين كان من الممكن أن يشعر بهما بسبب فعلته، بالأمل في الانتقام من إيذائنا له. سوف يحس عندئذ أنه قد نفذ العقوبة القانونية، وأن بإمكانه أن يذهب ويرتكب الخطأ مرة أخرى وهو مستريح. فهل نرتكب مثل هذه الحماقة؟ تذكر أن المسيح قد ألغى العقوبة القانونية قبل أن يقول: «اذهب ولا ترتكب الخطيئة مرة أخرى». ولا تنس أنك لن تجد في المجتمع الذي حقق المساواة بين الجميع أي فرد يقبل أن يؤدي دور المعذب أو السجان، وإن وجدت الكثيرين على استعداد للقيام بدور الممرضة أو الطبيب.»
قلت: «أتعتبر الجريمة إذن مجرد مرض عصبي لا يتطلب إجراءات وقوانين جنائية للتعامل معه؟»
قال: «هذا قول جميل، وما دمنا، كما قلت لك، شعبا يتمتع بالصحة بصفة عامة ، فلا داعي لأن نشغل أنفسنا بهذا المرض.»
لقد أصبحت كل بلاد العالم تتمتع بنفس القدر من الحرية والمساواة الذي تتمتع به إنجلترا، واختفت المنافسات والحروب بين الأمم. ولا توجد داخل المجتمع أحزاب سياسية، وإذا وجدت خلافات في الرأي فهي خلافات حول أشياء حقيقية وصلبة لا تحتاج إلى أن تقوم عندنا - كما يقول هاموند - على تقسيم الناس إلى أحزاب متعادية على الدوام، ولكل منها نظريات مختلفة عن طبيعة الكون وتقدم الزمن ... إن خلافاتنا تنصب على الشئون العملية وما تتعرض له من أحداث عابرة، ولا يمكن لمثل هذه الخلافات أن تفرق بين الناس بصفة مستمرة.
قلت: «أظن أنكم تسوون هذه الخلافات، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، بالرجوع إلى إرادة الأغلبية؟»
قال: «بالتأكيد، وكيف يتسنى لنا تسويتها بغير هذه الوسيلة؟ لعلك توافقني على أن الأمور الشخصية التي لا تؤثر في مصالح المجتمع - مثل الملبس الذي يحب كل إنسان أن يرتديه، والطعام الذي يأكله والشراب الذي يشربه، وما يميل لقراءته أو كتابته وما شاكل ذلك - هذه الأمور الشخصية لا يمكن أن تختلف الآراء حولها، لأن كل إنسان حر في أن يتصرف فيها كما يحب. ولكن عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة للجماعة بأسرها، ويؤثر فعله أو عدم فعله أحيانا في كل فرد فيها، فيجب على الأغلبية أن تدلي برأيها، إلا إذا لجأت الأقلية لحمل السلاح وحاولت أن تثبت بالقوة أنها هي الأغلبية المؤثرة أو الأغلبية الحقيقية، وإن كان هذا أمرا غير وارد في مجتمع مكون من أناس أحرار، ومتساوين، والسبب في ذلك يرجع إلى أن الأغلبية الظاهرة في مثل هذا المجتمع هي الأغلبية الحقيقية، كما أن الآخرين، كما أشرت من قبل، يعلمون هذا تمام العلم ولا يحاولون أن يقفوا في طريقه أو يقفوا منه موقف العناد، وخاصة أنه كانت لديهم فرص عديدة للتعبير عن رأيهم في هذه الأمور.»
قلت: «وكيف تتصرفون من الناحية الإدارية؟»
قال: «حسنا، دعنا نأخذ إحدى وحداتنا الإدارية، كأن تكون إحدى التعاونيات (الكوميون) أو أحد المجالس المحلية، أو إحدى الدوائر؛ لأن لدينا كل هذه الأسماء التي لا تدل في الوقت الحاضر على أي فروق حقيقية، وإن كان الأمر في الماضي قد اختلف عن ذلك. في مثل هذه المنطقة، إذا شئت أن تسميها كذلك، يعتقد بعض الجيران (الرفاق) أنه يجب تنفيذ شيء ما أو يجب صرف النظر عنه، كبناء قاعة جديدة للمدينة، أو إزالة البيوت التي لا تصلح للسكنى، أو استبدال جسر حجري بجسر حديدي قبيح وعتيق، وفي كل هذه الحالات كما ترى يحتمل الأمر التنفيذ أو عدم التنفيذ. حسنا، في الاجتماع العادي التالي للجيران - أو الموت
Mote
كما نسميه حسب اللغة القديمة التي كانت مستعملة في العهود السابقة للبيروقراطية - يقترح أحد الجيران فكرة التغيير، وإذا وافق الجميع، ينتهي النقاش بطبيعة الحال، باستثناء ما يتعلق بالتفاصيل. وبالمثل، إذا لم يؤيد أحد مقدم الاقتراح - أو لم يسانده كما اعتدنا أن نقول - فإن الاقتراح يصرف النظر عنه لفترة معينة، وهو أمر لا يحدث بين أناس عقلاء، لأن مقدم الاقتراح يحرص على مناقشته مناقشة تفصيلية قبل الاجتماع العام. ولكن لنفترض أن الاقتراح قدم ووجد مؤيدين، ومع ذلك اعترض عليه عدد قليل من الجيران، كأن يقولوا مثلا إن الجسر الحديدي العتيق يمكنه أن يستمر في الخدمة مدة أطول، وإنهم لا يريدون أن يزعجهم أحد بفكرة بناء جسر جديد لا داعي له، إذا حدث هذا فلا تؤخذ الأصوات في هذه المرة، وتؤجل مناقشة الموضوع للاجتماع التالي. وفي هذه الأثناء يتبادل الناس الآراء، وتقدم الحجج المؤيدة أو المعارضة للاقتراح، بل إن بعضها يطبع وينشر، بحيث يلم الجميع بأطراف الموضوع، وعندما يعقد الاجتماع مرة أخرى تتم مناقشة المسألة بشكل منظم، وفي النهاية تؤخذ الأصوات بطريقة رفع الأيدي. فإذا حدث أن كان الاختلاف في الرأي محدودا، يؤجل الموضوع مرة أخرى لمناقشته مناقشة موسعة، أما إذا كان الخلاف واسعا، فيطلب من الأقلية أن تخضع لرأي الأغلبية، وعادة ما تستجيب لهذا الطلب. أما إذا رفضوا، فإن الموضوع يطرح للمناقشة للمرة الثالثة، وحينئذ يمتثلون دائما لرأي الأغلبية، لا سيما إذا لم يكن عدد الأقلية قد زاد زيادة ملحوظة. وإن كنت أعتقد أن هناك قاعدة شبه منسية تعطيهم الحق في التمسك برأيهم، ولكن أقول إنهم يقتنعون في النهاية دائما، ليس لأن وجهة نظرهم خاطئة، ولكن لأنهم لا يستطيعون إقناع الجماعة بها أو إجبارهم على تبنيها.»
قلت: «حسن جدا، ولكن ماذا يحدث إذا ظلت شقة الخلاف واسعة؟»
قال: «من حيث المبدأ وطبقا للقاعدة المتبعة في مثل هذه الأحوال، يسقط الموضوع برمته، وتضطر الأغلبية، إذا فشلت في التصويت، أن تذعن للأمر الواقع. ولكن من واجبي أن أخبرك بأن الأقلية في الواقع نادرا ما تفرض هذه القاعدة بالقوة، إذ تخضع بوجه عام لرأي الأغلبية بطريقة ودية.»
لقد توقف العمل في هذا المجتمع الجديد عن أن يكون عقوبة، وأصبح، على العكس من ذلك، نشاطا ممتعا. وحتى العمل المتميز لا يكافأ عليه صاحبه بأي شكل من الأشكال، لا بكسب مادي ولا بزيادة في السلطة. والمكافأة الوحيدة هي الإبداع، ولو أنك طلبت أجرا عن لذة الإبداع - كما يقول الرجل العجوز - مع أن أجره الوحيد هو إتقان العمل والتفوق فيه، فسوف نسمع بعد ذلك أن الآباء يرسلون إلينا فاتورة الحساب بمجرد أن يرزقوا بطفل ... إن اللجوء للحوافز لتشجيع الناس عن العمل، يتضمن أن العمل معاناة. ونحن أبعد ما نكون عن التفكير بهذه الصورة، حتى لقد نشأ بيننا نوع من الخوف من أن يحدث عندنا في يوم من الأيام نقص في العمل. إنها متعة نخشى أن نفقدها، وليس ألما.
والعمل الذي ليس ممتعا في حد ذاته، قد أصبح - في المجتمع الجديد - مصدرا للمتعة بسبب معرفة الناس بأنه نافع ومفيد. أما في المجتمع القديم الذي انصرف فيه الناس أساسا لإنتاج سلع غير ضرورية، فقد أصبح العمل «هو السعي المتواصل لبذل أقل جهد ممكن في صنع أي سلعة، وفي الوقت نفسه في صنع أكبر عدد ممكن من السلع». وللتخلص من هذه السلع، كان من الضروري خلق حاجات جديدة بشكل مصطنع، وفتح أسواق جديدة في البلاد «غير المتحضرة». غير أن الإنسان في المجتمع الجديد لا ينتج سلعا سخيفة لمجرد أن يستفيد من ذلك أحد الرأسماليين، وإنما ينتج ما تحتاج إليه الجماعة حاجة ضرورية. وهناك علاقة حيوية بين المنتج والمستهلك كما كان الحال في مدن العصر الوسيط: «إن السلع التي نصنعها هي السلع التي نحتاج إليها، فالناس يصنعون ما يحتاج إليه جيرانهم (رفاقهم) كما لو كانوا يصنعونه لأنفسهم، وليس لأسواق مجهولة لا يعرفون عن أمرها شيئا، ولا يملكون التحكم فيها، وكما أنه لا يوجد بيع ولا شراء، فمن الجنون أن نصنع سلعا لا ندري إن كنا سنحتاج إليها، لأنه لم يعد لدينا إنسان يمكن إجباره على شرائها. ولهذا فإن كل ما نصنعه جيد وملائم تمام الملاءمة للغرض منه. ولا يمكن أن نصنع شيئا إلا إذا كانت هناك حاجة أصيلة إلى استخدامه، ولهذا لا نصنع سلعا رديئة. أضف إلى هذا، كما سبق أن ذكرت، أننا قد عرفنا ما نريد، ولهذا لا نصنع أكثر مما نحتاج إليه، وكما أننا غير مضطرين لأن نصنع كميات كبيرة من أشياء عديمة الفائدة، فإن لدينا الوقت والموارد الكافية التي تجعلنا نحكم على مدى استمتاعنا بصنع هذه الأشياء. والعمل الذي يمكن أن يبعث على الضيق إذا صنعناه بأيدينا، نصنعه بالآلات المتطورة تطورا هائلا، والعمل الذي يمتعنا إذا صنعناه بأيدينا، نستغني فيه عن الآلات. وليست هناك أي صعوبة في إيجاد العمل الذي يناسب الميول العقلية لكل فرد؛ الأمر الذي يترتب عليه ألا يضحي بإنسان لتلبية حاجات إنسان آخر. وقد عمدنا من وقت لآخر، كلما اكتشفنا أن بعض أنواع العمل كريهة جدا أو متعبة، إلى التخلي عن ذلك العمل والاستغناء عن إنتاجه. والآن يمكنك بالتأكيد أن ترى أن العمل الذي نقوم به تحت هذه الظروف هو تمرين ممتع بصورة أو أخرى للعقل والجسد معا، لدرجة أن كل إنسان يسعى إلى العمل بدلا من أن يسعى إلى تجنبه. وما دام الناس قد اكتسبوا المهارة في العمل جيلا بعد جيل، فقد أصبح إنجازه من السهولة بحيث يبدو الأمر وكأننا ننجز القليل، في حين أن إنتاجنا قد يكون في تزايد مستمر.»
ولا يحتاج السعداء سعادة حقيقية إلى الإيمان بحياة أسعد بعد الموت أو إلى التماس العزاء في حب الله.
18
فقد استبدل الدين الإنساني بالدين المسيحي، كما أصبح الناس يحبون رفاقهم في الإنسانية، ليس عن شعور بأداء الواجب، بل لأنهم يستحقون منهم الحب. «إن الإيمان بالنعيم والجحيم، وكأنهما بلدان يمكن أن يعيش الإنسان فيهما، قد اختفى، ونحن الآن نؤمن، بالكلمة والفعل معا، بالحياة المتصلة لعالم البشر، ونضيف، إذا جاز هذا القول، كل يوم من أيام هذه الحياة المشتركة إلى الرصيد القليل من الأيام الذي توفره لنا تجاربنا الفردية، ونتيجة هذا هي أننا سعداء. هل تعجب لذلك؟ لقد كان يطلب من الناس في العصور الماضية أن يحبوا البشر الذين هم من جنسهم، وأن يؤمنوا بديانة الإنسانية وهلم جرا. لكن انظر، بقدر ما تمتع الإنسان بسمو العقل ورهافة الذوق إلى الحد الذي يمكنه من تقييم هذه الفكرة، بقدر ما أصابه الاشمئزاز من منظر الأفراد الذين تتكون منهم الجماهير التي أريد له أن يتفانى في عبادتها، ولم يكن في استطاعته أن يتحاشى هذا الاشمئزاز إلا عن طريق القيام بنوع من التجريد المألوف لفكرة البشرية التي تربطها صلة واقعية ولا تاريخية بالجنس البشري، الذي كان ينقسم في رأيه إلى طغاة عمي من جهة وعبيد متبلدين مهانين من جهة أخرى. أما الآن، فأين هي الصعوبة في قبول ديانة الإنسانية، ما دام الرجال والنساء الذين يكونون (معنى) الإنسانية أحرارا، وسعداء، ومفعمين بالحيوية والنشاط على أقل تقدير، كما أنهم بوجه عام يتمتعون بأجساد جميلة وتحيط بهم أشياء جميلة من صنعهم، وطبيعة يرتقي بها الاحتكاك بالبشر ولا يسيء إليها؟»» (5) أويجين رشتر: «صور من المستقبل الاشتراكي»
عندما ظهر كتاب «صور من المستقبل الاشتراكي» لأويجين رشتر في ألمانيا، وذلك في أوائل التسعينيات من القرن التاسع عشر، كانت المشروعات الاشتراكية لمجتمع المستقبل قد حظيت باهتمام يفوق الاهتمام الأكاديمي الخالص. فقد أدت قوة الحركة الاشتراكية بالكثير من الناس إلى الاعتقاد بأن اليوتوبيا الاشتراكية سوف تصبح في وقت غير بعيد حقيقة واقعية. وهذا يفسر المرارة الشديدة التي تشعر بها أثناء قراءة الرواية النقدية الساخرة لأويجين رشتر زعيم حزب الأحرار في البرلمان الألماني (الرايشستاج). وربما يفسر أيضا نجاح هذا الكتاب الصغير، الذي بيعت منه مئات الآلاف من النسخ في بضعة شهور قليلة، كما ترجم مباشرة إلى اللغة الإنجليزية.
وعلى الرغم من أن ضعف الحركة الاشتراكية في إنجلترا قد منع الأحرار والمحافظين من أن يعتبروها تهديدا جادا لهم، فلا بد أنهم نظروا إلى شعبية اليوتوبيات الاشتراكية باعتبارها نوعا من التحذير الخطير، فضلا عن أن الصحافة الناطقة باللغة الإنجليزية استقبلت كتاب رشتر استقبالا حارا، فقد أعلنت جريدة «المراقب القومي»
National Observer «أنه يستحق أن يقرأه كل العمال بالإضافة إلى جميع رجال الأعمال ذوي المكانة المرموقة». وقالت صحيفة مورننج هيرالد التي تصدر في سيدني
Sydney Morning Herald : «سيكون هذا الكتاب دواء مضادا يشفي من وصفات العلاج التي اقترحها بيلامي لإصلاح المجتمع، لأنه يصور مآسي النظام الاشتراكي وانهياره النهائي.» أما جريدة الإسبكتيتور
Spectator
فقالت بلهجة أكثر جدية: «لن تكون للاشتراكية نهاية أخرى غير النهاية التي يصورها الكتاب.»
ولست في حاجة إلى أن أقول - على ضوء الملاحظات السابقة للصحافة الإنجليزية - إن الهجوم الساخر الذي يشنه رشتر على الاشتراكية في حد ذاتها هجوم غير منصف، بيد أن روايته تقف على أرض أكثر صلابة إذا نظرنا إليها بوصفها نقدا ساخرا للمشروعات اليوتوبية القائمة على اشتراكية الدولة، والتي وصل إنتاج الكتاب لها خلال القرن التاسع عشر إلى حد التضخم. ويدين رشتر، باعتباره أحد الأحرار أو الليبراليين، ذلك الإيمان الأعمى بالحكمة الشاملة للدولة الاشتراكية وآلتها البيروقراطية الضخمة، كما يؤكد حق الفرد في أن يختار العمل الذي يحبه، وأن يأكل ويلبس كما يريد، وأن يغادر البلاد إذا شاء، وهو يسخف من الفكرة التي تقول بأن الناس يمكنهم أن يكونوا أحرارا إذا أصبح الإنتاج والتوزيع كله في يد الدولة، فمن ذا الذي يستطيع أن يمنع الدولة من توجيه العمال الساخطين إلى وظائف غير ممتعة أو حتى من تجويعهم، ومن الذي يمنعها من إقامة جيش قوي وقوات شرطة هائلة للحفاظ على «القانون والنظام »؟ وكيف يمكن أن تكون هناك حرية للصحافة عندما يكون مخزون الورق وجميع أدوات الطباعة في يد الحكومة؟ بل كيف يمكن للانتخابات أن تكون حرة وليس هناك ما يضمن أن تحترم السلطات سرية الاقتراع؟ لقد أثبتت تجربة اشتراكية الدولة أن سوء استخدام السلطة من جانب الحكومة الاشتراكية (أو الشيوعية) أمر ممكن - وربما قال البعض إنه أمر حتمي - ومع ذلك يمكن بطبيعة الحال الاعتراض على هذه الأقوال بأن الناس في ظل نظام اشتراكي حقيقي، لا يمكن أن يتصرفوا بطريقة أنانية ومجردة من الشرف، كما يفعل غيرهم ممن يعيشون في ظل النظام الرأسمالي. على أن رشتر لم ينتقد مجتمعا مثاليا كالمجتمع الذي وصفه وليم موريس (وإن أمكن القول بأنه لم يكن ليوافق عليه) حيث يتخذ الناس موقفا مخالفا من العمل لأنهم أحرار، ويعلمون أنهم يعملون لأنفسهم، لا ليحتفظوا بجيش من البيروقراطيين ورجال الشرطة والجنود والضباط، وإنما وجه انتقاداته إلى مجتمع حلت فيه سلطة الدولة الاشتراكية محل سلطة الدولة الرأسمالية، وأجبر فيه على الناس عل الخضوع لقوانين وضعها الحزب السياسي، وهي قوانين أشد استبدادا من القوانين القديمة. ولا يوجد شيء في ظل هذا النظام يمكن أن يقنع المرء بأن وجهة النظر العقلية والأخلاقية للناس سوف تتغير للأفضل بدلا من الأسوأ. وكتاب رشتر الخلافي والنقدي يسلم بطبيعة الحال بأنها ستتغير للأسوأ، كما يصف ما سوف يحدث لألمانيا، إذا قامت الثورة الاشتراكية، في شكل يوميات كتبها عامل اشتراكي متحمس، ظل محافظا على ولائه للحزب حتى خيبت أمله مأساة شخصية وخذله السخط العام من حوله، إلى أن يسقط أخيرا ضحية للثورة المضادة.
يوم الاحتفال
يرفرف العلم الأحمر للاشتراكية الدولية فوق القصر وفوق المباني العامة في برلين.
ليت أديبنا الخالد «بيبيل»
19
قد عاش ليرى هذا لقد اعتاد أن يقول للطبقة الوسطى: «إن الكارثة الوشيكة على الأبواب.» وقد حدد فردريك إنجلز عام 1898م ليكون هو عام الانتصار النهائي للأفكار الاشتراكية. حسنا، إن الانتصار لم يأت بهذه السرعة، ولكنه لم يستغرق كذلك وقتا طويلا.
القوانين الجديدة
لقد حلت «إلى الأمام»، التي كانت هي الجريدة الأولى الناطقة بلسان حزبنا، محل الجريدة القديمة «المعلن الإمبراطوري»، وهي توزع بالمجان على كل المنازل. وبعد أن أصبحت جميع مؤسسات النشر ملكا للدولة، توقفت بطبيعة الحال جميع الصحف الأخرى عن الصدور. وتصدر طبعة محلية من جريدة «إلى الأمام» في جميع المدن الأخرى مع نشرة بالأخبار الخاصة بكل موقع على حدة. وما زالت إدارة شئون البلاد، إلى أن يحين وقت انتخاب برلمان جديد، في أيدي الأعضاء الاشتراكيين في البرلمان القديم، الذين سيتولون - عندما يجتمعون في شكل لجنة حكومية - إصدار القوانين، العديد التي يحتمها استقرار النظام الجديد.
وقد أعلن برنامج الحزب القديم الذي أقر في مؤتمرات إيرفورت
Erfurt
عام 1891م، باعتباره إطارا عاما للحقوق الأساسية للشعب.
ويتضمن الإعلان أن كل رأس المال، والملكية، والمناجم، والمحاجر، والآلات، ووسائل الاتصال، وجميع أنواع الملكية، قد أصبحت من الآن فصاعدا ملك الدولة وحدها، أو ما يسمى الآن تسمية أفضل بالجماعة، وهناك قرار آخر يقضي بإلزام جميع المواطنين بالعمل، ويتمتع الأفراد كافة، سواء كانوا ذكورا أو إناثا، ومن سن الحادية والعشرين إلى الخامسة والستين، بنفس الحقوق. ويتعلم المواطنون الذين هم تحت سن الحادية والعشرين على حساب الدولة، أما الذين تجاوزوا الخامسة والستين فتتكفل الدولة أيضا برعايتهم على نفقتها. وقد توقفت بالطبع كل المشروعات الإنتاجية الخاصة، وإلى أن تتم التنظيمات الجديدة سيبقى جميع الأشخاص في مواقعهم القديمة، ويستمرون في العمل للدولة كما كانوا يعملون في السابق لأسيادهم.
وتباشر الحكومة الجديدة عملها - بفضل المستشار الفذ الذي يرأسها - بطاقة لا تقل في قوتها عن قوة التصميم على الهدف. وتتخذ كل الاحتياطات اللازمة لتجنب أي احتمال لاستعادة رأس المال لنفوذه القديم. وقد سرح الجيش، وتقرر إلغاء الضرائب، واقترحت الحكومة تحصيل الأموال اللازمة للأغراض العامة من دخل الدولة من المعاملات التجارية. ومن الواضح تماما أننا نستقبل عهدا جديدا ومجيدا.
اختيار المهن
واللافتات الحمراء الكبيرة المعلقة على لوحات الإعلانات تذكر الناس، طبقا لتنظيمات قانون العمل الجديد، بأن الأشخاص من الجنسين الذين تتراوح أعمارهم بين الحادية والعشرين والخامسة والستين، مطلوب منهم في غضون ثلاثة أيام تسجيل أنفسهم تمهيدا لتحديد مهنة كل منهم. في غضون ثلاثة أيام تسجيل أنفسهم تمهيدا لتحديد مهنة كل منهم. وقد خصصت لهذا الغرض مراكز الشرطة القديمة وغيرها من المكاتب العامة، وتم التنبيه بوجه خاص على النساء والفتيات أن انخراطهن في العمل بإحدى الورش العديدة للدولة يعفيهن من جميع الأعمال المنزلية مثل رعاية الأطفال، وإعداد وجبات الطعام، وتمريض المرضى، وغسل الملابس ... إلخ. وتتولى الدولة مهمة تربية الأطفال وتنشئة الشباب في دور الحضانة والمدارس العامة التابعة لها. ويتم تناول الوجبة الأساسية كل يوم في مطعم الدولة الخاص بكل منطقة، ويرسل المرضى إلى المستشفيات، ولا يتم غسل الملابس إلا في المغاسل المركزية. وقد حددت ساعات العمل للجنسين، سواء بالنسبة للمهن المختلفة أو للدولة والإدارات العامة في الوقت الحاضر بثماني ساعات.
التعيينات
ويؤجل زواج «فرانز» و«آجنيس» فجأة لأجل غير محدد. وقد قامت الشرطة اليوم بتوزيع الأوامر المتعلقة بالوظائف، والأوامر القائمة من جانب على التسجيل الذي تم مؤخرا، ومن جانب آخر على الخطة التي وضعتها الحكومة لتنظيم الإنتاج والاستهلاك.
والواقع أن فرانز سيظل محتفظا بمهنته وهي صف الحروف في المطبعة، ولكنه لسوء الحظ لن يستطيع البقاء في برلين، بل سيرسل إلى ليبتزيج. ويرجع هذا إلى أن برلين لم تعد تحتاج إلى واحد على عشرين من جامعي الحروف الذين كانوا يعملون بها من قبل، كما أن الاشتراكيين الموثوق بهم هم وحدهم الذين سيسمح لهم بالعمل في جريدة «إلى الأمام». وقد بدأت السلطات تنظر بعين الشك إلى فرانز بسبب تهوره في التفوه ببعض العبارات في ميدان القصر عن المصير المحزن الذي آل إليه بنك الادخار. وهو لا يكتفي بهذا، بل يصرح أيضا بأن السياسة قد تدخلت في التعيينات، وأن ملاك الأراضي الكبار في برلين قد شتتوا ولم يعد لهم وجود كحزب، وأن بعض النقاشين يجبرون على العمل في إنوفرازلاف
Inowra Zlaw
20
لندرة النقاشين بها بينما تعج بهم برلين. وقد نفد صبر فرانز تماما، وبدا له أن القانون القديم الذي كان يقضي بنفي الاشتراكيين خارج الوطن قد عاد إلى الحياة مرة أخرى. ومهما يكن الأمر، فعلينا أن نلتمس العذر لفرانز الشاب على اندفاعه، إذ وجد نفسه قد أبعد فجأة ولفترة غير محددة عن الفتاة التي أحبها قلبه.
حاولت أن أواسي فرانز قليلا فقلت له إن زوجين في المنزل المجاور لنا قد فرق بينهما بسبب هذا القانون، فالزوجة تعمل ممرضة في أوبلين والزوج كاتب حسابات في ماجديبرج،
21
وأثار هذا زوجتي فأخذت تسأل متعجبة: كيف يجرؤ أي شخص على إبعاد زوج عن زوجته؟ هذا عار عليهم وهلم جرا ... ونسيت زوجتي الطيبة تماما أن الزواج في مجتمعنا الجديد علاقة شخصية بحتة، كما شرح ذلك «بيبيل» بشكل واضح في كتابه عن المرأة. ويمكن أن يعقد الرباط الزوجي أن يحل في أي وقت ودون أي تدخل من أي جهة رسمية، وبالتالي فإن الحكومة ليست على الإطلاق في وضع يسمح لها بأن تعرف المتزوج من غير المتزوج. ولهذا نجد أن جميع الأشخاص - وهذا أمر منطقي - قد أدرجوا في سجلات الأسماء تحت أسمائهم المسيحية كما أدرجت النساء تحت أسماء عائلاتهن. ومن الواضح أن الحياة الزوجية في مجتمع قائم على تنظيم الإنتاج والتوزيع لا يمكن تصورها إلا إذا سمح بها السلم الوظيفي لا العكس. ومن المستحيل أن يتوقف تنظيم العمل على علاقة خاصة يمكن أن تفصم في أي لحظة.
ولكي أهدئ من روعهم، قرأت عليهم فقرة من جريدة «إلى الأمام» تحدد بالجداول أنواع المهن التي اختارها الناس والوظائف التي عينوا بها. فقد سجل عدد كبير أسماءهم للعمل حراسا لمنع صيد الأرانب البرية، على الرغم من زيادة عددهم على عدد الأرانب داخل دائرة تمتد أربعين ميلا حول برلين. ويتبين كذلك من عدد الأسماء المسجلة أن الحكومة لن تجد صعوبة في تعيين بواب أمام كل باب في برلين، وحارس غابات لكل شجرة، وسائس لكل حصان. وقد سجلت كذلك أسماء عدد كبير من الممرضات أكثر من خادمات المطبخ، ومن سائقي المركبات أكثر من عمال الإصطبلات. وهناك أيضا أعداد كبيرة من الراغبات في العمل بالتمريض. ولا يوجد نقص في البائعين والبائعات، وتنطبق نفس الملاحظة على المفتشين، والمديرين، ورؤساء العمال، وما شابه ذلك من الوظائف، بل ليس هناك نقص في المهرجين ولاعبي الأكروبات. أما المقيدون للأعمال الشاقة من النوع الذي يقوم به المبلط والوقاد وصاهر المعادن، فعددهم ضئيل، مثلهم مثل الذين أظهروا رغبة في العمل في المجاري.
كيف ينبغي على الحكومة، في ظل هذه الظروف، أن تتصرف لكي توفق بين خطتها لتنظيم الإنتاج والاستهلاك وبين أسماء المقيدين في سجلات الوظائف؟ لقد ظهر في الوقت الحاضر أنه لا توجد خطة أصلح من اتباع نظام القرعة. وعلى هذا الأساس فرزت الأسماء الخاصة بكل مهنة، ومنها تم اختيار الوظائف المطلوبة في الخطة لكل فرع مهني بالقرعة عن طريق سحب الورق مرة بعد مرة حتى يحصلوا على مهنة، وبهذه الوسيلة ملئت الفراغات في كل فروع العمل التي كان الطلب عليها شحيحا، ومن الطبيعي أن يحصل عدد كبير من الناس من خلال القرعة على وظائف لم يرغبوا فيها على الإطلاق.
ويقول فرانز إنه قد وجد على الدوام يانصيب للخيول، ويانصيب للكلاب، وكل أنواع اليانصيب، ولكن هذه هي أول مرة يتم فيها السحب على البشر.
أخبار من الأقاليم
طلب من الشباب ابتداء من سن العشرين تسجيل أنفسهم خلال ثلاثة أيام. فقد نظم «الحرس الوطني» كما يسمونه، وتم تسليحه على وجه السرعة.
وقد حتمت الظروف الداخلية للأقاليم أن يستدعى الحرس الوطني بأسرع مما كان مقررا له، وأن يتم تنظيمه على نطاق أوسع بكثير مما كان مقدرا له في البداية. والمحافظون الجدد يرسلون باستمرار طلبات عاجلة للمساعدات العسكرية ليستعينوا بها على تنفيذ القوانين الجديدة في المناطق الريفية والمدن الصغيرة. ولهذا السبب تقرر تكوين كتيبة مشاة، وسرية من سلاح الفرسان، وبطارية مدفعية في كل المراكز المهمة في أنحاء الريف. ولتوفير المزيد من الأمن تم أيضا تشكيل هذه القوات من رجال مختارين من مقاطعات نائية.
إن الأمور تقتضي إعادة هؤلاء الأجلاف الأفظاظ إلى العقل. فهم يعارضون التأميم - أو استيعاب النظام التعاوني كما يسمى رسميا - لأدواتهم الخاصة في الإنتاج، ولممتلكاتهم من الأراضي الزراعية، والبيوت، وقطعان الماشية، وخزين المزارع وما شابه ذلك. والمالك الصغير في الريف يصر على البقاء في مكانه، والتشبث بما حصل عليه، على الرغم من كل ما يمكن أن تقوله له عن الشقاء الذي يعانيه من مطلع الشمس إلى مغربها. ومن الممكن ترك هذا النوع من الناس حيث هم، ولكن المشكلة هي أن هذا يسبب الإرباك الشديد للخطة الكبيرة الموضوعة لتنظيم الإنتاج. ومن ثم لا يبقى مفر من استخدام القوة لإجبار هؤلاء الناس ذوي الأدمغة المتصلبة على معرفة مصلحتهم.
لا شك في أنه كان من الأفضل لو أن هذه التنظيمات - التي صدرت مؤخرا - قد أعلنت منذ البداية. فهي تقضي الآن بألا يغادر أحد مكان إقامته بصفة مؤقتة دون الحصول على إذن بالغياب، وألا ينتقل أحد من محل إقامته بصفة دائمة بغير موافقة الجهات العليا. والمقصود من كل ذلك بطبيعة الحال أن تظل برلين هي العاصمة التي تجتذب إليها الزوار، ولا يجوز أن يأتي إليها الناس وينصرفوا عنها كما يحلو لهم، بل يجب أن تنظم هذه الزيارات، كما بينت جريدة «إلى الأمام» ببساطة ووضوح، بطريقة تتفق مع خطط الحكومة وحساباتها الدقيقة. إن الدولة الاشتراكية، أو الجماعة كما نقول الآن، جادة كل الجد في إلزام جميع الناس بالعمل، وهي لهذا مصممة تمام التصميم على عدم السماح بأي تشرد من أي نوع، ولا حتى بالتشرد في عربات السكك الحديدية.
المساكن الجديدة
أجريت القرعة العامة على المساكن الجديدة، وأصبحنا الآن نمتلك بيتنا الجديد، ولكن لا يمكنني القول بأن وضعنا قد تسحن. فقد اعتدنا على العيش في الناحية الغربية الجنوبية من الطابق الثالث الذي يقع في الجانب الأمامي للمنزل، والغريب حقا أن المسكن الذي صار من نصيبنا يقع في نفس المبنى، ولكن في الجانب الخلفي من المنزل، وبالتحديد في الساحة الخلفية، كما يقع أيضا في الطابع الثالث. كانت صدمة شديدة لزوجتي، فبعد أن تخلت عن فكرة السكن في فيلا صغيرة، ظلت متعلقة بالأمل في الحصول على عدة غرف نظيفة في شقة أنيقة.
وفي بداية النظام الجديد، كما ذكرنا من قبل، وجد أن هناك حجرة تحت تصرف السلطات. وقد تبقى منها، بعد خصم العدد المطلوب للمؤسسات العامة المختلفة، ستمائة ألف حجرة صغيرة، يضاف إليها عدة مئات الألوف من المطابخ (التي تم الاستغناء عنها الآن) والغرف الواقعة على أسطح البيوت. ولما كان العدد الإجمالي للمحتاجين إلى المساكن يبلغ مليون شخص، فإن المساحة التي أمكن تخصيصها لكل واحد منهم هي حوالي غرفة واحدة لكل رأس. ولضمان النزاهة الكاملة في توزيع هذه الغرف، تم توزيعها عن طريق القرعة، بحيث تسلم كل شخص من سن الحادية والعشرين حتى الخامسة والستين، وبصرف النظر عن الجنس، تذكرة اقتراع. والواقع أن نظام سحب التذاكر هو الطريقة المثلى لتحقيق مبدأ المساواة حيثما وجد عدم تكافؤ في الفرص المتاحة. وقد أدخل الديمقواطيون الاشتراكيون في برلين نظام السحب هذا لتوزيع المقاعد في المسارح.
مطاعم الدولة الجديدة
كان إنجازا رائعا حقا أن يفتتح اليوم في وقت واحد في برلين ألف مطعم من مطاعم الدولة التي يتسع كل واحد منها لألف شخص. صحيح أن أولئك الذين تخيلوا أنها ستقدم وجبات كاملة
22
شبيهة بتلك التي كانت تقدم في الفنادق الكبرى في الأيام الخوالي، وكانت تستمتع بها الطبقة العليا الذواقة لكل ما هو ممتع في فن الطبخ، أولئك الذين تخيلوا ذلك قد شعروا دون شك بغير قليل من خيبة الأمل. والواقع أنه ليس لدينا هنا بطبيعة الحال أي نادل متأنق من ذوي السترات المفتوحة من الخلف، ولا قوائم للطعام يبلغ طولها ياردة كاملة، ولا أي مظاهر من هذا القبيل.
لقد حسب حساب كل شيء في مطاعم الدولة حتى أدق التفاصيل. ولا يجوز فيها تفضيل أي شخص على أي شخص آخر، كما لا يسمح للإنسان بالتنقل بينها حسبما يشاء. فكل شخص له الحق في تناول غدائه في مطعم الحي الذي يقع فيه مسكنه. وتقدم الوجبة الرئيسية كل يوم بين الساعة الثانية عشرة ظهرا والسادسة مساء، وعلى كل شخص أن يثبت وجوده في مطعم الحي، إما وقت الراحة في منتصف النهار وإما في نهاية اليوم.
ويؤسفني القول بأنه لم يعد بإمكاني الآن تناول وجباتي مع زوجتي إلا في أيام الآحاد، على الرغم من أنني تعودت على تناول الطعام معها على مدى خمس وعشرين سنة، وذلك نظرا لاختلاف مواعيد عملنا الآن اختلافا كليا عما كانت عليه.
وعند دخول قاعة الطعام ينزع الموظف كوبون الغداء من دفتر الإيصالات الخاصة بك، ويناولك رقما يحدد دورك. وخلال فترة انتظارك ينهض بعض الأشخاص من أماكنهم وينصرفون، ويأتي عليك الدور لتتسلم طبقك من موائد التقديم. وهناك قوة كبيرة من رجال الشرطة الذين يحافظون على النظام الصارم. وقد أعطى أفراد الشرطة - الذين زيد عددهم إلى اثني عشر ألفا - أنفسهم مظاهر الأهمية الشديدة في مطاعم الدولة، ولكن الواقع يشهد بأن الزحام كان كبيرا جدا. ويبدو لي أن برلين نموذج مصغر للمشاريع الاشتراكية الضخمة.
ولما كان كل فرد يتخذ مكانه في المطعم عقب انصرافه من عمله، فإن المجموعة التي تجلس معا (إلى المائدة) تكون متنافرة إلى حد ما. وقد جلس اليوم في مواجهتي طحان، وكان جاره كناسا، وضحك الكناس من هذا من أعماق قلبه أكثر من الطحان. والمسافة بين الموائد - نظرا لتكدس الزحام - ضيقة جدا ولا تكاد تسمح بالحركة. ومع ذلك فإن هذا لا يستمر لفترة طويلة، لأن الدقائق المحددة لتناول الطعام محسوبة بدقة شديدة. وعند انتهاء هذه الدقائق - وهناك شرطي يقف بجانب كل مائدة وفي يده ساعة يضبط عليها الوقت المحدد - يطلب منك ببرود أن تفسح مكانا لمن يجيء عليه الدور بعدك.
إنها لفكرة ملهمة أن تقدم مطاعم الدولة في برلين نفس الأطباق في نفس اليوم من كل أسبوع. ولما كان كل مطعم يعرف عدد الزوار الذين يترددون عليه، وكان هؤلاء الزوار في غنى عن الاختيار من قائمة طويلة، فمن الواضح أن الوقت لا يضيع، فضلا عن عدم وجود أي أثر لهدر الطعام بسبب الفضلات الكثيرة المتبقية، الأمر الذي كان يسبب ارتفاع أسعار الغداء في مطاعم الطبقات العليا.
ولا نزاع في أن هذا التوفير يعد من أعظم الانتصارات التي حققها النظام الاشتراكي.
وجميع حصص الطعام التي تقدم ذات كميات موحدة وقد طلب اليوم زميل نهم مزيدا من الطعام فقوبل بقهقهات ضاحكة من أعماق القلب، إذ لا يمكن أن توجه إلى أحد المبادئ الأساسية للمساواة لطمة أشد من هذه اللطمة. ولنفس السبب رفض بشدة الاقتراح الخاص بتقديم حصص أصغر حجما للنساء، فالرجال ذوو الأجسام الضخمة مجبرون على الاكتفاء بنفس الأنصبة المتساوية، وعليهم أن يحسنوا التصرف بقدر ما يستطيعون. والذين كانت ظروفهم الميسرة تسمح لهم بحشو بطونهم، لن يضرهم أن يشدوا عليها الأحزمة، لأن هذا سيعود عليهم بالخير والعافية.
الهجرة
إن الأزمة الوزارية التي فجرتها قضية تلميع الأحذية لم تناقش بعد. وفي هذه الأثناء صدر قرار بمنع الهجرة دون تصريح من السلطات. والاشتراكية قائمة على المبدأ الذي يفرض على المواطنين جميعا أن يعملوا، وذلك بنفس الطريقة التي كان بها التجنيد في ظل النظام القديم واجبا معترفا به من الجميع. وكما منع الشباب المؤهل للخدمة العسكرية في العهد الماضي منعا باتا من الهجرة، فلا يمكن أن تسمح حكومتنا لمن استوفوا السن التي يتوجب فيها العمل بالهجرة من شواطئنا.
وفي ظل هذه الظروف تستحق الحكومة الثناء لاتخاذها إجراءات صارمة لمنع لهجرة. ولتنفيذ هذه الإجراءات بصورة شديدة الفعالية، رئي من المناسب إرسال تعزيزات قوية إلى الحدود والموانئ. وقد اهتمت السلطات بوجه خاص بالحدود المتاخمة لسويسرا، وأعلن أن القوات المرابطة هناك ستعزز بعدة كتائب مشاة وسرية من سلاح الفرسان. وقد صدرت التعليمات المشددة لحرس الحدود بإطلاق النار على جميع الفارين دون الرجوع إلى السلطات الرسمية.
الانتخابات
أخيرا حل موعد الانتخابات العامة، وحدد يوم الأحد القادم لإجراء الاقتراع. وهذا الاختيار ليوم يستريح فيه العاملون أمر يستحق الثناء، ولا سيما إذا عرفنا أن هناك موضوعات عديدة - تزيد مئات المرات على ما كان عليه الحال في الماضي - تعتمد على نتيجة الانتخاب. إن القوانين هي كل شيء في الدولة الاشتراكية، فالقانون هو الذي يحدد لكل شخص مدة العمل الواجب عليه، وكمية الطعام والشراب التي ينبغي عليه تناولها، وطريقة ملبسه ومسكنه وغير ذلك.
وتشكو الأحزاب المعارضة شكوى مرة من ندرة الأشخاص الذين يملكون الجرأة الكافية - حين تحين لحظة الاختبار الجدي - لمواجهة الحكومة بشجاعة مواجهة الخصم لخصمه، سواء باعتبارهم مرشحين للبرلمان أو متحدثين في الاجتماعات الانتخابية. وربما يرجع هذا التخاذل من جانب المعارضة إلى الإجراءات التي تلجأ إليها الحكومة لتغيير وظائف العاملين غير المرغوب فيهم، أو نقلهم للأماكن النائية. وأمثال هذه التغييرات المفاجئة تجر معها في معظم الأحيان الكثير من الضيق والألم، وبخاصة للمتقدمين في العمر. وطبيعي أن من حق أي إنسان أن يحتج على النقل الذي يشبه أن يكون نزوة من جانب الحكومة، ولكن كيف للفرد أن يستوثق من أن هذا النقل لم يكون خطوة محمودة، أو لم تسوغه تغييرات أخرى أعم في خطة العمل جعلت النقل أمرا ضروريا؟
ويتم الاقتراع بطريقة الإدلاء بالأصوات بواسطة أوراق عليها ختم رسمي وتسلم لكل شخص في ظرف مغلق. ولكن نظرا لجهاز التجسس الحكومي الذي يتغلغل في أشد الأمور خصوصية، ولأن حياة كل فرد قد أصبحت من الشئون العامة، وخضوع الجميع لنظام الرقابة، نظرا لكل هذه الأسباب أخذ الكثيرون يتشككون في سرية أوراق التصويت ونزاهتها، كبديل عن التصويت الذي يعبر عن اقتناعاتهم العميقة. لقد كانت مثل هذه الأشياء في العهود السابقة مقصورة على المناطق الانتخابية الصغيرة. أما الآن فقد أصبح كل إنسان جاسوسا على جاره.
23
نتيجة الانتخابات
أثبت فرانز أنه كان على حق في تنبئه بنتائج الانتخابات. فهو في خطاب الأخير يعبر عن إيمانه بأن غياب الحرية الشخصية والتجارية عن المجتمع لا بد أن يحكم - حتى على أكثر أشكال الحكومات تحررا - بالعجز عن تحقيق أي استقلال سياسي. وقد ذكر أن الأشخاص الذين يعتمدون اعتمادا كبيرا على الحكومة، حتى في شئون الحياة العادية إلى أقصى حد، كما هو الحال معنا الآن، لم تكن لديهم - إلا في أندر الحالات - الشجاعة الكافية للتصويت ضد الرغبات المعلنة للسلطة، وذلك مهما قيل عن سرية التصويت. وقد كتب فرانز يقول إن حق التصويت في ظل الدولة الاشتراكية لن يكون له أي معنى جاد أكثر من معناه بالنسبة للجنود في الثكنات، أو السجناء في السجون.
وتبين نتيجة الانتخابات أن حزب الحكومة - بالرغم من الاستياء العام المنتشر بين الناس - قد فاز بثلثي الأصوات المسجلة في الاقتراع.
إن التعاسة التي حلت بأسرتي من جراء المحنة الثقيلة، جعلتني أتخلى عن نيتي الأصلية في إعطاء صوت مضاد، ومن ثم صوت مع الحكومة. ماذا كان يمكن أن يئول إليه مصير زوجتي ومصيري، في حالتنا النفسية الراهنة، لو أنني أرسلت إلى مكان صغير ناء في الأقاليم؟
الإضراب الكبير واشتعال الحرب
قام بعض عمال الحديد في برلين وضواحيها بالإضراب صباح اليوم، وذلك بسبب رفض مطالبهم في تسلم المكافأة الكاملة عن عملهم. وقابلت الحكومة الإضراب بقرار فوري بوقف وجبات الغداء والعشاء لكل المشاركين في المظاهرة. والتزم الموظفون في جميع مطاعم الدولة بالتعليمات الصارمة بعدم قبول كوبونات عمال الحديد. وقد طبق هذا الحرمان - تنفيذا للتعليمات الحكومية - على كل المطاعم والمحلات التي يتزود منها هؤلاء الأشخاص في الأوقات العادية بحاجاتهم الضرورية. وتراقب وحدات قوية من قوات الشرطة هذه المحلات والأماكن المختلفة عن قرب. وبهذه الإجراءات تتوقع الحكومة أن يخضع المتظاهرون خلال وقت قصير نتيجة تجويعهم، وأن اللقيمات القليلة التي ستعطيها لهم زوجاتهم وأصدقاؤهم لن تجديهم شيئا.
وقد تتابعت الأنباء السيئة بعد ذلك. فقد صدر قبل قليل قرار بتخفيض حصة الخبز لجميع السكان إلى النصف، وإلغاء حصص اللحوم إلغاء تاما. وينتظر من هذه الإجراءات أن تمكن الحكومة، ولو إلى حد ما، من توفير الإمدادات اللازمة للقلاع القائمة على الحدود. ذلك لأن الحجوز التي كانت تهدد بها ألمانيا قد بدأ في هذه الأثناء تنفيذها بالفعل، إذ زحفت قوات الخيالة الفرنسية - عن طريق دوقية لوكسيمبورج - عبر الحدود الألمانية ...
وكانت قوات الشرطة قد حددت في الفترة الأخيرة بثلاثين ألف رجل، واشترط ألا يخدم فيها سوى الاشتراكيين المتعصبين الذين تم اختيارهم من جميع أنحاء البلاط. وهذه القوات تعززها كذلك وحدات قوية من سلاح المدفعية وسلاح الفرسان ...
وتهرع قوات الشرطة، سواء المشاة أو الخيالة، بصفة مستمرة، وبأقصى سرعة ممكنة، في اتجاه وسط المدينة. وتدل جميع الظواهر على أن القوات المسلحة بأكملها قد تم تجميعها بالقرب من القصر وفي شارع «انتردين لندين».
24
ماذا ستكون نهاية هذا كله؟
هوامش
الفصل السادس
اليوتوبيات الحديثة
يبدو أن موجة المشروعات اليوتوبية التي غمرت القرن التاسع عشر قد أخذت في الانحسار. فاليوتوبيات التي كتبت بعد عام 1900م تعد في معظمها أصداء شاحبة من القرن التاسع عشر، أو لا تخرج في بعض الأحيان عن أن تكون نسخا من المجتمعات المثالية في الماضي مع التوسع فيها، ولكنها لم تأت بشيء جديد يستحق الذكر، ولم تثر من الاهتمام ما أثارته أعمال كابيه أو بيلامي أو موريس في عصرها. وقد كان كتابا كابيه وبيلامي كتابين سخيفين، ولكنهما لفتا انتباه جمهور القراء، لأنهما استطاعا بلورة اتجاه محدد للتفكير الاجتماعي. وقد عجزت اليوتوبيات التي نشرت في الخمسين عاما الماضية عن إحداث أي تأثير مشابه. فاللوحة اليوتوبية التي قدمها أناتول فرانس (1844-1924م) في كتابه «الحجر الأبيض» لقيت التجاهل الذي تستحقه، إذ كانت من أسخف ما كتب، كما اهتم كتاب «إنسان تحت الأرض» لجبرييل تارد
G. Tarde
بمناقشة أفكار فلسفية أكثر من اهتمامه بتقديم مجتمع مثالي، وأخيرا كان كتاب سيباستيان فور
S. Faure «السعادة العالمية» نوعا من الدعاية العاطفية ذات التأثير المحدود.
وقد أسهم ه. ج. ولز
1 (1866-1944م) بدور أكبر وأهم في الأدب اليوتوبي بكتابيه «يوتوبيا حديثة» و«بشر كالآلهة»، وإن كان الكتاب الأول - بالرغم من عنوانه - يدين بالكثير ليوتوبيات الماضي.
أعلن ولز، في «يوتوبيا حديثة»، القطيعة مع التراث اليوتوبي، برفضه وصف مجتمع كامل. وهو يقول في ذلك: «لن يكون هناك مكان للكمال في يوتوبيا حديثة، إذ يجب أن تحتوي اليوتوبيا أيضا على الخلافات والصراعات وهدر الطاقات، وإن كان الهدر فيها أقل بكثير جدا مما يحدث في عالمنا.» ويوتوبياه «حالة ممكنة التحقق كما هي في نفس الوقت مرغوب فيها أكثر من العالم الذي نعيش فيه»، ولكنها ستكون «مستحيلة إذا نظر إليها بأي معيار يكتفي بالمقارنة بين اليوم والغد».
ظهرت «يوتوبيا حديثة» في عام 1905م، أما «بشر كالآلهة» فقد وصف فيها ولز مجتمعا بلا صراعات أو خلافات أو هدر للطاقة. وربما يكون ولز، على خلاف أفلاطون في شيخوخته، قد أصبح في أواخر حياته أكثر تفاؤلا مما كان في شبابه، أو ربما يكون قد اعتبر «يوتوبيا حديثة» - أو أفضل دولة بالتقريب - مجرد مرحلة انتقال ضرورية نحو مجتمع كامل.
إننا مع «يوتوبيا حديثة» نترك خلف ظهورنا اليوتوبيات القومية، بل نترك - إذا جاز التعبير - الاتحادات الفيدرالية لليوتوبيات. ويزعم ولز أن عصر الحدود والحواجز اللغوية التي تفصل بين الأمم قد مضى، ولا يمكن أن يفي بالغرض من اليوتوبيا الحديثة إلا كوكب كامل؛ لأن «الدولة التي تبلغ في الظروف الحديثة من القوة ما يكفي للمحافظة على عزلتها، سيكون لديها كذلك القوة الكافية لأن تحكم العالم، وإذا لم تحكمه بشكل إيجابي فعال، فسوف تقبل بشكل سلبي المشاركة في كل التنظيمات البشرية الأخرى، ومن ثم تصبح مسئولة عنها جميعا، ولهذا فلا بد أن تكون دولة عالمية.» هذه الدولة العالمية التي ننتقل إليها بفضل مجهود يبذله الخيال، تقع على كوكب مشابه لكوكبنا إلى حد كبير، وكل نهر، أو بحيرة، أو جبل على أرضنا له ما يناظره في يوتوبيا، كما أن كل واحد من سكان الأرض له نظيره بين سكان الكوكب اليوتوبي الذي يقع في مكان ما وراء كوكب الشعرى اليمانية. والاختلاف الوحيد بين يوتوبيا وبين أرضنا هو أن التنظيم الاجتماعي فيها قد تطور، خلال حقبة حديثة نسبيا، تطورا سريعا، وبلغ مستوى أعلى بكثير من مستوى التنظيم الاجتماعي على سطح الأرض.
والصورة الخيالية لهذا التنظيم الاجتماعي الجديد تسري فيها معرفة عميقة باليوتوبيات السابقة. وهي تنتقد بعض السمات المميزة لليوتوبيات الأخيرة، وإن لم يكن هذا النقد هو أقل أجزاء الكتاب أهمية؛ إذ إن هناك سمات أخرى متضمنة في مشروع ولز. فأفلاطون وأوجست كونت يقدمان جانبا كبيرا من بنائها النفسي، بينما يزودها تيودور هرتسكا بالبناء الاقتصادي. ولكن ولز يذهب إلى أن هناك حاجة ماسة إلى مشروع جديد بالكامل، على أساس أن اليوتوبيات السابقة لم تعط الفرد الحرية الكافية. وهو يلاحظ بحق «أن اليوتوبيات الكلاسيكية كانت تنظر إلى الحرية بوصفها شيئا تافها نسبيا. ومن الواضح أنها اعتبرت الفضيلة والسعادة منفصلين انفصالا كاملا عن الحرية، كما تصورت أن كليهما أهم منها بكثير. ولكن وجهة النظر الحديثة، بإصرارها المتزايد على الفردية وعلى أهمية تفردها، لا تنفك تعمق قيمة الحرية باستمرار، حتى لقد بدأنا ندرك أخيرا أن الحرية هي جوهرة الحياة، بل إنها في الحقيقة هي الحياة ذاتها، وأن الأشياء الميتة، أي الأشياء التي لا تملك حرية الاختيار، هي وحدها التي تطيع القانون طاعة مطلقة. إن إطلاق العنان لفردية الإنسان يعد من وجهة النظر الحديثة هو الانتظار الذاتي للوجود، على اعتبار أن انتصارها الموضوعي يتمثل في استمرار البقاء من خلال العمل الخلاق والذرية.» ومن هنا يستطرد ولز مؤكدا «أن الحرية الفردية في المجتمع ليست دائما، كما يتصور علماء الرياضة، ذات سمة أو علامة واحدة. وتجاهل هذه الحقيقة هو الخطأ الأساسي الذي تقع فيه النزعة الفردية الحديثة. فالواقع أن الاتجاه لمنع كل شيء في إحدى الدول ربما يزيد من كمية الحرية، كما أن الاتجاه إلى السماح بكل شيء ربما يقلل منها. ولا يستتبع هذا، كما يحاول هؤلاء الناس أن يوهمونا، أن الإنسان يكون أكثر حرية عندما يعيش في ظل أقل عدد ممكن من القوانين، أو أنه يكون أكثر تقيدا في ظل أكبر عدد ممكن من القوانين.»
إن الافتراض القائل بأن القانون هو أفضل حارس للحرية يكاد يكون هو القاعدة الأساسية في كل اليوتوبيات تقريبا. وعلى الرغم من دفاع ولز عن الحرية، فإنه يقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه أسلافه من اليوتوبيين بإقحام كمية ضخمة من التشريعات في يوتوبياه. وهو يرى - بسذاجة طفولية - أنه يمكن منع جرائم القتل عن طريق «منع حرية القتل الشائعة»، وكأن الناس سيبدءون في ذبح بعضهم بعضا بمجرد إلغاء عقوبة القتل فجأة. وفي حين أكدت معظم اليوتوبيات السابقة أن الهدف من التشريع هو إلغاء «سبب» الجريمة، يرى ولز أن التشريع العقابي هو العلاج الوحيد لها.
والواقع أن مفهوم «ولز» عن الحرية هو في نهاية الأمر مفهوم ضيق جدا. فهو يستنكر «قمع فردية الأفراد بردها إلى نمط واحد عام»، كما يستنكر كذلك «المجتمع المثالي القديم الذي كان مجتمعا له عقيدة واحدة مشتركة، وعادات واحتفالات مشتركة، وسلوك مشترك، وصيغ حياة مشتركة، كان الناس في نفس المجتمع يرتدون نفس الزي، كل حسب وضعه المحدد أو مرتبته المعترف بها، وكان كل واحد منهم يتصرف بنفس الطريقة، ويحب ويتعبد ويموت بنفس الطريقة.» ولكن لا يكاد ولز يدين هذا النموذج، حتى يبدأ في صياغة نموذج مشابه، حين يصف طبقة حاكمة لها نفس السمات التي ذكرناها الآن. أما حرية الإبداع فهي مقصورة على أولئك الذين تتوافر لهم وسائل خاصة أو يختارون العمل الذي يفيد الدولة. بهذا تكون الحرية عند ولز نتيجة حل وسط يوفق بين الاشتراكية وبين مبدأ «دعه يعمل» الذي تأخذ به الرأسمالية، ومن ثم تكون حرية غير كافية ولا مرضية، شأنها شأن كل الحلول الوسط: «إن كل من يتأمل الفردية والاشتراكية في صورتيهما المطلقتين يجد أن كلتيهما طرفان لتناقض سخيف غاية السخف، فالأولى تجعل الناس عبيدا للأقوياء والأغنياء، والثانية تجعلهم عبيدا لموظفي الدولة، أما الطريق الصحيح فهو يسير - ربما بشكل متعرج - في الوادي الذي يقع بينهما ... إن الواجب يفرض علينا ألا نحرص فحسب على توفير المأكل والملبس والنظام والصحة، بل يفرض علينا أيضا أن نوفر المبادرة الحرة.»
كان الحل الوسط المثالي بين الفردية والاشتراكية هو كذلك هدف عالم الاقتصاد النمساوي «تيودور هرتسكا»
Theodor Hertzka ، الذي استقبلت خطته عن المجتمع الأفضل - التي قدمها في كتابه «الأرض الحرة: رؤية اجتماعية مستقبلية» (نشر عام 1891م) - استقبالا حماسيا كبيرا في هذه البلاد (أي في إنجلترا). وقد شرح هرتسكا في تصدير كتابه تلك الصيغة التركيبية التي حاول وضعها بقوله: «إذا استطاع المجتمع أن يوفر رأس المال للإنتاج دون أن يضر بمبدأ الحرية الفردية الكاملة أو بمبدأ العدالة، وإذا أمكن أن يستغني عن المصلحة دون أن يستعيض عنها بالتحكم الشيوعي، فلن يقف عندئذ أي عائق في طريق النظام الاجتماعي الحر.» واقترح تيودور هرتسكا أن كون الأرض، ورأس المال، ووسائل الإنتاج ملكا للدولة، وأن يكون لجميع السكان حق متساو في الأرض المشتركة وفي وسائل الإنتاج التي توفرها الدولة. وينبغي أن تتولى رعاية كبار السن والمرضى، وأن تختلف الأجور تبعا لقيمة العمل، بحيث يدفع للعامل الفني أجر أعلى من أجر العامل العادي، وأن توزع الأرباح على العاملين بالشركات بعد اقتطاع نسبة معينة لسداد رأس المال والضريبة للدولة، وإذا أرادت مجموعة من الناس أن تكرس نفسها للصناعة أو الزراعة، فيمكنها الحصول على الأرض ورأس المال بناء على طلب مقدم للدولة. أما الأغراض الشخصية، كالمنازل أو الحدائق، فتعتبر ملكية خاصة.
وينطوي مشروع ه. ج ولز على سمات مماثلة: «فالدولة العالمية في هذا المشروع المثالي هي المالك الوحيد للأرض مع الحكومات المحلية الكبيرة ... أو المجالس المحلية التي تشارك في ملكيتها تحت إشرافها، بحيث تشبه ملاك الأراضي في عصور الإقطاع. والتفكير الحديث يتجه برمته ضد الملكية الخاصة للأرض أو الأشياء الطبيعية أو المنتجات، لأن هذه كلها ستكون في «يوتوبيا» ملك الدولة العالمية ولا تقبل التحويل لجهة أخرى. وعملا بالحق المعترف به في حرية الحركة، ستؤجر الأرض للشركات أو الأفراد، ولكنها - بالنظر إلى ضرورات المستقبل المجهول - لن تؤجر لفترة تزيد على خمسين عاما.» إن الدولة، أو الحكومات والمجالس المحلية، «تملك جميع مصادر الطاقة، وهي تنمي هذه المصادر سواء بشكل مباشر أو من خلال المستأجرين والمزارعين والوكلاء، كما تستثمر الطاقة المتاحة في خدمة الحياة. وسوف تقوم الدولة، أو المستأجرون لمواردها، بإنتاج الطعام، أي الطاقة البشرية، ويدخل استغلال الفحم والقوة الكهربائية، وقوة الرياح والموج والمياه ضمن حقوقها. وسوف تغدق الدولة هذه الطاقة على المواطنين، سواء بالتعيين والتأجير والموافقة، أو بأي وسيلة أخرى، كما تحافظ على النظافة، وتقوم بمد الطرق، وتوفير وسائل النقل الرخيصة والسريعة، وتتكفل بجميع شئون الكوكب، وتتولى توزيع العمل، وتشرف على جميع المنتجات الطبيعية وتقوم بإدارتها، وتهتم بصحة المواليد ورعاية أجيال عديدة قوية، كما تحافظ على الصحة العامة، وتسك النقود وتضمن سلامة المقاييس والموازين، وتشجع البحوث، وتكافئ المشاريع التجارية غير القادرة على الربح باعتبارها نافعة للدولة ككل، كما تمول عند الحاجة كراسي الأساتذة في النقد الأدبي والمؤلفين والناشرين وتجمع المعلومات وتتولى بثها وتوزيعها.»
على الرغم من أن الدولة هي مصدر كل طاقة، وهي المالك الوحيد، فإن المحافظة على الملكية الخاصة تعتبر من الأمور الأساسية، لأن «الإنسان الذي يفتقر إلى الملكية هو إنسان بلا حرية، ومدى ملكيته هو إلى حد كبير مقياس حريته ... وسيكون هدف اليوتوبيا الحديثة هو أن تؤمن لكل مواطن الحرية التي تهبها له أملاكه المشروعة أي جميع القيم التي كانت ثمرة كدحه أو براعته أو بعد نظره أو شجاعته. وأيا كان ما حققه أو حصله بالوسائل المشروعة فله الحق في الاحتفاظ به، وهذا أمر واضح تماما، ولكن سيكون له الحق أيضا في البيع والتبادل ...» وستضع الدولة حدا لحق الإنسان في الملكية عندما تصل إلى الحد الذي تجور فيه حريته على حرية الآخرين وتقمعها. ولم يخبرنا ولز متى يصبح «الاستغلال» «قمعا»، وفي هذه المسألة، كما في مسائل كثيرة غيرها، يتحمل ولز «مسئولية» تفكيره الفضفاض.
والمال أيضا شيء أساسي لا غنى للحرية عنه، ويوتوبيا ه. ج. ولز تعكس الاتجاه العام لليوتوبيات التي تعتبر أن المال هو مصدر كل شر، وذلك بدفاعها عن المال بقولها: «إن المال إذا أحسنت استخدامه، نعمة من نعم الحياة، وهو شيء ضروري للحياة الإنسانية المتمدنة، وبقدر تعقد مناحي استخدامه في أغراضها المختلفة، فهو لازم لنموها الطبيعي لزوم العظام في رسغ الإنسان، ولست أتصور من دونه شيئا يستحق أن يسمى باسم المدينة. إنه هو الماء الذي يدخل في تكوين الجسد الاجتماعي، وهو يوزع ويستقبل ويجعل النمو والتمثل والحركة والشفاء أمرا ممكنا. وهو أساس المصالحة بين اعتماد البشر بعضهم على بعض وبين الحرية.» ويدين ولز بشدة الطريقة المهينة التي يستخدم بها الذهب كما صورها السير توماس في يوتوبياه. وفي رأيه أن قروض العمالة، أو الطلب الحر على وسائل الترف والراحة من أحد المخازن المركزية، أو غيرهما من الحيل المشابهة، «تفتح أمام ذلك الخبث الفاسد الكامن في نفس الإنسان فرصا تزيد بمقدار عشرة آلاف ضعف عن الفرص التي يتيحها استخدام المال. ولا يصلح الذهب، على كل حال، لأن يكون مقياسا للقيمة، لأن قيمته عرضة للتغير الشديد، ومن ثم تستخدم الطاقة الإنتاجية بدلا منه. وتحسب الطاقة المتاحة بالوحدات الفيزيائية كما تتجه نحو التوحيد بسبب التكييف الآلي لقوة العمل.»
والعمل ضرورة حتمية في «يوتوبيا حديثة»، ولكن فئة قليلة مميزة، كما في مجتمعنا الحاضر، هي التي يمكنها أن تعيش دون أن تضطر للعمل إذا هي أرادت ذلك: «إذا ورث إنسان، في ظل المخطط اليوتوبي المحدد للميراث، مبلغا كافيا من المال يغنيه عن الحاجة إلى الكدح، فبإمكانه أن يكون حرا في الذهاب إلى حيث يشاء وفي فعل ما يريد.» ويبرر هذا الوضع على أساس أن مصلحة العالم أن «تحيا نسبة معينة من الناس في سعة من العيش، فالعمل الذي يكون الباعث عليه هو الإلزام الأخلاقي إنما يعبر عن أخلاق العبيد، وما دام لا يوجد أحد مرهق بالعمل فوق طاقته، فليس هناك داع للشعور بالضيق لوجود قلة ضئيلة متخففة من عبء العمل.»
ويتمتع العامل في اليوتوبيا الحديثة بفرص كبيرة تتيح له اختيار مهنته، وتزيد بكثير على فرص نظيره في كوكبنا الأرضي، وهو يستطيع أيضا أن يتنقل بحرية أكبر من مكان لآخر بفضل وسائل الانتقال السريعة. والبطالة غير معروفة؛ لأن الدولة تمتص فائض العمالة كله عن طريق إقامة بعض المشروعات لحسابها الخاص، بحيث تدفع الحد الأدنى للأجور، وتسمح لهذه المشروعات بالتقدم البطيء أو السريع حسبما يمليه مد وجزر العمل، كذلك تستطيع الدولة أن تمتص العمالة الزائدة بتخفيض ساعات العمل اليومية. ومع أن الاتجاه المتزايد لاستخدام الآلة يعمل على زيادة فائض العمالة، فإن الحرص على التحكم الدقيق في الزيادة السكانية يحول دون تعاظم مشكلة البطالة. ومن مصلحة الدولة على كل حال أن يكون لديها باستمرار قدر من العمالة الفائضة التي يمكنها تشغيلها بالحد الأدنى من الأجور.
والدولة قادرة على وضع جميع سكان الكوكب اليوتوبي تحت المراقبة، لأنهم ملزمون بتسجيل وإبلاغ أي تغيير يطرأ على عناوينهم حتى لو كان تغييرا مؤقتا . وقد اقتضى ذلك وضع نظام دقيق متقن يقوم بتجميع سجلات ألف وخمسمائة مليون من البشر، مع فهارس أرقامهم، وبصمات أصابعهم، وملاحظات عن تحركاتهم هنا وهناك، وزواجهم، وأنسابهم، وسوابقهم وما شابه ذلك. ويوجد مقر هذا الدليل المركزي الضخم في مجموعة كبيرة من المباني المقامة في باريس أو على مقربة منها، وذلك «تكريما لنصاعة العقل الفرنسي». بهذا يتم تسجيل جميع الأحداث التي تمر بحياة الإنسان، وفي النهاية، عندما ينتهي أجل المواطن، يتم آخر تسجيل متعلق به، فيدون عمره وسبب موته وتاريخ ومكان حرق جثته، كما تسحب بطاقته وتنقل إلى السجل الشامل للأصول والأنساب، حيث توجد المعارض المتنامية لسجلات الموتى، ويسود السكون والسكينة العظيمة.
ويرفض ه. ج. ولز أن ينظر إلى مخططه على أنه نزوة من نزوات خياله، ويؤكد أن «مثل هذا التسجيل أمر حتمي، إذا أريد تحقيق يوتوبيا حديثة»، ويبدو أنه يعتقد أنه من دون هذا النظام سيحاول سكان «يوتوبيا حديثة»، الذين تعودوا على التنقل والهجرة، منافسة «المسيو فردو»،
2
فيصبحوا رجالا وضعاء يغذون خيالاتهم المريضة بإيقاع النساء العاديات من حبائلهم، وخيانتهن وإساءة معاملتهن وأحيانا بقتلهن. وبعد أن يبين لنا ولز بشكل درامي مخاطر اتخاذ أسماء مستعارة، نجده يطمئننا كذلك على أسرار حياتنا الشخصية التي تصونها الدولة. فالدولة وحدها، كما يقول، «هي التي ستطلع على أسرار الفرد الخفية. ولا شك في أن مثل هذا الكشف المنظم من جانب الحكومة كان سيبدو كابوسا بشعا كريها في نظر ليبرالي من القرن الثامن عشر، أو ليبرالي من النمط العتيق في القرن التاسع عشر، أي في نظر جميع الليبراليين المتشددين الذين تربوا على معارضة الحكومة من حيث المبدأ ... ولكن لنفترض أننا لا نسلم بأن الحكومة سيئة بالضرورة، وأن الفرد خير بالضرورة - مع العلم بأن الفرض الذي يعتمد عليه نظام حياتنا وتصرفاتنا يلغي البديلين معا من الناحية العملية - فإننا سنغير الموقف برمته. إن حكومة يوتوبيا حديثة لن تكون امتدادا للمقاصد الجاهلة التي تحكم العالم الحاضر ...»
ومع تقدم معرفتنا بيوتوبيا ولز الحديثة، يتبين لنا أن مخططه عن التسجيل الشامل لا يرجع فقط إلى ولعه الشديد بالملفات المفهرسة، وإنما هو، كما يقول، شيء أساسي لا غنى عنه لمشروعه اليوتوبي. فالدولة لن تكون قادرة على التحكم في سكان العالم إذا لم يكن تحت تصرفها مثل هذا الجهاز الآلي. ثم إنه شيء أساسي، ليس لتنظيم العمل فحسب، بل كذلك للتحكم في زيادة السكان وتحسين نوعية الناس. ويرفض ولز أن تتولى الدولة تربية السكان، وهو «الاقتراح الذي كان معقولا من جانب أفلاطون على ضوء المعرفة البيولوجية في عصره وطبيعة مذهبه الميتافيزيقي الذي اتخذ طابع المحاولة الخالصة، أما بالنسبة لأي إنسان يعيش بعد نظرية دارون، فهو اقتراح مناف للعقل تماما.» وإذا كان ولز يرفض الزواج الإجباري، فإنه يمنح الدولة الحق في مراعاة بعض الشروط العامة المحددة: «إن الدولة لديها مبرراتها حين تقول لك - قبل أن تضيف أطفالا جددا للمجتمع، وتعهد إليها بتعليمهم وإلى حد ما بإعالتهم - عليك أن تكون على مستوى معين من الكفاءة، وأن تبرهن على هذا بأن تكون في وضع مادي ميسور يكفل لك قدرا من الاستقلال في هذا العالم، كما يجب أن تكون قد بلغت من العمر سنا مناسبة، وحدا أدنى من التطور البدني، وأن تكون خاليا من الأمراض المعدية. كما يجب ألا تكون تلك سابقة في الإجرام، إلا إذا كنت قد كفرت بالفعل عن جريمتك.
وفي حالة الإخلال بهذه الشروط البسيطة، كأن تحاول أنت وغيرك أن تتآمر على الدول بزيادة عدد سكانها، فسوف نتولى، لأسباب إنسانية، أمر الضحية البريئة لعواطفك، ولكننا سنصر على أنك مدين للدولة بدين واجب السداد، حتى لو اقتضى الأمر استخدام القوة لاسترداده منك، لأن ضمانه في النهاية مرهون بحريتك، حتى إذا تكرر ذلك الأمر للمرة الثانية، أو ثبت عليك أنك أضفت المزيد من المرض أو البلاهة، فسوف نقوم باتخاذ إجراء فعال يضمن بشكل مطلق ألا ترتكب أنت وشريكتك هذا الإثم مرة أخرى.»
وعندما يفي المواطنون بالشروط التي وضعتها الدولة قبل السماح بالزواج، كالقدرة على كسب دخل معين، وبلوغ السن الضرورية (التي لا تقل عن واحد وعشرين عاما للنساء، وستة وعشرين إلى سبعة وعشرين للرجال) والحد الأدنى من النمو الجسماني، والخلو من الأمراض المعدية، تبارك الدولة زواجهم. وتؤدي بطاقة الدليل هنا دورا مهما، إذ «يتسلم كلا الطرفين المقترح زواجهما نسخة من بطاقة شريكه، مسجلا عليها عمره أو عمرها، والزيجات السابقة، وأهم الأمراض التي أصيب بها، وأبناؤه، ومحل إقامته، والوظائف العامة التي شغلها، وصحيفة سوابقه، والوثائق المسجلة بأملاكه وهلم جرا. ويستحسن إقامة احتفال صغير لكل شريط على حدة في غياب الشريك الآخر، يتلى فيه السجل في حضور الشهود، مع تقديم نوع من التضحية في شئون الزواج. ثم تقدر فترة معقولة لكلا الطرفين للتدبر في الأمر أو التراجع عنه. فإذا أصر الطرفان على قرارهما، يكون عليهما بعد انقضاء الفترة المحددة إبلاغ الجهات الرسمية المحلية التي تثبت ذلك في السجلات.» والرجال والنساء الذين يتجاهلون هذه الشروط قبل ارتباطهم، تتجاهلهم الدولة، إلا في حالة إنجاب أطفال غير شرعيين.
ومن حق الدولة أن تقرر بالتفصيل «الأمور التي تلزم الرجل أو المرأة بعد الزواج والأمور التي لا يمكن إلزامهما بها، لأن من المهم بالنسبة للدولة ألا تترك هذه الزيجات بغير ضوابط، وألا تكون عشوائية ولا شائعة بين البالغين من السكان، وذلك أولا لضمان سلامة المواليد، وثانيا لتأمين ظروف معيشية طيبة.» ولما كان الهدف من الزواج هو التناسل، فإن الزيجات العقيمة يصرح لها بالانفصام بعد مضي عدة سنوات، أما الزيجات التي تثمر أطفالا فيحق لها أن تستمر، ما دام الأطفال يربون في أفضل الظروف الممكنة عندما يكونون في رعاية الأسرة.
وتعتبر الأمومة في «يوتوبيا حديثة» إحدى الخدمات التي تقدمها الدولة، وتتلقى الأم منحة عند ميلاد الطفل. وتدفع الدولة لها أيضا على فترات منتظمة مبالغ مالية تكفل لها ولطفلها أن يعيشا في حالة اكتفاء. ويتخيل ولز نظاما غريبا للمكافآت تستطيع الدولة بمقتضاه أن تغدق المنح على الأسرة، عندما يظهر الطفل نوعا من التفوق الجسدي أو العقلي الذي يتجاوز الحد الأدنى المطلوب. والهدف من هذه الإجراءات هو جعل الأمومة الصالحة جديرة بالاقتداء، وإذا هبط مستوى الطفل دون الحد الأدنى من النمو الصحي والجسدي والعقلي، فيحق للدولة وقف هذه المكافآت.
وتبذل دولة ولز اليوتوبية كل ما في وسعها للتخلص من أصحاب المستويات المتدنية: «لأن منطق الطبيعة الذي يحكم بأن يقتل القوي الضعيف ببرود سيستعاض عنه بطرق وأساليب الإنسان الحديث.»
إن على المجتمع اليوتوبي أن يتخلص من البلهاء والمجانين، ومن الأشخاص الفاسدين والعاجزين والسكارى ومدمني المخدرات، والمصابين بأمراض معدية، واللصوص والمحتالين والمجرمين، ولكنه لن يطبق عقوبة الإعدام، ولن تكون هناك سجون في يوتوبيا. وسوف ترسل الدولة مواطنيها المنفيين إلى جزر بعيدة وراء المحيط، وتمنعهم من أن ينجبوا أطفالا، لأن النساء ستعزل عن الرجال، وستكون هناك جزر للرهبان وجزر أخرى للراهبات.
ويتطلب تعقد التنظيم اليوتوبي أسلوبا للحكم أعظم قوة وكفاءة مما يسمح به النظام الانتخابي. وكما أن طبقة الحراس في جمهورية أفلاطون هي التي تتولى مهمة الحكم، كذلك يعهد للساموراي
3
بمهمة حكم البلاد، وهؤلاء لا يحصلون على مراكزهم بالانتخاب أو بالوراثة، وإنما هم مجموعة من «النبلاء المتطوعين».
وتكمن السلطة الحقيقية بأكملها في أيدي الساموراي. فجميع المعلمين وعمداء الكليات، والقضاة والمحامين، والموظفين الممتازين، وكل رجال الطب، والمشرعين يجب أن يكونوا من الساموراي، وكل اللجان التنفيذية التي تلعب دورا مهما في إدارة شئون المجتمع تختار منهم وحدهم بطريقة القرعة. والساموراي متطوعون، «وأي شاب ذكي في حالة صحية جيدة، وفي أي سن بعد الخامسة والعشرين، يمكنه أن يصبح واحدا من الساموراي، وأن يشارك بدوره في الحكم العام.» ويجب على الساموراي أن يكون لديهم الاستعداد والقدرة على اتباع القاعدة «للتحكم في الدوافع والانفعالات، وتنمية العادات الأخلاقية الحميدة، ومساندة الإنسان في فترات الإحساس بالقهر، والتعب، والغواية، وتحقيق الحد الأقصى من التعاون بين أصحاب النوايا الطيبة، وتوفير الصحة والكفاءة المعنوية والبدنية لجميع الساموراي.»
وتتكون القاعدة المذكورة من ثلاثة أجزاء، فهناك قائمة بالكفاءات ومنها اجتياز الاختبارات التي تضعها الكليات كدليل على وضوح الهدف والتصميم عليه، وضبط النفس والطاعة. وهناك قائمة بالأشياء التي يجب تجنبها، وقائمة بالأشياء التي يجب فعلها، وتحظر بعض المتع البسيطة التي لا تجلب ضررا شديدا، وذلك لتحاشي الانغماس في الملذات. ويتحتم على الساموراي أن يسيروا على نظام غذائي محدد، وأن يبتعدوا عن التدخين والمشروبات الكحولية أو المخدرات. ويحرم عليهم العمل بالتجارة التي تنمي فيهم صفات منافية للحياة الإنسانية والاجتماعية، كما يمنعون أيضا من التمثيل أو سرد القصص؛ لأنها تضعف الروح. وعليهم ألا يكونوا خدما أو يحتفظوا بالخدم، وألا يراهنوا أو يشاركوا في الألعاب الرياضية أو يشاهدوها. وهناك قاعدة للعفة، ولكنها ليست قاعدة للعزوبة، فالزواج بين أشخاص متكافئين هو واجب ملقى على أكتاف الساموراي نحو جنسهم، ولكن إذا أحب الساموراي امرأة لا تنتمي إلى طبقته، فإما أن يترك الساموراي ليتزوجها، وإما أن يقنعها بقبول القاعدة الملزمة للمرأة. والجزء المخصص من القاعدة للأمور الواجبة على الساموراي يفرض عليهم أن يعيشوا حياة بسيطة، بل حياة أسبرطية خشنة، كما يفرض عليهم بعض الواجبات المحددة، مثل القراءة في كتاب الساموراي لمدة عشر دقائق على الأقل يوميا، وذلك «لحثهم على التعاطف مع غيرهم، وحمايتهم من كل أنواع التبلد الجسدي والعقلي وسيطرة المشاغل والاهتمامات غير الاجتماعية على اختلاف أنواعها عليهم. ويتحتم على الساموراي في كل عام أن يخرجوا لمدة أسبوع إلى الجبال والغابات، أو إلى أي مكان ناء ينامون فيه تحت السماء المفتوحة، ويجب عليهم أن يذهبوا إلى هناك دون كتب ولا أسلحة ولا أقلام أو أوراق أو نقود.» وبذلك يعودون من رحلتهم وقد تزودوا بالقوة الروحية والجسدية.
ولا يتسع المقام لوصف الجوانب الأخرى من «يوتوبيا حديثة»، كنظام التعليم، والمناطق الصناعية والمدن الرئيسية، والتغييرات التي طرأت على العمارة والتصميم الصناعي، والتأليف بين الحضارات والأجناس المختلفة في دولة عالمية واحدة. والملاحظ أن ولز يقدم في جميع هذه الموضوعات اقتراحات طريفة دون أن يحاول فرض حل «وحيد ونهائي»، كما فعل قبله كثير من الكتاب اليوتوبيين. والحق أن يوتوبياه ليست سكونية أو جامدة، بل تعترف باليوتوبيات الأخرى، كما تقول في سطورها الختامية: «سوف تظهر يوتوبيات كثيرة، وسيكون لكل جيل يوتوبياه الخاصة به، وستكون أكثر يقينا وكمالا وواقعية، كما تزداد المشاكل التي تعالجها التصاقا بمشاكل الكينونة المنخرطة في الصيرورة، حتى تنبثق في النهاية من الأحلام يوتوبيات هي في صميمها خطط وتصورات عملية، وينشغل العالم كله بتشكيل الدولة العالمية النهائية، هذه الدولة العالمية العادلة العظيمة المثمرة، التي لن تقتصر على أن تكون يوتوبيا فحسب، لأنها ستكون هي هذا العالم ذاته.»
وقد حقق ه. ج. ولز نفسه هذه النبوءة عندما قدم يوتوبيا أخرى هي «بشر كالآلهة»، التي كتبت في شكل رواية عاطفية، وتخلى فيها عن كثير من الاعتبارات العلمية التي قدمها في كتابه السابق. لقد قال في «يوتوبيا حديثة»: «لو كنا نملك حرية التصرف في رغباتنا بغير عائق، لكان علينا فيما أعتقد أن نتبع موريس إلى «لا مكانه»، ولوجب علينا أن نغير طبيعة الإنسان وطبيعة الأشياء معا، وأن نحول الجنس البشري كله إلى حكماء متسامحين، نبلاء، كاملين، فنلوح بأيدينا للفوضى الرائعة التي تجعل كل إنسان يتصرف كما يحب، ولا تحبب أي إنسان في أفعال الشر، وبذلك نحيا في عالم خير منسجم مع طبيعته الأساسية الخيرة، عالم ناضج ومشمس كالعالم قبل السقوط.» والواقع أن «بشر كالآلهة» تعد بمنزلة «أخبار من لا مكان» كتبها ولز. صحيح أنها «لا مكان» أكثر علمية وانضباطا من أن يقبله ذوق موريس، إلا أنه قد تخلص أيضا من قدر كبير من البيروقراطية والإكراه والإلزام الأخلاقي الذي يغلب على «يوتوبيا حديثة».
وتقع يوتوبيا «بشر كالآلهة» أيضا في كوكب آخر شبيه بكوكبنا، وهو عالم توأم لعالمنا، وإن يكن متقدما عليه قليلا من الناحية الزمنية، كما أنه على خلاف «يوتوبيا حديثة» يخلو تماما من حكومة مركزية. «وليس فيه مجلس أو مكتب يصدر القرار الأخير في حالات العمل الجماعي الموجه للمصلحة العامة ... ولا توجد فيه سيادة ولا سلطة نهائية، ولا تركيز للسلطة ... لقد وجد كل هذا في الماضي، ولكنه انصهر منذ وقت طويل في الجسد العام للمجتمع. والشعب هو الذي يتخذ القرارات في أي شأن من الشئون الخاصة، لأنه هو الأعلم بحقيقته. وليست هناك قوانين بالصورة التي نعرفها، ولا توجد سلطة لوضعها موضع التنفيذ. وإذا رفض أي شخص أن يلتزم بالتعليمات الخاصة بالصحة العامة مثلا، فلن يفرض عليه تنفيذها، وإذا أجري تحقيق معه عن السبب في عدم التزامه بها، فربما يجد المحققون عذرا استثنائيا، وإذا لم يتوصلوا لشيء فيمكن إجراء فحص لقواه العقلية وحالته الصحية والأخلاقية.»
وطبقة الساموراي الحاكمة ليس لها نظير في هذه اليوتوبيا، حيث جميع الناس بنفس الحقوق والواجبات، وحيث اختفت الملكية التي كانت تعتبر فيما سبق أساسية لقيام الحرية: «إن جميع الأنشطة في عالمنا، كما يقول الناطق بلسان يوتوبيا، تتآزر لضمان الحرية العامة. ولدينا عدد من أصحاب العقول الذكية الذين يهتمون بدراسة النفسية العامة للجنس البشري، والتأثير المتبادل بين الوظائف الجماعية.»
قال واحد من أبناء الأرض: «ألا تمثل تلك المجموعة من أصحاب العقول طبقة حاكمة؟»
قال اليوتوبي: «ليس بالمعنى الذي يفهم منه أنهم يمارسون أي سلطة استبدادية، إنهم يتعاملون مع العلاقات العامة، وهذا هو كل شيء. ولكنهم لا يحتلون لهذا السبب مستوى أرفع، فليس لهم أولوية على غيرهم إلا بقدر ما يكون للفيلسوف من أولوية على العالم المتخصص.
وقد وجدنا في النهاية أن الملكية الخاصة لكل شيء - باستثناء الأشياء الشخصية جدا - مزعجة إزعاجا لا يطاق للجنس البشري، ولهذا تخلصنا منها تماما. والفنان أو العالم لهما مطلق التصرف في المواد التي يحتاجان إليها. ونحن جميعا نمتلك أدواتنا وأجهزتنا ولدينا غرف وأماكن مخصصة لنا، ولكن ليست هناك ملكية للتجارة أو البورصة، لقد تم التخلص من كل أنواع الملكية القائمة على المنافسة والمناورة.»
تحقق هذا المجتمع اليوتوبي بفضل التغيير الذي تم في تفكير الناس: «بدأ عدد متزايد من الناس يدركون أن المفهوم القديم للحياة الاجتماعية في الدولة، بوصفها صراعا محدودا ومشروعا بين الرجل والمرأة لكي يحصل كل منهما على أفضل ما عند الآخر، قد أصبح - في ظل الطاقات الجبارة التي أطلقها العلم والتنظيم ووضعاها في متناول الإنسان - أخطر من أن يحتمل، شأنه في ذلك شأن الرعب المتزايد من الأسلحة الحديثة الذي جعل السيادة المستقلة للأمم أخطر من أن تحتمل. وكان من الضروري أن تنشأ أفكار جديدة وتقاليد جديدة للاجتماع البشري حتى لا ينتهي التاريخ إلى الكارثة والانهيار ...
وكانت فكرة التنافس على الملكية، باعتبارها الفكرة المتحكمة في التعامل بين الناس، أشبه بفرن أسيء التحكم فيه، فأصبح يهدد بإتلاف الآلة التي دفعها في البداية على الحركة. ولذلك حتمت الظروف أن تحل محلها فكرة العمل المبدع، كما أصبح من الضروري أن يوجه العقل والإدارة نحو هذه الفكرة إذا أريد إنقاذ الحياة الاجتماعية. أضف إلى هذا أن الاقتراحات التي بدت في العصور السابقة نوعا من المثالية المتحمسة قد بدأ الاعتراف بها، لا كمجرد حقائق نفسية متزنة، بل كحقائق عملية وضرورية بشكل ملح.»
ولم يظهر المجتمع اليوتوبي بفعل ثورة مفاجئة. بل بفضل التزايد التدريجي للنور، وإشراق فجر أفكار جديدة. وبدأ التحسن البطيء للجنس البشري من الناحيتين الجسدية والعقلية، واستمر في التحسن بفضل إصلاح الظروف الاقتصادية والتقدم الملحوظ في دراسة تحسين النسل والتعليم.
وقد صدم أحد أبناء الأرض، الذي وجد نفسه فجأة في يوتوبيا، صدم بجمال الأجسام العارية لسكانها، ولكنه تأكد بعد ساعات قليلة من الحديث معهم أن تفوق أجسامهم لا يقاس بتفوق عقولهم: «وأفضل ما أبدأ به هو القول بأن عقول أطفال النور هؤلاء قد شبت بغير أن تفسدها تلك الأشكال الفظيعة من النزاع أو الخداع واللبس والجهل، التي عاقت نمو عقول أبناء الأرض. لقد كانوا (أي أبناء يوتوبيا) يتسمون بالوضوح والصراحة والمباشرة، ولم يبد عليهم أنهم عرفوا شيئا عن ذلك الموقف الدفاعي الذي يتخذه التلميذ عندما يتشكك في المعلم ويقاوم التعليم، وهو رد فعل طبيعي لعملية التعليم التي تعد نوعا من العدوان. لقد كانوا مسالمين وودودين في علاقات بعضهم ببعض، وبدا عليهم أنهم لا يعرفون شيئا عن التهكم، والمكر، والكذب، والغرور، والادعاء، التي تتسم بها أحاديث أبناء الأرض.»
كان التنظيم الاجتماعي ل «يوتوبيا حديثة» قد كشف عن ارتياب ولز في الطبيعة البشرية و«الحياة الغريزية»، ولكننا نجده في «بشر كالآلهة» يدين قمع الغرائز الحيوانية والشهوات: «لقد طورت يوتوبيا ببطء التجانس الحالي بين القانون والتعليم. لم يعد الإنسان معوقا ولا مكرها على شيء، واعترف بأنه حيوان في المقام الأول، وأن حياته اليومية ينبغي أن تشبع الشهوات وتلبي حاجة الغرائز. وقد حيك النسيج اليومي للحياة اليوتوبية من مأكولات ومشروبات متنوعة ولذيذة، ومن تمرينات وأعمال حرة ومسلية، ومن نوم عذب وشغف وسعادة بالعشق المتحرر من الخوف والإرغام. وقد وصل الكف والكبح إلى الحد الأدنى. أما التعليم في يوتوبيا فقد بدأت قوته في الظهور بعد أن تم إشباع الحيوان الغريزي وتلبية مطالبه. والوقاع أن «الجوهرة» التي تزين رأس الأفعى، والتي أخرجت يوتوبيا من فوضى الحياة البشرية، كانت هي حب الاستطلاع والدافع على اللعب الذي تطور عند البالغين حتى أصبح جوعا لا يشبع للمعرفة، ورغبة مستمرة وملحة في الإبداع. وهكذا صار جميع سكان يوتوبيا كالأطفال الصغار الذين لا يتوقفون عن التعليم والإنجاز.»
ولم يعد التعليم يهدف إلى غرس الانضباط والطاعة في نفس الطفل، وإنما يهدف إلى «إشباع دوافعه الطبيعية للعب والتعليم ... ومراقبة وتشجيع النمو المطرد لخياله ... بحيث يقبل على العمل الذي يجذبه، ويختار العمل الذي يمتعه.» وليس معنى هذا أن يسمح لجميع الغرائز بأن تتبع مسارها الطبيعي، لأن ولز يوظف ما يطلق عليه المحللون النفسيون اسم «التسامي» توظيفا حرا: «إن الانفعالات الجنسية للطفل تحول في الاتجاه المضاد لأنانيته، وحب استطلاعه يستثمر في الشغف بالبحث العلمي، وميله إلى العراك يوجه نحو محاربة الفوضى، كما يوجه كبرياؤه وطموحه إلى المشاركة المشرفة في الإنجاز الجماعي من أجل المصلحة العامة.»
وقد حلت «أكثر المناهج التعليمية رهافة» محل مناهج التنظيم الفجة في «يوتوبيا حديثة».
فلا يوجد، على سبيل المثال، عقاب للعاطلين في يوتوبيا؛ لأنهم لن يجدوا من يحبهم، «إذ لا يحب أحد في يوتوبيا أولئك الذين لا يملكون الطاقة ولا التمييز.» ولا توجد هنا قوانين صارمة للزواج، فالعقود تبرم بحرية وتنهى بحرية، ولا تجبر النساء على الحمل، ولا يحملن إلا بعد تدبر واستعداد. ولا توجد في يوتوبيا أي قيود. «وينظر إلى الحب الجسدي على أنه شيء طبيعي وجميل، ويتكلم عنه الأطفال دون أي إحساس بالوعي الذاتي».
4
كذلك حل التعليم محل الحكومة في يوتوبيا: «وليس في يوتوبيا برلمان، ولا سياسة، ولا ثروات خاصة، ولا منافسة في المصالح والأعمال ولا شرطة ولا سجون، ولا مجانين أو ضعاف عقول أو معوقون، والواقع أنها خالية من كل هذا لأن فيها مدارس ومعلمين كما ينبغي أن تكون المدارس والمعلمون. إن السياسة والتجارة والمنافسة هي وسائل التوافق أو التكيف في مجتمع مطبوع على الفجاجة والفظاظة. وقد نحيت أمثال هذه الوسائل جانبا في يوتوبيا لمدة تزيد على ألف سنة. ولا يحتاج اليوتوبيون الراشدون إلى حكم ولا حكومة، لأن كل ما يحتاجون إليه من الحكم والحكومة قد حصلوا عليه في مرحلة الطفولة والشباب.
ويشب الأطفال في ضياع أو منتجعات واسعة يؤمنون فيها من الخوف والأفكار الشريرة، والصدمات التي تهز خيالهم، ويعودون على النظافة، والصدق، ومساعدة المحتاجين، والثقة في العالم، والإحساس بالانتماء للهدف العظيم للجنس البشري. وبعد سن التاسعة أو العاشرة يخرج الأطفال للعالم - إذ كان تعليمهم قبلها في أيدي الممرضات والمعلمات - ويشارك الآباء بدور أكبر في القيام على تربيتهم. وعلى الرغم من أن الآباء من الناحية العملية ليس لهم أي سلطة على أولادهم وبناتهم، فإنهم يقفون بحكم الطبيعة في صف أطفالهم ويصبحون أصدقاء لهم.
ويتعلم كل شاب يوتوبي المبادئ الخمسة للحرية. والمبدأ الأول هو مبدأ الخصوصية: «فجميع الحقائق الشخصية عن الأفراد هي سر بين المواطن والمنظمة العامة التي يأتمنها عليها، ولا تستخدم إلا لمصلحته وبعد موافقته ... ومثل هذه الحقائق تقدم للأغراض الإحصائية، ولا يجوز المساس بها كحقائق شخصية وفردية.» وتشتد ضرورة العمل بهذا المبدأ، لأن ولز يصر في «يوتوبيا حديثة» على أن يسجل كل فرد في الدليل، وأن يكون مقر إقامته على الكوكب معروفا للتنظيم اليوتوبي. ويمكن تلافي الأخطار الواضحة من احتمال تدخل الناس في حقائق الحياة الشخصية الحميمة وتزييفها بالحرص على أن تكون الخصوصية حقا مقدسا للأفراد.
والمبدأ الثاني هو مبدأ حرية الحركة: «فالمواطن الذي يحق له أن يعفى من التزاماته العامة، يمكنه أن يذهب لأي جزء من أجزاء الكوكب اليوتوبي دون تصريح أو تفسير، وجميع وسائل النقل تحت تصرفه بالمجان. وفي استطاعة كل يوتوبي أن يغير البيئة المحيطة به، والمناخ والجو الاجتماعي كما يشاء.»
والمبدأ الثالث هو مبدأ المعرفة غير المحدودة: «فكل ما هو معروف في يوتوبيا - باستثناء الحقائق الفردية والشخصية عن الأحياء - مسجل ومتاح بواسطة مجموعة كاملة من الأدلة، والمكتبات والمتاحف، ومكاتب الاستعلام.»
والمبدأ الرابع عن الحرية هو «الكذب هو أشنع الجرائم»؛ والإدلاء بوقائع غير صحيحة أو حتى إخفاء واقعة مادية يعتبر من الأكاذيب المشينة في يوتوبيا.
والمبدأ الخامس هو مبدأ حرية المناقشة والنقد، فكل يوتوبي حر في نقد ومناقشة أي شيء في الكون بأسره شريطة ألا يكذب، ويمكنه أن يسيء الاحترام كما يريد، ويقترح أي شيء مهما كان مخلا بالنظام والأمن.
وعلى الرغم من أن ولز يضحي بالكثير من مفاهيمه «البرجوازية» في كتابه «بشر كالآلهة»، إلا أنه لم يتبن أي نظام شيوعي. فالنقود في شكل عملات معدنية أو ورقية لم تعد تستعمل، لأن جميع المعاملات تتم عن طريق البنوك. ويتسلم كل طفل عند ميلاده من المال العام مبلغا من المال يكفي للإنفاق على تعليمه ومعيشته حتى سن الخامسة والعشرين، ولكنه يختار بعد ذلك وظيفة معينة، ويضيف من جديد إلى رصيده. أما المجتهدون والمبدعون فغالبا ما يتلقون منحا كبيرة لتنفيذ أعمالهم، ويجمع الفنانون في بعض الأحيان ثروة كبيرة إذا زاد الطلب على أعمالهم. والظاهر أن الاحتفاظ بالأجور يلعب دورا صغيرا في يوتوبيا، ويرجع هذا فيما يبدو لعدم استعداد ولز للتسليم برأي الشيوعيين من أمثال وليم موريس.
ومع ذلك يبدو أن ولز قد تنازل في أمر لا يقل عن ذلك أهمية، فهو على الرغم مما قاله من قبل في «يوتوبيا حديثة» قد وصف جنسا حكيما ومتسامحا ونبيلا كاملا، ولا يختلف اختلافا جوهريا عن جنسنا. ففي يوتوبيا كما يقول: «تم القضاء عن عمد، خلال الاثني عشر قرنا الماضية، على جميع الأنماط القبيحة، والشريرة، والضيقة الأفق، والغبية، والمكتئبة، ولكن الرجل العادي في يوتوبيا، باستثناء ما يستدعيه تحقيق إمكاناته الباطنة، لم يكن يختلف إلا اختلافا قليلا جدا عن أولئك الناس العاديين النشطين والقادرين في العصر الحجري المتأخر، أو في مجتمع العصر البرونزي المبكر. لقد كانت تغذيتهم وتدريبهم وتعليمهم أفضل بكثير وبغير حدود، وكانت أحوالهم العقلية والجسدية تتسم بالنظافة والكفاءة، ولكن كان لهم نفس الأجساد ونفس الطبيعة التي لنا.»
وتعد «بشر كالآلهة» آخر يوتوبيا في التراث «الكلاسيكي»، وقد يتساءل المرء عما إذا كان ولز هو آخر الكتاب اليوتوبيين. غير أننا نستطيع أن نقول، من جهة أخرى، إن الاهتمام بالأدب اليوتوبي لا يزال في الواقع بعيدا كل البعد عن الاختفاء. فقد خصص لويس ممفورد دراسة شاملة عن «قصة اليوتوبيات»، جمع فيها بين التحليل النقدي وبعض الاقتراحات المهمة من جانبه.
وقدمت واستقصت إيثيل مانين
Ethel Mannin
بعده بقليل، في كتابها «خبز وورد»، استقصت المفاهيم المختلفة لليوتوبيات كما أعطتنا رؤية ليوتوبياها الخاصة. واستمر هؤلاء الكتاب يؤكدون إرادة اليوتوبيا، ويرددون صدى عبارة أوسكار وايلد الشهيرة: «إن خريطة العالم التي لا تتضمن اليوتوبيا لا تستحق حتى إلقاء النظر عليها؛ لأنها البلد الوحيد الذي تهبط عليه سفن البشرية دائما. وعندما ترسو البشرية هناك، فإنها تتطلع للأفق، وإذا لمحت بلدا أفضل، بدأت الإبحار من جديد، فالتقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع.» ومع ذلك فإن الاتجاه المتزايد للأدب الحديث قد أصبح مضادا لليوتوبيا. ولم يعد ينظر لليوتوبيا كحلم مثالي ومستحيل، لكن باعتبار أنها قد تحققت بالفعل أو في طريقها إلى التحقق، ولم تعد كذلك تنطق بالسعادة، والكمال، والتقدم، لأن الحلم قد تحول في نظر الكثيرين إلى كابوس مروع.
ويبدو أن نبوءة نيقولا برديائيف
5
كادت أن تصبح حقيقة، فقد قال: «يبدو أن اليوتوبيات صارت أكثر قابلية للتحقق مما كانت عليه في الماضي. ونحن نجد أنفسنا في مواجهة مشكلة مثيرة للحزن: كيف يمكننا أن نحول دون تحققها النهائي؟ ... ومن الممكن أن تتحقق اليوتوبيات، والحياة تتقدم نحو اليوتوبيا. وربما يكون قرن جديد قد بدأ، قرن يحلم فيه المثقفون والطبقات المستنيرة بالوسائل الكفيلة بتجنب اليوتوبيات والعودة إلى مجتمع غير يوتوبي أقل كمالا وأكثر حرية.»
ربما يكون من عدم الإنصاف أن نقول إن القرن العشرين يعيش يوتوبيات الماضي، فالعالم الذي خاض غمار حربين فظيعتين خلال فترة من الزمن لا تزيد على الثلاثين عاما، العالم الذي خربته الأوبئة والمجاعات، تصعب المقارنة بينه وبين اليوتوبيات التي ادعت أنها ألغت الفقر والبطالة، بل أقامت حكومة عالمية ستضع نهاية للحروب. ومع ذلك يصح أن نقول إن بنية المجتمعات التي دعت إليها يوتوبيات الماضي قد أصبحت - إلى حد كبير - حقيقة واقعة، ولما كانت النتائج التي أسفرت عنها تحمل شبها ضعيفا بالنتائج التي أوحت إلينا بأن نتوقعها، فقد يكون هناك ما يبرر القول بأن البنية نفسها فاسدة. لقد أخفق القرن العشرون إخفاقا ذريعا عندما حاول تحقيق الخطط اليوتوبية للماضي، أوجد دولا جبارة تتحكم في وسائل الإنتاج والتوزيع، ولكنها لم تقض على الجوع، دولا شجعت الاكتشافات العلمية وطورت الإنتاج، ولكنها فشلت في أن توفر للمواطن مستوى لائقا للحياة، وزعمت أنها حققت المساواة الكاملة، ولكنها خلقت بدلا من ذلك طبقات جديدة مميزة وألوانا من عدم المساواة ربما تكون أفظع مما سبقها، دولا حولت الناس إلى «ربوتات» خاضعة للآلات التي تقوم على خدمتها، وجعلتهم وحوشا بتأثير الدعاية، دولا أوجدت الظروف التي ينظر فيها إلى كل فكر فردي على أنه جريمة، ويتوقف فيها الأدب والموسيقى والفن عن أن تكون تعبيرا عن الفرد، وتتحول بدلا من ذلك إلى نفاق للنظام الذي حلت فيه العبودية للدولة وآلهتها الجديدة محل الديانة القديمة.
هل خانت هذه اليوتوبيات بالفعل روح أولئك الذين تصوروها؟ إن هؤلاء الكتاب قد عشقوا السلطة، كانوا مقتنعين بضرورة إبلاغ «الشعب» بما هو في مصلحته، أرادوا النظام بأي ثمن، حتى لو كان هو البيروقراطية، كرهوا الفردية، وكانت عقولهم ضيقة الأفق «غير إنسانية». ويمكننا أن نتخيل «كابيه» وهو يصحب بياتريس وسيدني ويب
Beatrice and Sidney Webb
في رحلتهما إلى بلاد السوفييت، ومن المرجح أن تقريره كان سيفيض بالحماس مثل تقريرهما. ويشعر الإنسان بأن بيلامي كان من الممكن أن تفتنه مظاهر الفاشية الإيطالية والنازية الألمانية، وأنه كان سيعجب أشد الإعجاب بالسخرة الصناعية في بريطانيا، وتأميم الصناعة، ونظام البطاقات التموينية وغيرها من التطورات الحديثة.
ولكن هذه اليوتوبيات لم ينظر إليها دائما بعيون ورثة الكتاب اليوتوبيين في القرن التاسع عشر، ونقصد بها الفابيين
6
أو العقائديين الشيوعيين. لقد نظر إليها أحيانا بعيون الصحفيين الباحثين عن الحقائق، الذين كتبوا التقارير عن مهمتهم في يوتوبيا، أو بعيون الكتاب أصحاب المواقف النقدية من القضايا الاجتماعية الذين لم يترددوا، مثل أندريه جيد، عن التعبير عن خيبة أملهم المؤلمة في البلاد التي اعتقدوا قبل ذلك أن «اليوتوبيا ستصبح فيها حقيقة واقعة». لقد أغضبت كتبهم أولئك الذين لا ينفصل حبهم للنظام عن تحيزهم للطغاة.
7
ولكنها (أي الكتب) أشاعت سوء الظن في اشتراكية الدولة التي دافع عنها اليوتوبيون في القرن التاسع عشر.
لقد كان الاتجاه الأساسي للأدب في فترة ما بين الحربين العظميين هو الشك الشديد في قدرة الدولة على تغيير المجتمع. وقد دفع قيام النظم الجديدة، سواء كانت شيوعية صريحة، أو اشتراكية غامضة، وإن كانت في الحالين شمولية وعلى استعداد للتضحية بالفرد في سبيل مصلحة الدولة ، دفع المثقفين إلى تبني موقف الخضوع الكامل للدولة مما جعلهم يتحولون إلى مجرد دعاة مأجورين، أو إلى موقف التحدي والدفاع عن الحقوق الفردية.
وقد كان هناك أيضا اتجاه آخر للتخلي عن الإيمان بحتمية التقدم. فقد اعتقد معظم كتاب القرن التاسع عشر أن الاكتشافات العلمية والتطور الصناعي سيؤديان بصورة آلية إلى زيادة سعادة الجنس البشري، ولكن الأجيال الحديثة تدرك الأخطار التي يمكن أن يأتي بها التقدم كما تدرك مزاياه. فلم يعد ينتظر من الآلات أن تقوم بتحرير البشر عندما تتحول إلى عبيد لهم، كما كان يحلم بذلك أوسكار وايلد، وإنما أصبحت تبدو في معظم الأحيان وكأنها تتحكم فيهم تحكم السادة في العبيد.
والعامل الحديث يتعرف على نفسه في شخص شارلي شابلن الذي يصارع الآلة الجهنمية ل «العصور الحديثة»،
8
بل إننا لنخاف أن يخرج حتى الإنسان الآلي المطيع للورد ليتور عن سيطرتنا، وهو خوف تم التعبير عنه عشرات الروايات، والأفلام السينمائية والمسرحيات، وكذلك في المسلسلات الهزلية من مسرحية شابيك ر. ر. ع
Capek’s R. U. R ،
9
إلى قصة أمريكية حديثة بعنوان «الأيدي المضمومة » تصف غزو الأرض من قبل حشود من الروبوتات (الإنسان الآلي) القادمين من كوكب آخر، الذين يطيعون «الموجه الرئيسي» الذي يجبرهم على تولي كل الأعمال البغيضة والمهام التي يقوم بها البشر عادة، وبذلك يصبح البشر أحرارا في الركون إلى الكسل والدعة، وإن كان اليأس والقنوط يأخذ بعد ذلك بخناقهم.
ولسنا هنا بصدد مناقشة مشكلة «الإنسان في مواجهة الآلة»، إذ تكفي الإشارة إلى أن الإيمان بالآلة كعامل أساسي في تحقيق السعادة البشرية - وهو الإيمان الذي يقوم بدور مهم في يوتوبيات القرن التاسع عشر - قد حل محله الشك في الآلة إلى حد الخوف منها، كما سلب هذه اليوتوبيات جانبا كبيرا من سحرها.
وقد وجه الكتاب المحدثون ضربة أخرى للأدب اليوتوبي بإصرارهم على مناقشة مشكلة «الإنسان في مواجهة الدولة». فقد افترضت أغلبية اليوتوبيات أن مصالح الفرد تتوافق مع مصالح الدولة، وأن الصراع بينهما شيء مستبعد ولا يمكن تصوره، بينما تناول الكتاب المحدثون، على العكس من ذلك كل أنواع الصراعات الممكنة بين الدولة والفرد ... قد يكون هذا الفرد واحدا من آل كافوني
Cafoni
الذين وصفهم الروائي الإيطالي إجنازيو سيلونه
Ignazio Silone ، أو واحدا من الفلاحين الجائعين والمصابين بالملاريا الذين صورهم الأديب الإيطالي كارلوليفي
Carlo Levi
في جنوب إيطاليا، وقد يكون شاعرا يفضل الانتحار على أن يصبح شحما لتزييت آلة الدعاية، أو يكون الجندي شفايك،
10
وربما يكون ثوريا قديما أجبر على خيانة مثله العليا، أو موظفا مدنيا أو جنديا في فرق العاصفة، أو واحدا من شخصيات كافكا (1883-1924م) التي تصارع السلطة، وتواجه الغباء الأعمى للقانون والبيروقراطية. ولقد شعرنا جميعا، في وقت أو آخر، بنفس شعور «ك» - بطل رواية كافكا «المحاكمة» - بالضياع، والعجز الكامل عن فهم الآلة الضخمة التي توجه حياتنا وكثيرا ما تهيمن عليها. ولم يكن نقد كافكا للمجتمع موجها لأي دولة بعينها، ولكن الصراعات التي عاناها «ك» هي نفسها صراعات أي إنسان حديث.
لقد تناسى اليوتوبيون أن المجتمع كائن عضوي حي، وأن تنظيمه يجب أن يكون تعبيرا عن الحياة لا بناء ميتا. وقد دفع الوعي بهذه الحقيقة الكتاب المعاصرين إلى مهاجمة الدولة وكل أشكال السلطة، سواء كانت نابعة من الدين أو من الأحزاب السياسية، كما حفزتهم على الرجوع إلى نموذج التجمعات المستقلة التي يوحد بينها نظام فيدرالي حر، وتتيح أعظم الفرص الممكنة لتطور شخصية الإنسان. وقد أكدوا من جديد الحاجة إلى إيجاد أخلاق حقيقية لا تعلم في المدارس من كتب التعليمات المحفوظة، ولا تقوم على طاعة السلطة، ولا تبرر التضحيات والحلول الوسط «لمصلحة المجتمع»، بل تعزز حق الفرد في أن يفكر لنفسه ويدافع عن حريته، لأن الإنسان الذي يفتقر إلى الحرية لا يستحق أن يكون عضوا في الجماعة، وإذا هو ضحى بفرديته، وبروح المبادرة والتمرد، فقد أضر بالدولة بدلا من أن ينفعها.
وهذه الفقرة من كتاب سيلونه
Silone «مدرسة الطغاة» - على الرغم من أنها موجهة ضد مؤسسات فعلية - تشبه أن تكون نوعا من الإدانة لليوتوبيات التسلطية: «إن الآلات تستعبد الإنسان، وكان ينبغي أن تكون أدوات في يده، والدولة تستعبد المجتمع، والبيروقراطية تستعبد الدولة، والكنيسة تستعبد الدين، والبرلمان يستعبد الديمقراطية، والمؤسسات تستعبد العدالة، والأكاديمية تستعبد الفن، والجيش يستعبد الأمة، والحزب يستعبد القضية، وديكتاتورية البروليتاريا تستعبد الاشتراكية.»
ويقول هربرت ريد، بشكل أكثر قوة وإقناعا: «أعتقد أن الفكرة الوحيدة عن المجتمع التي يمكنها أن تضمن تكامل الشخص الإنساني، هي نفي فكرة المجتمع. فكل تقدم في اتجاه الجماعة يجب أن يقابله تأكيد لحرية الفرد. وكل قانون يجب أن يسمح بالخروج عليه. وأعظم سلطة ممكنة يجب أن تكون من حق أكثر الناس تواضعا. وكل عمل حكومي يجب أن يتضمن حدود صلاحيته كما يتضمن عدم دوام المنصب أو الوظيفة. وينبغي أن تكون استمرارية الحياة شيئا غير مرئي مثل اتجاه الريح. لا طبول تقرع، ولا أعلام ترفرف، لا تحيات ولا انحناءات، لا جيوش زاحفة في الاستعراضات ولا جوقات منشدة، بل شيء واحد فقط هو الصوت الوديع الهادئ وقمح الشرق.»
إن السياسيين ورجال الدولة يقربوننا كل يوم من تحقيق اليوتوبيات في الواقع، وذلك بإحكام رقابتهم على حياة الأفراد. صحيح أن الحكومة في هذا البلد (أي إنجلترا) لم تذهب إلى حد إصدار قائمة بالأطعمة التي ينبغي أن يتناولها الشعب أو التي لا ينبغي عليه تناولها، كما حدث في إيكاريا، ولكنها مع ذلك تحدد بدرجة كبيرة - عن طريق تنظيم الحصص التموينية والتحكم في الواردات - ما ينبغي علينا أن نأكله، وقد حددت أيضا في أثناء الحرب «الموضات» النسائية على أسس نفعية لا جمالية، بل بلغ بها الأمر أن غيرت ملابس الرجال، وعن طريق التحكم في الورق مارست رقابة على المطبوعات، أما عن التعبئة الصناعية، فبالرغم من الثغرات الكثيرة التي تزيد على ما كان يسمح به على اليوتوبيات، فإنها تلزم كل مواطن بالعمل. والتأمينات الاجتماعية تمثل جانبا آخر من تطبيق المبدأ الأثير عند كل اليوتوبيات، وهو أن المجتمع مسئول عن المريض والمتقدم في السن والعاطل والطفل، وإن كانت هذه التأمينات قد خفضت إلى حد هزيل لكي تتماشى مع مشروع بيفريدج.
11
وفي مجال الصناعة والبحث العلمي وصل مجتمعنا إلى المستوى الذي بشرت به اليوتوبيات، وجاوزه في كثير من الأحيان. ولما كان ينطبع شيئا فشيئا بطابع يوتوبي متزايد، فإن نبوءة «برديائيف» قد أوشكت أن تصبح حقيقة: «إن المثقفين يحلمون بتجنب تحقيق اليوتوبيات في الواقع، والعودة إلى مجتمع أقل كمالا وأكثر حرية».
والكتاب الذين اقتبسنا بعض عباراتهم ليسوا هم وحدهم المكافحين من أجل عالم مضاد لليوتوبيا، ففي فرنسا نجد جان بول سارتر وأندريه بريتون وألبير كامو، وفي أمريكا هنري ميلر وعشرات من الشعراء والكتاب الشبان والكتاب الكاثوليكيين مثل إريك جيل وجورج برنانوس، وعلماء الاجتماع والبيولوجيا مثل لويس ممفورد وباتريك جيريس، وروائيين مثل أ. م. فورستر، وركس وارنر وجراهام جرين، كل هؤلاء خاضوا معركة الفرد ضد الدولة. وقد ذهب البعض إلى حد وضع يوتوبيات نقدية ساخرة، ورؤى لعالم مستقبلي فقد فيه الإنسان تماما الإحساس بتفرده، ومجتمعات كاملة أصبح فيها الناس آلات على مستوى عال من الكفاءة، ولكنهم عاجزون عن تجربة أي عاطفة قوية. وقد يكون من الصعب تقدير مدى توجه هذه اليوتوبيات المضادة للهجوم على يوتوبيات الماضي، أو على الاتجاهات والمؤسسات الفعلية في مجتمعنا الحديث. ولكن من الواضح أن رواية «نحن الآخرون» لزامياتين،
12
التي ظهرت في روسيا في نهاية العشرينيات، قد استوحت النظام السوفييتي بشكل صريح، كما أن رواية «عالم طريف شجاع» لأولدس هكسلي
13 (1894-1963م)، التي نشرت لأول مرة عام 1932م، وتشبه رواية زامياتين من نواح عديدة، تهدف إلى السخرية من المجتمع الأمريكي الحديث. أما رواية «مزرعة الحيوانات» لجورج أورول
14 (1945م) فلا يمكن أن تعتبر يوتوبيا ساخرة، إلا في نظر الذين لم يتابعوا تاريخ روسيا خلال الثلاثين عاما الماضية.
وتعد اليوتوبيا المضادة لزامياتين رؤية مستقبلية. فهو يصف المجتمع الذي يفترض وجوده بعد مرور ألف عام على إقامة الدولة الوحيدة التي تحكم العالم بأسره، وعشية الاستعداد لغزو الكون كله بفضل آلة مرعبة يمكن أن تنطلق إلى الكواكب الأخرى. والحياة في الدولة الوحيدة منظمة بدقة رياضية، وكل شيء فيها قد تحول إلى معادلات رياضية، والرجال والنساء جميعا يعلقون لوحا ذهبيا لافتا للأنظار يحمل أرقامهم: «لا يوجد في المجتمع عضو «واحد»، بل واحد بين كثيرين»، أو «واحد من ...» لأننا متشابهون إلى حد كبير. والدولة يحكمها «فاعل الخير»، يعتبر وكلاؤه أو «حراسه» ملائكة حارسين، فهم مطلعون على كل حركة بل وكل فكرة تدور في رأس أي مواطن، لأنهم يضطلعون في نفس الوقت بدور الكاهن الذي يتلقى الاعتراف ودور الجاسوس ودور مخبر البوليس.
وقد حل جدول المواعيد محل الأيقونة التي تعلق في كل غرفة، فالعمل، والأكل، والنوم، والمعاشرة الجنسية قد نظمت كلها تنظيما صارما في جدول المواعيد. وهناك ساعة مركبة في ظهر اللوح الذهبي الذي يحمله كل مواطن، وتكاد هذه الساعة أن تكون مدمجة في جهازه العضوي، حتى ليمكنه أن يقدر الوقت في بضع دقائق، مهما كان واقعا تحت ضغط الانفعالات الطاغية. ولا يوجد شيء مما يسمى بالحياة الخاصة للفرد، فلا يقتصر الأمر على فتح بريده قبل وصوله إليه، أو على إلزامه بأن يقدم للحراس تقريرا عن أي شيء غير عادي، بل هناك جهاز سمعي، يتم إخفاؤه بطريقة بارعة، ويسجل لحساب مكتب الحراس جميع الأحاديث التي تجري في الشارع. وقد تم كذلك تبسيط مهمة الحراس إلى حد كبير، إذ بنيت البيوت من حوائط زجاجية لتمكنهم من أن يروا بنظرة واحدة ما يجري في كل شقة سكنية. ويسمح بإنزال الستائر في الساعة المحددة للمعاشرة الجنسية فقط: «وليس من حقنا استخدام الستائر إلا في الأيام المحددة للمعاشرة الجنسية. أما في الأوقات الأخرى فنحن نعيش دائما عيشة مفتوحة داخل حوائطنا الشفافة، التي تبدو كأنها منسوجة من الهواء المتلألئ بالضوء، ونستحم في النور، لأننا لا نملك شيئا نخفيه، ولأن هذا الأسلوب في الحياة يقلل من إرهاق المهمة الصعبة ل «فاعل الخير». وإلا فمن يدري ماذا يمكن أن يحدث؟ أليس من المحتمل أن البيوت المعتمة التي كان يعيش فيها الناس في العصور القديمة هي المسئولة عن أحوالهم النفسية البائسة المهترئة؟»
وتتم الحياة الجنسية وفق مبادئ علمية. فالمكتب الجنسي يحلل هرمونات كل مواطن وينظم جدول الأيام المخصصة للجنس. ويعلن الشخص بعد ذلك أنه - أو أنها - يريد ممارسة الجنس عددا معينا من المرات، ويسلم له - أو لها - كتيبا به تذاكر وردية اللون، تسمح كل تذكرة منها بساعة واحدة للمعاشرة الجنسية. وهذه التذكرة الوردية يمكن استخدامها لأي عدد، لأن المبدأ المعمول به هو أن الواحد للجميع والجميع للواحد. ولا يسمح للنساء بإنجاب الأطفال إلا إذا توافرت فيهن مستويات معينة، وإن لم يطعن التعليمات يحكم عليهن بالموت.
والمثل الأعلى في مجتمع المستقبل هذا هو أن يصبح المرء «كاملا» مثل «الآلة». ونظام تايلور
Taylor
لا يطبق على العمل فحسب، بل على الحياة كلها، على كل خطوة، وكل حركة ويأكل الناس طعاما صناعيا، ويرتدون زيا صناعيا موحدا، ويتعلمون في المدارس بواسطة الروبوتات (الإنسان الآلي) ويستمعون إلى موسيقى صناعية صادرة عن جهاز قياس موسيقي بحيث يستطيع أي فرد بواسطة إدارة المحول أن يستمع إلى ثلاث إرنينات (سوناتات) في الساعة الواحدة. ولا يزال إجراء الانتخابات قائما، ولكننا نستنتج من سياق القصة أن «فاعل الخير» يحصل دائما على نسبة مائة في المائة من الأصوات، كما يطلق على اليوم الذي يقام فيه الانتخاب اسم ملائم هو «يوم الإجماع». ولا تعتبر الحرية غير ضرورية فحسب، بل تعد خطرة: «إن الحرية والجريمة مرتبطان ارتباطا وثيقا، كارتباط حركة الطائرة بسرعتها. فإذا كانت سرعة الطائرة صفرا. فإنها تظل في حالة سكون، وإذا كانت حرية الإنسان صفرا، فمن الواضح أنه لن يرتكب أي جريمة على الإطلاق. إن الوسيلة الوحيدة لتحرير الإنسان من الجريمة هي تحريره من الحرية.»
وعلى الرغم من مرور ألف عام على تأسيس الدولة الوحيدة، فهناك متمردون ضد النظام، رجال يكسرون القواعد أو يصرحون بأفكار ضالة، ونساء يرغبن في أن يكون لهن أطفال، رغم أنهن لا يوفين بالشروط المطلوبة، ولكن الدولة لا تأخذها أي شفقة بأمثال هذه الانحرافات وإذا لم يعترف أصحابها بجرائمهم فإنهم يوضعون تحت نواقيس ضخمة تفرغ أحيانا من الهواء وتملأ أحيانا أخرى بغازات خاصة. ويؤدي هذا إما إلى الاعتراف وإما إلى الموت. وتنفذ أحكام إعدام أخرى أكثر إثارة بشكل علني عن طريق آلة «فاعل الخير»، وهي كرسي كهربائي مهول يقلص الجسد البشري إلى بضع قطرات قليلة من الماء في ثوان معدودة. ويشغل هذه الآلة «فاعل الخير» نفسه الذي يقوم بدور الجلاد.
ومن أغرب معالم هذه الدولة الوحيدة أن كل مدينة محاطة بسور ولا يسمح لأحد بالخروج منه.
وفي الأرض المحرمة التي تفصل المدن المختلفة بعضها عن بعض يعيش رجال ونساء يبدو أنهم ينتمون إلى جنس مختلف، أو أنهم بقايا الحضارة القديمة. وهم الذين بقوا أحياء بعد انقراض الحياة الحرة الفطرية، كما أن لهم حلفاء يعيشون داخل أسوار المدينة، وهم رجال ونساء يتملكهم الحنين إلى الماضي، والرغبة في تجربة الأخطار، والعذاب، وجيشان الأحاسيس. وعندما يحاول هؤلاء أن يتمردوا، فإن الدولة تطبق عليهم نوعا من العلاج الطويل الأمد، وهو التدير الإجباري للخيال، وذلك عن طريق عملية بسيطة في المخ تستأصل منه للأبد أي توق للحرية، وأي رغبة غير مشبع، وأي شك أو ندم.
وتتسم سخرية زامياتين بقدر من العنف والمرارة اللذين لا نجد لهما أثرا في عالم هكسلي الشجاع الطريف، الأمر الذي يرجح القول بأنها تزيد على كونها مجرد رؤية أو توقع أكاديمي. فالدور الذي يؤديه البوليس، ووسائل التعذيب والإعدام، والجو الخانق للمخبرين الرسميين وغير الرسميين، كل هذا قد تم وضعه بطريقة توحي بأنها مستمدة من معرفة حميمة. وعلى الرغم من أن الكتاب ينتهي بالانتصار الكامل للدولة الوحيدة، التي تنجح في تدمير خيال جميع مواطنيها، فإن اللجوء إلى هذا الإجراء العنيف يكشف عن ضعف الحكم الشمولي. لم تنجح ألف سنة من الدعاية في تحويل الناس إلى آلات محضة، ولهذا كانت عملية المخ ضرورية لتحقيق هذا الغرض.
وقد استتب الأمن والاستقرار في «عالم طريف شجاع» لأولدس هكسلي بوسائل أفظع من الوسائل التي ذكرناها، فهناك أولا عملية التخليق الصناعي للرضع في الزجاجات، ثم هناك التكييف الشرطي عن طريق الهيبنوبايديا
Hypnopaedia ، أي تلقين التعاليم الأخلاقية أثناء النوم، والتشريط البافلوفي الجديد للأفعال المنعكسة لدى الأطفال، واستخدام السوما
Soma
مع الكبار، وهو الدواء العجيب الذي يشفي من كل أمراض السخط، وسوء المزاج، والاستياء أو المرارة. والنتيجة المترتبة على هذا هي أن وسائل التصحيح والتقويم يمكن أن تكون أكثر اعتدالا مما هي في دولة زامياتين الوحيدة، فليس هناك أدوات تعذيب أو جلادون، والمذنبون في حق الدولة يرسلون إلى جزيرة نائية حيث يعيشون حياة كئيبة، ويقمع المتمردون باستنشاق غاز السوما وتسجيل أحاديث «البيب».
لقد طال ما أقامت اليوتوبيات جداول زمنية صارمة لسكانها، بل ووضعت خططا لأوقات فراغهم. ففي «عالم طريف شجاع» نجد أن الإنسان، من الناحية النظرية، حر في استغلال وقت فراغه فيما يتصور أنه مناسب له، ولكنه - بسبب «تكييفه» - غير قادر على الانفراد بنفسه أو السعي بمحض إرادته وراء متعته الخاصة. ولهذا يتم الاستمتاع بكل الملذات بشكل سلبي. وحتى الجهد المطلوب من الخيال للاستمتاع بمشهد حب على الشاشة يصبح جهدا غير ضروري، لأن الصورة المرئية تتحول بشكل آلي، من خلال جهاز معين، إلى إحساسات ملموسة ومسموعة ومشمومة.
وطبيعي أن يختفي الحب من مجتمع يعتبر العواطف القوية خطرا على استقرار الدولة، وأن تحل محله علاقات جنسية غير شرعية، تتم لاعتبارات صحية أو لمجرد التسلية الخالصة من أي انفعال عنيف.
ومع ذلك فإن نظام «التكييف» العجيب نفسه لا ينجح دائما بصورة كاملة، فهناك عدد قليل من الساخطين على المجتمع، وشخص نادر يريد أن يشعر بذاتيته ويحس بهويته وبأنه ليس مجرد خلية في جسم المجتمع. وهناك أيضا الهمجي الذي هرب بالمصادفة من بين صفوف الباقين على قيد الحياة من أبناء الحضارة القديمة الذين احتفظ بهم خدمة للعلم. والهمجي يشبه بطبيعة الحال الإنسان الحديث المتمدن، ولديه رغبة طبيعية في المعاناة، وإيمان قوي بالإحباط الذي جلبه على نفسه، واحتقار للجسد يدفعه في النهاية إلى الانتحار.
لقد نجح كل زامياتين وهكسلي نجاحا رائعا في سخريتهما من السعادة الإجبارية التي تفرضها الدول الشمولية، ولكنهما بدلا من أن يطالبا بحق الإنسان في السعادة الحرة التي يمكن أن تأتي من تعبيره عن شخصيته، نجدهما يطالبان بحقه في المعاناة. وتكمن تحت انتقاداتهما لليوتوبيا فكرة أن المعاناة والإحباط ضروريان للإبداع، وأن الروح تحتاج إلى أن تعذب. وهما يتمنيان العودة إلى الماضي، أو إلى الحاضر، حيث يؤمن الناس بفكرة التكفير، وينظر إلى الحب الجسدي على أنه خطيئة، وتعمل الغيرة والطموح وغيرهما من الانفعالات الوضيعة على حث الناس على الفعل.
إن هذين الكاتبين ينتقدان اليوتوبيا، لأنها لا تتسع لهاملت أو عطيل، متناسيين أن هناك مكانا، بين هاملت والإنسان الآلي، للفرد الذي لا يحب أن يكون له مزاج هاملت العصابي، ولا يريد أن يكون إنسانا آليا.
إن اليوتوبيات التسلطية للقرن التاسع عشر هي المسئولة بشكل أساسي عن الاتجاه اليوتوبي المضاد الذي يغلب اليوم على المثقفين. ولكن اليوتوبيات لم تصف دائما مجتمعات شديدة التنظيم والانضباط، ودولا مركزية وأمما مكونة من روبوتات. لقد قدم لنا ديدرو في «تاهيتي»، وموريس في «أخبار من لا مكان»، يوتوبيات يعيش فيها الناس أحرارا من القهر الجسدي والأخلاقي، حيث لا يعملون من منطلق الضرورة أو الإحساس بالواجب، بل لأنهم وجدوا أن العمل نشاط ممتع، وحيث لا يعرف الحب قوانين تتحكم فيه، ويكون كل إنسان فنانا. لقد كانت اليوتوبيات في أكثر الأحيان خططا ومشروعات لمجتمعات تعمل بشكل آلي، وبناءات ميتة تصورها اقتصاديون وسياسيون وأخلاقيون ، ولكنها كانت كذلك الأحلام الحية للشعراء. (لندن: يناير-يوليو 1948م) (1) يوتوبيا عامل شريد:
15 «جبال كاندي الصخرية العظيمة»
ذات مساء بعد أن مالت الشمس للمغيب
وكانت النار تشتعل في الغابة كالحريق،
جاء «الهوبو» هابطا الدرب الوعر، وقال لأصحابه:
يا أولاد، أنا لن أرجع أبدا، يا أولاد،
فأنا الآن أغادركم متجها للبلد النائي
الواقع بجوار النافورات البللورية،
هيا يا أولاد، تعالوا نذهب لنراها،
هيا لجبال كاندي الصخرية العظيمة. •••
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة،
بلد طيب يتألق بالجمال،
تنمو فيه الصدقات على الأشجار،
وتشبعون كل ليلة من النوم الطويل،
هناك تسير عربات الشرطة فارغة،
وتسطع الشمس المشرقة كل يوم
على أسراب الطيور والنحل وأشجار الدخان،
وتتدفق الينابيع بعصير الليمون ويشدو العصفور الأزرق بالغناء،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة. •••
في جبال كاندي الصخرية العظيمة
جميع رجال الشرطة يمشون على أرجل خشبية،
وجميع الكلاب الضخمة أسنانها من المطاط،
والدجاجات تبيض بيضات مسلوقات .
وأشجار المزارعين مثقلة بالثمار،
والمخازن مكدسة بالأعلاف.
آه! لا بد أن أذهب إلى حيث لا تتساقط الثلوج،
ولا تسيل الأمطار ولا تهب الرياح،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة. •••
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة،
لا تغير أبدا جواربك القصيرة،
كما أن جداول الخمر الصغيرة
تنساب إليك من فوق الصخور.
هناك يميل الحراس قبعاتهم (فوق العيون)
والمخبرون في السكك الحديدية عميان لا يبصرون
هناك بحيرة مملوءة بالطبيخ، والويسكي أيضا هناك،
وتستطيع أن تجدف فيها وأنت في قارب كبير،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة. •••
في جبال كاندي الصخرية العظيمة،
جميع السجون مصنوعة من الصفيح،
وكلما جروك إليها وفيها حبسوك،
تستطيع أن تنفذ منها من جديد،
هناك لا توجد جواريف بأيد قصار
ولا فئوس أو مناجل أو مناشير،
سأقيم هناك حيث أنام طوال النهار،
وحيث شنقوا الغبي الذي اخترع الكدح والشقاء،
هناك في جبال كاندي الصخرية العظيمة.
هوامش
ببليوغرافيا
Kaufmann, Moritz:
Utopias: or, Schemes of Social Improvement, from Sir Thomas More to Karl Marx,
London, 1879.
Nettlau, Max:
Bibliographie de L’Anarchie, (Utopies Libertaires), Paris, 1897.
Hoffding, Harald:
A History of Modern Philosophy,
translated by B. E. Meyer, London, 1900.
Kropotkin, Peter:
The Conquest of Bread,
Introduction to 1913 Edition, London.
Mutual Aid, A Factor of Evolution,
London, 1902.
Burckhardt, Jacob:
The civilisation of the Renaissance in Italy,
London, 1904.
Gide, Charles:
Communist and Co-operative Colonies,
London, 1930.
A History of Economy Doctrines,
London, 1917.
Mumford, Lewis:
The Story of Utopias,
New York, 1922.
Hertzler, Joyce Oramel:
The History of Utopian Thought,
London, 1923.
Rocker, Rudolf:
Nationalism and Culture,
U.S.A., 1937.
Read, Herbert:
Anarchism,
London, 1938.
A Coat of Many Colours,
London, 1945.
Mannin, Ethel:
Braed and Roses, an Utopian Survey and Blue-Print,
London, 1944.
Gray, Alexander:
The Socialist Tradition, Moses to Lenin,
London 1946.
Thompson, David:
The Babeuf Plot, The Making of a Republican Legend,
London, 1947.
Chapter I: UTOPIAS OF ANTIQUITY
The Republic,
translated by A. D. Lindsay. Everyman edition, London, 1935.
The Dialogues of Plato,
translated into English by Benjamin Jowett, 5 vols., Oxford, 1875.
Dickinson, G. Lowes:
Dialogues,
London, 1931.
Aristophanes:
The Clouds
and the
Ecclesiazusae,
translated by B. B. Rogers, London, 1852 and 1915.
The Archians, The Knights and The Birds,
A metrical version with an occasional comment by John Hookham Frere, with an introduction by Henry Morley, London, 1886.
Zeno: Fragment from
the Republic,
in Diogenes Laertius’
Life of Zeno,
Loeb Edition, Vol. 2, London, 1924.
Life of Lycurgus,
in
Ideal Commonwealths,
editied by Henry Morley, London, 1885.
Strabo:
Geography,
Crete, Book 10, Sect. 4.
Diodorus Siculus, Loeb Edition, Vol. 3, Books 2 and 5, London, 1939.
Aristotle:
translated by William Ellis, Everyman edition, London, 1912.
Chapter II: UTOPIAS OF THE RENAISSANCE
Saint Brendan:
St Brandan: a medieval legend of the sea,
London, 1844.
The Anglo-Norman voyage of St Brendon
by Benedeit, Oxford, 1928.
St Thomas Aquinas:
De Regimine
translated by Gerald B. Phelan, New York.
More, Thomas:
Libellus vere Aureus nec minus salutaris quam festivus de oplimo reip. statu deque nova Insula Vtopia,
Louvain, 1516.
Utopia: or, the best state of a republic weal,
first English translation by Ralph Robynson, 1551.
Sir Thomas More’s Utopia, in Ideal commonwealths,
edited with an introduction by Henry Morley, London, 1885.
More’s Utopia,
translated into Modern English by G. C. Richards, Oxford, 1923.
Dermenghem, Emile:
Thomas Morus et les Utopistes de la Renaissance,
1927.
Donner, H. W.:
Introduction to Utopia,
Stockholm and London, 1945.
Erasmus, Desiderius:
Moriae Encomiwn,
1511.
The Praise of Folly,
translated by John Wilson, 1668, edited with an introduction by Mrs P. S. Allen, Oxford, 1913.
The Epistles of Eramsus, from his earliest letters to his 51st year,
translated by F. M. Nichols, London, 1901-18.
Morgan, Arthur E.:
Nowhere is Somewhere,
North Carolina, 1948.
Bodin, Jean:
Les six livres de la Republique
de Jean Bodin Angeuin, Lyon, 1557. Latin translation: Io Bodini ...
De Republica Libri sex,
latine ab autore redditi, multo quam antca locupletiores, etc., 1586.
The Six Bookes of a commonweale,
Out of the French and Latine copies, done into English by Richard knolles, London, 1606.
Chauviré, R.:
Jean Bodin, auteur de la Republique,
1914.
Lavic, J. C. de:
Abrégé de la République de Bodin,
London, 1755.
Campanella, Tommaso:
Civitas Solis
Frankfurt, 1623. First English translation, with a few omissions, by Thomas W. Halliday, in
Ideal Commonwealths,
edited by Henry Morley, London, 1885. Quotations in this volume have been translated from
La Cillà del Sole,
Edita per la prima volta nel testo originale, con introduzione e documenti, da Edmondo Solmi. Modena, 1904.
Le Piu belle pagine di Tommaso Campanella,
scelte da Corrado Alvano, Milano, 1935.
Dentice di Accadia, C.:
Tommaso Campanella, with a bibliography and a portrait,
Italy, 1921.
Amabile, L.:
Fra Tommaso Campanella, la sua congiura, i suoi processi e la sua pazzia,
1882.
Andreae, Johann Valentin:
Reipublicae Christianopolitanae Descriptio,
1619. Frist English translation:
Christianopolis, An Ideal Stale of the seventeenth Century,
translated from the Latin of Johann Valentin Andreae, with an historical introduction by Felix Emil Held, New York, 1916.
Bacon, Francis:
New Atlantis,
first published by William Rawley, in the same volume with
sylva sylvarum: or a Naturall Historie,
London, 1627. A Latin version of the
New Atlantis
was published by Rawley in 1638. Edition in Modern English, in the third volume of the standard edition of Bacon’s works edited by R. L. Ellis, J. Spedding & D. D. Health, 1857-74.
Bacon’s New Atlantis, in Ideal Commonwealths
edited by Henry Morley, 1885.
New Atlantis,
by Francis Bacon, Lord Verulam, Viscount St Albans, edited with introduction and notes by Alfred B. Gough, Oxford, 1924.
Hartlib, Samuel:
A Description of the famous Kingdom of Macaria: Showing its excellent Government, wherein the Inhabitants live in great Prosperity, Health and Happiness: the King obeyed, the Nobles honoured, and all good Men respected: Vice punished, and Virtue rewarded. An Example to other Nations: In a Dialogue between a scholar and a Traveller.
First Edition, London 1641. Reprinted in the Harleian Miscellany, Vol. I., 1744.
Gott, Samuel:
Nova Solyma.
First published in Latin, anonymously in 1648, under the title:
Novae Solymae Libri Sex. (In the second edition, 1649, the title was supplemented by the words:
sive institutio Christiani. ) First English translation, with a long introduction by Rev Walter Stephen K. Jones, who attributed the work to Milton. In 1910 he discovered that the author was Samuel Gott.
Rabelais, François:
Gargantua and
translated into English by Sir Thomas Urquhart and Peter Le Motteux, 1653-1694; published with an introduction by David Nutt, London, 1900.
Chapter III: UTOPIAS OF THE ENGLISH REVOLUTION
Winstanley, Gerrard:
The New Law of Righteousness,
1649.
The Law of Freedom in a platform: Or True Magistracie Restored,
London. 1652.
Berens, Lewis H.:
The Digger Movement in the Days of the Commonwealth as revealed in the writings of Gerrard Winstanley the Digger,
London, 1906.
Gerrard Winstanley, Selections from his works,
edited by Leonard Hamilton, with an introduction by Christopher Hill, London, 1944.
The Works of Gerrard Winstanley,
edited by G. H. Sabine, New York, 1941.
H. N. Brailsford:
Winstanley, The Digger.
Woodcock, George:
Anarchy or Chaos,
Chapter IV, London. 1944.
Hobbes, Thomas:
Leviathan, or The Matter, Forme and Power of A Commonwealth Ecclesiasticall and Civil,
London, 1651. Edited with an introduction by Michael Oakeshott, Blackwell’s Political texts, Oxford, 1946.
Harrignton, James:
The Common-Wealth of Oceana,
first published, London, 1656. Edited with an introduction by Henry Morley, London, 1883.
Smith, Hugh F. R.:
Harrington and his Oceana. A study of a seventeenth century Utopia and its influence in America,
1914.
Chapter IV: UTOPIAS OF THE ENLIGHTENMENT
T.I.D.M.G.:
Histoire du Grand et Admirable Royaume d’Antangil,
1617.
La Première Utopie Francaise, Le Royaume d’Antangil,
Avec des éclaircissements de F. Lachèvre, 1933.
Cyrano de Bergerac:
Histoire Comique-Voyage dans la Lune,
first published, 1657.
Histoire des Etats et Empires du Soleil,
first published, 1662.
Voyages to the Moon and the Sun,
translated by Richard Aldington, London, 1923.
Vairasse, d’Allais, (Denis Veiras):
The History of the Sevarites or Sevarambi a nation inhaibiting a part of the third continent commonly called Terrae Australes incognitae.
With an account of their admirable Government, Religion, Customs and Languages. Written by one Captain Siden, London, 1675. A further account of their Government, Religion, Customs and Language. The Second part more wonderful and delightful than the first, London, 1679. (The second part is an abridged version of the French edition).
L’Histoire des sévarambes, peuples qui habitent une partie du troisième continent, etc.,
5 vols., Paris, 1677-79.
Gabriel de Foigny:
La Terre Australe connue, c’est à dire la description de ce pays inconnu jusques ici, de ses moeurs et de ses Coutumes,
par M. Sadeur. Avec les aventures qui le Conduisirent en cc Continent et les paricularitez du séjour qu’il y fit durant trente-cinq ans et plus, et de son retour, Réduites et mises en lumière par les soins et la conduite de G. de F. Vannes, Par Jacques Verneuil (in reality printed at Geneva by La Pierre), 1676.
A new Discovery of Terra Incognila Australis or the Southern world,
by James Sadeur a Frenchman, London, 1693.
Fénelon, François de Salignac de la Mothe:
Les Aventures de Télémaque,
Suite du quatrième livre de l’Odyssée d’Homère, Paris, 1699.
Gilbert, Claude:
Histoire de Calejava ou de l’isle des Hommes raisonnables.
Avec le
1700.
Lesconvel, Pierre:
Voyage de l’Isle de Naudely, ou l’idée d’un regne heweux (sometimes known as
Voyage du Prince Montberaud ), Cazeros, 1703.
Lom d’Arce, L. A. de Baron de Lahontan:
Nouveaux voyages de M. le baron de Lahonlan dans l’Amérique septentrionale,
etc ..., La Haye, 1703.
Mémoires de l’Amérique septentrionale ou la suile des voyages de M. le baron de Lahontan,
etc ... T. II. id.
Supplément aux Voyage du baron de Lahontan ou l’on trouve des dialogues, cuieux entre l’auteur et un sauvage de bon sens qui a voyagé.
T.III,id.
Dialogues curieux et Memoires de l’Amérique Septentrionale,
edited by Gilbert Chinard,
Tyssot de Patot, S. (Ps.: Pierre de Mésange):
La Vie, les Aventures, et le voyage de Groenland du Révérend Père Cordelier P. de Mésange, (2 vols), Amsterdam, 1720.
Swift, Jonathan:
Gulliver’s Travles,
London, 1726.
Voyages de Gulliver,
Tome I and II, translated by l’Abbé Deafontaines, Pairs, 1726-27.
Rostaing, L. de Saint-Jory:
Les Femmes Miliaires. Relation Historique d’une Isle nouvellement découverte,
par le sieur C.D., Amsterdam, 1736.
Beringon, Simon (?):
Mémoires de Gaudencio di Lucca où il rend comple aux pères de l’Inquisition de Bologne qui l’ont fait arreter, de tout ce qui lui est arrivé de plus remarquable dans sa vie; où il les instruit d’un pays inconnu, situé au milieu des vastes deserts de l’Afrique, dont les habitants sont aussi anciens, aussi nombreux et aussi civilisés que les Chinois.
First published 1746, enlarged edition, 1753 Reprinted under the title:
Les Mémoires de Gaudence de luques in La collection des Voyages Imaginaires.
Morelly:
Naufrage des isles flottantes, ou Basiliade,
du célèbre Pilpai, Poeme héroique. (en prose) taduit de l’Italien par M.M-Tome 1er et 2nd A Messine par une Société de Libraires 1753.
Le Code de la Nature ou le Véritable Esprit de ses lois,
first published 1755.
1910.
Voltaire:
Candide,
first published, Geneva, 1758.
Candide or Optimism,
translated by John Butt, Penguin Books, 1947.
Roche, Tiphaigne de la:
Giphantie,
1êre et 2ème partie, La Haye (Paris), 1760.
Histoire des Galligènes ou Mémoires de Duncan,
1ère et 2ème partie, 1765.
Burgh, James:
Account of the Cessares,
1764.
Fontenelle, M. de:
La Republique des Philosophes ou Histoire des Ajaoiens,
Genève, 1768.
Mercier, Louis Sébastien:
L’An deux mille quatre cent quarante,
reve s’il en fut jamais, etc., Amsterdam, 1770.
Memoires of the year two thousand five hundred,
translated from the French, 1772.
A new edition corrected, to which is now prefixed some account of the author, Liverpool, 1802.
Bernardin de Saint Pierre:
L’Arcadie,
Livre 1er, Angers, 1781.
Restif de la Bretonne:
La Découverte Australe, par un Homme volant, ou le Dédale francois:
Nouvelle très philosophique: Suivie de la Lettre d’un Singe, etc. 1er à 4ème vols., Leipsick, 1781.
Les Gynographs,
La Haye, 1777.
L’Andrographe,
La Haye, 1782.
Author unknown:
L’Isle inconnue, ou Mémoires du Chevalier de Gastines,
Recueillis et publiés par M. Grivel, Paris et Bruxelles, 1784, Reprinted in
La Collection des Voyages Imaginaires.
Mably, Gabriel Bonnot de:
Des Droits et des Devoirs du Citoyen,
1794-5.
De La Legislation, ou Principe des Loix,
1794-5.
Hodgson, W.:
The Commonwealth of Reason,
1795.
Spence, Thomas:
Description of Spensonia,
London, 1795, Privately printed at the Courier
Marquis de Sade, Donatien Alphonse François Comtc de:
La Philosophie dans le Boudoir,
London, 1795. A chapter entitled:
Frenchman! One more effort if you want to be Republicans,
translated by Simon Watson Taylor was published in
Free Unions,
London, 1946.
Diderot:
Supplément au Voyage de Bougainville.
Dialogue sur l’inconvénient d’attacher des idées morales à certaines actions physiques qui n’en comportent pas, Paris, 1796.
Les Eleuthéromanes,
Say, J. B.:
Olbie,
1800.
La Collection des Voyages imaginaires,
28 vols, Paris, 1787-89.
Atkinson, Geoffroy:
The Extraordinary Voyage in French Literature before
1700, New York 1920.
The Extraordinary Voyage in French Literature from
1700 to 1720, Paris, 1922.
Chapter V: UTOPIAS OF THE NINETEENTH CENTURY
Socialist and Scientific Utopias
Fourier Charles:
Traité de l’Association domestique agricole,
2 vols, 1822.
Le Nouveau Monde Industriel,
2 vols, 1829.
Selections from the works of Fourier,
translated by Julia Franklin, with an introduction by Charles Gide London, 1901.
Blanc, Louis:
L’Organisation du Travail,
Cabet, Etienne:
Voyage en Icarie,
First Published under the title
Voyage et Aventures de Lord William Carisdall en Icarie,
traduits de l’Anglais de Francis Adams par Th., Dufruit, Paris, 1840. Second edition, with preface by the author, Paris, 1842.
Etienne Cabet et les Origines du Communisme Icarien,
1907.
Saint-Simon, Henri-Claude de Rouvroy de:
Caléchisme Politique des Industriels,
in Oeuvres Choisies, Brussels, 1859.
Oeuvres de Saint-Simon,
edited by Rodrigues, Paris, 1841.
Owen, Robert:
The Book of the New Moral World,
New York, 1845.
Dolléans, Edouard:
Robert Owen (1771-1858), Paris, 1905.
Buckingham, James Silk:
National Evils and Praclical Remedies,
London, 1848.
Lytton, Lord Edward George EarleBulwer:
The Coming Race: or the New Utopia,
London, 1870.
Butler, Samuel:
Erewhon,
London, 1872.
Erewhon Revisited,
London, 1901.
Mallock, William Hurrell:
The New Republic,
London, 1877.
Bellamy, Edward:
Looking Backward-If Socialism Comes,
2000-1887, Boston, 1888.
Kropotkin, Peter:
Le Vingtième Siècle, articles published in La Révolte,
Nov-28 Dec, 1889.
Engels, Frederick:
Socialism, Utopian and Scientific,
translated by Edward Aveling, 1892.
Morris, William:
News from Nowhere: or, an Epoch of Rest,
Being some chapters from a Utopian Romance. First published in serial form in
Commonweal,
London, 11th Jan-4th Oct, 1890; reprinted in one volume, London 1891.
A Dream of John Ball,
first published in Commonweal and as a pamphlet, 1892.
The Earthly Paradise,
a poem, first published 1872.
A Factory as it Might Be, How we live and how we might live,
reprinted in
William Morris, Stories in Prose, Stories in Verse, Shorter Poems, Lectures and Essays,
edited by G. D. H. Cole, London, 1934.
Richter, Eugene:
Socialistic Future (freely adapted from Bebel), authorised translation by Henry Wright, with an introduction by T. Mackay, London, 1893.
Howard, (Sir) Ebenezer:
Garden Cities of To-morrow (first published under the title:
To-morrow-a Peaceful Path to Real Reform ), London, 1898.
Hudson, William Henry:
A Crystal Age,
with an introduction by the author, London, 1906.
Chapter VI: MODERN UTOPIAS
Hertzka, Theodor:
Freiland: ein sociales Zukunftsbild,
first German edition, 1890 First English edition:
Freeland, A social Anticipation,
translated by Arthur Ransome, London, 1891.
Wells, H. G.:
Anticipations,
London, 1901.
A Modern Utopia,
London, 1905.
New Worlds for Old,
London, 1908.
Men Like Gods,
London, 1923.
France, Anatole:
Sur la Pierre Blanche,
Tarde, Gabriel:
Underground Man,
translated by Cloudesley Brereton, with a preface by H. G. Wells, London, 1905.
Faure, Sebastien:
Mon Communisme (Le Bonheur Universal),
1921.
Gapek, Carel:
R.U.R.,
a play, first shown in London, 1923.
Zamyatin, Eugeny Ivanovich:
Nous Autres,
traduit de Russe par B. Cauvet. Duhamel, Paris, 1929.
Huxley, Aldous:
Brave New World,
London, 1932.
অজানা পৃষ্ঠা